وقد كانت لموسيقاه عدة نواح مختلفة منها الناحية الروحية التي عبرت بها عن رؤيا الحياة على حد ما دلت عليه تآليفه الأخيرة مما وقع فيه من تجارب ومحن، وأصابه من آلام كانت من أهم البواعث على نمو حياته الداخلية، وأكسبته قوة عجيبة نادرة، ووسمته بطابع الجمال الذي به عبر عن موسيقاه تعبيرا أنصع بيانا من تعبير شكسبير، ولو تخير من المنظوم أحسنه وشيئا، وأمتنه حبكا، فنشر في تاريخ الفن صفحات من آيات العبقرية المجيدة، ويرجع الفضل في ذلك إلى أنه لم يعبأ في تعبيره بأي لفظ من طريق اللغة التي ليس له بأصولها خبرة بل كان يلجأ إلى النغمات وحدها ليعبر عن شعوره وأفكاره وميوله.
على أنه لما مات والده في سنة 1792 ترك له أخوين هما كارل وجوهان وأختا تسمى مرجريت ماتت بعده في شهر نوفمبر من السنة نفسها، وزادت مسئولية بتهوفن في حياته المرة المؤلمة؛ لأن والده لسوء سلوكه وإدمانه الخمر لم يترك له مالا، وقد تلقن دروسه الموسيقية عن موزارت في مدينة فيينا ابتداء من سنة 1787 وما كاد يبلغ السادسة عشرة من سنيه حتى عرف نفسه، وتحقق من عبقريته، وكان فظ الطباع مكروها من الناس، لا سيما من الجنس اللطيف، حتى أن ماجدلينا إحدى المغنيات وزميلته في الدرس لما طلب يدها سنة 1895 رفضت طلبه، وبعد موزارت تلقى دروسا أخرى على هيدن وشتيك وألبر كستبرجر وأخذ ينتقد القواعد التي جروا عليها، وسلق جميع الموسيقيين بألسنة حداد، واتبع خططا خاصة به نزولا على نزعاته وذوقه وميوله، وسما بنفسه تيها واستكبارا إلى أن أصيب بالصمم في سنة 1798 وكتب إلى أمندا صديقته كتابا في أول يونيو سنة 1801 قال لها فيه: «إنه سيئ الحظ وأن في صدره وغرا شديدا على الطبيعة، وعلى الخالق الذي يعرض مخلوقاته للحوادث التي فيها تتلف أجمل البراعم، وبسبب صممه انقطع عن مقابلة الناس عدة سنين لأنه لا يقدر أن يقول لهم إنه أصم لا يسمع، ولو كان محترفا مهنة أخرى غير الموسيقى لهان الأمر لكنه حرم السمع، وبالتالي نضب معين مرتزقه؛ فانعدمت حياته وقضي على مستقبله قضاء مبرما، وأردف قائلا لها في ختامه ومستطردا في وصف مصابه الهائل: أنت تعلمين أن أعدائي يشمتون بي - وكثيرا ما هم - ولو أمكن لي الانتقام من سوء الحظ لقبضت على حلقه بكلتا يدي»، وبدهي أن صممه جعله أبغض إلى الناس من قبل وأحقد من جمل حتى على ذوي قرباه، إلا ابن أخيه الذي كان ولي أمره، ولم يعلق قلبه بحب سواه منذ وفاة والده، وكان محتفظا بعدة أسهم لحسابه الخاص، ولم يمد إليها يده حتى في إبان اشتداد مرضه عليه اهتماما بشأن تربيته، وعمد إلى جمعية محبي الفنون والطرب في لندن فأسعفته مع صديق له بمبلغ مائة جنيه، صرف منها جانب على جنازته، وكان ذلك العبقري المسكين يقول لطبيبه فيرنج الذي ضاعت حيلته في شفائه: آه يا دكتور لو كان يوجد بين الأطباء الفطاحل من يستطيع أن يشفيني لأسميته بالطبيب العجيب، وقال قبل أن يلفظ نفسه الأخير «إن عمل يومي قد انتهى» وقد رآه المجتمعون حول سريره يحرك قبضة يده نحو السماء، بينما كان فاقد الشعور هو في سكرات الموت وغمراته، وليس أدل على ذلك من ذهاب نفسه شعاعا، وعدم رضوخه لأحكام الله وعظيم ثقته بنفسه التي لم يقهرها سوى هادم اللذات دون ثقته بمن أنشأنا من الأرض نسما، ويسر لنا منها أرزاقا وقسما. أما فقيدنا عبده الحمولي إذا قيس بيتهوفن في العقيدة والرجاء كان الفرق بينهما كالبعد بين الأرض والسماء لأن الأول كان أصبر منه على محن الزمان فأدرك نعيم الجنان، وآمن بالله في الحياة وفي الممات، وثبت على طاعته في وسط أمراضه وآلامه، وكان عظيم الرجاء بأنه سيبلغ الإرث في الآخرة بتركه في الدنيا ما يحب فمات وقلبه مليء بالرجاء وعلى فمه ابتسامة رحمهما الله أوسع الرحمات.
الفصل السادس والعشرون
سلامة حجازي
ولد الشيخ سلامة حوالي سنة 1278ه بالإسكندرية وبعد أن تعلم مبادئ الكتابة والقراءة اشتغل بفن الإنشاد على الأذكار، ثم تدرج إلى احتراف الغناء التمثيلي فوق المسارح، وانضم إلى فرقة إسكندر فرح حيث بهر العقول بصوته الفتان، وكون بعد أن انفصل منه فرقة خاصة به، وقام بتمثيل روايات نسج إبراد معظمها المرحوم الشيخ: نجيب الحداد، الذي عرب ثلاثة أرباع الروايات التي مثلت، فضلا عن روايات خطية لم يفسح له أجله بإتمامها وطبعها.
وسافر في سنة 1908 إلى حلب حيث تقابل مع الأستاذ المرحوم: أنطون الشوا وطلب إليه أن يقدمه لبعض العائلات الوجيهة فيها؛ لأجل التعرف بها، وطلب أيضا أن تعرض عليه رقصة السماح التي اشتهر بها الحلبيون، فشاهدها وسمع تواشيح من مقام العجم التي يندر وجودها في مصر. فلما أعجب بها تلقف وصلة جميلة منها وكلف كلا من محمود رحمي وأحمد فهيم بتدوين ما سمعه في حلب من تواشيح جميلة.
وكان على اتصاله برجال الأدب الذين استمد منهم خلاصة ما عربوه من روايات دائبا على اقتفاء إثر عبده الحمولي، وموفقا بالاهتداء إليه بواسطة: جمعه المطيب، الذي كان يطلعه على برامج حفلاته الغنائية ليستقي من بحره بعد إنهائه عمله المسرحي. وقد روى لي الأستاذ: داود حسني أن دعى عبده وسلامة حجازي والسيدة ليلى خياط للغناء بدار الأوبرا في ليلة خيرية، فابتدأ الشيخ سلامة بإلقاء قطعة غنائية تمثيلية أطرب بها الحضور، وتلته ليلى المذكورة وغنت على تختها بمساعدة شقيقتها «كقانونجية» ونالت الاستحسان، ثم صعد عبده على تخته المكون من كل من الليثي والعقاد وسهلون وأحمد حسنين وبركات وغنى مذهب رصد، تلحين محمود الخضراوي الآتي بيانه.
مذهب
قلبي في حبك ليه مشغول
من يوم رأيتك وعرفتك
ناپیژندل شوی مخ