103

مصطفى النحاس

مصطفى النحاس

ژانرونه

فهل رأيت مبلغ الخلق الرفيع الذي صحب مصطفى من النشأة والشباب، وكيف حبب إليه الحرية فغالى بها، وبغض إلى نفسه الوظائف متأبيا على قيودها، حتى ليرفض وظيفة قاض وهو لم يقض في المحاماة غير ثلاثة أعوام، يرفضها متشبثا بنعمة الحرية ساكنا إليها في وقت كانت فيه الوظائف غاية مطمح الشباب، وأزهر أحلام الصبا، ولم تكن الحكومة قد ازدحمت زحامها اليوم بالموظفين؟!

الشيخ الجليل محمد النحاس والد مصطفى النحاس.

هل رأيت الشاب الذي يستعان بأبيه على إبائه، فلا يجد أبوه من حيلة غير القسم عليه؟ والذي يظهر الكراهية للوظيفة حتى ولو كانت وظيفة قاض وهو لا يزال مبتدئا لم يقطع في المحاماة شوطا طويلا، على حين نجد الذين يصيبون من المحاماة مراكز في القضاء لا يظفرون بها إلا بعد مضي آماد طوال عليهم وهم في صفوف المحامين.

هذا هو مصطفى النحاس الذي كان يومئذ معدا لما هو أخطر من ذلك وأكبر شأنا، وأعظم تبعة، وهو أن يكون زعيم أمة في ساحة الجهاد الوطني، وخليفة زعيم عظيم جاء من قبله فترك مجالا للمقارنة رحيله، وغادر سبيلا للموازنة ذهابه من هذا العالم. وكان لا بد من أن تتماثل الصورتان في بعض المعالم، وتتقاربا في بعض النواحي والأجزاء؛ لكيلا تفقد الزعامة في الأمة هيبتها الجليلة، ويتناقص سلطانها الرهيب.

مصطفى النحاس قبل الزعامة.

هذا هو مصطفى النحاس من بداية الشباب، وأول السلم الاجتماعي، ومطلع الحياة العملية: نفسا نقية من الشوائب، مجملة بكرائم الأخلاق، وذهنا خصيبا حديد الذكاء، مرهف الذاكرة، ومنطقا رصينا قويا رائع التدليل، وقلبا رحيما حانيا غزير العاطفة يفيض على من حوله، فيملأ الأفق مودة وألفة ورفقا وتفاهما ووفاء.

وإلى هذا كله في تقسيم الصفات الحسنة، والمزايا الرائعة - نزاهة ناصعة، واستقامة جامعة، وقوة تصميم، ورفعة إباء، وصحة اعتزام، وحكمة اتجاه وأصالة رأي، وصفاء ذهن، وترفع عن «المادية» إلى حد احتقارها إذا هي تعارضت مع الواجب والضمير.

كذلك هو مصطفى النحاس المحامي حين دخل سلك القضاء في سنة 1904، لتتجلى مواهبه النفسية ومزاياه الذهنية في كرسي القاضي لأول وهلة، وتبدو في أحكامه مدللة على أنه مثال القاضي الذي تطمئن العدالة في مجلسه، ويصان قدس الحق في مكانه، ويجد القانون عنده أقوى الحراس الثقات الحافظين.

وما نسي الناس إلى اليوم أنه كان في ماضيه قاضيا، فإن مصطفى النحاس القاضي قد ترك أجمل الصفحات في تاريخ القضاء المصري واستقلاله، وضرب للناس أحسن الأمثلة على نزاهة القاضي واستقامته، وحرية ضميره، وقوة إرادته، حتى ليتنادروا إلى اليوم بأمثلة من أحكامه، ويتناقلوا في المجامع روايات متعددة عن مواقفه، ويضيفوا إلى ما عرف على الصحيح من حوادثه ضروبا متخيلة من الحكايات والأمثال والوقائع ليس إلى تحقيقها من سبيل، فيصدقها المتسامعون بها؛ لأن الصحيح منها لا يقع دون المتخيل، والفعلي فيها ليس أقل في إثبات فضله من المنحول في ذلك والمصنوع، وهي على حد سواء في النتيجة منها، والمغزى المراد بها، وهو شخصية القاضي العدل ، النزيه ، المستقل، الحكيم ...

لقد قضى مصطفى ثلاث سنين يدافع عن الحق والعدل خلف السياج، ووراء حرم القضاء، حتى رفعته قوة دفاعه عنهما من فوق السياج إلى الحرم ذاته، والجلوس فوق منصته ليحكم بالحق والعدل، وهو انتقال خطير وتحول بالغ الشأن بالنسبة لشاب في نحو الخامسة والعشرين.

ناپیژندل شوی مخ