ومن أحاديث خليفته «مصطفى النحاس» لمع من أفذاذ الكلم، وأماليح القول، وبوارع الفكاهات، فلا يخلو مجلسه من لطف الإشارات وعذاب الأحاديث، وغرائب التعبير، وحسن البيان.
وممن اشتهر في عصرنا الحديث بهذه الصفة التي تلازم فريقا كبيرا من الزعماء، الرئيس فرانكلين روزفلت، فهو على ما به من عاهة، أقدر من حمل تكاليف الرياسة، وأحذق من أدرك مطالب الحكم وصان تبعاته، ثم هو بجانب ذلك الرجل المفراح الضحوك البارع الأحاديث، ومن المأثور عن موظفي مكتبه وأفراد أسرته والمتصلين بعمله قولهم إن أسرع طريقة لمعرفة مكانه إذا افتقدوه هو الانتظار حتى تدوي أصداء ضحكة رنانة من القلب، فيعرفوا مصدرها؛ فحيث تنبعث يكون! وهو يعالج تخفيف وطأة عمله بهذا الروح المرح، ويروض كثرة تكاليف منصبه بهذا المنشط البديع.
ومن مزايا الروح الفكه عند الزعماء أنه يساعد على معرفة المواقف الضعيفة التي تقتضي التقوية والتعزيز، والتوطيد في الحين المناسب والظرف المواتي، إذ لا شك في أن بعض هذه المواقف تلوح في وقت ما مربكة محيرة، ولكنها مع الوقت تعود فتبدو طبيعية أو مألوفة ليس منها بأس ولا ضرر، ومن المواقف ما يتراءى غير مناسب؛ لأن الناظر إليها لم يؤت الفسحة الكافية لاستعراضها بالرأي الصحيح والعناية الواجبة.
وإذا اقترن روح التقدير الدقيق للأشياء، أو الكياسة واللباقة، بروح الفكاهة أو النظر المرح إليها، أعانتا معا على بلوغ الزعامة قمة نفوذها في النفوس وسلطانها على الأرواح.
الأسلوب والتنظيم وحاجة الزعامة إليهما
لا غناء للزعامة عن الأسلوب والتنظيم لكي تصيب النجاح وتبلغ الهدف وتوفي على الغاية، وتنبغي مراعاة هاتين القاعدتين في الزعامة ذاتها، وفي الهيئة السياسية أو الاجتماعية التي ترأسها، أو تتولى الإشراف عليها، وتقودها إلى الغرض المرجو والمقصد المنشود.
أما من حيث الأسلوب والتنظيم بالنسبة للزعيم نفسه، فمظهر ذلك في ترتيب أوقاته، وتنظيم ساعات عمله، وتنسيق برنامج عمله اليومي، وتوحيد طريقته في التفكير، ومنحاه في النظر إلى الأشياء وتقدير الأمور وتدبير الشئون. وأما من جهة الجماعة نفسها أو الهيئة التي يليها، ففي بناء وحدة قوية، وإنشاء نظام مكين ثابت، وتعيين نيابة صالحة عنه، وتمثيل مناسب كفء للقيام بمهمته، وحسن اختيار أعوانه، وتسلسل القيادة في صفوف الموالين والتابعين؛ لتكون ثم رياسات فرعية، وشعبات منظمة متعاقبة متتالية، كما يتجلى ذلك أيضا في مبلغ تنشيط القوى العامة، وإثارة الحمية للعمل، وبث روح التآلف والتضامن، وبعث الملكات والكفايات الكامنة إلى الظهور والإنشاء والتكوين. «مكان لكل شيء وكل شيء في مكانه» هذا هو مفتاح الأسلوب وشعاره والمراد منه، فإن العقل الذي يشتغل كالساعة هو أروع مظهر لمعنى الأسلوب وفضله، وأدق التعريف لصفته وطريقته، ويبدأ الأسلوب بالصغير والتافه، وينتهي بالكبير والعظيم والخطير من الأمور، ففي هذا التدقيق الكلي يبرز جلال الزعامة، وعليه ينهض أساس كل رياسة ناجحة مهتدية إلى الطريق.
وقد وضع الفيلسوف «كانت» نظاما ثابتا لحياته لم يكن يرتضي فيه تغييرا أو تحويرا يوما من الأيام، حتى قيل إنه كان يخشى التغييرات التافهة مخافة أن تؤثر في صحته أو تعوق سير دراسته، فكان الشديد على نفسه المتزمت العنيف، لا يعرف في أسلوب عيشه تساهلا، وحتى كاد يجعل «التدقيق» أول صفات العلم ومزاياه، وكان يصر على أن يحتذي مريدوه وطلاب العلم عليه حذوه في هذه الصفة التي كانت عنده بارزة.
وكان بنيامين فرانكلين يمتحن مبلغ تدقيقه في مسلكه وتصرفاته بين حين وآخر بأغرب ضروب الامتحان ليصلح من أخطائه، ويهذب من أغلاطه، ويمحو من هناته. وكان فريق من العظماء والزعماء والنوابغ الكبار يحفظون «يوميات» يدونون فيها كل أعمال يومهم ساعة فساعة، حتى وقت النهوض من الفراش، وما قرءوه قبل الفطور وبعد الفطور، وجملة ما يفعلونه سحابة النهار، وكان دأبهم في هذا التدوين مراعاة الدقة التامة في نظام العيش وأسلوب الحياة.
وروي عن باستير العالم البحاثة الكبير أنه القائل: «إن الفرصة الحسنة لا تواتي غير العقل المنسق المنظم.» ولقد اتهمه أصحابه بالبطء ونسبوا إليه يوما التراخي من فرط هذا التدقيق العجيب الذي أخذ نفسه به في كافة بحوثه وأعماله، ولكن الذين تدبروا مزية هذا الأسلوب وفضله ونفعه راحوا يقولون إنه ما كان يقرر شيئا إلا وهو المتثبت منه المتأكد كل التأكيد، وقد قال فيه أحد الكتاب الفرنسيين: «يحفظك الله يا باستير لفرنسا ويمد في أجلك، ويبقي فيك على هذا التوازن العجيب بين العقل النير الذي يتأمل ويرقب ويلاحظ، والعبقرية الملهمة التي تحس وتكشف وتهتدي، واليد الحاذقة الحكيمة الموفقة التي تنفذ وتستكمل في أتم تدقيق عرف عن العلماء إلى الآن!»
ناپیژندل شوی مخ