وقد كان أمر مصطفى النحاس من البداية في النبوغ منظما مستقيما على الطريق، وقد فرغ من دور المدرسة، ووجب أن تكون بداية الدور التالي بارزة بظاهرة عظيمة، وشأن كبير، وتناسب كامل رفيع.
لقد آثر مصطفى العمل الحر، واليوم، ونحن ننظر إلى ذلك بعد مدار السنين، ومشاهدة ما كان منه عبر الأعوام، لا نعجب لذلك الإيثار؛ لأنه جاء مطلعا ملائما لحياة الرجل الذي أعدته الأقدار محاربا في سبيل الحرية، مجاهدا لها، مناديا بها، باذلا من أجلها عصارة النفس وخلاصة الروح، مدافعا عنها بكل قوى الإيمان واليقين.
وكان موقف مصطفى بسبيل الدفاع عن حقوق حملة إجازة القانون والنتيجة الناجحة التي انتهى إليها، قد عرفا يومئذ في الأوساط القضائية وغيرها؛ فكان ذلك مبتدأ جميلا لخبره، وفاتحة طيبة لمستهل عمله، فعرض عليه المرحوم محمد بك فريد رئيس الحزب الوطني العمل بمكتبه لقاء مرتب حسن؛ ولكنه أجاب بأنه على استعداد للتعاون معه، لا أن يعمل أجيرا عنده، قائلا إنه قد رفض التوظف في الحكومة حتى لا يقيد نفسه، فلا معنى إذن لتقييدها بالتوظف لديه.
كذلك كان مبلغ إباء مصطفى النحاس للقيد، ونفوره من الأغلال، ونزوعه إلى سراح الإرادة، وحرية العمل؛ بل هكذا بدأ الحياة العملية برفض الوظائف مرتين، والتأبي على التقيد في حادثتين متعاقبتين، فأثبت هذا النزوع فيه شدة حبه للحرية، وإيثاره للاستقلال؛ كما أثبت قوة الاعتداد بالذات، والاعتماد على النفس، أمام غد مجهول ومصير مسدل الحجب.
ولم يلبث مصطفى النحاس أن اقتحم ميدان المحاماة اقتحاما، يعمل فيه مستقلا، وينزله منفردا، ولا يعتمد في الجولة خلاله إلا على إرادته، ولم يكن مضى على نيله شهادة الحقوق غير بضعة أشهر. وكان أول ظهوره في المنصورة، وهو الشاب الصغير الذي لم يتجاوز الحادية والعشرين.
ولم يبدأ مصطفى عمله محاميا ناشئا، ولكنه بدأه جديدا، بدأه محاميا قادما بخليقة بادهة، وعنصر رفيع، ومبادئ سامية؛ بل بدأه محاميا كبيرا قبل أوانه ناضجا قبل إبانه، مكتملا وهو في نشوئه، فقد برزت مواهبه في ذلك الدور الباكر من حياته، وانكشفت صفاته ومنازعه ومزاياه التي كانت تبدو جواهر خامة غير مصقولة، وهو في الطفولة؛ واجتمعت من صفات الاستقامة، والصدق، واحترام الواجب، وإكبار الحق، ونصاعة الخلق، والحرص على الكرامة، والثقة بالنفس، وحدة الذكاء، وقوة الحافظة - اجتمعت من أولئك كلها، الشخصية اللازمة للمحامي الجديد على جيله ، المستبق فوق سنه، القدير وهو في بدايته.
وما عتم أن ذاع اسم مصطفى النحاس في المنصورة، واشتهر بنزاهته وعرف بكفاءته، وراح موضع احترام القضاة والمتقاضين، وعجب الناس لهذا الشاب المحامي وهو على غير ما ينتظر من المحامين الناشئين: يقدم قضاياه إلى المحكمة مؤيدا لها بمراجع وأسانيد وموسوعات وأمهات كتب وفقه قانوني يحملها غلام المكتب إلى الجلسة؛ ليبرزها بنصوصها من أسانيدها أمام القضاة إبراز المتمكن من موضوعه، الواسع الدراسة لقضاياه. فكان القضاة يستمعون إليه في إعجاب، وكان أصحاب القضايا يتقاطرون عليه من أقاصي الوجه البحري ومختلف نواحيه ليسلموه قضاياهم، وهم مطمئنون إلى نزاهته، ساكنون إلى مقدرته، معتقدون أنه المحامي الشاب الذي ارتفع بالمحاماة من اعتبارها كحرفة أو مهنة إلى فن رفيع، يشتغل به صارفا كل نفسه إليه، واضعا كل قلبه في مقتضياته ومطالبه.
لقد كان مصطفى النحاس في الحادية والعشرين محاميا لا يقنع بأنه قد وجد في المحاماة «مرتزقا» يكفل له العيش، ويدر عليه الكسب؛ ولكنه يأبى إلا أن يراه «فنا» وأن يكون صادقا لفنه، أمينا عليه، حفيظا له، رافعا من مستواه؛ فأقام بذلك المثل الحسن للمحامي، وأبرز القدوة المثلى للمشتغل بالقانون.
وكان مبدؤه من نشأته في هذا الفن الرفيع هو البحث عن الحق والعدل، مهما كان من صعوبة القضايا وتعقدها، ومهما كان الحق في بعض الأحيان متعارضا مع القانون؛ فلم يكن ليتردد في الدفاع عن الحق والعدل حتى يغلبهما على القانون. وإذا كان بعض القضايا من جهة القانون مكسوبا، ولكنه من جهة الحق يبدو خاسرا غير رابح، ظل يكافح ويناضل حتى يرد الحق إلى نصابه؛ وإذا أعوزه صدق نية المتخاصمين، تخلى عن الدعوى، وأبى السير فيها، مضحيا بما يجلبه عليه قبولها من وفير الربح، وجزيل الأتعاب، وضخم الجزاء.
هذا هو المثل الرفيع للمحامي الشريف، بل المحامي الذي لا ينظر إلى المحاماة كمهنة، ولكن ينظر إليها كفن، ولا يمد عينيه منها لمجرد الكسب والانتفاع، ولكن يرتفع بها عن المادية إلى مستوى الواجب، وإملاء الضمير، والبحث عن الحق من أجل الحق ، وإقامة العدالة؛ لأنه يجب أن تقوم العدالة.
ناپیژندل شوی مخ