بقي علينا بعد هذا الاعتراف بفضل علماء الحديث، أن نطرق الموضوع من ناحيته العلمية الحديثة، فنقول: التاريخ علم في تحريه الحقيقة وكعلم يطلب الحقيقة كما هي، والأصول هي صلة المؤرخ الوحيدة بحوادث الماضي، وإذا فهدف المؤرخ المنقب أن يتحقق من هذه الصلة ومن حرفية نص الشهادة التي فيها، ثم يروي هذه الشهادة كما صدرت عن صاحبها الأصلي متحريا في ذلك درس ما يمكن أن يكون قد عرض عليها من زيادة أو تحريف أو نقصان.
والأصول التاريخية، من حيث تحري النص والمجيء باللفظ، تكون على وجوه ثلاثة. فإما أن يكون الأصل بذاته أمامنا بخط واضعه أو بتصديقه، أو أن يكون الأصل مفقودا ولم يبق منه سوى نسخة واحدة أو أن يكون الأصل قد فقد أيضا، وبقيت عنه نسخ متعددة.
فحيث يظفر المؤرخ بالأصل نفسه، بخط واضعه أو بتصديقه، عليه أن يبقيه كما هو بحروفه وغلطاته؛ لأن ما يصحح اليوم ويحسب تقويما قد يمكن أن يكون اعوجاجا وتضليلا. فكم وكم من الاصطلاحات العامية، تفقد قوتها أو ضعفها. عندما تبدل بما يفتكره الناشر مقابلا لها بلغته الفصحى، وكم وكم من المعاني الفصيحة والعامية أيضا تتغير بتقديم أو تأخير أجزاء جملها بعض عن بعض. لا لا! علينا أن نثبت الأخبار كما رواها شاهدها لا كما كان «يجب عليه أن يرويها» وعلينا أيضا أن نتحاشى جميع الطرق في النشر التي تعرض الأصل لمثل هذه المخاطر. التاريخ علم في تحريه الحقيقة، وكعلم يطلب الحقيقة كما هي لا كما يجب أن تكون. فهو يختلف عن الفنون بأسرها، أدبا كانت أم تصويرا، ويكتفي هو بما لا تكتفي هي به أحيانا، وزد على هذا كله أنه إذا بقيت الأصول التاريخية على حالها الأول، سهل على الباحث إدراك ما وصل إليه رواته من العلم والرقي، إذ إن تضلع هؤلاء من قوانين اللغة وآدابها، ينبئ أحيانا عن تهذيبهم العمومي، ومقدرتهم على فهم مجريات الأمور والتدقيق في العمل. هذا ولا يخفى ما في إبقاء لغة هذا النوع من الأصول، على حالتها الأولى من الفائدة الكبرى، لفهم تاريخ تطور معنى الكلمات والاصطلاحات بتطور الأزمنة والأحوال، ولإدراك دورة عقول الذين تكلموها على طريقة الفيلسوف البحاثة فيلهلم ماكس فوندت الألماني.
وقد تفنى أو تضيع نسخة المؤلف ولا يبقى عنها سوى نسخة واحدة، وفي مثل هذا الظرف يترتب على المؤرخ المدقق، الذي يود تحري النص الأصلي والمجيء بلفظ المؤلف، أن يبدأ بدرس هذه النسخة درسا وافيا من جميع نواحيها. ثم ينتقل إلى ترجمة مؤلفها، فالمصادر التي أخذ عنها وتآليفه الأخرى، وعليه أن يتعرف إلى أشهر كتاب العصر الذي عاش فيه المؤلف ولا سيما زملائه في الموضوع، وإذا ما وقف على جلائل النسخة ودقائقها وعجم عود مؤلفها وتعرف إلى معاصريه وزملائه، عاد إلى نص النسخة التي يدرس ونبذ من صيغ كلماتها ما لا يتفق مع ذوق مؤلفها، أو ذوق معاصريه، وأثبت في الهامش جميع ما ينبذه كما ورد في النسخة التي يستعرضها، وليس في وسعنا إلا أن نعترف بأن العمل على هذا الشكل ضرب من المغامرات التي يتوقف النجاح فيها على ذكاء الباحث وسعة اطلاعه وسلامة استنتاجه.
ومما اختبرناه من هذا القبيل، أننا لما شرعنا في جمع الأصول العربية لتاريخ سوريا في عهد محمد علي باشا، وجدنا أن عددا لا يستهان به من النسخ الأصلية لمناشير إبراهيم باشا قد ضاع، وأنه لم يبق من هذه النسخ الأصلية في بعض الأحيان سوى نسخة واحدة، ومثال ذلك أن البيان الذي وجهه هذا القائد الفاتح إلى أهالي دمشق عن انتصاره في حمص على الجيش العثماني قد ضاع، ولم يبق عنه سوى نسخة واحدة في كتاب المذكرات التاريخية الذي نشره الخوري قسطنطين الباشا، وإليك نص هذا البيان كما ورد بالحرف:
10 «قدوة الأماجد الكرام متسلم الشام حالا أحمد بك بعد التحية والسلام بمزيد العز والإكرام المنهي إليكم، إنه نهار السبت الواقع في 9 صفر سنة 1248 الساعة بالسبعة من النهار كان ابتدا وصول عساكر المنصورة التي ساقته ركابنا ببحيرة حمص، وبتلك الساعة نظرنا قدوم عساكر خيل الترك المحتشدين لمعونة الباشاوات الموجودين بحمص، وحالا هجمت عليهم عساكرنا المنصورة خيالة الجهادية والعرب، وضربوهم وشتتوا شملهم وأسقوهم كأس الوبال والنكال، وولوا هاربين وللنجاة طالبين، فاقتفوا آثارهم عساكرنا المظفرة وظهر أمامهم أربعة الآيات نظام قرابة إستانلية وثلاث الآيات خيالة، وعند ذلك تقدمت لحرابتهم عساكرنا المظفورة بترتيب الصفوف على رسم البديع، وهجموا عليهم هجوم الأسود الكواسر وأذاقوهم كئوس المنايا بقطع الحراب وفتك السيوف البواتر، ولا تحملوهم سوى ساعة واحدة إلا وولوا الأدبار صارخين: الفرار الفرار. من بعد أن وقع منهم من قتيل ومجروح ما ينوف عن ألف وخمسماية نفر منهم من انمسك مسك اليد ما ينوف عن ألفين وخمسماية نفر وارطتين قد كانوا في قلعة حمص للمحاصرة، عندما كانوا عزموا على الهرب مع جانب عساكر أرنقوط، ومجرد حلول ركابنا في أو رضى الباشاوات القاعدين بمدينة حمص، فاستولينا على أموالهم وخيامهم، وجبا خاناتهم وسائر ذخايرهم، وصاروا جميعا أغنيمته لنا والأرطتين والعسكر الأرناءوط الذين كانوا في القلعة حينما نظروا هذه المهازل البديعة والظفر البديع استفاقوا وطلبوا الأمان وحنان العفو، وكان اللطف غنامهم مرحمة منا أعطيناهم الأمان، وخرجوا من القلعة آمنين مطمئنين نحمده تعالى على هذه النعمة العظيمة والمواهب الكبيرة الجسيمة، فالآن لأجل نبشركم أصدرنا مرسومنا هذا لكم ويلزم منكم بوصوله تشهروا ذلك إلى كافة الرعايا بعمل الشنك إلى كافة المقاطعات والبلاد؛ لكي يكونوا مثابرين على سنيات الدعوات الخيرية بدوام دولة وتأييد صولة سعادة أفندينا ولي النعم، والدنا المعظم وقهر أعداه المحجولين ما مر الأيام والسلام.»
نقول لدى اطلاعنا على هذا البيان، تخالج في صدرنا منه أشياء، وترددنا في صحة نصه، ولا سيما والقسم الأخير منه مشوش غير مفهوم، فرجعنا أولا إلى المخطوطة التي أخذ عنها الخوري الباشا نص هذا البيان. لنرى هل أخطأ في قراءة خطها، وبعد أن تأكدنا من أمانة الناشر، عدنا إلى المؤلف نفسه، لعلنا نجد فيه من سائر بيانات الباشا ما يبدد هذه الظلمات فلم نفلح، وعندئذ رأينا أن نعيد النظر في جميع البيانات التي صدرت عن إبراهيم باشا، والتي أعلن فيها أخبار حروبه في سوريا وانتصاراته على أعدائه. فوجدنا لحسن الحظ في سجلات المحكمة الشرعية في طرابلس بيانا آخر وجه الباشا إلى متسلم هذه المدينة، يعلن فيه انتصاره على العثمانيين في حمص، وفي آخر هذا البيان ما نصه: «والأرطتين والعسكر القرنبود الذين كانوا في القلعة حينما نظروا هذه المهاول المريعة والظفر البديع، استغاثوا وطلبوا الأمان، وحيث إن العفو زكاة الظفر أغثناهم مرحمة منا وأعطيناهم الأمان.»
فعلمنا عندئذ أن أحد النساخ الذين نسخوا بيان الباشا إلى متسلم دمشق أخطأ، في الأرجح، في قراءة هذا البيان؛ فقرأ استغاثوا «استفاقوا»، وحيث إن «حنان»، وزكاة «وكان»، والظفر «اللطف»، وأغثناهم «غنامهم»، وهلم جرا. على أننا نكرر القول بأننا لم نوفق دائما إلى الفوز في تحري النص والمجيء باللفظ. في حال ضياع الأصل وبقاء نسخة واحدة، كما توفقنا هنا، ونوافق الأستاذ شارل لانجلوا الإفرنسي في قوله: إن تحري النص في مثل هذه الأحوال هو نوع من المغامرات، التي يتوقف النجاح فيها على ذكاء المؤرخ المدقق وسعة اطلاعه وسلامة استنتاجه.
وقد تضيع أو تفنى نسخة المؤلف الأصلية ويبقى عنها نسخ متعددة، وفي مثل هذه الحال، يجتهد المؤرخ المدقق في نبذ بعض هذه النسخ، إذا ظهر له أن ذلك البعض يعتمد على سابقه. ثم يقسم النسخ الباقية إلى فصائل متخذا الأغلاط المشتركة بينها قاعدة لهذا التقسيم. لأنه ليس من المرجح أن يجمع النساخ على غلطة ما، إلا ويكون أحدهم قد أخذ عن سابقه. كما إنه ليس من المحتمل أن يتفقوا منفردين بعضهم عن بعض إلا على الصحة. ثم يحاول المؤرخ استعادة اللفظ الأصلي بالمقابلة بين النسخ الباقية، وما يكون قد تشربه من روح المؤلف وذوق معاصريه، ولا بد من الإشارة إلى الاختلافات في منطوق هذه النسخ على هوامش ما ينشر؛ تسهيلا للتحقيق وضنا بالحقيقة.
ومثال ذلك أننا لما أقدمنا على نشر تاريخ الأمير فخر الدين المعني لمؤلفه الشيخ أحمد الخالدي الصفدي لم نعثر على مخطوطة المؤلف الأصلية، ولكننا وجدنا خمس نسخ ثانوية. منها نسخة تمتاز عن أخواتها بتجانس أجزائها من حيث اللغة والأسلوب واختصاصها بالتاريخ الهجري، ورقها عبادي صقيل من النوع الذي شاع استعماله في أواخر القرن الثامن عشر وأوائل القرن التاسع عشر، وهي في حوزة الشيخ كسروان الخازن، وسنشير إليها بالحرف ك، والنسخة م وهي رقم 427 من مجموعة المكتبة العمومية بمدينة موينخ الألمانية، وقد جاء في آخرها أنها بخط عبد اللطيف بن الشيخ أحمد الرشيدي، وعليها عبارة بخط إسكندر أبكاريوس هذا نصها: «خاصة الفقير إسكندر أبكاريوس.» مما يدل على أنها كانت تباع وتشترى في منتصف القرن الماضي، ونسخة جامعة برنستن في الولايات المتحدة، وقد استنسخها لنفسه الأستاذ عيسى إسكندر المعلوف، فتم له ذلك في 11 كانون الأول سنة 1912، وهي رقم 38050 من مكتبة بيروت الأميركية، وقد أشرنا إليها بالحرفين ج ب، ووجدنا أيضا نسخة أخرى في مدينة طرابلس لدى الأستاذ جورج يني، استنسخها لنفسه عن نسخة للخوازنة.
ناپیژندل شوی مخ