إهداء
1 - لمحة في تاريخ الخديو إسماعيل ونصرته للفنون الجميلة
2 - أصل الموسيقى
3 - الغناء القديم والغناء الحديث
4 - عبده الحمولي
5 - عبده الحمولي مصلح اجتماعي في ثوب مغن
6 - «ساكنة» أستاذة «ألمظ»
7 - أزواج عبده الخمس
8 - القصائد التي غناها
9 - ما اخترته من ألحان المرحوم عبده الحمولي
10 - قصيدة المرحوم أحمد شوقي بك أمير الشعراء
11 - مرثية جريدة المقطم
12 - مرثية جريدة الأهرام
13 - رأي في الموسيقى الشرقية والغناء العربي
14 - الموسيقى العربية وعبده الحمولي
15 - عبده الحمولي وفنه
16 - كلمة الدكتور عبد الرحمن شهبندر
17 - لمحة عامة في الموسيقى
18 - فذلكة عن الغناء العربي
19 - عبده الحمولي مع سليم سركيس
20 - شهادة إبراهيم بك المويلحي الكاتب القدير
21 - آراء أعضاء المؤتمر الموسيقي المنعقد سنة 1932 في الموسيقى العربية
22 - شعور المغفور له سعد زغلول باشا
23 - تراجم حياة أشهر الموسيقيين والمطربين في مصر
24 - الموسيقى فن سماوي
25 - الفوارق
26 - سلامة حجازي
27 - الفرق التمثيلية في مصر
28 - أقوال وآراء للعلماء والشعراء والفلاسفة والأطباء
29 - محادثتي مع صاحب المعالي سعيد ذو الفقار باشا كبير الأمناء
30 - مشاهير رجال الموسيقى
31 - شكر عام
32 - مذهب: كنت فين والحب فين
33 - مصاب الأمة الفادح
إهداء
1 - لمحة في تاريخ الخديو إسماعيل ونصرته للفنون الجميلة
2 - أصل الموسيقى
3 - الغناء القديم والغناء الحديث
4 - عبده الحمولي
5 - عبده الحمولي مصلح اجتماعي في ثوب مغن
6 - «ساكنة» أستاذة «ألمظ»
7 - أزواج عبده الخمس
8 - القصائد التي غناها
9 - ما اخترته من ألحان المرحوم عبده الحمولي
10 - قصيدة المرحوم أحمد شوقي بك أمير الشعراء
11 - مرثية جريدة المقطم
12 - مرثية جريدة الأهرام
13 - رأي في الموسيقى الشرقية والغناء العربي
14 - الموسيقى العربية وعبده الحمولي
15 - عبده الحمولي وفنه
16 - كلمة الدكتور عبد الرحمن شهبندر
17 - لمحة عامة في الموسيقى
18 - فذلكة عن الغناء العربي
19 - عبده الحمولي مع سليم سركيس
20 - شهادة إبراهيم بك المويلحي الكاتب القدير
21 - آراء أعضاء المؤتمر الموسيقي المنعقد سنة 1932 في الموسيقى العربية
22 - شعور المغفور له سعد زغلول باشا
23 - تراجم حياة أشهر الموسيقيين والمطربين في مصر
24 - الموسيقى فن سماوي
25 - الفوارق
26 - سلامة حجازي
27 - الفرق التمثيلية في مصر
28 - أقوال وآراء للعلماء والشعراء والفلاسفة والأطباء
29 - محادثتي مع صاحب المعالي سعيد ذو الفقار باشا كبير الأمناء
30 - مشاهير رجال الموسيقى
31 - شكر عام
32 - مذهب: كنت فين والحب فين
33 - مصاب الأمة الفادح
الموسيقى الشرقية والغناء العربي
الموسيقى الشرقية والغناء العربي
مع السيرة الذاتية للفنان: عبده الحمولي
تأليف
قسطندي رزق
إهداء
كتابي في الموسيقى الشرقية والغناء العربي ونصرة الخديوي إسماعيل للفنون الجميلة وحياة عبده الحمولي إلى حضرة صاحب الجلالة - الملك فؤاد الأول - ملك مصر المعظم
مولاي
إن بحرص ساكن الجنان والدكم الخديوي إسماعيل على الموسيقى العربية يخلد الثناء الطيب على تراخي الأحقاب. ولنصرته للفنون الجميلة، وحفظة لمجد العرب الأثيل. سيبقى ذكره في الأعقاب بما هيأ لذلك من أسباب النجاح. وما أتاه عبده الحمولي من ضروب الابتكار والتفنن في إقامة بناء لها وطيد الدعائم، وتكوين قواعدها على أسلوب عربي رشيق، وبروح مصري أنيق؛ فازدهرت في عصره الذهبي. وأصبح الشعب المصري طروبا سعيدا، ويغني متهللا. ولا عجب وهذا الشبل من ذاك الأسد. إنكم عند إشراق شملكم على عرش المملكة المصرية. جريتم على منهاجه في تشجيع الفنون والموسيقى العربية الوليد حبها فيكم. وأضحيتم مصدر الحركة في النهضة القومية. وقوام حياة مصر الفنية والأدبية والعلمية والاقتصادية، بنشركم العلوم والمعارف، وتشجيعكم الصنائع والفنون بما أسستم من معاهد ومدارس ومستوصفات.
ولما كانت الشمس تطلع من المشرق، وكانت مصر الأم التي غذت قديما الغرب بلبنها من علوم وفنون، ولما طمى على الموسيقى العربية الساحرة فساد التجديد الذي من أغراضه الاستعانة عن الصورة الحسناء بصورة شوهاء. تصديت خدمة للفن، وإيثارا للفائدة العامة؛ لأصونها من أيدي التلاعب والضياع، وتبقى فنا عربيا لا غريبا ورمزا لتقاليد شعبها، وعنوانا لنخوة عروبتها وعزتها وآياتها. ولذا أرفع بكل خضوع إلى الأعتاب الملكية كتابي هذا الذي به تشخيص الداء، ووصف الدواء؛ لتدفعوا غارة العجمة عن ألحان موسيقانا أداة بياننا ولغة أفئدتنا. احتفاظا بروح مصر الخالدة. والله أسأل أن يشمل عطف جلالتكم السامي العبء الذي نهضت به لخير الوطن، ويمدكم بروح من عنده، ويحرس ولي عهدكم صاحب السمو الملكي أمير الصعيد فاروق المحبوب. إنه سميع مجيب.
العبد الخاضع المطيع
قسطندي رزق
حضرة صاحب الجلالة الملك فاروق الأول المعظم.
نكس العلم
بقلم عبد الله عفيفي
هل يعلمون على من نكس العلم
هذا بناء الحمى والملك ينهدم
فؤاد، أين؟ ومصر غير آمنة
الريح عاتية والموج ملتطم
خلفتنا لا يرد الضيم فارسنا
ولا ينافح عن أشباله الأجم
فؤاد، هل وقفة؟ فالشعب مضطرم
ومصر تبكي مناها والدموع دم
أحالها الحزن أشلاء ممزقة
جسم بغير فؤاد كيف ينتظم
ليس المصاب مصابا إنه ضرم
مؤجج في نواحي القلب محتدم
فؤاد لا الصبر يأسو جرح فاجعتي
ولا تنهنه من أحزاني الكلم
قد كنت وحي يراعي حين أشرعه
فالآن بعدك لا شعر ولا قلم
ساكن الجنان المغفور له جلالة الملك فؤاد الأول.
ساكن الجنان المغفور له الخديو إسماعيل.
الطائر الصيت والبلبل الغرد المرحوم عبده الحمولي.
عبده الحمولي ومحمد العقاد والسيدة عمر المطربة وخليل باش أغا ساكن الجنان الخديو إسماعيل.
الأستاذ قسطندي رزق مؤلف هذا الكتاب.
مقدمة
بقلم قسطندي رزق
لقد أشربت محبة المرحوم عبده الحمولي منذ نعومة أظفاري يوم خالط المرحوم والدي بالزقازيق وزارنا في دارنا وغنانا غناءه العربي؛ فأعجبت به أيما إعجاب وارتسمت في ذهني صورة العروبة الفخمة بما مثل أمامنا من الحركات والأقوال التي صورت لي إباء العرب وفروسيتهم وعظمتهم، وما أتاه من شجي التلحين وحسن الأداء، وتفخيم اللفظ الدال على معناه، والإبانة في مخارج الحروف، فهو حرى بأن يكنى بغريد الشرق الذي لا تفتح العين على مثله، وأخذت منذ ذلك الحين أشعر بتيار موسيقى يتمشى في عروقي إلى أن أضحيت من المولعين بالغناء العربي الذي لا أصبو إلا إليه، وحزت ملكة التمييز بين جيده ورديئه لا سيما إذا سمعت ركزا لخليط مجدد. ولما هب على الموسيقى العربية عاصف التجديد، وحاول أن يقتلع جذورها من تربتها المباركة الخصبة، شمرت لصد ذلك التيار عنها غيرة على عظمتها وسحرها، واتقاء للرمق الباقي منها، إذ هي الآن والعياذ بالله واقفة على مفترق طريقين لا محيد لها عن سلوك واحد منهما، فإما أن تحيا وتستعيد ماضي شبابها إذا تداركها أولو الأمر منا، وإما أن يسجل عليها الموت الذي لا حياة بعده إذا ألقينا حبل المجددين على غاربهم يجهزون على تلحيننا القومي ويرتضخون لكنة غربية بدلا من ترديد نبرنا العربي، ويشوهون محاسن الموسيقى العربية التي وضع قواعدها أسلافنا الموسيقيون المصريون، ويقضون على تقاليد الشعب المصري الذي يغني بالفطرة، ويحتفظ بصبغته وتقاليده.
على أنه ليس من غرضي في هذه المقدمة الوجيزة أن أعارض في التجديد الذي يقصد منه زيادة ثروة موسيقانا الشرقية والتدرج بها من حسن إلى أحسن كما هو شأن كل فن ينقصه التنقيح والتحسين - (والكمال لله وحده) - أو أن أصرف المجددين المجتهدين عن التوفر على توسيع نطاقها والنهوض بها إلى أعلى مستوى يليق بعظمتها ومجد الشرق، ويحفظ لنا ما خلفه لنا السلف من الموسيقيين العبقريين من قواعد ثابتة وقوانين مرعية، إذ أني أرحب بكل تجديد مبني على الأصول، ويرجع إلى مستقر معروف، وأسلوب مألوف، لكن المجددين - والأسف يملأ جوانحي - في واد، ونواميس الموسيقى في واد وقد هاموا في أودية الضلال وأضلوا سامعيهم، وليتهم تصرفوا في التجديد على حسب القواعد الصحيحة محترمين المقاييس وراعوا النغم والمقاطع والموازين الموسيقية والتوقيع بما يطابق معنى الأغنية المنظومة، ومثل الموازين الموسيقية كمثل الأبحر للشعر ذي الأشطر الصحيحة القياس.
أما الألحان القديمة فيتوفر فيها حسن التوقيع وضبط الإيقاع، ولو كان ملحنونها يقتصرون على نغمة أو أكثر، وهي في كل حال خير من الألحان الحديثة التي لا يتوفر فيها حسن التوقيع وضبط الإيقاع، فضلا عن عدم مراعاة ملحنيها لمعنى الأغنية أو الدور أو الموشح مهما كثرت أنغامها؛ لعدم ضبطهم القواعد الأساسية التي يجب أن تبنى عليها أغانيهم من جهة، ولعدم تمكنهم من قتل النغمات درسا من جهة أخرى ليكفلوا الحصول على جمال التلحين.
فإذا استمروا على هذا المنوال قضوا على الموسيقى العربية قضاء مبرما، وأضحت لا أثر لها في الوجود. وما حماية الألحان التي تكاد تبتلعها عجمة التجديد إلا الاحتفاظ بروح مصر الخالدة.
هذا هو الداء الدفين لموسيقانا الذي يستعصي شفاؤه إذا أهملناه ولم نعالجه بسرعة، وقد وصفته وصفا لا يخالج الخبير فيه أدنى ريب، أما الدواء فيلخص فيما يأتي: (1)
وجوب تأليف لجنة فنية من أعضاء المعهد الملكي للموسيقى العربية، ومن الموسيقيين والشعراء في خارجه ممن يشار إليهم بالبنان، يكون من اختصاصها الإشراف على كل لحن جديد يلحن، والقيام بفحصه بدقة من الوجهتين التلحينية والنظمية، (مع مراعاة ما إذا كان لفظه ومعناه منزهين عما يعاب) حتى إذا حاز القبول يرخص لصاحبه بنشره وإذاعته، ماذا وإلا تجرى مصادرته بمساعدة الهيئة الحاكمة ضمانا لتنفيذ شروط اللجنة المشار إليها. (2)
يعهد إلى المعهد بألا يرخص لرؤساء التخوت للآلات الوترية بأن يستبدلوا العازفين السابق تشغيلهم على تخوتهم بعازفين جدد لا يفقهون طرق إشغالهم، ولا مزاياهم الخاصة، إذ إن لكل رئيس عادة خاصة، ومزية خاصة، وروحا خاصا، بدليل أن تخت الأستاذ: محمد العقاد كان لا يشتغل إلا برئاسة عبده الحمولي، ولم يستطع أي قانونجي في عصره أن يدوزن قانونه بالسرعة التي كان يدوزنه بها محمد العقاد الكبير، ولا أن يصور نغماته على آلته، وكان لكل رئيس تخت خاص عازفون خصوصيون لما في الإبدال من ضرر، كما لا يخفى لا سيما في عدم إمكان دوزان الآلات واندماجها ببعضها بعضا؛ لأن الدوزان والميزان لازمان للموسيقى الصحيحة، وقد قال موزارت «الموسيقى ميزان». (3)
أن يعهد إلى المعهد في تكليف أشخاص للتجول في البلاد الريفية للبحث عن ذوي الأصوات الحسنة: من الصبية الريفيين بين جامعي الأقطان، والعمال بالمصانع، والمحالج وغيرها، لاستحضارهم وتعليمهم أصول الغناء على الطراز العربي، مبتدئين بترويض أصواتهم كترويض الأجسام على الرياضة البدنية وتمرينها على المقامات تدريجيا، واختبارهم أخيرا فوق المآذن على حد ما كان يروض أوتار صوته المرحوم: عبده الحمولي على مئذنة جامع الحنفي، وإتباعا لخطط الموسيقيين الغربيين في مثل ذلك. ولا غرابة في انتقاء الصبية من بلاد الريف في الوجهين القبلي والبحري؛ لأن عبده عبقري الشرق رأت عيناه النور في (حامول)، ومحمد عثمان الصعيدي أصلا (من طهطا) ولد في حي بولاق، حيث كان يتمرن على أعمال البرادة في ورشة. ويقوم المعهد بدفع نفقات هذا النشء ويحتم عليه أن يعلمه الموسيقى العربية بحذافيرها، وعلى حسب قواعدها مع إدخال النظم الحديثة المختارة فيها بشرط أن تلائم الذوق المصري، ولا تمس جوهر موسيقانا أو تشوه محاسنها. (4)
على الصحافة المصرية الحرة التي يناط بها إرشاد الأمة إلى سبيل الهدى ألا تألو جهدا في لفت نظر الأمة والمجددين على صفحات جرائدها إلى وجوب مراعاة الشروط السابق الإيماء إليها؛ احتفاظا بجمال موسيقانا وثروتها وقوتها التي هي أشهر من أن ينبه على وجوب الاحتفاظ بطابعها الشرقي وصبغتها وذوقها السليم المصري البحت؛ لأن الدين إمحاض النصيحة والصراحة حياة الحق، ومثلها كمثل عصير الشجرة فلا تحيا إلا به، وبدونه تيبس أغصانها وموتا تموت، وكل شعب يقبل الأمور على علاتها بدون تمحيص، ولا بحث ولا برهان استنادا على عوامل مؤثرة أو جاه أو ثروة أو دعاية غير صحيحة يكون هدفا للتغرير والخدعة، وقد وجدت لزاما علي في إبان النهضة القومية في جو الحرية والديمقراطية أن ألفت النظر إلى مجابهة الحقائق بلا وجل ولا محاباة ولا تقليد أعمى، بل بثقة وصدق وشجاعة وحسن نية في ظل مليك البلاد المعظم جلالة فاروق الأول الديمقراطي الذي ولا شك سيحذو حذو جلالة والده في السهر على الفنون الجميلة وغيرها، ويعمل على النهوض بمصر إلى ذروة المجد والسعادة، ولولا مجهود ساكن الجنان والده لما كان لأي هيئة فنية أو رسمية في مصر من أثر، ولا قامت للموسيقى قائمة. وعسى المحدثين بعد هذا التنبيه أن ينزعوا عن طائش رأيهم في التجديد ويثوبوا إلى الصواب، فإن الرجوع إلى الحق محمدة والمضي في الباطل منقصة. وفقنا الله إلى السبيل السوي وهو مالك الأمور.
الفصل الأول
لمحة في تاريخ الخديو إسماعيل ونصرته للفنون الجميلة
لما كان هم المغفور له الخديو إسماعيل نشر العلوم والمعارف، وإحياء الزراعة، وتوسيع نطاق الصنائع الوطنية، وترويج التجارة، وتثقيف المرأة، وتشجيع الفنون الجميلة، وفي مقدمتها الموسيقى العربية، والغناء والتمثيل، نشط للجري في سبيل الأمم المتمدنة، ولم يأل جهدا في تحسين الصلات، وتمكين الألفة بين المصريين، وبين الجاليات المتوطنة في مصر، حتى بلغت في عصره الذهبي ذروة المجد، وأوج الحضارة والمدنية، وأصبحت حرية بأن تعد قطعة من أوربا لا من أفريقيا كما صرح بذلك شخصيا.
ومن مآثره الجليلة، أنه كان أبا الفلاح يدافع عن كيانه، ويحمي ذماره، وكان شغوفا بالزراعة إلى أبعد درجة، وكان يحب مصر حبا صحيحا متغلغلا في قرارة نفسه، فاحتفظ بتقاليدها القومية، وطابعها الشرقي الذي اتسمت به، وتفانى في رفع منارها في بلاد الغرب، وباهى بشعورها، ونشر لغتها، لغة الجمال والمجاز، وتعظيم الناطقين بها في أنحاء الشرق، بدليل ما عرضه سنة 1867 في معرض باريس الذي اشتركت فيه الحكومة رسميا، من تماثيل قديمة، ومن مومياء لرعمسيس الثاني، الملقب بسيزوستريس أكبر الملوك الفاتحين، التي اكتشفت سنة 1881 ولغيره من الفراعنة، ونماذج للحياة المصرية القديمة، كبيت شيخ البلد، وهياكل، ومصانع للتفريخ التي لم يعترها أدنى تغيير، منذ خمسة آلاف سنة ونيف لغاية الآن؛ بالرغم من أن في خلالها دالت دول، ودكت عروش، وأشكال «وكايل» وبيوت على أقدم طراز، فسيحة الأرجاء، تطل نوافذها من الداخل على ردهات مقامة في وسطها فسقيات مزينة بالفسيفساء، وعلى سطوحها قباب جميلة، وبخارجها ترى مشربيات بارزة بديعة الصنع. وكذلك عرض الحياة المصرية الحديثة بما امتازت به من مصنوعات فائقة الوصف، كالأقمشة المطرزة بالذهب، والأواني الخزفية، والجلود المدبوغة والمنقوشة نقشا بديعا. ومن آلات الطرب: العود، والقانون، والكمان، والناي، والربابة التي كان يفضلها على الكمان لأنها مصرية بحت، والمزمار البلدي، والصنوج، والصاجات لزوم الرقص البلدي، والدربكة، والرق، والطار، والنقرية «والسنتير» مما كان مهوى أفئدة المتفرجين والزائرين للمعرض من سائر بلاد الغرب لا سيما اسكندر الثاني، وفرنسيس يوسف إمبراطوري روسيا والنمسا، وفكتور عمانويل الثاني ملك إيطاليا، وغليوم ولي عهد بروسيا، والبرت إدوارد ولي عهد إنكلترا، والسلطان عبد العزيز الذين طأطئوا رؤوسهم المتوجة إكبارا وإجلالا لتمثال ومومياء رعمسيس، وسائر المعروضات جملة ومفترقا، وأضحوا يتأملون تأملا مليا في سر تحنيطها ودقة مصنوعات المصريين حتى انتهوا إلى استهتار ما أتاه الغربيون من ضروب الابتكار، وصنوف الاكتشاف والاختراع.
على أن مجهوده لم يقف عند هذا الحد فحسب، بل إنه لما قفل راجعا إلى مصر بعد رحلته إلى أوربا حيث شاهد المباني الناطحة للسحاب، والمنشئات البديعة ومسارح التمثيل والغناء، والمدارس، والمعاهد العلمية، والأندية الأدبية، دبت فيه الغيرة الصادقة على مصلحة مصر، فأخذ على عاتقه أن يقيم فيها اقتداء بالغرب القصور الفخمة، ويشيد دورا للعلوم، ومعامل للصنائع. فأنشأ في ربيع سنة 1873 مدرسة السيوفية للبنات المجانية، داخلية وخارجية، ومدرسة ثانية بالقربية لشدة الحاجة إليها، أمتها بنات الأمراء والعظماء، وأكابر الموظفين، وكانت برامجهما تشمل تعليم اللغتين، العربية والفرنسية، والجغرافيا، والرسم، والموسيقى العربية، وأشغال الإبرة، والتطريز، والطبخ، والتدبير المنزلي. وشجع الأهلين على وجوب تثقيف عقول البنات بنوع خاص، لتضرب المرأة بسهم وافر من العلم يرفع منزلتها، وتبلغ به المكانة اللائقة بها، بين الأمم المتمدنة، وتكون عضوا قويا في المجتمع الإنساني، وكوكبا منيرا يستضاء به، في حياتها الزوجية، ومثلا صالحا، في تربية ابنها وابنتها، فينشآن عضوين سليمين عقلا وروحا وجسما، نافعين لنفسيهما ولأمتهما معا (والعقل السليم في الجسم السليم).
حديقة الأزبكية
ومما لا يختلف فيه اثنان، أن الأزبكية كانت مستنقعا ينبت فيه النبات المائي الكثيف، وينقف بيض البعوض الناقل للعدوى، فأزيلت بناء على أمره السامي تلك المياه الراكدة، بمعرفة (برهان بك): مدير الإدارة بوزارة الأشغال العمومية سنة 1837، وغرست الأشجار على اختلاف أنواعها، صفوفا منظمة، واكتست أرضها بثوب سندسي قشيب، يشرح الصدر، ويقر العين. وأقيمت في وسطها الفسقيات التي تنفجر من فوهاتها المياه المتلألئة، وربي فيها أجمل أنواع السمك، وأنيرت مصابيح الغاز في أرجائها، وبنيت الجبلاية على أبدع طراز، وهي لا تزال ماثلة أمامنا للآن، وصفت الأكشاك الحديدية حولها من الداخل، حوت تخوتا للطرب، غنى فيها أشهر المغنيين والمغنيات، فصير مجهوده وابتكاره من المستنقع الآسن رياضا تجري من تحتها الأنهار، وأطيارا تغرد على أفنان خمائلها، ووجوه حسان تلوح في غدران مناهلها، وتحت ظلال نارجيلها، ويقدر مسطحها بنحو 170000 متر مربع. وكانت أرضها موقوفة لآل البكري، واستبدلت بأطيان بناحية بهتيم، تزيد على مساحتها أضعافا مضاعفة. وقد أصدر أمره الكريم بتشييد مسرح للكوميديا بناحية منها في 23 نوفمبر سنة 1867، واحتفل بافتتاحه في مساء 4 يناير سنة 1868 حيث بوشر التمثيل دون أن يمضي على إنشائه أكثر من اثنين وأربعين يوما.
الأوبرا
أما الأوبرا، فقد بنيت سنة 1869 في مدة لم تزد على خمسة شهور، وبلغت تكاليفها نحو 160 ألف جنيه، فأحضر إليها من أوربا فرقا للتمثيل من أعلى الطبقات. وكانت أول الروايات التي مثلت فيها بوجه التحقيق رواية «ريجولوتو» التي حضرها كل من الخديو إسماعيل، والدوق والدوقة داوست، وذلك في أول نوفمبر سنة 1869، كما جاء بالجريدة الرسمية بتاريخ 10 منه.
ولشدة ولعه بالمصرية كلف مارييت بك آنئذ بتأليف رواية «عائدة المصرية»، وأناط فردي الموسيقي الطلياني الشهير بتلحين أنغامها الشجية، فقام بتمثيلها أقدر الممثلين والممثلات في مساء 24 ديسمبر سنة 1872، وعزفت الأوركسترا الطليانية بنغماتها الشجية، عزفا أخذ بمجامع القلوب، وسر منه الخديو إسماعيل سرورا أدى به إلى منح فردي وجوقته 150000 فرنك ذهب. ثم أنشأ بعد ذلك المسرح الهزلي الفرنسي
La Comédie Française .
التمثيل العربي
أما ما كان من أمر التمثيل العربي، فكانت حجر زاوية بنائه، فرقتا التمثيل لسليم نقاش ويوسف خياط. ومن الروايات التي حضر الخديو إسماعيل تمثيلها، أذكر روايات «أبي الحسن المغفل»، و«هارون الرشيد»، و«أنيس الجليس» وبعض روايات أخرى لموليار الشاعر الهزلي الفرنسي مثل روايات: «البخيل»، و«الطبيب رغم أنفه»، و«الشيخ متلوف»، و«النساء العالمات» التي قام بتعريبها عثمان بك جلال، المعروفة بما يأتي: “L’Avare, le médecin malgré lui, Matluf, ef les femmes savantes”
ولما كانت الروايات التمثيلية من أنجع الوسائل، وأفعل العوامل في تهذيب الأخلاق وتنوير الأذهان، وحث النفوس على الفضائل والمحامد، بما تصوره للحاضرين من مناظر للفضيلة والرذيلة، والعدل والظلم، والوفاء والغدر، والصدق والكذب، إلى غير ذلك من الخصال، بارزة تحت ثوب من اللهو والفكاهة والجد، فضلا عما تنطوي عليه من حقائق ثابتة، ووقائع تاريخية، وحوادث وعبر لهذا الكون، تتكرر على مرور الأيام (ولا جديد تحت الشمس)، عمد المغفور له الخديو إسماعيل إلى تشجيع أبناء وادي النيل على غشيان دورا الأوبرا، ومسارح التمثيل الراقي، والملاهي البريئة، رغبة أن يريهن بعين النقد، ونور البصيرة، العبر في حياة من مضى من الأمم، إتباعا للأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، بدلا من سماعهم القصص الخرافية، وحماسة عنترة بن شداد ، وحروب الزناتي خليفة، والزير سالم، وسير أبي زيد الهلالي سلامه، وقصص ألف ليلة وليلة، وحضور الألعاب البهلوانية والأراجوز التي اتسع مجالها عند المصريين، وأصبحت مهنة لأرباب الجهالة والدهاء، يتفننون في متنوع أساليبها، جرا لمغنم من أهل السذاجة فيهم، وذلك في بدء توليه الأريكة الخديوية. وكان لشدة عطفه على تلاميذ المدارس العليا كالمهندسخانة مثلا أو غيرها، يبعث إليهم تذاكر خصوصية إسوة بأولاده الأمراء لكي يحضروا معهم التمثيل الروائي في الأوبرا.
وبالجملة فإن فن التمثيل كان معدوما فأوجده في مصر العزيزة، دون أن يتمتع بمزاياه سائر البلدان الشرقية لما أن العرب كانوا بوجه عام يقتصرون على عرض منتجات قرائحهم في سوق عكاظ، وكانوا يعلقون على جدار الكعبة الشريفة الشعر الأكثر طلاوة الذي صيغ من أخلص النضار. فمن أين يا ترى يمكن أن تستنير عقولهم بالحكم والمواعظ والعبر المستمدة من الوقائع التاريخية، والحوادث الواقعية، التي تمثلها تحت الحس الروايات التمثيلية إذا غابت عنهم معرفة فوائدهم ولم يستعملوها بين ظهرانيهم لأنهم يتخذونها هزؤا، ويصفونها بالمهنة السافلة، بدليل أن الأدوار التي يجب أن تقوم بتمثيلها المرأة - خاصة على المسرح في فرقة يوسف خياط - كان يعهد فيها اضطرارا إلى غلام لم يتمكن من الإجادة في تمثيلها بطبيعة الحال، حتى أن الشيخ القباني نفسه أول الممثلين وأبرعهم في زمانه، كان رغم تقدمه في السن يقوم بدور المرأة، لما كان عليه فن التمثيل من قبيح السمعة، وتكون المرأة كما قدمت معرة قومها إذا جرأت على الاشتراك فيه بعكس الغربيين، وعلى رؤوسهم ملوكهم وعظماؤهم وعلماؤهم وحكماؤهم فإنهم أحلوا هذه المهنة في أعلى منزلة وأرفع مقام من الحضارة والمدنية. وقد عني بتأليفها أكابر شعرائهم، أمثال شكسبير، وموليار، وراسين، وكورنيل، وڤولتير، وڤيكتور هوجو، وبرنارد شو، وغيرهم. فهل في هذه الحالة يتهمون بالزيغ والخبث، والتسكع في بيداء الغرور والغواية؟
الموسيقى
أما الموسيقى، فإن من أطلع على تاريخ مصر الحديثة، وتدبر ما للمصريين في أساليب معيشتهم من شديد الميل إلى المرح والجذل، وحب الغناء العربي بالفطرة، وتفضيله على سواه أيقن أن ديدنهم ومذهبهم توجيه عزائمهم إلى الاتساع والإبداع في أساليب الغناء بشرط ألا تشرد عن قواعدها الأساسية، وألا تصيبها عجمة تسأمها الطباع. وليس ذلك بغريب لديهم لما أن المغفور له محمد علي باشا الكبير نابليون الشرق المصلح العظيم، وبالرغم من أن أصله من قوله يعد أول المولعين بالموسيقى الشرقية؛ فأسس في مصر مدرسة للأصوات والطبول سنة 1824، ومدرسة بناحية الخانقاه في شهر أغسطس سنة 1827، ومدرسة للعزف بالنخيلة في أبريل سنة 1829، ومدرسة للمحترفين (الآلاتية) سنة 1834. وانتقل هذا الميل بالوراثة منه إلى أبنائه وأحفاده، بدليل أن الخديو إسماعيل شغف بها شغفا شديدا وأرهف غرار عزمه لتوسيع نطاقها، فأصبح للعلوم والفنون الجميلة نصيرا، وللموسيقى الشرقية والغناء العربي حاميا وظهيرا. فما كاد يظهر عبده الحمولي في عالم الغناء في القاهرة حتى قربه الخديو إسماعيل إليه، لما ألفى فيه من عبقرية ورخامة صوت، وكان له من أكبر المشجعين على التصرف في وضعه واشتقاقه، ليكسوه لباسا يستوفي به زينته وجماله، فأوفده في الحال على حسابه الخاص إلى الأستانة ليقتبس عن الموسيقى التركية الغنية ما يروق له، وليختار من نغماتها ما يلائم الذوق المصري، ويطابق الروح الشرقية. فأدمج في الموسيقى العربية من النغمات التركية، النهوند، والحجاز كار، والعجم عشيران، وسائر الآهات، مما جعل الفن مدينا لعبده، وبالتالي لساكن الجنان الخديو إسماعيل الذي هيأ له جميع أسباب النجاح، وأطلق له العنان في مجال الإصلاح حتى ألحقه بمعيته، وخصص الشيخ: عبد الهادي نجا الإبياري لتعليم أبنائه.
في تعضيده للأدب والأدباء والصحافة
وقد عين الشيخ: علي الليثي شاعرا بالمعية السنية، والدكتور: أحمد حسن الرشيدي طبيبا له، وقرب إليه الشيخ علي أبا النصر المنفلوطي الشاعر الكبير، وعبد الله باشا فكري، وألحق نقولا بك توما بإحدى وظائف الحكومة، وأجزل لإبراهيم المويلحي بك العطاء الذي به استعاض عما جرته عليه التجارة من خسارة، وله اليد الطولى في تشجيع الصحافة على الانتشار في أنحاء القطر في الزمن الذي لم يكن به في مصر إلا الجريدة الرسمية تنويرا لأذهان الأمة، وتوسيعا لنطاق النهضة الأدبية التي بها ترفع من كبوة الجهل السائد فيها، وحض رجالها على إدمان البحث والكتابة فيما ينمي ثروة البلاد، والحث على إحياء الصنائع وترغيب الأغنياء من المصريين في إنشاء المعامل طلبا للاستغناء عن المصنوعات الأجنبية، أسوة بجده المغفور له محمد علي باشا الذي شجع عائلة الزند اللبنانية على تربية دود القز؛ بأن منحها على ساحل بحر مويس بجوار الزقازيق أرضا واسعة سميت بكفر الزند، وزرعت بأشجار التوت لتغذية دود الحرير؛ حتى نمت تلك الصناعة وازدهرت في عهده.
وقد ظهرت سنة 1873 في عالم الصحافة جريدة مصرية شكلا وعثمانية النزعة فعلا باسم «كوكب الشرق» لصاحبها سليم حموي بك آنئذ، وكانت تصدر في الإسكندرية، ولما احتجبت عن قرائها لحاجة صاحبها إلى مال؛ عمد إلى طلب إعانة من الخديو إسماعيل، فلما مثل بين يديه، سأله عن المقدار اللازم من المال لاستئناف عمله فأجابه قائلا «إن خمسين جنيها تكفيني يا أفندينا» فامتعض من جوابه وأمر بصرف هذا المبلغ الضئيل له، وكان يود من صميم قلبه أن يعطيه ما يكفيه أعواما لا شهرا ولا يوما، إذ لم يخلق في العائلة العلوية المحمدية من هو أسخى منه يدا، ولا أطيب نفسا. فأخذ المبلغ حموي بك نادما ندامة الكسعي، لأنه تحقق بعد فوات الفرصة أنه لو ضاعف مبلغه أضعافا مضاعفة لما تأخر الخديو عن صرفه؛ لينهض به من كبوة العوز، ويتمكن من استئناف إصدار جريدته التي قضى عليها بعد حين.
أما جريدة «الأهرام» التي أنشأها المرحوم: بشارة باشا تقلا - شيخ الصحافة وكبيرها - بمعاونة أخيه المرحوم سليم بك الشاعر المفلق، والكاتب المتفنن سنة 1875 فإنها تعتبر أول جريدة عربية أنشئت في القطر المصري في عهد الخديو إسماعيل بعد كوكب الشرق والجريدة الرسمية. وكانت تصدر بادئ ذي بدء في الإسكندرية حتى سنة 1898، وبعد ذلك نقلها صاحبها إلى القاهرة. وكانت المورد العذب الوحيد الذي استمد منه الشعب المصري الأدب وأصدق الأخبار، وأدق المباحث المفيدة للمجتمع ماديا أو أدبيا.
قنال السويس
أما قنال السويس، فكان تمامه على عهد الخديو إسماعيل، وفتح في اليوم السابع عشر من نوفمبر 1869 باحتفال باهر دعا إليه إمبراطور النمسا والإمبراطورة أوجينيا زوجة الإمبراطور نابليون الثالث. وأقيمت في وسط ساحة الاحتفال ثلاث منصات خشبية مرتفعة مكسوة بالديباج والحرير، جلس على المتوسطة منها أصحاب التيجان، وأولياء العهد، والأمراء، والعواهل. وعلى المنصة التي على اليمين جلس من علماء الدين الإسلامي الشيخ: مصطفى العروسي، شيخ الجامع الأزهر، والشيخ: محمد المهدي العباسي، مفتي الديار المصرية. ولما توفي تعين بدله نجله الشيخ: محمد أمين المهدي، ولم يتجاوز السادسة عشرة من عمره، على ما رواه لي السيد: أمين المهدي حفيده، ولكن الخديو إسماعيل استصدر فرمانا شاهانيا بتعيين قيم عليه بصفة استثنائية إلى أن يبلغ رشده؛ لأنه يعطف على البيوت المصرية الطيبة العنصر. وقد اشتهر بغزارة العلم وطول الباع في أصول الشريعة الغراء حتى كانت تعد فتاويه المسماة بالفتاوى المهدية مرجعا من المراجع الشرعية الراجحة التي يعمل بها على المذهب الحنفي.
أما المنصة الثالثة فجلس عليها الأحبار، وفي مقدمتهم القاصد الرسولي، ونصبت «ألمظلات» لجماهير المتفرجين والزائرين على الشاطئين الأسيوي والإفريقي، وعند نهاية الاحتفال قدم العلماء الشكر لله على نعمه الجزيلة، وتلاهم الأحبار فأنشدوا ترتيلة الشكر المعروفة ب
Te Deum
وتعانق العلماء مع الأحبار رمزا إلى تعانق الصليب بالهلال، وتجلى روح التعاون والمحبة بأجلى معانيه أمام ملوك الغرب، مما دحض زعم رديارد كبلنج القائل بأن الشرق والغرب ضدان لا يجتمعان، وظهر للعيان أن أبناء النيل تحت حكم الخديو إسماعيل مصريون مهما اختلفت عقائدهم الدينية، وتباينت نحلهم. وأصبحت الصحراء القاحلة مزارع خصبة بفتح القنال الذي جنت منه مصر فوائد جمة مادية وأدبية وسياسية تزداد كل يوم بازدياد الصلات، وتوثيق عرى التعاون بين الشرق والغرب. هذا فضل من أفضاله ومأثرة من مآثره فإن لم يكن له سواهما لكفى.
الإمبراطورة أوجينيا على ظهر الهجين.
على أن الملوك زائريه قد استعرضوا أجناسا من الأمم ونماذج مختلفة تقع تحت حكمه السعيد ابتداء من الإسكندرية إلى خط الاستواء ممن حضروا هذا المهرجان من الوفود من الفلاحين والصعايدة، وقبائل العرب، والسودانيين لابسين على رؤوسهم العقال والطرابيش والعمائم والطواقي واللبد، وهم يلعبون على صهوات خيلهم العربية المطهمة على أصوات مزمار الفناجيني الدمياطي، ويركبون أسنمة الهجن وظهور الحمير للسباق على أصوات الرباب ودقات الطبول البلدية، وقد آثرت الإمبراطورة في الذهاب إلى القصر على ضفة الإسماعيلية، والإياب منه بركوب الجواد والهجين على العرب الأوربية.
ومن دواعي الأسف الشديد أن مصر لم تقم للخديو إسماعيل اعترافا بفضله بجانب تمثال فردينان دي لسبس تمثالا له في قنال السويس الذي حفره بأرض مصر برجال مصر. وقد أميط الستار عن وجه تمثال الثاني باحتفال فخم في اليوم السابع عشر من شهر نوفمبر سنة 1899 الذي يماثل اليوم الذي احتفل فيه بفتحه. حقا إن ذلك قد وقع ذهابا إلى الحكمة المأثورة القائلة بأن لا نبي يكرم في بلده.
تمثال فردينان دي لسبس.
والأدهى من ذلك أن الخديو إسماعيل لما عمد إلى إلغاء السخرة - التي كانت حجر عثرة في سبيل القيام بأعباء الزراعة - تصدت له الشركة، واضطرته إلى سحب أمره إنجازا للعمل وطبقا لما هو منصوص عليه في عقد الاتفاق بينها وبين سلفه المغفور له سعيد باشا سنة 1854، وليت المسألة وقفت عند هذا الحد، بل طالبه نابوليون بدفع مبلغ 1250000 جنيه ترضية له جزاء دفاعه عن الفلاح المسكين وميله إلى تخليصه من السخرة التي وجد ألا مسوغ لبقائها في عصر المدنية، وهي من بقايا الظلم في عهد الفراعنة في إبان بناء الأهرام، ورفع المسال الذي امتدت أغصانه حتى عهد المماليك، الذين كانوا يستعبدون الرعية وينهبون أموالهم. على أنه من جهة أخرى استعاض عن هذه الغرامة الفادحة بأن استرجع من شركة القنال أرضا مصرية في وسط الصحراء تمتد إلى حدود الدلتا يقدر مسطحها ب 60000 هكتار أرادت أن تغتصبها لنفسها، وانتهى بضمها إلى أملاك الوطن. وقد قدرها نابوليون آنئذ بمبلغ 30000000 فرنك أي 1200000 جنيه. ولا يعزب عن بال الباحث المنصف أن لهذا المجهود العظيم قيمته الأدبية غير الملموسة، فضلا عن قيمته المادية الواضحة بما يسجله له التاريخ بالفخر المبين بين ما قام به من عظائم الأعمال.
ومما لا ينكره عليه المغرضون أن العمارات التي شيدها، والقصور الفخمة التي بناها قد انتفعت بها الحكومة على توالي السنين بأن اتخذتها مقرا لمختلف الوزارات ومركزا للمصالح الحكومية والمعاهد العلمية والفنون الجميلة.
الإمبراطورة أوجينيا.
وقد نزع إلى تقريب المسافات وتسهيل المواصلات، فبنى 426 كوبريا منها 276 في الوجه البحري و150 في الوجه القبلي، وحفر 112 ترعة أهمها ترعة الإسماعيلية البالغ طولها 98 كيلومترا وحفرها 11 مليون متر مكعب، وترعة المحمودية، وترعة البحيرة مما أدى إلى إصلاح نحو 1373000 فدان من أراضي الصحراء أنتجت ما تقدر غلته ب 11000000 جنيه أو ريعا سنويا قدره 1400000 جنيه، ومما يؤيد ذلك ما جاء في كتاب: (بيتر كارابيتس) القاضي عن أدون دي ليون القنصل الأميركي في سنة 1875 حيث قال ما يأتي بنصه وحرفه «إن التصليحات والتحسينات والأشغال العمومية التي شرع فيها الخديو إسماعيل، وأنجزت فعلا في مدة الأثني عشرة سنة في مصر كانت مدهشة وعجيبة، ولا مثيل لها في أي قطر من الأقطار، بلغت مساحته أربعة أضعاف مساحة القطر المصري وسكانه أربعة أضعاف سكانه».
تضحية الخديو إسماعيل وتشجيعه للتجار المصريين
لما زاد فيضان النيل سنة 1870 وهدد ثلاث قرى في القطر بالغرق أمر الخديو إسماعيل بأن تكسر الجسور بين أطيانه الخاصة فغمرتها المياه وسببت له أضرارا قدرت بأربعة ملايين فرنك. فآثر نفع الفلاح على نفعه، وضحى بأطيانه في سبيل حماية الفلاح من الأذى الذي كان سيناله من الفيضان.
وتبيانا لتشجيعه التجار المصريين وإيثارهم على الأجانب في جني الأرباح، ولو كانت من ماله الخاص اجتزئ من تاريخ المرحوم: إلياس الأيوبي بإيراد ما يأتي بحروفه: «ومن أفضل ما يحسن ذكره بمناسبة أفراح الأنجال أن طه باشا الشمسي - ناظر الخاصة الخديوية في ذلك الحين - وهو حمو حضرة صاحب المعالي أحمد طلعت باشا - رئيس محكمة الاستئناف الأهلية الآن - كلف عدة محال تجارية بتقديم مناقصات لتوريد كل ما يلزم من فرش وبياضات ودنتلات ورياش لجهاز كل من الأميرات العرائس. فلما قدمت، وقع اختيار طه باشا على مناقصة محل باسكال الفرنسوي، ويعرفه كل من زار مصر القاهرة حتى سنة 1892، لأنها على جودة البضاعة المقدمة نماذج منها كانت على رخص في الأثمان يرغب فيه . ولكنه لما عرض ما وقع اختياره عليه للخديو إسماعيل سأله الخديو «ألم يتقدم في هذه المناقصة محل مصري وطني مطلقا؟»، فأجابه طه باشا «نعم يا مولاي» فقد تقدم ضمن آخرين محل مدكور، ولكن الأثمان التي عرضها مبالغ فيها لا توافق، لأنها تزيد خمسة وعشرين في المائة على الأثمان التي يطلبها محل «باسكال»، فقال الخديو إسماعيل «أرني مناقصته والنماذج المرفقة بها»، فقدمها طه باشا، فوجد الخديو إسماعيل أن الأثمان المكتوبة على تلك النماذج تزيد حقيقة خمسة وعشرين في المائة على ما يطلبه محل باسكال، لكنه وجد أن نوع البضاعة واحدة عند الاثنين، فضرب بمناقصة محل باسكال عرض الحائط، وقال لطه باشا «خذ كل ما نحن في حاجة إليه من محل مدكور وادفع له خمسة وعشرين في الماية فوق ما يطلب. فبدا في عيني طه باشا استغراب بالرغم من أن فمه نطق بعبارات الامتثال. فقال الخديو إسماعيل له «يا طه باشا إذا كانت المحال التجارية المصرية لا تنتفع ولا تستفيد من أفراح أولادي. فمن أفراح من تريد أن تستفيد وتنتفع؟» فاغتنمها محل مدكور وهي طائرة، وزاد على أثمان كل ما قدمه ما أمكنه زيادته. فكان ذلك من أسباب الثروة التي أحرزها ا.ه.
أفراح الأنجال
أقيمت ابتداء من يوم 15 يناير سنة 1873 الأفراح البهيجة احتفاء بزواج الأمراء: توفيق وحسين وحسن أبناء الخديو إسماعيل، من ربات الصون والعفاف الأميرات: أمينة هانم بنت إلهامي باشا ابن المغفور له عباس الأول، وعين الحياة هانم بنت الأمير أحمد باشا ابن المغفور له إبراهيم الأول، وخديجة هانم بنت الأمير محمد على الصغير ابن رأس الأسرة المحمدية العلوية المغفور له محمد علي باشا الكبير، وزواج أختهم الأميرة: فاطمة هانم بالأمير طوسن ابن المغفور له محمد سعيد باشا ودامت أربعين يوما كاملا، باعتبار عشرة أيام لكل عرس من الأعراس الأربعة، ولا يزال للآن ذكر محاسنها يسير في الآفاق. ولذلك قد زينت العاصمة بأبهى الزين، ورفعت أقواس النصر في أهم الميادين. وأقيمت الأكشاك والمنصات للجوقات الموسيقية ولتخوت المطربين والمطربات. وفي مقدمتها تخت المرحوم: عبده الحمولي الذي إذا أنشد نقل بنغماته الساحرة من سمعه إلى جنة الخلد. وتخت (ألمظ) التي فتنت العقول برنين صوتها الرخيم، ناهيك بأشهر الراقصات المصريات، وفي مقدمتهن صفية وعائشة الطويلة، اللتين استعبدتا القلب والنظر فيما قاما به من حركات وتموجات ورشاقة وخفة.
ميثاق الخديو إسماعيل
ومما يحسن إيراده تفكهة للقارئ وبيانا للحقيقية بمناسبة تزويج الأمير: حسن، من الأميرة: خديجة، أن الخديو إسماعيل حينما أدخلها المدرسة المعدة للأميرات، وتبين من فحوى كلامها توقد ذهنها وسرعة إدراكها وعدها بالزواج من أحد أولاده إذا اجتهدت في طلب العلم. فعن له يوما أن يزور تلك المدرسة ليتفقد حال الطالبات فيها، فلما وصل إلى الأميرة خديجة، سألها قائلا «إلى أين بلغت من تعلم القرآن يا ابنتي؟» فأجابته من فورها وقالت «واذكر في الكتاب إسماعيل إنه كان صادق الوعد»، فسر الخديو وارتاح لجوابها وقال لها: «نعم. نعم» ثم بر لها بوعده. فلا غرابة في لطيف إشارتها إلى سابق وعده وما بان له فيها من فرط الذكاء وهي دون البلوغ، لأن البنت أفطن من الولد بطبيعة الحال إلى السنة الثالثة عشرة من العمر؛ حيث يقف ذكاؤها عند هذا الحد لأسباب طبيعية ولا يتعداه خلافا للولد، فإن ذكاءه يطرد نموه ويسير نحو تمام الإدراك على ما أثبته (هربرت سبنسر) في كتاب: «التربية». على أن معنى إسماعيل: مطيع الله، كما ذكره صاحب القاموس. وفي شفاء الغليل قال السبكي «ويستحب لمن رزق ولدا في الكبر أن يسميه إسماعيل اقتداء بالآية. ولأن معناه عطية الله». فإذا توارت شمسه وراء الأفق، فإن أشعتها - كما قال فكتور هوجو - لا تزال ساطعة الأنوار.
وبالجملة، فقد كان عصره عصر رخاء وجذل، وكان ديدنه ومذهبه توثيق عرى المصافاة بين قومه، وبذل النفس والنفيس في سبيل ترفيه نفوسهم وترقية عقولهم لما أنه كان من أحب الناس إلى المسالمة التي بها كان يحقق رغائبه. وكان جديرا بأن ينطبق عليه المثل القائل
Son métier était Roi .
الفصل الثاني
أصل الموسيقى
الموسيقى من أقدم الفنون عهدا في تاريخ الإنسان ، ولا يعلم أصلها بوجه التحقيق على حد سائر الأمور النفسية الأخرى، وقد أدجنت سماؤها وتنكرت معالمها أحقابا متطاولة، لعجز الأقدمين عن استقراء حقائقها، وغفلتهم عن إدراك دقائقها، أو معرفة أسماء الذين اكتشفوا بادئ ذي بدء الأصوات الجميلة ممن احتبلتهم حبول الردى، ولذلك فقد عزي إلى آلهتهم - رجما بالظن - الفضل في إيصال هذا الفن إلى النوع الإنساني.
على أنه ينبغي لنا في هذه الحالة أن نخلد بثقتنا إلى التوراة؛ التي هي المرجع الوحيد الواضح الإعلام المعتبر كمعين نستقي منه الأخبار عن الموسيقى درءا للشبهات، وقد جاء فيها ذكر يوبال من السلالة السادسة لقايين الذي كان أول من عزف على القيثارة والمزمار بحذق أخذ بمجامع قلوب سامعيه، وكانت في زمنه القيثارة مركبة من عشرة أوتار يشبه شكلها مثلثا متساوي الأضلاع. أما المزمار فإنه يختلف عن مزمارنا الحاضر في الطول والحجم، ولا يعلم غيرهما البتة من سائر آلات الطرب قبل الطوفان، وقد نقش أبناء نوح عليهم السلام شكلهما على العامودين الذين شيدوهما تخليدا لذكر اختراعهما بين الأمم الذين ظهروا بعد الطوفان وخدمة للعلوم والفنون الجميلة.
ومما لا تخالطه شبهة أن الموسيقى كانت في أول عهده مقصورة على الصوت الطبيعي إلى أن تنبه الإنسان بذكائه - على سبيل الاتفاق - إلى اختراع الآلات عند سماعه صفير الهواء المتولج في الخصاص والثقوب؛ فاستعمل للنفخ أنابيب القصب، وللعزف أوتار القسي.
ولا ريب أن أقدم الآلات الموسيقية للنفخ، كان - بناء على ما أيده قدماء المؤرخين - المزمار والبوق والناي، وربما كان الأخير أقدمها وهو أول آلة أخذها اليونان عن المصريين القدماء. وليس بخاف أن ما من أمة من الأمم أغفلت هذا الفن الجميل، ولو كانت متوغلة في التوحش والهمجية لما يحيط بها من العوامل الطبيعية، ويكتنفها من الظواهر المؤثرة التي تكسبها جذلا ومرحا، وتثير في نفوسها الميل إلى محاكاتها وتقليدها، وحسبك الهواء فإنه يموج بالموسيقى، ولولا تموجاته وروحاته وغدواته لأضحى غير صالح للتنفس، وما الأرض إلا صدى الكون، وبناء عليه فما على الإنسان الذي حباه الخلاق العظيم بجميل الصوت ولطيف الحس وحب الجمال إلا أن يرفع عينيه نحو السماء ويسبح باسمه الأعلى هاتفا وممجدا وحامدا إياه على عطاياه التي يتنعم بها في كل حين.
كان الشرق على ما جاء في الكتب المنزلة والتاريخ أقدم من الغرب الذي اقتبس عنه المدنية والحضارة والعلوم والفنون، فضلا عن أنه مهبط الوحي ومركز جنات تجري من تحتها الأنهار، وكان بالتالي قدماء المصريين أول وخير أمة بلغت من الثقافة والحضارة والرقي مبلغا جعلها مضرب الأمثال في العالم الذي كان يضرب في ظلمات الجهل، وتبعهم البابليون واليونان والرومان. وإذا سرحنا الطرف في طرائق تفننهم في التحنيط - الذي لا يزال لغزا لم يحله للآن علماء الغرب في عصر الاكتشاف والاختراع للجيل العشرين - وصهر المعادن، وتبسطهم في علم الكيمياء، وضروب الصنائع والفنون الجميلة والبناء والهندسة. وتأملنا ما بلغوه من المراتب العليا في مذاهب الحضارة والبذخ، وما كان لهم من استفحال الملك، أيقنا أنهم أيضا أول من استعملوا الموسيقى في سائر احتفالاتهم الدينية داخل الهياكل، حيث كانت تقدم القرابين لآلهتهم وخارجها، وفي أفراحهم ومآتمهم وساحات القتال تحميسا للجنود، بدليل ما يرى لآلاتها الصوتية والوترية من صور على جدران هياكلهم، وعلى تماثيلهم الضخمة، فضلا عن أن كهنتهم كانوا يتخذون فن الغناء علاجا للأمراض العقلية، فإليهم وحدهم يرجع الفضل في انتشار الفنون والعلوم والصنائع على ما شهد بصحته بييتشر المؤرخ والبحاثة فقال ما ترجمته ملخصا: «إذا أمكنك أن تقصد إلى سراديب الأموات من قدماء المصريين ونفضت ما علق بجثثهم المحنطة من الغبار وعجنته عجنا، واتخذت منه أشكالا وخبزته في فرن، وأسميت تلك الأشكال رجالا قدمتهم نصب عيوننا بصفة وطنيين أو معلمين كان مثلك كمثل من قدم التعاليم القديمة التي أبلاها تناسخ الملوين لجيلنا الحاضر طلبا لفائدته، وخدمة للرقي والحضارة، وقياما باحتياجاته الضرورية».
وقد ذكر ابن خلدون ما يأتي فيما يختص بالغناء لاعتباره عاملا كماليا للعمران، ولازما لحياة الإنسان، لا سيما في مصر، بلد الحضارة والفنون حيث يتعين الاستشهاد به فقال: «وإذ قد ذكرنا معنى الغناء فاعلم أنه يحدث في العمران إذا توفر وتجاوز حد الضروري إلى الحاجي، ثم إلى الكمالي، وتفننوا فتحدث هذه الصناعة؛ لأنه لا يستدعيها إلا من فرغ من جميع حاجاته الضرورية والمهمة من المعاش والمنزل وغيره، فلا يطلبها إلا الفارغون عن سائر أحوالهم تفننا في مذاهب الملذوذات».
ثم أخذه الإسرائيليون عن المصريين مدة إقامتهم في مصر وجعلوه شعيرة من شعائرهم الدينية، كما كان يفعل المصريون، ولذلك كانوا يؤلفون في معابدهم جوقة للترنيم والعزف، حتى اشتهر بين ظهرانيهم داود النبي - عليه السلام - بتنظيم الأناشيد وترتيل المزامير. وكان معروفا بحسن الصوت، وقد اتفق أن ضاقت عليه الأرض برحبها في أثناء مرض ابنه العزيز، وزاد به الجزع إلى حد أن أهمل نفسه، وامتنع عن الطعام، واتسخت ملابسه، ولكنه لما مات ولده وواراه في التراب اغتسل وبدل ثيابه وحلق رأسه وتعطر وأمسك بقيثارته وعزف عليها ألحانا شجية، ولما سئل عن سبب عزفه أجاب قائلا: «لكي ألطف ما بنفسي من ماضي الجزع الذي لم يغن عني فتيلا إذ أنه قد حل القضاء وولدي لا يرجع إلي بالعويل والبكاء خلافا لي فإني حتما ذاهب إليه ولا حق به».
وقد أخذ اليونانيون الفن أيضا عن المصريين حينما اتصلوا بهم وتعاملوا معهم في أنواع التجارة وغيرها في عهد أمسيس - أحد الفراعنة للدولة السادسة والعشرين - ومهروا فيه وأحكموا أصوله وبلغ منهم مبلغا ساميا حتى أن فلاسفتهم وقفوا عليه جهودهم وحذقوا علمه كسقراط الذي كان يشنف آذان أصدقائه ومعاشريه بغنائه الشجي، وأفلاطون الذي استرسل إليه وأطنب في فضائل الموسيقى قائلا ما معناه: «إنها غذاء النفس ومبعث الاتزان والفطن، وهي عطية آلهة الفنون الحرة، التي تحول ما فينا من شاذ متنقل إلى محكم ثابت، وترد كل تنافر إلى جناس متناسب، وتبصرنا طريق الهدى. وقد أردف أيضا في كتابه: «الجمهورية» ما مؤداه «أن الموسيقى علم يجب تعلمه كالرياضة البدنية. فالأولى تهذب النفس وتصلح ما فسد منها، والثانية تقوي الجسد» وأزيد عليه رمزا إلى مزايا الموسيقى الفريدة في بابها، والجزيلة الفائدة فأقول: إن الزيادة في استعمالها تؤدي إلى زيادة الجذل والسعادة ونعمة البال، خلافا للرياضة البدنية فإن في الإفراط فيها ما يؤدي إلى الإضرار بالجسم لما يكلفه من عناء فوق الطاقة.
ومما يروى في خرافات اليونان أن أرفيوس كان يتسلط بأغانيه على الوحوش الضارية فيجعلها أطوع من بنانه، وكان يستوقف البحار الهائجة، ويرقص الصخور، ويحرك الأشجار فتسجد عند سماعها. وقد ذكر عن قدماء المصريين أن أنفيون بن جوبيتر بنى أسوار طيبة بصوت العود الذي كان يجيد العزف عليه، حتى كانت الحجارة تتجمع وتتلاصق وتتراص بعضها فوق بعض، وذلك في أثناء عزفه، وقال الدكتور: كلارك، البحاثة «إن الغناء على نغمات الموسيقى كان عادة مألوفة عند قدماء المصريين في أثناء قيامهم بالعمل».
أما لفظة موسيقى باللاتينية
musica
فهي مشتقة من لفظة
musa
أي بالفرنسية
muse
ومعناها إلاهة من آلهات الفنون، وهن التسع بنات لجوبيتر ومنمنوزين وجميعهن أخوات شقيقات، رمزا إلى اتحاد الفنون وارتباطها ببعضها بعضا، يترأسن أنواع الفنون الحرة. فالأولى اختصت بالتاريخ، والثانية بالشعر الحماسي (الفروسية)، والثالثة بالخطابة، والرابعة بالغناء، والخامسة بالرثاء، والسادسة بالروايات المحزنة «تراجيديا»، والسابعة بالروايات الهزلية «كوميديا»، والثامنة بعلم الفلك، والتاسعة بالرقص، وكن علاوة على ما ذكر يقمن بتطريب جوبيتر كبير الآلهة بأصواتهن الجميلة، وأناشيدهن الشجية على قمة جبل الأولمب برئاسة أبولون الذي كان يعزف أمامهن على نايه المشهور.
ومما يلاحظ أنه لم يعرف شيء عما إذا كان الأقدمون قد استعملوا للآلات الوترية القوس المسمى بالفرنسية
archet
وبالإنكليزية
bow
لأنهم لم يسبق لهم معرفته بدليل أنهم كانوا يستعيضون عنه بريش الطير، أو بعفق الأوتار بالأصابع، ولا يخفى أنها كانت في بدء ظهورها غير مستوفاة التركيب، وغير جيدة الصنع إلى أن تدرج تحسينها بواسطة صانعيها شيئا فشيئا إلى حد الكمال والإتقان كما سترى فيما يلي، فإن الڤيولونسيل والڤيولا والڤيولينا (أي الكمنجة) التي ظهرت في أواخر الجيل السادس عشر كان أول صانع لنوع الكمنجة من الأنواع الثلاثة المذكورة جاسبار داصالو الطلياني الذي ولد حوالي سنة 1542، إلا أن بعضهم يزعمون ظهورها قبل ميلاد جاسبار، وفي كل حال فإنها لم تبلغ الغاية المرادة من الدقة في عصره، وكانت مهملة وعديمة النفع، وقفا إثره مارجيني تلميذه وأدخل عليها التحسينات اللازمة كما فعل بعده أندريا آماتي (1530-1580) الذي حذق عملها، وقرع صيته الأسماع حتى كلفه شارل التاسع عشر - ملك فرنسا الذي كان معدودا من أعظم هواة الفن - بصنع 24 كمنجة متنوعة الحجم لزوم كنيسته الملكية، فقام بصنعها جميعا وامتدت إليها يد الضياع في إبان الثورة الفرنسية.
أما ما كان من أمر العرب فإنهم نقلوا الموسيقى عن اليونان والفرس، وأشهر الكتب التي ترجموها عن فلاسفة اليونان بمعرفة مهرة التراجمة، ومؤلفات فيثاغورس في الموسيقى والحساب وغيرهما من العلوم الرياضية، وشغفوا بها شغفا أدى إلى أن وسمت قواعدهم الموسيقية وأغانيهم بالطابع اليوناني.
بدهي أن العرب كانوا أهل نجعة وخيام، وألاف بادية وأنعام، لا يجنحون إلى إقليم معين، وليس لهم مقر يرتافون منه - حالة منافية لطبيعة العلم وما يقتضيه من القرار والتوفر على البحث والاستدلال، ومناقضة لقواعد الحضارة والعمران لتصديهم إلى شن الغارات ومواصلة المغازي والمشاحات - فلما ظهر الإسلام، ولأم صديع شملهم، اشتغلوا بالفتوح وانصرفت عزائمهم إلى توسيع نطاق ملكهم، لا سيما بعدما أوتوا النصر المبين، كانوا من أبعد الناس عن الأشغال بأسباب العلم، وأشدهم أنفة عن انتحال الصنائع لانهماكهم في تدبير شئون دولتهم وسياستهم وحمايتها؛ خشية أن يكونوا مغلبين لغالب، أو طعمة لآكل، ولم تحفزهم وقتئذ الحاجة إلى ضبط قواعد لغتهم، فكان سيبويه صاحب صناعة النحو، والفارسي والزجاج والزمخشري وأمثالهم من فرسان الكلام، وكلهم عجم بالنسب قد اكتسبوا اللسان العربي بالمربى ومخالطة العربا، وكذا حملة الحديث الشريف الذين حفظوه عن أهل الإسلام أكثرهم عجم أو مستعجمون لغة ومربى، وكان علماء أصول الفقه كلهم عجما، وكذا أكثر المفسرين، ولم يقم بحفظ العلم وتدوينه إلا الأعاجم كما ذكره ابن خلدون وظهر مصداق قوله
صلى الله عليه وسلم «لو تعلق العلم بأكناف السماء لناله قوم من أهل فارس».
ولما رسخت قواعد دولتهم ورأوا في أكثر الممالك التي وطئوها من أسباب الحضارة والرقي والتضلع من أنواع الفنون ما حبب إليهم درس العلوم والصنائع انصرفوا إلى طلبها بصريمة محكمة، وذلك في أثناء المائة الثانية للهجرة، بعدما دوخوا الممالك، واستولوا على أعنة أمورها، وزال ما كان بينهم من المنازعات على الخلافة وغيرها.
وأول من اشتهر من العرب يعقوب الكندي - الملقب بفيلسوف العرب من القرن الثالث - وله عدة تآليف في المنطق والفلسفة الناطقة وشروح على كتب أرسطو، وكانت له عدة مصنفات في الموسيقى والهندسة والحساب والهيئة، وجاء الفارابي الذي له عدة تآليف في الفلسفة والموسيقى والسياسة المدنية وغيرها، وله تعريب كثير من كتب أرسطو، ولابن سينا كتاب: المدخل إلى صناعة الموسيقى، ومنهم ابن باجة أبو بكر محمد بن يحيى التجيبي السرقسطي - المعروف بابن الصائغ من رجال القرن السادس - كان من أكابر فلاسفة العرب بالأندلس، وكان له باع طويل في الموسيقى والطب وعلم الهيئات والرياضيات. وكان الرازي من المتقدمين في الطب والموسيقى والمنطق والهندسة، وصفوة القول إن المؤرخين من العرب هم أكثر من أن يأخذهم الإحصاء، ومن العلوم التي بحثوا فيها وتكلموا عليها العلم الطبيعي الذي أخذوه عن مصنفات أرسطو وغيره من متقدمي اليونان، فبحثوا ضمنا في الأصوات والنغمات في الكلام على المسموعات، وكانوا والحق يقال أهل صنائع بديعة وفنون غريبة وتجارة رائجة وزراعة نامية، وكان العلم مصباحا يضيء جنودهم أينما حلوا في كل بلاد وطئتها حوافر خيلهم وافتتحوها حتى امتدت حضارتهم من أطراف آسيا إلى أقاصي أفريقيا ووسط أوروبا. ولو لبث الدهر باسما لهم ومسالما إلى يومنا هذا لم يبعد أن كانوا بلغوا ما بلغ غيرهم ممن اقتبسوا عنهم علومهم وفنونهم وصنائعهم وضربوا فيها بسهم وافر مثلهم. ومما لا يختلف فيه اثنان أن الإفرنج الذين خلفوا العرب قد أخذوا عنهم كثيرا من المصنوعات كالبارود، والورق، والخزف، والسكر، والزجاج، وتركيب الأدوية، وتصفية المعادن، وفنون النساجة والدباغة، وذلك دليل قاطع على تمام تمدنهم وشغفهم بالفنون الجميلة وعلى رأسها الموسيقى التي كانت في أبان بداوتهم وجاهليتهم مقصورة على الترنم بالشعر وتغني الحداة منهم في حداء إبلهم، والفتيان في فضاء خلواتهم، وكانوا يرقصون على الدف والمزمار، فلما جاء الإسلام وتغلبوا على الفرس واختلطوا بهم سمعوا تلحينهم للأصوات فلحنوا عليها أشعارهم، وكلما ازدادوا غرقا في النعيم والترف ازداد تولعهم بالغناء بمقدار ما نقص من خشونتهم، وألفوا عوائد من اتصلوا به من الروم والعجم الذين اشتهروا بالتبحر في علم الموسيقى. وكفى بتسمية الأنغام الموسيقية بألفاظ فارسية دليلا على ما لهم فيها من المزايا الظاهرة على حد الشعر حتى سميت بلادهم ببلاد الجمال الشذية.
على أن الغناء كان في زمن الجاهلية من خصائص الإماء، وتسمى عندهم الأمة المغنية بالقينة والكونية. وقد زعموا أن أول من غنى من الإماء جاريتان كانتا لمعاوية بن بكر من قبيلة عاد الهالكة، وهما المدعوتان في الأخبار بالجرادتين، وقد قيل إنهما وضعتا ألحانا اعتبرت من الطبقة الأولى.
وقد ذكر ابن خلدون ما يأتي: «وقد ظهر بالمدينة نشيط الفارسي وطويس وسائر ابن جابر مولى عبيد الله بن جعفر فسمعوا شعر العرب ولحنوه وأجادوا فيه، وطار لهم ذكر، ثم أخذ عنهم معبد وطبقته، وابن شريح وأنظاره، وما زالت تتدرج إلى أن تمكنت أيام بني العباس عند إبراهيم بن المهدي، وإبراهيم الموصلي وابنه إسحاق وابنه حماد». ا.ه.
وكان أحسن الناس غناء في الثقيل على ما قيل هو ابن محرز، وفي الرمل ابن شريح، وفي الهرج طويس، وكان الناس يضربون به المثل فيقولون أهزج من طويس، وكان ينقر بالدف دون أن يعزف على العود، وقد أخذ عنه أسرى الفرس في أثناء اشتغالهم بأعمال البناء وغيرها كثيرا من النغمات والألحان والموازين، وكان يلقب (طويس) بالذائب لأنه غنى البيت الآتي:
قد براني الحب حتى
كدت من وجدي أذوب
وقال صاحب الأغاني عن ابن شريح ما يأتي «إن ابن شريح عندما شعر بدنو أجله أحزنه أن يموت بدون أن يترك لابنته شيئا من الثروة»، فأجابته هذه قائلة «لا تحزن يا أبي فقد وعت الذاكرة جميع ألحانك، وستكون هذه الألحان موردا كبيرا لي بعدك». وهذا ما حدث فقد تزوجت ابنته بسعيد بن مسعود الهزلي فأخذ عنها غناء أبيها فصادف به نجاحا كبيرا، وجنى منه فوائد جمة. وقد مات شريح حوالي سنة 726 مسيحية بالغا من العمر خمس وثمانين سنة.
وقد سئل شريح مرة عن قول الناس، فلان يصيب وفلان يخطئ وفلان يحسن وفلان يسيء فقال: المصيب المحسن من المغنين هو الذي: يشبع الألحان، ويملأ الأنفاس، ويعدل الأوزان، ويفخم الألفاظ، ويعرف الصواب، ويقيم الإعراب، ويستوفي النغم الطوال، ويحسن مقاطيع النغم الصغار، ويصيب أجناس الإيقاع، ويختلس مواقع النبرات، ويستوفي ما يشا كلها في الضرب من النقرات. فعرض ما قال على معبد بن وهب فقال: «لو جاء في الغناء قرآن لما جاء إلا هكذا».
جميلة
نبغت جميلة في فن الغناء وقالت إن الفضل في نبوغها يرجع إلى سائب خائر الذي كانت تسمعه يغني ويعزف على عوده، وقد جاء ابن شريح ومعبد ومالك وجميع الموسيقيين المشهورين المدينة ليتلقوا فن الغناء عن جميلة في مدرستها، ففي ذات يوم غنت جميلة لحنا من تلاحينها في شعر لحاتم الطائي فصاح جميع من حضر وقالوا: إن هذا الغناء لجدير بداود.
عزة الميلاء
عزة الميلاء تلميذة رائقة، وسميت الميلاء لإعجابها بنفسها وميلها في مشيتها، وكانت تغني أغاني القيان من القد.
سائب خائر
تعلم سائب خائر الغناء عن إماء كانت مهنتهن ترديد المراثي في حفلات الموتى، وكان يغني بدون أن يصحب صوته بآلة لاكتفائه بعصا كان يضرب بها الأرض ليزن الغناء، ولكنه تعلم العزف على العود أخيرا، وهو أول من غنى بالعربية الغناء الثقيل، وأول تلحين له البيت الآتي:
لمن الديار رسومها قفر
لعبت بها الأرواح والقطر
أبو عثمان سعيد ابن مسجح:
أبو عثمان سعيد بن مسجح هو أول من ابتدع طريقة للغناء العربي على سلم الأصوات مما اقتبسه من الفرس واليونان آخذا عنهما أجمل ما فيهما من الأصوات ومهملا ما لم يلائم ذوقه منها.
ابن محرز:
مسلم بن محرز أصله من الفرس تلقى الألحان عن عزة الميلاء في المدينة وينسب إليه اختراع الرمل كما ذكر في كتاب الأغاني، وهو أول من غناه وما غناه أحد من قبله، وأول من غنى رملا بالفارسية سلمك في عصر الرشيد. ولما شخص ابن محرز إلى فارس حيث تعلم ألحان الفرس، وصار إلى الشام فتعلم ألحان الروم فمزجها ببعضها بعضا، وألف منها الأغاني التي صنعها في أشعار العرب.
أبو كعب حنين ابن بلوع:
أبو كعب حنين بن بلوع المعروف بالحيرب كان مسيحيا
محمد بن عائشة:
لا يعرف له أب وكانت أمه ماشطة وتسمى عائشة.
سلامة القس:
سلامة القس أخذت الغناء عنه جميلة ومعبد وابن عائشة.
يونس الكاتب:
كان شاعرا مفلقا ومغنيا بارعا وقد أخذ الغناء عن ابن شريح وابن محرز والفريض، وهو أول من ألف كتابا في الأغاني حوى معلومات وبيانات ذات شأن ولكنه فقد كما فقد كتاب آخر في الموسيقى وضعه الخليل بن أحمد.
ومن أشهر المغنيين أيضا ابن شريح والفريض ومعبد وحكم الوادي، وفيلج بن أبي العوراء وسياط ونشيط وعمر الوادي وإبراهيم الموصلي وابنه إسحق وغيرهم.
الفصل الثالث
الغناء القديم والغناء الحديث
لما زها العصر العباسي الأول في زمن الرشيد والمأمون وأطلقت الألسنة والأفكار أخذ المغنون يفكرون في تعديل الألحان واستنباط أسلوب جديد. وأول من تجرأ على ذلك إبراهيم بن المهدي أخو الرشيد - وكان من الطامعين في الخلافة - فلما استتب الأمر لأخيه المأمون انصرف هو إلى الغناء، كما انصرف خالد بن يزيد الأموي إلى الكيمياء لما يئس من الخلافة، وكان إبراهيم من أعلم الناس بالنغم والوتر والإيقاعات وأطيبهم في الغناء وأحسنهم صوتا، وهو يعد من الطبقة الأولى في عصره. لكنه كان مقصرا عن أداء الغناء القديم على طريقة الموصلي فكان يحذف نغم الأغاني الكثيرة العمل حذفا شديدا أو يخففها على قدر طاقته، وإنما تجرأ على ذلك بما له من المنزلة عند الناس، فكان إذا عوتب قال: «أنا ملك أغني كما أشتهي» وصارت له طريقة يسمونها الغناء الحديث، وسموا طريقة إسحق الطريقة القديمة.
وانقسم المغنون في ذلك إلى قسمين وأصحاب فن الغناء يعدون عمل إبراهيم بن المهدي فسادا في هذه الصناعة لأنهم يفضلون القديم فأخذوا في الرجوع إليه.
على أن ذلك بعثهم على إعمال الفكرة والتعمق بهذا الفن وانتهى ذلك إلى عبيد الله بن عبد الله بن طاهر من أهل العصر العباسي الثاني ، فكان من كبار العلماء المفكرين ولا سيما في علوم الأوائل والموسيقى والهندسة، فوضع كتابا في النغم وعلل الأغاني سماه (الآداب الرفيعة) نال شهرة واسعة، ونأسف لضياعه مثل ضياع أكثر ما وضعه العرب في الموسيقى والغناء قبل كتاب الأغاني لأبي الفرج الأصفهاني (نقلا عن تاريخ آداب اللغة من الجزء الثاني للعلامة المرحوم: جورجي زيدان).
أما الموشحات فذكر عنها ابن خلدون ما يأتي: «وأما أهل الأندلس فلما كثر الشعر في قطرهم، وتهذبت مناحيه وفنونه، وبلغ التنميق فيه الغاية استحدث المتأخرون منهم فنا منه سموه بالموشح، ينظمونه أسماطا أسماطا، وأغصانا أغصانا، يكثرون من أعاريضها المختلفة ويسمون المتعدد منها بيتا واحدا، ويلتزمون عند قوافي تلك الأغصان وأوزانها متتاليا فيما بعد إلى آخر القطعة، وأكثر ما تنتهي عندهم إلى سبعة أبيات، ويشتمل كل بيت على أغصان عددها بحسب الأغراض والمذاهب، وينسبون فيها ويمدحون كما يفعل في القصائد، ويتجاوزون في ذلك إلى الغاية، واستظرفه الناس جملة، الخاصة والكافة؛ لسهولة تناوله وقرب طريقه، وكان المخترع لها بجزيرة الأندلس مقدم بن معاقر الفريري من شعراء الأمير عبد الله بن محمد المرواني، وأخذ ذلك عنه أبو عبد الله أحمد بن عبد ربه صاحب كتاب العقد، ولم يظهر لهما مع المتأخرين ذكر، وكسدت موشحاتهما، فكان أول من برع في هذا الشأن عبادة القزان شاعر المعتصم بن صمادح صاحب المرية» ا.ه.
ومن هذه الموشحات خرجت الفدود التي جاء بها شاكر أفندي الحلبي إلى مصر في المائة الأولى بعد الألف على ما ذكر في باب حياة عبده الحمولي فليراجعه من يشاء.
الفصل الرابع
عبده الحمولي
تاريخ حياته، ومجهوده الفني، ومعاملته في المجتمع، وما جرى له
عبده الحمولي بين الأزهار.
ولد المغفور له عبده الحمولي سنة 1262 هجرية (تقريبا) بمدينة طنطا، وكان والده الملقب بالحمولي (نسبة إلى حمول أو حامول من أعمال مركز تلا مديرية المنوفية) يمارس تجارة البن. وكان للفقيد أخ أكبر منه سنا، وما عتم أن وقع بينه وبين أبيه شقاق حتى فر به من وجهه، وهام كلاهما في الخلوات مشيا على الأقدام. ولما تعب المرحوم عبده من السير لصغر سنه حمله أخوه على كتفيه واستمرا على هذا المنوال إلى أن صغت الشمس إلى الغروب، وضعفت نفساهما من التعب دون أن يجدا أحدا يأنسان بصحبته، أو يلجآن إلى ضيافته. وقد هدتهما أخيرا خاتمة المطاف إلى رجل اسمه شعبان لبى طلبهما بكل ارتياح، وآواهما على الرحب والسعة. وكان المضيف من حسن الصدف يشتغل بصناعة الغناء والعزف على القانون، وما لبث أن سمع صوت عبده الرخيم حتى افتتن به وعاد به إلى مدينة طنطا حيث اشتغل معه مدة وجيزة، وحضر به آخرا إلى مصر واشتغل معه بقهوة عثمان أغا المشهورة التي كانت في وسط غابة من الأشجار موضع حديقة الأزبكية حالا. ولما استقر بهما المقام في مصر زوجه بابنته طمعا في الانفراد عن مواقف المنافسين له بمزية استغلال مواهبه العبقرية وحده، وكان من وراء علمه أن المرء لا يخلو من أضداد على حد قول الشاعر. لأن «المقدم» الرجل الطائر الصيت في فن الغناء ظهر له منافسا، وذلك بعد أن علم بعبده وأعجب بصوته، وانتهز الفرصة التي فيها كان يغلظ شعبان لعبده في الكلام ويسيء معاملته استنادا إلى رابطة المصاهرة وتوصل بدهائه إلى توسيع شقة الخلاف بينهما مما أدى إلى تطليق ابنته ثلاثا، فألحقه بتخته واستمر يغني على الطريقة المعروفة عند محترفي هذا الفن من المصريين وقتئذ، وأصلها يرجع إلى رجل اسمه شاكر أفندي من حلب الشهباء ألقى عصا التسيار في هذه الديار في المائة الأولى بعد الألف حيث كان فن الألحان فيها مجهولا، فنقل إليها عدة تواشيح وبعض قدود كانت البقية الباقية من التلاحين التي ورثها أهل حلب عن الدولة العربية، بدليل أن الحلبيين الأذكياء ينزعون إلى الموسيقى، وتهفو قلوبهم في أثر الطرب، ولذا لا تخلو دورهم ومجامعهم لغاية الآن من الآلات الموسيقية التي يحسنون غالبا العزف عليها، ولما تلقاها عنه بعض المحترفين من المصريين ضنوا بها طمعا وحرموا غيرهم من الانتفاع بها دون أن يذيعوها على الملأ طلبا للتفرد بها، ولو تأذى الفن بمثل هذا الاحتكار، وكانت مقصورة على أمهات المقامات وبعض ما تفرع عنها مما يقارنها ولا يشرد عنها، فأخذ المرحوم عبده بما حباه الله من مواهب فذة في صقلها وتهذيبها مضيفا إليها ما عن له من النغمات تمشيا مع نواميس الرقي والإصلاح، ونفحها بروح مصرية، وكساها بجلباب عربي، ووسمها بطابع بهيج وذوق سليم فرماه لذلك المحترفون الرجعيون بالزندقة، وقاطعوه بشدة لشروده عن البالي من غنائهم وتبديل نبره الحلبي بالأنغام المصرية، فأفرغها في قالب على أسلوب رشيق ضاربا عرض الحائط بكل الأغاني التي تعتورها الركاكة، ويشوهها اللحن، أو يتجاذبها التنافر مما تنقبض منه الصدور، وتسأمه النفوس. فانتهى به الأمر أن انتصر عليهم جميعا واضطروا إلى الجري على منهاجه بعد أن باءوا بالذل والخسران. فأخذت الموسيقى في ذلك الوقت تتدرج وترتقي بعد أن أنعشها من كبوتها حتى بلغت ذروة الكمال؛ لاحتوائها على أنواع من السحر وعوامل من التطريب بما أدرجه في صلبها من نغمات النهوند والحجاز كار والعجم عشيران التي تلقنها عن مشاهير المطربين في الأستانة طيلة الرحلات المتعددة التي قام بها وهو بمعية ساكن الجنان أبي الأشبال الخديو إسماعيل، محيي الفنون الجميلة في وادي النيل الذي يرجع إليه كل الفضل في إنماء مواهب عبده الفنية، وتوجيهها للنهوض بفن الغناء العربي إلى المستوى اللائق به؛ لما وجد فيه من ميل فطري وسعة تصرف في النغمات. فكان يتنقل من نغم إلى نغم، ثم إلى أنغام أخرى ويحيط بكل فروعها ويعود إلى النغم الأساسي بطريقة فنية، وتصرف غريب، ولم يدع في الغناء القديم شواذا إلا ردها إلى قواعدها، أو مسموعا قبيحا إلا طرح معايبه، وألبسه أنصع جلباب متحاشيا اللغو والحشو والتعمية مرتفعا عن مقام التلفيق والتحدي، منزها عن النسج في التلحين على منوال المحدثين بخروجهم عن جادة الصواب، ومسخ محاسن الغناء العربي الصحيح.
وبالجملة فإنه استطاع علاوة على تهذيبه التواشيح والقدود التي تلقاها على الطريقة الحلبية الوصول إلى التوفيق بين المزاجين المزاج التركي والمزاج المصري، بمعنى أن أهل الطبقة الحاكمة في مصر كانوا لا يطربون من الغناء العربي لكونهم يرجعون إلى محتد تركي، فأصبحوا بفضل ما أدمجه من النغمات التركية التي سمعها وهو في الأستانة - على ما سبق الإيماء إليه - يميلون إلى سماعه ويفضلونه على سواه على حد ما حدث للمصريين أنفسهم، فإنهم أعجبوا بالنغمات الجديدة التركية التي عدلها ومزجها بالنغمات المصرية بما يلائم أذواقهم، ونفحها بروح العروبة، وعجنها من طينة الحرية، فدرجت من مهد السيادة الشرقية، والمجد المصري الأصيل، ونالت استحسانهم بالإجماع بعد أن كانوا ينفرون منها ولا يرتاحون إلا إلى نغمات الأنين والتوجع التي اقتصروا عليها في محيطهم الضيق.
على أننا إذا تأملنا عمله هذا وما نجم عنه علمنا أنه لم يقتصر على التوفيق بين أنغام الجنس المصري والجنس التركي فحسب، بل تجاوز هذا الحد وفات هذه النتيجة الفنية وصعد إلى ذروة العلى من الوجهة الاجتماعية؛ بإيجاد صلات بين الشعبين متينة الأسباب حتى تقاربت قلوبهما بعد التباعد، وامتزجت أراحهما امتزاج الماء بالراح، وتمكنت بينهما الألفة ردحا طويلا تمكنا لا يشوبه كلال أو يعتريه ملال.
وكثيرا ما كان يذكر في «بشارفه» وأدواره عبارة (آمان يا لللي)، والآهات التي أخذها عن الموسيقى التركية. وكان ينقل ترجمة الأغاني التركية إلى العربية وينظمها الشعراء، مثال بشرف «بلبل الأفراح غنى آمان في الرياض السندسي» ببعض التصرف تمشيا مع الغزل العربي وتفكهة للقارئ أروي الواقعة الآتية للدلالة على ما كانت ترمي إليه الأغاني من الأنين السائد على العقول، وهو أن سائحة أمريكانية سمعت رجلا يغني بالقرب من فندق الكونتيننتال بشكل غريب الدور الآتي «حبيبي حبيبي شوفوه لي يا ناس شرد مني وبيده الكاس أترجاك تعمل معروف» فأوعزت من فورها إلى ترجمانها بأن يعطيه بالنيابة عنها دولارا ليستعين به على شراء أي دواء من أقرب أجزاخانة طلبا لإسعافه بالعلاج؛ ليتخلص من مغص كلوي كانت تتوجس منه خيفة، وترى بسببه أنه لم يبق من عمره إلا اليسير؛ فضحك الترجمان لكلامها وقال لها يا سيدة: «ليس المغني بمريض. إنما هو عاشق ومغرم صبابة»، فدهشت من قوله وسألته عن معنى غنائه، وما كادت تقف على كنه ما احتواه من معاني البلادة والخمول حتى ضربت برجلها الأرض قائلة: «دم فول» إنه حقا عاشق كسول وعليه أن يبحث عن حبيبته، وليس للناس شأن في ذلك. ولقد قالت الحق الذي لا ريب فيه لأن المرء أحق بأن يعين نفسه من أن يعينه الغير، ولا خير فيمن لا يعين نفسه، والكسول كالميت لا فائدة ترجى منه، والأدهى أنه يشغل مكانا أوسع من مكان الميت، وليست أغاني الأمة إلا رمز أمانيها، ومحك نفسيتها، ومجس قوميتها وثقافتها، وقد قام المرحوم إلياس الأيوبي بإيراد هذه القصة في تاريخه (عن الخديو إسماعيل) ونسب ما جاء بها من النقد إلى لورد كرومر. ففي الاستشهاد بما قالته السيدة الأمريكانية هنا، أو بما قاله الأخير في الموضوع استنتاج واحد، ولو اختلفت النسبة.
على أن تأثير الوحشة المؤلمة والتعب المضني والجوع والظمأ في ظهيرة اليوم الذي خرج فيه عبده من بيت أبيه طريدا شريدا كانت لا تزال مرسومة في مخيلته، حتى أنك كنت تراه في آخر أيامه يقطب وجهه وينقبض صدره ويتقلص بشره كلما دخل عليه وقت الغروب، ويعزى كما لا يخفى انقلابه الفجائي من السرور إلى الكدر والانقباض في نفس ذلك الميعاد إلى ما كان منتقشا في صفحة ذهنه من ذكراها المؤلمة، وذلك دليل واضح على قوة ذاكرته، وما كان في نفسه من الشمم والإباء، وحرصه على كرامته الشخصية بالرغم من صغر سنه حتى أمام والده الصادر عنه الضيم المسيء والعذاب الأليم اللذين كان يوجههما إلى ابنه الأكبر دون عبده الصغير الذي لم تفرط منه هفوة. ولذا كان في أثناء تكدره ينام على التخت وقت الغناء، حتى إذا استيقظ رجع إلى النغمة التي وقف عندها قبل نومه من غير مراجعة آلة ما، أو استنفاض التخت، أو الاسترشاد بأحد العازفين فيه، كأن الطبقة قد انتقشت في صفحة ذهنه وأنها في كن من تأثير جميع الأصوات التي مرت عليه وهو في نومه أو غيبوبته، وأغرب ما في هذا الأمر أن الحضور كانوا يمهلونه وينتظرون تيقظه بكل سرور، حتى إذا ما استأنف غناءه بعد نصف ساعة أو ساعة يهزون أعطافهم، ولو حدث مثل ذلك البطء من أي مطرب آخر لغادر السامعون أماكنهم وانصرفوا إلى منازلهم.
ومما لا يختلف فيه اثنان أنه كان يصور معاني أغانيه، وما تخلل أجزاءها من أحوال وحوادث على أوضح صورها وأشدها تأثيرا في عقول السامعين الذين يعجبون لسماعه يغني دورا من تلاحينه (حجاز كار).
أشكي لمين غيرك حبك
أنا العليل وأنت الطبيب
اسمح وداويني بقربك
واصنع جميل وياك أطيب
ويستغربون تشخيصه أمامهم صورة العليل ومر شكواه من داء حبه العقام، وطلبه من الطبيب أن يشفيه منه. ودور «أنا حبيت وزاد قلبي هيام» فإنه يخيل إليهم أنهم يقرءون الحب على وجهه. وأنه ذهب بفؤاده كل مذهب وبرى الشوق عظمه. ودور «سيكاه» تلحينه كان يغنيه في حلوان بالكازينو. وقد ظهر في عصر ساكن الجنان الخديو توفيق يوم أن نقلت محطة حلوان من المنشية (بالقلعة) إلى باب اللوق حيث هي الآن، وكان هذا الخط تابعا لشركة سوارس، وقد غناه في حضرة الخديو توفيق فأعجب به وهو كما يأتي:
متع حياتك بالأحباب
ما أحلى المؤانسة في حلوان - أنسك ظهر
شأن الطرب
يشفي الأوصاب - للي حضر
وكيد زمانك واتهنى وافرح وطيب
وانفي همومك بالأكواب - سعدك قمر
ودور (راست) تلحينه «المطر يبكي يا ناس لحالي» إذا غناه رفرف السامعون عليه بأجنحتهم ورءوا المطر ينهمر عليه، ودور (بياتي) تلحينه أيضا«بسحر العين فيذكرهم فتور الجفون وسحر العيون وما يليه من نحول الخصور وابتسامات الثغور وسريان الريح بريا الزهور إلخ إلخ، على ما وقفت عليه بنفسي وسمعته بأذني وأيده حضرة الأستاذ قسطندي منسي الموسيقار من معاصريه.
ولما كنت أعرف المرحوم عبده حق معرفته من حيث أطواره ونفسيته وعبقريته؛ لما كان بينه وبين والدي من قوى الجمعة، وتمكن الألفة بينهما فضلا عن كثرة غشيانه الزقازيق عاصمة الشرقية، حيث كانت له عزبة بناحية الشولية على ترعة الإسماعيلية بمركز بلبيس يبلغ مقدارها 711 فدانا من الأطيان المرملة التي كان قسم منها يبلغ نحو 86 فدانا يؤجر بثمانية جنيهات، والبقية منها كانت تحت التصليح، كان عهد إلى المدعو إبراهيم حلمي أخي معاون محطة حلوان في إدارة شئونها، وبعد وفاته قام المرحوم باسيلي بك عريان صديقه الحميم بالإشراف عليها بنفسه وتولى دفع الأقساط المستحقة عليها للبنك، وهو الذي اشترى منزله الكائن بالعباسية بشارع «عبده الحمولي» المسمى باسمه، وكان معدودا من أكابر ملتزمي الأسماك هو وحسن عيد وعويس الذين اعتادوا التزام حلقات الأسماك في القطر المصري من وزارة المالية، وقد تولى باسيلي بك أمر ولده الدكتور محمد الحمولي الذي فاته والده وهو في الرابعة من سنيه، واهتم بشأن تربيته اهتمامه بولده الخاص وفاء لوالده بعهده، أرى واجبا علي وخدمة للتاريخ أن أذكر كلمة موجزة عن حياته الخلقية والفنية، وأبين للقارئ الكريم كيف وقع إلقاؤه الأغاني في النفس موقعا جليلا، وأربى على الأكفاء من المحترفين لفن الغناء من أبناء عصره تذكيرا لمعجبيه بأساليبه الحسنة، وحبه الشديد للإتقان، وإتحافا للمحدثين الذين لم يسمعوه بما رق وراق من سلامة ذوقه وكمال ترتيبه وقوة ابتداعه؛ ليقفوا على حقيقة أمره، وما كان له من القدح المعلى في جميع فنون الغناء، فأقول كشاهد عيان سمع صوته الرخيم وسبر غور نفسه النبيلة بتمثيله للعواطف أحسن تمثيل، فإنه كان يغني وهو مشروح الصدر عن عاطفة ووجدان ألحانا وأدوارا تعبر عن نفسيته فيدركها السامع متأثرا بمثل تأثره. ولم يمتز عن سائر المغنين في عصره، ليس بصوته القوي الرخيم وتلحينه الشجي الخاص به فحسب بل بما حباه الله من روح يسيطر عليه في إبان «السلطنة» على جميع النغمات، فيأتي من غرائب التفنن في الغناء، والإلقاء البديعين ما يحمل أفكار سامعيه على أجنحة تصوراته الساحرة، فيخيل إليهم أنهم ارتقوا إلى المراتب العلوية ورأوا أشياء لم يروها ولم يحلموا، بها فضلا عما له من لطيف الحس وشديد الحب للجمال الذي أمكنه بهما أن يبث في نفوسهم روح الغيرة والعظمة ومتانة الأخلاق والحماسة العربية، وكافة المحامد والفضائل ذلك سر تفوقه على نحو ما حدث لكل من بتهوفن الموسيقي الغربي الأوحد، وجون ملتن الشاعر الإنكليزي الكبير، وأبي العلاء المعري الشاعر العربي، فإن الأول كان أصم لم يمنعه الصمم عن التلحين ولو لم يسمعه، وكان الثاني والثالث أعميين لم يبصرا من حولهما فقام كل واحد منهما بوصف الجنة وجمالها وبهائها ورياضها ومائها والخلود وما ذلك إلا بما أوتوا من روح الإلهام وما تغلغل في نفوسهم من لطيف الحس، وحب الجمال، وروح الحب على نحو المثل القائل «أعطني حبا أعطك فنا» ومن أحكم ما يحسن إيراده بنصه الإنكليزي معربا بقدر الإمكان. ... Art is much but love is more,
Art symbolizes heaven, but Love is God
And makes heaven
إذا كان في الفن شيء كثير فإن في الحب شيئا أكثر، فالفن يرمز إلى السماء والله محبة وهي للسماء صانعة - وقيل أيضا «أحب وحلق»
Love and soar
وبالجملة فإن فقيدنا «عبده» كان للموسيقى معجزة وسيدا عليها يتحكم بها ولا يأتمر بأمرها كالموسيقيين السابقين واللاحقين الذين كانوا وأصبحوا عبيدا لها، ولا أبالغ إذا جاهرت قائلا بأن أريكتها ما زالت شاغرة بوفاته إلى وقتنا هذا حتى يقضي الله أمرا كان مفعولا، وهل يظن يا ترى أن تنجب مصرنا عبقريا آخر يماثله أو يدانيه؟
ومما يؤثر عنه أنه بينما كان يغني بالهياتم في منزل صاحب السعادة الفريق: أحمد زكي باشا ياور ساكن الجنان الخديو إسماعيل، وأمامه الأستاذ: نخله المطرجي (الحلبي) أكبر العازفين على القانون في مصر، وكان قانونجي السلطان عبد العزيز، افتتن الحضور بشجي ألحانه وساحر نغماته التي كان يغنيها براحة ودعة محركا بين أصابعه حبات المسبحة الكهرمان، ولما لم يسع المطرجي اللحاق به لقوة صوته وغريب تصرفه وسعة حيلته الفنية وبحته وقهقهته الماسة مقامات الموسيقى كلها انتهى، وانتهى به الأمر أن أمسك قانونه وطرحه أمام «عبده» دلالة على عجزه وقال له «خلاص ياسي عبده أجيب لك منين» إيماء إلى المقامات العالية التي كان يأتيها، ولا قبل لأعظم عازف بها على حد ما كان يقصر عنه باع الأستاذ محمد العقاد الكبير القانونجي الشهير حالما كان يحاول عفق أوتار قانونه الخالي من العرب التي لم يألفها طلبا لتصوير نغماته فكان يشير إليه عبده مبتسما بأن يكتفي بإمساك «بمب» على قانونه في أثناء لعبه بالنغمات.
وكان أحيانا يند عن المألوف ويتحول في الدول من نغمته الأولى إلى نغمة ثانية، ثم يعود إلى الأولى ويقفل بها الدور بعد أن يفوت بصوته مارش النسر، وينزل متسلسلا إلى القرار على حد ما حدث ليلة زواج الأستاذ: إبراهيم سهلون الكماني، فغنى دور «أصل الغرام نظرة» على نغمة الرصد، ولما أطلق لصوته العنان في سماء التطريب أبدل جواب النغمة بالسيكاه، وتسلطن بها على الرصد، ونزل متسلسلا وأقفل الدور رصدا مما أدهش الشيخ: محمد عبد الرحيم المسلوب الملحن الكبير وكاد يشق ثيابه من شدة الذهول وصاح قائلا «الله أكبر سبحان الوهاب ياسي عبده».
ومما يماثل ذلك ما حدث لعمر بن أبي ربيعة يوم غنته عزة الميلاء لحنا لها فيه شيء من شعره، فشق ثيابه وصاح صيحة عظيمة صعق معها. فلما أفاق قال القوم: «لغيرك الجهل يا أبا الخطاب، فقال والله إني سمعت ما لم أملك معه لا نفسي ولا عقلي». وقد روى عنه المرحوم: أنطون الشوا، والد الأستاذ: سامي الشوا، أمير الكمان أنه كان لقوة صوته يضطر إلى إعلاء كمانه ثلاثة مقامات عن المعتاد كلما كان يشتغل على تخته خلافا لما كان يفعل، بينما يكون شغالا مع محمد عثمان فإنه يوطئ كمانه ثلاثة مقامات إلى أسفل تمشيا مع صوته.
وقد امتاز عن معاصريه من المحترفين في غناء القصائد والمواويل والأدوار يبدأه من القرار الهرمي المتين والقوي الواسع إلى الجواب ماسا جواب الجواب، محيطا بالمقام من أوله إلى آخره إحاطة الهالة بالقمر. وكان يستمر في إلقاء القصيدة ساعة أو ساعتين أو ثلاث ساعات من دون أن يشعر من الاستمرار أو التكرار بتعب أو يرهقه عجز أو إعياء. فإذا استعيدت منه حركة من حركاته التي كان يلقيها فتارة كان يغنيها مع تحسينها بإدخال شيء جديد عليها (ولكل جديد لذة) وطورا كان يستبدلها بغيرها على طراز أبدع، فيصير السامع أحير من ضب إلى أن ينتهي به العجب بأن يؤثر الثانية على الأولى؛ لما وجد فيها من طلاوة وعذوبة، وآونة كان نزولا على رغبة الطالب يبدأ بالحركة نفسها المطلوب إعادة إلقائها، ويخرج منها إلى نغمات غريبة يعرضها عليه فجأة متنوعة الألوان متشعبة الفروع وصحيحة الأوزان ثم يعود إليها طبقا للأصول الفنية سالما منصورا.
أما تلحينه فحدث عنه ولا حرج لما توفر في صوته القوي من صفات نادرة في القرار، والجواب، وحسن التوقيع، ودقة الإيقاع، ومناسبة الأصوات، وجناس النغمات، وتشخيص الانفعالات الملائمة بلطيف الإشارات، وخفة الحركات، فتتمثل أمام السامع صور ما يلقيه على أتم معانيها، ويرجع إعجاز تلحينه إلى تعدد نغماته وتغييرها وتشكيلها ورسم ألوانها التي تحاكي ألوان زهور الربيع، وكثرة المقامات حتى يخيل إلى السامع أن نغماته إن هي إلا قطع التبر، وأن معانيها إن هي إلا أخذ السحر.
وبالجملة فإن صوته السحري إذا سخره لأي نغمة من النغمات، أو بعبارة أخرى إذا انتقل من نغمة إلى أخرى، أو من الأدنى إلى الأوسط وإلى الأعلى فمحال أن يقلده مجازف من المحترفين، أو يدرك شأوه، خلافا للملحنين الآخرين فإن تلاحينهم كانت سهلة التقليد، وقريبة المتناول؛ لسهولة إلقائها، وبساطة مآخذها، فضلا عما فيها من جودة ومتانة، وحسن حبك، ولذلك كانت سريعة الانتشار لما تقدم من الأسباب، وكان يتلقنها المحترفون والهواة عن الملحن الذي لحنها بأسرع من لمح البصر، ويقلدونه فيها تمام التقليد، أما طلب تقليد تلاحين عبده فهو من المستحيلات؛ لما فيها من مهارة فنية، ومناعة بديعة، وحيلة واسعة، فكان وأيم الله آية من آياته في قوة البديهة، وحسن الارتجال، وغريب التصرف بأساليب الغناء، وضروب التطريب، وقد يخيل إليك إذا لحن من فوره مذهبا أو دورا أنه يقرأ الفاتحة أو يتلو في لوح مسطور، وإليك الدليل المقنع كما أثبته لنا معاصروه الذين رأوه وسمعوه يلحن لساعته الدور الآتي نظم الشيخ: علي الليثي، أحد شعراء أبي الأشبال الخديو إسماعيل وهو: (مذهب)
أنا السبب في اللي جرى
ما حد غيري اللي انظلم
طاوعت أسباب الهوى
حتى غدا خصمي حكم (دور)
يا قلب أضناك الهوى
لم تستمع نصح النصوح
يا قلب قد عز الدوا
علم عيونك أن تنوح (دور)
لام العذول وما درى
هيهات أن يدري العذول
لو كان يعلم ما جرى
كف الملام ولا يقول
وقد سمعت الأستاذ: محمد السبع، المطرب المعروف ومساعده على التخت يقول بأن تخت عبده يشبه مدرسة أو جامعة فنية متنقلة، يتعلم فيها المحترف جمال الفن ويتضلع من قواعده الأساسية، ويقف على أصوله وفروعه، وإذا لم يتدرب على يديه لا يستطيع أن يفهم عظمة الموسيقى الشرقية وسحرها وتأثيرها في العقول وتغلغلها في النفوس، لما كان يأتيه من ضروب التجديد، وأنواع المفاجآت، وسريع التنقل من نغمة لأخرى، وبالعكس بطريقة فنية بشرط أنه كان يحرص في جميع ذلك على قواعد الفن، ولم يخرج عنها قيد شعره، ليس فقط في كل ليلة بل في كل ساعة وفي كل وصلة غنائية، حتى أن السامع نفسه كان يقرأ في ثنايا أغانيه صفحة من نفسيته أو فذلكة من حياته، ويقف بتعبيره على كنه أفكاره الشخصية وغاياته السامية وميوله الشريفة، ويرجع استظهاره وبيانه إلى ما استخرج من مأساة حياته من عبر وتجارب مما كان باعثا على قوة تعبيره عن عواطف النوع الإنساني على اختلاف مشاربه، وتنوع نزعاته، بمعان سامية انفردت عبقريته بالتطبع بها، وتمثلت فيها المثل العليا بأجلى مظاهرها، فهو الموسيقي المصري المشرق نوره على الآفاق كالشمس، وسيبقى للموسيقى رمزا على مرور الأزمان، وللغناء العربي الذي أحياه، زعيما لا ينازعه منازع.
ومما رواه لي حضرة صاحب العزة مخائيل بك تادرس - رئيس الإدارة بالدائرة السنية سابقا وصديق عبده الحمولي ووالد حضرة الأستاذ تادرس مخائيل تاردس المحامي أمام المحاكم الأهلية والمختلطة - أجتزئ منه بما يأتي لضيق المقام وتفاديا من سأم القارئ قال: «إنه تعرف بعبده الحمولي قبل أن يبلغ رشده يوم كان يلبس جلبابا من التوبيت الأسمر مفصلا على الذوق الإسكندري، ذا فتحة على صدره يتدلى منها أوستيك فضة، وعلى رأسه طربوش صغير غامق اللون من القالب العزيزي. وكان خفيف الروح، سريع الخاطر، رخيم الصوت وكثيرا ما كان يشكو من تهالك المقدم على المكاسب ، وإجحافه بحقوقه، كما كان يفعل به المعلم شعبان قبله حتى انتهى الأمر بقطع الصلات التي كانت بينهما، وأسس لنفسه تختا خاصا وأخذ نجم سعده يضيء ويتجلى في فلك الغناء حتى كسف بتألف شعاعه بهاء من سبقه من المحترفين، والتف حوله القاصي والداني، واستوى على عرش الموسيقى الشرقية في العصر الذهبي لأبي الأشبال المغفور له الخديو إسماعيل الذي كان يجزل له العطايا ويعطف عليه عطف الوالد الحنون؛ جزاء خدمته لفن الغناء العربي، وتشجيعا له على الاستمرار في الإجادة والإتقان - شأن كل حاكم عادل يحرص على فنون قومه وعاداتهم ونزعاتهم ومميزاتهم القومية». وقد سمعت من حضرة مخائيل بك المذكور أن الخديو إسماعيل دعا عبده ليغنيه في قصره ليلة كانت تهب عليه ريح بليل، ولما أراد أن يخلع عنه البالطو الذي كان يلبسه أمره الخديو بالدخول به مع رجال تخته والجلوس على أرض الصالة المفروشة بالسجاد على الطراز العربي؛ ليتسنى للعازفين على الآلات أمثال «القانونجية» وغيرهم أن يقوموا بعملهم بدون صعوبة، فبدأ البلبل الصياح يغنيه أدوارا عربية تتخللها النغمات الساحرة والآهات التي طبقت نواحي السماء، فاجتذب إليه قلب الخديو إسماعيل، وصبت روحه إلى سحر الموسيقى العربية دون سواها فكان يضع يده الكريمة في جيب عبده كلما أعجبته نغمة من نغماته دون أن يعرف غرضه من ذلك، إلا أنه لاحظ أنه مد يده الفياضة إلى جيبه اثني عشرة مرة. ولما انتهت السهرة وخرج من السراي وضع يده في جيبه وقلب فيه طرفه، وإذا به اثني عشر قرطاسا، وفي كل قرطاس مئة جنيه ذهبا، فناول من فوره رجال التخت قرطاسين اثنين واحتفظ بالباقي. فهل وجد بين الملوك من كان أسخى من الخديو إسماعيل يدا؟ كلا وألف كلا، فكان أجود من حاتم، واستمد عبده الجود منه، وبه اقتدى في إغاثة الملهوف، وعمل المعروف. على أنه كان صالحا يقيم الصلاة في مواقيتها، وبارا بوالده، وقد فر من وجهه كما تقدم بيانه لكونه غير راض عنه لاشتغاله بفن الغناء الذي كان وقتئذ يعد في مصر مهنة محتقرة ومسقطة لمحترفيها من عيون الناس. وحدث نقلا عن المقطم الأغر بتاريخ 11/9/934 بتوقيع حضرة: رزق الله شحاتة الموسيقار، «أن الخديو إسماعيل قصد زيارة مديرية الغربية، فأراد سعادة المدير أن يجعل الاحتفال بقدومه في غاية الفخامة والأبهة، ورأى أنه لا يكمل السرور في تلك الحفلة إلا بإحضار أعظم المطربين؛ فدعا المرحوم عبده الحمولي، ورأى أن هذه خير فرصة يسترضي فيها والده عنه، فقال لسعادة المدير أريد أن أطلب منك شيئا واحدا، وهو أن تجعل أبي يرضى عني. فأرسل سعادة المدير تلغرافا في الحال لوالده فحضر الحفلة الليلية، وكان عبده جالسا في حضرة الخديو إسماعيل وحاشيته فدعاه المدير إلى جانبه، وسأله هل أنت غاضب على ابنك، وأنت تراه في حضرة أفندينا، فكان جوابه «أنا وابني وأولادي عبيد لأفندينا، وأقبل عليه وعانقه».
على أن «عبده» كان عفيف النفس عالي الكعب، كتوما إذا أطلعته على دخائلك، ناهيا برجال التخت من المساعدين له والعازفين عن الحط من قدر المهنة ومن قدر شخصياتهم، بدليل أنه كان ينبه عليهم في أثناء الأفراح والأعراس التي أقيمت سنة 1873 احتفاء بزواج أنجال الأمراء توفيق وحسين وحسن بألا يلتقطوا شيئا مهما غلا ثمنه مما كان يبدره الأمراء والأميرات من الجواهر والنقود الذهبية - تلك عادة كانت شائعة في عهده الذهبي بين الناس لا سيما في أفراح أولاد العظماء، والوزراء اقتداء بهم، والناس على دين ملوكهم.
ومن أحسن ما وصفه به المرحوم: محمد العقاد الكبير فقال: «إنه كان يخيل إليه عندما يبدأ عبده غناءه أن آنية من الورد والزعفران قد أفرغت على رجال التخت، وأن أرض السرادق قد غطيت بالآس والرياحين والفل والياسمين فتسطع الحاضرين رائحة أطيب من فأرة مسك، فضلا عن أنه كان يشبه له أنه يرى حول عنقه أطيارا من الجنة تغني معه وتناغى مناغاة الحمام وتنوح وإياه، ناهيك بألحانه الساحرة الفذة وابتساماته وإشاراته التمثيلية التي تبث في النفوس الجذل والغبطة والسعادة ونعمة البال والإقدام والرجولة. وكان صوته مليئا ويكنى فنيا بالتينر والباريتون
barytone, tenor »، وقد روي عنه أن غنيا دعاه إلى داره في الإسكندرية تمهيدا للاتفاق على الغناء في ليلة زواج ابنه. وكان ذلك الغني جامد الكف فأنف منه عبده وغادر داره بدون أن يلبي طلبه. وبينما هو عائد إلى الفندق وجد امرأة شمطاء على باب دار معلقا عليها بضع رايات، ومرصوصا في فنائها وخارجها بعض مقاعد خشبية «دكك» فعرف بداهة أن ذلك باكورة تجهيز عرس قريب مزمع إقامته في تلك الدار الحقيرة، فعرض نفسه للغناء بالمجان وعرفها نفسه، وسألها عن اسم صاحب الدار فأجابته المرأة وقالت: «هل ما تقوله حلم أو علم» وأني لمثلنا أن يستحضر عبده الحمولي مطرب ساكن الجنان ولي نعمتنا الخديو إسماعيل، ونحن لا نملك شروى نقير»، فأكد لها تحقيق الحلم وغنى في الليلة المعينة مطيبا قلوب أصحاب البيت الكسيرة؛ نكاية بذلك الغني المقتر، وإسداء للمعروف، مصداقا لما رثاه به المرحوم أحمد شوقي أمير الشعراء إذ قال ضمنا:
يحبس اللحن عن غني مدل
ويذيق الفقير من مختاره
وهناك نوادر أخرى ومميزات اختص بها عبده تنبه لها العارفون بفن الغناء، ووقف معاصروه على كنهها اكتفيت فيها بما ذكرته هنا، فلو أردت استيفاء الكلام على جميع خصاله ومناحي حياته الشخصية والفنية والاجتماعية لطال بي القول بما لا يحتمله هذا المجال.
وقد مات عبده (رحمه الله) في مدينة حلوان بالسل الرئوي في فجر اليوم الثاني عشر من شهر مايو سنة 1901 بعد أن صنع في حياته العظائم، وأقام للموسيقى الشرقية والغناء العربي بناء رفيع الدعائم. فلا تحسبن يا صاح أنه مات وهجع، وهمد صوته الرخيم الرنان، وسكنت جوارحه وخرس لسانه، وقطع حبل نبراته العربية؟ كلا. فإنه لم يمت، ولم ينم، لكنه استيقظ من حلم الحياة، بل تحقق حلمه على حد قول الإمام كرم الله وجهه: «الناس نيام فإذا ماتوا انتبهوا». أما نحن البشر فإننا بعكسه نسير بعد في طريق وعث المبتغي وتنشب بيننا حرب ضروس لا يغني قتالنا عنها فتيلا. والحق الذي لا ريب فيه الجهر بأنه حي في السماء فسح له ربه بجواره مكانا سنيا، تغمده الله برحمته وأجمل جزاءه في دار النعيم .
وإثباتا للحكمة المأثورة عن الإمام علي نورد هنا قطعة شعرية نفيسة عن خلود النفس للشاعر الإنكليزي (شلي) بنصها لشدة ارتباطها بالموضوع وهي:
He hath awakened from the dream of life. 'T’is we who, lost in stormy visions keep,
With phantoms an unprofitable strife.
He has outsoared the shadow of our night....
He lives, he wakes, it’s Death is dead, not he.
الفصل الخامس
عبده الحمولي مصلح اجتماعي في ثوب مغن
كان عبده نموذج الرجل الصالح يحافظ على مواقيت الصلاة ويربأ بنفسه عن كل دنيئة صائنا من الدنس عرضه وأعراض الناس، حريا بأن يعرف بالمصلح في ثوب مغن. لم يقتصر جوده على جياع أطعمهم، أو عطاش سقاهم، أو عريا كساهم، أو مرضى وأساهم، أو سجناء زارهم، أو مقترعين دفع عنهم البدل العسكري حتى بلا سابق معرفته لأشخاصهم، بل تجاوز ذلك كله إلى أن بلغ حدود الساقطات اللواتي إذا لمحهن بوجه الصدفة في طريقه وهو عائد إلى بيته في عربة مستصحبا معه بعض رجال التخت بعد الانتهاء من سهرته الغنائية استوقف لوقته الحوذي وجمعهن حوله وأفاض عليهن من سجال عرفه عن تهلل وابتسام ما يملأ العين، ويستعبد الحر، ثم انصاع ناصحا لهن وقال: «يا بنات، الله يتوب عليكم». هذا ما رواه لي الأستاذ: محمد الشربيني العواد مؤكدا أنه رآه يفعل ذلك رأي العين وهو حي يرزق، ويبلغ من العمر ثمانين سنة. فطوباك يا عبده! يا من عرفت بحنكة وذكاء في جسم ضآلة الوتر الحساس، وضربت عليه بريشتك الخفيفة الشفيقة لتثوب إلى رشدها، وتستقيم على الطريقة المثلى للصالحين والصالحات علما منك أن الذنب ليس ذنبهن، إنما الذنب كل الذنب لا يقع إلا على أولئك الذين أضلوهن وجروا عليهن بأول هفوة ارتكبها ذيول العار والخزي، وقد طلبت إليهن التوبة من الغفور الرحيم إيماء إلى قوله تعالى
وهو الذي يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات ، وإلى الحديث الشريف «أن التائب من الذنب كمن لا ذنب له».
أجل. إن الطبيعة قد اختصت الرجال بالقوة والسلطان على النساء اللواتي ألقين أزمة الزعامة إلى أيديهم الخشنة وامتثلن لإرادتهم وأخلدن إليهم بثقة عمياء (وهي محاسب دقيق ذهابا إلى قول سبنسر فيلسوف إنكلترا)
Nature is a street accountant
فزينوا لهن ركوب ما لا أرى لهن في ركوبه، وما هن إلا طامعات في حياة زوجية طاهرة، وغافلات عما ينفجر عليهن من الدواهي، بل متوقعات إنجاز وعود عرقوب، وليسمح لي القارئ الكريم أن أتمثل ببعض أبيات من آخر قصيدة بعنوان «من الملوم» للمرحوم: نقولا رزق الله، الشاعر العصري، جرأت على إيرادها لشدة ارتباطها بالموضوع دون أن يتهمني القارئ بالحشو والشرود عنه قال ما يأتي:
هم أضلوك ثم قالوا براء
نحن منها فهم أضل سبيلا
إن يكن ذنبك الجهالة والفقر
فعديه عذرك المقبولا
كلهم مذنب إليك وما لا
قيت إلا مضللا وبخيلا
أو يعدوا لك المحبة ذنبا
فاسألي الله عفوه المأمولا
هفوة للهوى هفوت ومرت
ثم جرت عليك تلك الذيولا
لم ينل جانبا عقاب فظيع
كعقاب بهفوة قد نيلا
أيها العادل الحكيم ترفق
واتق الله في النساء قليلا
امنع الأرض أن تدور ولا تمنع
فؤادا إلى الهوى أن يميلا
أيها الناس ذنبكم ذلك الذنب
فكونوا إذا حكمتم عدولا
أو فجودوا على الفتاة بما يحفظ
وجه الفتاة حرا جميلا
فضل من جاد للفقير بمال
فضل من علم الغبي الجهولا
وكفاه في العار فخرا، وما أبهى جمال القلب، جمال التضحية، وما أعظم حبه للفقراء والأشرار، وما أعظم تضحيته للحزنى ومضطربي البال، بدليل أنه في ليلة غنى الملك الجواد الخديو إسماعيل، ولما أجاد سأله الخديو قائلا يا عبده اطلب تعط، فأجابه لفوره وطلب بأن يعفو عن نشأت باشا، مدير القليوبية آنئذ، الذي كان صدره واغرا عليه ويبعث إليه رحمة ومغفرة لا لعانا وسبا، فعفا عنه وكان ارتياح عبده للعفو عنه أعظم من ارتياح الأخير له؛ لأن العطاء خير من الأخذ، ولو طلب عبده من الخديو إسماعيل مالا جزيلا لنفسه دون سواه لناله حتما؛ لأن كلام الملوك ملوك الكلام، ولكنه آثر الخدمة العاملة على خدمته الخاصة.
على أني أرى ما يماثل ذلك وأكثر منه بدليل أن في الأوساط المسيحية أشخاصا من رجال وسيدات كرسوا حياتهم لخدمة المجتمع يبذل النصح للساقطات في محالهن لينزعن عن عيشتهن الفاسدة، وهم لا يأبهون لما قد يلحقهم جميعا من غضاضة بغشيانهم منازلهن؛ لاعتقادهم في أنفسهم بأنهم في ذلك يؤدون واجبا إنسانيا شريفا ذهابا إلى أن الأعمال بالنيات ولكل امرئ ما نوى، حتى أن منهم من يتناول من جيبه مبلغا من المال يدفعه إلى من يراها في حاجة ماسة إليه؛ لتكف عن غوايتها وتقيم به أود معاشتها موقتا إلى أن تحترف مهنة شريفة، وكثيرا ما نرى جمعيات مؤلفة من فضليات النساء الغرض منها منع تعاطي الأشربة الروحية، والسموم المعروفة بالمرفين والهيروين؛ إبقاء على حياة مدمنيها، وحفظا لإحساساتهم ووجداناتهم الشريفة، فلا يرمى بذنب من يفعل مثل ذلك، بل يشكر عليه، ولو لابسهم في بيئتهم. هذه هي ضالة المصلحين والمصلحات المنشودة، وتأييدا لها لا بأس من إيراد ما قاله أدون مركهام الشاعر الأميركي، وهو «أن المتعصب رسم دائرة صغيرة لنفسه وجعلني أنا الجاحد الضال خارجها، ولكني والحب عوني غلبته، وقد رسمت معه دائرة كبيرة وجعلت الضال داخلها»، وكم كان يرتل القديس فرنسواي داسيز أناشيده عن الشمس والطبيعة، إذ أنه عظم الشمس وغنى قائلا: الشمس أختنا، والقمر أخونا، والريح أختنا، والماء أخونا، والنار أختنا، والأرض أمنا، والعصافير أخوتنا الصغار، والزهور أخواتنا الصغيرات، وهو لا يعتبرها غريبة أو دخيلة؛ لأنها تمثل جزءا من العائلة البشرية، وتعبد إلاها واحدا مثله، وكان حقا علينا نحن المصريين أن نعتبر عبده الحمولي الموسيقار العربي مصلحا قوميا ومربيا اجتماعيا استطاع بما حباه الله من الشعور وقوة الإلهام أن يفتح لنا ما تنكر من ذرائع الإصلاح، واتخذ من الذين تاهوا في شعاب الباطل، وكثيرا ما هم، وأثابهم إلى هداهم أنصارا وأصدقاء حريين بأن يكونوا أعضاء للعشيرة البشرية، نافعين في البلاد، وعاملين على إحياء مجد مصر وأقدر من سواهم على إدمان تعاطي العلم والصناعة والتفرغ لهما عن ركوب متن غرورهم.
كرمه الحاتمي
ويحكى عنه أنه بينما كان يلعب النرد (الطاولة) مع خليل بك إبراهيم من كبار موظفي مصلحة الكمارك بدكان المدعو أبسطولي تاجر الطرابيش بالإسكندرية (وهو الدكان الوحيد الذي اعتاد أن يغشاه عبده دون المقاهي - على ما أكد لي صاحب المعالي سعيد ذو الفقار باشا بالسراي الملكية يوم 10 يوليو سنة 1935 - وكان يكلمه عبده بالتركية لعدم معرفته العربية) لمح رجلا أمسك عن ذكره لي الأستاذ جاك رومانو صديق عبده - يرقب انتهاءه من اللعب بفارغ الصبر، فاستبطن عبده كنهه في الحال وترك الطاولة وتوجه نحوه، وكان عبده يلبس بإصبعه خاتما ثمينا من الزمرد منشوري الشكل المعروف اصطلاحا بال
Capuchon
لا يقل ثمنه عن ألف جنيه، ولما انتهت المقابلة عاد إلى مجلسه وأراد استئناف اللعب فتنبه أحمد أفندي عبد المنعم الباشكاتب بالمحافظة إلى عدم وجوده بأصبعه، فلفت نظر جاك أفندي رومانو الجالس بجانبه إلى ذلك، وأخذ كلاهما يلومانه على تصرفه به، فاعتذر إليهما مما جرى بحجة أن النقود التي معه لم تكن كافية لسد حاجته فاضطر إلى تسليمه إليه ليتصرف به، كما يتراءى له واحتج لنفسه قائلا لهما:
دوام الحال من المحال فالدنيا غدور والدهر عثور وذكرهما القول المأثور «اكرموا عزيز قوم ذل».
مواساته للفقير
بينما كان ساكنا بحارة التمساح (بقسم عابدين) بجوار منزل صديقه حضرة مخائيل بك تادرس طلب ذات يوم من أيام شهر شعبان من الأخير أن يذهب معه إلى جهة الحنفي بشارع الشيخ: صالح حيث كان يوجد دكان بقالة «ويميش» للمدعو علي أفندي النمر - المخزنجي سابقا بسراي الجزيرة للمغفور له الخديو إسماعيل - ليشتري منه ما يلزمه في شهر الصوم المبارك فاشترى بالفعل أرزا وسكرا وفواكه ناشفة، وحلويات متنوعة بستة عشر جنيها دفعها إليه مما كان معه، ولم يبق في جيبه سوى 275 قرشا صاغا، وقفل راجعا مع صديقه إلى منزله، وقال له في الطريق «ربنا أكرم من كل كريم فالذي رزقني مصروف شهر رمضان ليس بعسير عليه أن يرزقني مصروف العيد»، وما كاد ينتهي من حديثه هذا ويقترب من منزله حتى أقبل عليهما رجل رث الثياب وسلم عليهما، وأخذ يقبل يد عبده، فما كان من الأخير إلا أن أخرج من جيبه مبلغ ال 275 قرشا وأعطاه إياه، فاعترضه مخائيل بك ولامه على إعطائه كل المبلغ بدون أن يبقى لنفسه شيئا منه، فأجابه عبده قائلا: إنك لو وقفت على حقيقة حال هذا الرجل لعذرتني فيما أتيت، لأنه كان من أكابر فراشي العاصمة، وكان يملك مفروشات وسجاجيد وفضيات ثمينة، وهو الآن كما تراه لا يملك شروى نقير، فقد تجاوز بصنيعه الحد الصحيح المعقول الذي اختطه السيد المسيح الذي قال: «إذا كان لك ثوبان فاعط واحدا منهما لأخيك» تلك الحكمة المأثورة البليغة لجديرة بأعلى اعتبار، ولي أن أعتبره هنا غبين الرأي ولا يبرأ في هذا التهور من الملام.
حقا إن مثل هذه التضحية ينطبق عليها قول أحد علماء النفس من الإنكليز ومفاده معربا كما يأتي: «إن الماء الذي لا يسمع أنين البؤساء، وآلام المرضى هو غير طاهر، ولو باركه كل قديس في السماء، أما الماء الذي انصب في آنية الرحمة فهو طاهر، ولو تلوث بالرمم وتأذى بالجراثيم».
اضطهاد المحافظة له
كان عبده من أكرم الناس شيمة وأصدقهم عهدا، لا يلبس الحق بالباطل، وقد أشرب حب الديمقراطية. أتفق على ما ذكره لي مؤخرا الأستاذ: سامي الشوا، نقلا عن الأستاذ: محمد كامل الرقاق أن طلب منه أحد محافظي مصر في عهد الخديوي توفيق أن يغني في ليلة معينة بداره فاعتذر عبده إليه من ذلك لسابق تعهده بالغناء في الليلة نفسها مع شخص آخر، فلم يرق للمحافظ الأرستقراطي إتباعه شرعة الديمقراطية المرعية، وأضمر له الحفيظة، وأخذ من ذلك الحين يقاطعه مقاطعة جدية أسفرت عن حرمانه الغناء عند عظماء العاصمة مدة ستة شهور، بمعنى أنه كان يشترط على من يدعونه منهم إلى حضور عرس من الأعراس بأنه لا يحضره إذا استحضروه للغناء، فاضطروا إلى الاستعاضة عنه بالشيخ: صالح العربي، الذي ظهر اسمه في عالم التطريب في ذلك الوقت أو غيره من المطربين، فانزوى في حلوان في تلك المدة دون أن يشتغل ليلة واحدة، فحضر إليه محمد كامل المذكور، ورجاه بأن ينزل معه إلى القاهرة لعل الله يفرج كربه، فوافقه على ذلك ونزلا في لوكاندة الكونتيننتال، وبيما كانا يشربان فيها القهوة ويتجاذبان أهداب الحديث أقبل عليهما محمد بك يكن، وكان في داره عرس فخم مساء ذلك اليوم، وبادر إلى الاعتذار لعبده وقال له إنه لتشديد المحافظ عليه في عدم استحضاره للغناء اضطر إلى الاستعاضة عنه بثلاثة مطربين وهم محمد عثمان ويوسف المنيلاوي ومحمد سالم.
ولما كان عبده من أكمل الرجال عقلا ولا يخشى في الحق لومة لائم آلي على نفسه ألا يسترضي المحافظ؛ لأنه لم يرتكب ذنبا يعاقب عليه، وقال لمحمد بك يكن أن لأعضاء العالة اليكنية قدما في الخير وفضلا عليه فإنه يجد لزاما عليه أن يخدمهم بغنائه في ليالي أفراحهم، وأزمع على الحضور خلسة في منتصف الليل، ورجاه أن يكتم هذا الخبر عن المحافظ الذي سيكون غالبا بين المدعوين، وتم الاتفاق بينهما على ذلك، فعاد محمد يكن بك إلى داره وتركه محمد كامل الرقاق استعدادا للشغل على تخت المنيلاوي كرقاق في تلك الليلة، فما كاد الحضور في السرداق يرى عبده قادما نحو منتصف الليل حتى دوى المكان بالتصفيق، وصعد مباشرة إلى تخت يوسف المنيلاوي، وبدأ يعزف على العود بدون أن يجسه أو يصلحه وغنى قائلا: يا ليل، فرأى محمد الرقاق وهو على التخت المحافظ يبدي لعبده صفحته ويستعد لمغادرة مكانه، وما كاد يسمع «يا ليل» ثانيا حتى طرب واستقر في مكانه، فدوى المكان الفسيح بصوته الرخيم وانتقل من يا ليل إلى موال، ثم إلى بشرف، فدور على تخت يوسف الذي انضم إليه كل من محمد عثمان ومحمد سالم وخلب العقول بغنائه، وأضحى المحافظ يطفر من الطرب، وأخيرا صعد إلى التخت وأخذ يقبل عبده مرارا وتكرارا ودموعه تتساقط على خديه، وطلب منه أن يتناسى ما كان منه، وتعانقا وتصافحا على مرأى من الناس، فكان ذلك منظرا مؤثرا في الحاضرين ودليلا ساطعا على أن الموسيقى ترمي وظيفتها إلى إيجاد المحبة، وتهيئ أسباب السلام، وظهر في أثناء تلك الليلة ميل الجماهير المحتشدة إلى عبده، واعترافهم بالإجماع بعبقريته وزعامته على جميع المطربين.
قوة ابتكاره
وللمرحوم عبده قوة عظيمة في الابتكار والارتجال وقد فاجأ الحاضرين في ليلة عرس فخم لأحد الأعيان في الإسكندرية بتغيير دور «أد ما أحبك زعلان منك» (صبا ) تلحين: محمد عثمان، وقلبه رأسا على عقب فغناه في الحال على نغمة النهوند، ولأول مرة لدى سماعه محمد عثمان يلقيه في العرس نفسه فافتتن الحاضرون بما حباه الله من قوة الصوت والسلطان على المقامات والابتكار والتأليف فجأة بدون استعداد، وكان محمد عثمان في مقدمة من أعجبوا بقدرته الفائقة على هذا الابتكار، وجهر بخضوعه لعبقريته وزعامته، ولا أعتقد أنه إذا أخذ لحنا من ألحان أي ملحن وغناه يعتبر غير قادر على التلحين، كلا وألف كلا ولو عكف على التلحين للحن ألف لحن، لكنه لضيق وقته كان يصرف معظم أوقاته في مجالسه الأمراء ومنادمة العظماء ومواساة الفقراء.
ومن الأمور المسلمة والقواعد الثابتة في علم الموسيقى أن الفضل يرجع إلى الملحن في تلحينه الدور، وإلى المطرب الناشر ذلك الدور على حد سواء، وليس للأول أن يستأثر وحده بهذا الفضل إذ لا فائدة تنجم له من تلحينه إذا لم ينشره المطرب مثل، عبده بما أوتيه من قوة صوت، وحسن إلقاء، وكثيرا ما كان يأخذ الأخير عن ملحن كبير مثل: محمد عثمان أدوارا يبدلها ويزخرفها بريشة رفائيل وينحتها بإزميل ميكلانج وينفخ فيها من روحه ويلحنها تلحينا خاصا بما أوتيه من صوت في إمراره بجميع المقامات مما يعجز عن الإتيان بمثله الملحن الأصلي، إما لضعف صوته، أو لسبب آخر، بمعنى أن ما لحنه الملحن مثلا كان ضمن حدود معينة بحسب صوته، وقضى في إبرازه مدة من الزمن خلافا لعبده، فإن الآلات الوترية لا تجارية في علو الصوت، وأن ابتكاره وتفننه واسعان كالكون ولا حد لهما.
على أن التلاحين المنسوبة للملحنين لا يمكن الجزم بصحة نسبتها كلها إليهم ولو كانت مدونة بأسمائهم في بعض الكتب الموسيقية، إلا إذا كانت تلك التلاحين مسجلة تسجيلا رسميا، لأن الملحن الذي يدعي أنها من بنات أفكاره، وأنه هو الملحن الوحيد لها لا يجد أمام القضاء إذا دعت الحال إلى ذلك ما يثبت زعمه، خلافا لما هو حاصل في بلاد الغرب فإن في خزائن أنديتها الموسيقية ومهارق معاهدها من مودعات تلاحين موسيقييهم في ملفات خاصة بكل واحد منهم ما لا ظل عليه للريب؛ لأنها مسجلة رسميا، وثابتة ثبوتا غير مأخوذ فيه بالظن والتكهن، أو من طريق المشاعر كما هو حادث في أنحاء الشرق.
ومن المحتمل أن ينسب تلحين دور إلى مغن أجاد في إلقائه دون أن يكون ملحنه، كما ينسب خطأ تلحين دور ملحن على أعلى الطبقات إلى ملحن ذي صوت ضعيف.
وليست الشبهة من جهة نسبة التلاحين إلى الملحنين بوجه عام مقصورة على الأدوار بل على مقاماتها أحيانا، مثال ذلك مذهب «ياما أنت واحشني وروحي فيك» تلحين: محمد عثمان فإن المقول عنه في كتب الموسيقى أنه بنغم الحجاز كار والصحيح أن نغمه «الشاه ناز» (دلال الملوك) وقد قام عبده بتغيير نصف تلحين المذهب، ومن هنا يستنتج أن الفضل لا يجب أن يكون مقصورا على الملحن وحده، بل الأوجب إتباعا لشرعة الإنصاف والمساواة أن يجمع الفضل بين الملحن ومؤدي اللحن.
وأزيد على ذلك وأقول أن مذهب «كادني الهوى وصبحت عليل» تلحين: محمد عثمان، لكنه منسوب إلى عبده كما جاء بكتاب كامل الخلعي ص 150، وقد يكون ذلك خطأ، وهو من مقام النهوند قد غناه عبده وأبدع فيه ذات ليلة إبداعا أدى إلى غشيان المرحوم عزت بك - أحد كبار موظفي المالية وقتئذ - وكان من أعاظم هواة الناي فنزل عبده من التخت وأخذ يؤاسيه وينشقه بالأرواح المنعشة ويدلك أطرافه إلى أن أفاق وشكر له رقة عواطفه، ولطيف إحساسه، وشدة تأثير الموسيقى في نفسه.
ثم صعد إلى التخت وأخذ يتمم الدور وما لبث أن وصل إلى عبارة «بالطبع أنا أميل يا اللي تلوم دا شيء بالعقل انظر كده واحكم بالعدل» رغبة أن يقفل النغمة بدلاله وتفننه حتى صاح أحد الحضور وقال يا ابن... ال... إيه... فقام العظماء نحوه ليزجروه ويطردوه فقال لهم عبده وهو على التخت «سيبوه دا معذور كمان» ولم يستقروا في مجلسهم إلا بعد أن تحققوا صدق إعجابه بغنائه بعبارته العامية التي لم يقصد بها إساءته واعتبروها مدحا في موضع الذم.
على أني أطلت في الكلام على هذا الباب إلى ما لعله أدى إلى سأم المطالع فأقف منه عند هذا القدر؛ إذ ليس من غرضي في هذا المقام الإحاطة بكل ما ألقاه عبده من أدوار صادرة عنه، ومذاهب ملحنة منه، بل الإشارة إلى أنه كان يلقى من أدوار الملحنين ما كان يستحسنه ويجده مطابقا لذوقه السليم، فضلا عن أنه كان يغيرها في الحال على أحسن طراز ويقلبها جملة ومفترقا حسب إرادته، وقد دعي مرة عبده ومحمد عثمان والمنيلاوي للغناء في عرس عظيم من عظماء البلد على تخت واحد، وقد شهدت بعيني رأسي وليس لأول مرة عبده رئيسا ومحمد عثمان عوادا والمنيلاوي مساعدا بدون أن يجرأ على إتيان أي حركة أو نغمة انفراديا فهو بلا مراء أسبق المطربين الذين لا يشق غباره.
لطيف هزله وخفة روحه
وتطيبا للقلوب أروي من فكاهاته المليحة ومضحكاته المهذبة ما يضحك الحزين، ويذهل الزاهد، فضلا عن أنه يبين جليا أنه كان يمتاز عن سائر المطربين بالجاذبية الشخصية الوليدة فيه والتي تعتبر منحة طبيعية كمنحة الصوت وإليكم البيان:
دعي ليغني في الإسكندرية بدار عين من أعيانها أقيم فيها سرادق فسيح زين بأفخر الرياش، وفرشت أرضه بالأبسطة النفيسة، وكلف حاجب على الباب بأن لا يدخل أحدا من المدعوين إلى السرادق غير حامل تذكرة الدعوة، ولما آن أوان الغناء وكان التخت على أتم استعداد دار البحث عن عبده فلم يوجد في الداخل، وأخيرا عندما وصل صاحب العرس وحاشيته إلى نحو الباب سمعوا لجاجا ولغطا شديدين بين الحاجب وعبده، فشرح لهم الأخير أن سبب تأخره عن مباشرة الغناء نشأ عن أن الحاجب منعه من الدخول بحجة أنه لم يحمل تذكرة دعوة فحملوه على أكتافهم إلى أن جلس على أريكته الموسيقية فارتجل موالا وغناه وهو كما يأتي:
ليه حاجب الظرف يمنعني وأنا مدعي
لري روض المحاسن من دما دمعي
كم أفتكر في احتجابك واشتكي وانعي
سلمت بالروح ورضيت بالملاح والنوح
قول لي بحق المحبة ما سبب منعي
يذيق الفقير من مختاره
كان لرجل حمار يناهز السبعين امرأة فتانة المحاسن رشيقة القد ، وكان يحبها إلى حد العبادة، ولما حملت منه وعدها وعدا وثيقا بأنه يأتي بعبده الحمولي ليغني إذا وضعت ذكرا، وأردف وعده بالطلاق ثلاثا، وولدت ولدا ذكرا فوجد نفسه أمام أمر واقع فاكتأب لوقوع الطلاق حتما إذا لم يغن عبده، وبعد أن قلب الزوجان الرأي ظهرا لبطن ذهب الحمار إلى منزل الأخير يقدم رجلا ويؤخر أخرى وقص عليه الواقعة بحذافيرها؛ فرق عبده لحاله ولبى طلبه، وما كان منه حتى أرسل إلى داره فراشا نصب أمامها سرادقا يناسب المقام، وعهد إلى طباخ في إعداد ما لزم من مأكل ومشرب وغنى على تخته المشهور إلى أن شابت ناصية الليل كأنه مكافأة بأعلى أجر، ثم ما لبث أن نزل من التخت حتى أفرد منديلا بادر إلى أن وضع فيه مبلغا من جيبه ومده للحاضرين فجمع خمسين جنيها دفع منها المصروفات العمومية على ما سبق الإيماء إليه، وناول الحمار ما بقي منها ليصرف على زوجته في النفاس، وبذلك الصنيع الجميل خلصت زوجته من الطلاق، وأمست حليلة له تقاسمه السعادة والهناء.
وإليكم ما جاء بمصباح الشرق: صادف عبده بعد السهرة في الطريق رجل لا يعرفه وقال إن ابنه مطلوب للخدمة العسكرية، وليس معه شيء من البدل ليعفيه منها، فأخرج من جيبه صرة الدراهم التي تقاضاها أجرة الليلة وأعطاها له. وبلغه أن أحد تجار طنطا وقع في ضيق يخشى عليه فيه من الفضيحة؛ فجمع ما لديه من الدراهم وأعطاه خمسماية جنيه ليستعين بها في عسرته ويحفظ صيته في تجارته.
ودعي للاحتفال بليلة خيرية في مدينة سوهاج بأجر قدره ثمانون جنيها، ولما رأى القوم يتبرعون بالمال وثب من فوق التخت ووقف في وسطهم قائلا لأعضاء الجمعية «ولم تحرمونني التبرع مثلكم؟ وتنازل عن الثمانين جنيها» ا.ه.
الفصل السادس
«ساكنة» أستاذة «ألمظ»
لما كانت المرحوم (ساكنة) أقدم المغنيات (العوالم) عهدا رأيت لزاما علي أن أتكلم عليها أولا في هذا الباب الذي أفردته لعبده وألمظ؛ لشدة ارتباطها بالموضوع من حيث «ألمظ» التي أخذت عنها فن الغناء، وقد توخيت دقيق الاستقصاء من الذين عاصروها، وتلمست الأخبار اختطافا وتذريعا فأقول بالإيجاز: إن «ساكنة» هي أول مطربة ظهرت في مصر في عهد عباس الأول، حيث بزغ نجم سعدها في سماء الغناء وزاد ضياء حتى عهد ساكن الجنان سعيد باشا والي مصر، وكانت متصفة بحسن الصوت الذي كانت ترسله إرسالا بدون عناء، فيبلغ صداه الرائح والفادي، والبعيد والقريب، وقد أعجب بها الترك الذين كانوا مقيمين في مصر ولقبها العامة بلقب «بك»، وكان لها مزاح يضحك الحزين، ويفرح قلب العابد؛ لما انطوت عليه من تهذيب لسان، وخفة روح، وقوة البديهة، وسرعة الخاطر، وكان المزاح في ليالي الأفراح عادة مألوفة في مصر حتى في عصر عبده الحمولي الذي كان فيه يحتم على صاحب العرس أن يستحضر مضحكين ينزلان إلى ميدان المضاحكة بين كل وصلة غناء وأخرى تخلصا من الملل في أثناء انتظار تصليح الآلات وطلبا للروح (بالفتح).
واستمرت «ساكنة» تتمتع بحسن الأحدوثة في غنائها إلى أن ظهر في أفق مصر هلال «ألمظ» فأخذ ينمو ويكبر حتى أضحى قمرا منيرا، ولما سمعت «ساكنة» صوتها الرخيم العذب أخذت تتجاهلها، ولكنها لم تستطع صد تيار نجاحها القوي، ومنع إقبال الناس عليها؛ فرأت تفاديا من المنافسة غير المنتجة أن تضمها إلى فرقتها فتكون فيها تابعة لها وتحت إشراف بدون أن تستطيع أن تزري بصيتها أو تنزل من رتبتها، فمكثت معها «ألمظ» مدة تدربت فيها على فن الغناء فحذقته لكن «ساكنة» قد حقدت عليها لعظم وقع غنائها عند الناس، وهي ضمن فرقتها وأخذت تسيئ الظن بها حتى تركتها، وألفت لها فرقة خاصة، وأحرزت خطر السبق، وقضت على صيتها قضاء مبرما، ومن ذلك الحين بدأ نجم «ساكنة» بالأفول، وأخذ الدهر يقلب لها ظهر المجن إلى أن وافاها الحمام بعد أن بلغت سن الشيخوخة، وذلك في عهد المغفور له الخديو إسماعيل.
السيدة «سكينة» المطربة الشهيرة «بألمظ».
أما «ألمظ» فاسمها الحقيقي «سكينة»، واسمها الفني «ألمظ» وهو تحريف الماس تشبها بماله من بهاء ورونق ولمعان، وإشارة إلى ما لها من صوت رخيم رنان وجاذبية. أما صناعة والدها، فقد تضاربت آراء الرواة عنها وتباينت أقوالهم فيها. فمنهم من ذهب إلى أنه بناء، لأنها كانت تحمل قارب المونة على رأسها لتقدمه للبنائين وهي تغني في مقدمة زمرة من الفتيات العاملات معها، ومنهم من قال إنه صباغ، وقد ظهر أن الزعم الأخير هو الأصح، وظلت طريقة الغناء شائعة في مصر في الوجهين القبلي والبحري حتى الآن، وهي تجلب الجذل وتبعث على النشاط في أثناء العمل، وتطلق النفس من عقال السأم.
ومصداقا لما تنتجه الموسيقى من التأثير في العمل أشير إلى قصة أنفيون جوبيتر الذي بنى أسوار (طيبة) بينما كان يعزف على قيثارته على حد ما قاله الدكتور كلارك من أن ذلك لم يكن خرافة.
على أن صوت يوسف المنيلاوي على ما شهد به المرحوم: محمد المسلوب الكبير لم يكن إلا شيئا ضئيلا إذا قيس بصوت «ألمظ»، بالرغم من عذوبته ولينه ورنينه، وقد صدق واجنر الموسيقي الشاعر فيما قال وهو أن الموسيقى مؤنثة وكانت امرأة.
أما عبده فهو أسبق المطربين لا يشق غباره ويفوقها في غريب تصرفه وعظيم تفننه في ضروب الغناء وقوة التأثير في النفوس بما أوتى من روح فتان وإلهام طبيعي، وكثيرا ما كان يجمعها عرس واحد بمعنى أنه كان يغني للرجال في «السلاملك»، وكانت تغني للهوانم في الشرفة «الشكمة» (لفظة تركية) على مسمع من الحريم والرجال معا. وكان أحمد الليثي يصور نغماتها وهو في السلاملك على التخت، فكان يعلي العود كلما غنت عاليا حتى أنه لما عجز في آخر الأمر عن مجاراتها في تصوير نغمات صوتها المحلق في الفضاء، قطع أوصال العود، وصرخ قائلا «مين ينكر صوتك يا ست». جرى ذلك في عرس فخم لعظيم بدرب الجماميز أقيم فيه أربعة تخوت، ولم يكن عبده حاضرا لتغيبه بالإسكندرية، نقلا عن رواية حضرة مخائيل بك تادرس صديقه الأمين، وهو أوفى من عوف لما رأيت فيه من الولاء الشديد لعبده والترحم عليه، وقد آلى مثلي ألا يرضى عن غنائه بديلا.
أما «ألمظ» فقد حاربت عبده ردحا من الزمن، ونافسته في صناعة الغناء لكنه تفوق عليها.
ألمظ مزاحة ظريفة
ومن المدهش أنها كانت ذات شخصية جذابة وكثيرة الميل إلى المداعبة في كل وقت لا سيما في أثناء الغناء. ومن مستملح الفكاهات أروي أنها ارتجلت دورا غنته له قصدا لأول مرة رأته في عرس بناحية الجيزة بعد أن اجتاز النيل على «المعدية» وهو بالمنيل (لعدم وجود «كباري» في ذلك الزمن) بقصد أن يسمعها. فقالت فيه ضمنا:
عدى يا المحبوب وتعالى
وإن ما جتشي أجيلك أنا
وإن كان البحر غويطة
أعمل لك على القلب سآلة
وقد غنته موالا آخر في عرس فخم جمعها وإياه وهو على تخته المشهور وهو كما يأتي:
ياللي تروم الوصال، وتحسبه أمر ساهل
دا شيء صعب المنال، وبعيد عن كل جاهل
إن كنت ترغب وصالي، حصل شوية معارف
لأن حرارة دلالي، صعبة وأنت عارف
فما كان من عبده إلا أن هدرت شقاشق ارتجاله وغنى الموال الآتي:
روحي وروحك حبايب
من قبل دي العالم والله
وأهل المودة قرايب إلخ إلخ
مما دل على أن الله فجر ينابيع الذكاء والبديهة على لسانه وحباه بلطيف الحس وسرعة الخاطر وسامي الشعور. وقد اتفق لي أن عثرت في أثناء المطالعة على ما يشابه ذلك مبنى ومعنى وهو أن شاعرة من شواعر الإنكليز أهدت إلى زوجها ديوانا من الشعر الذي نظمته ذكرت في افتتاحيته الأبيات الآتية التي أجترئ على إيرادها بنصها خشية ضياع طلاوتها إذا عربت وهي كالآتي:
The love within my heart for thee
Before the world was had its birth
It is the part God gave to me
Of the great wisdom of the earth
ومن أدوارها التي امتازت بها وتداولتها الألسن أذكر ما يأتي:
الوى.... الوى....
يا حلالي من الله عشقك يا خي
لازم أهشه، دا العصفور
انكش له عشه، دا العصفور
دا ابن الأكابر. دا العصفور
على العشق صابر. دا العصفور
طار وعلا. وعلا وطار
ونزل على بيت العطار
وكبش ملبس واداني
ولوز مقشر وأعطاني
لازم أهشه، دا العصفور ...............................
يا سيدي أنا أحبك لله، وربنا عالم شاهد
لاصبر على أحكام الله، لما يبان لي معاك شاهد
خبط الهوى ع الباب، قلت الحليوه أهو جالي
أتار الهوى كداب، يضحك على القلب الخالي
ليه يا حمام بتنوح ليه، فكرتني بالحبايب
يا هلترى نرجع الأوطان ولا نعيش العمر غرايب
وذلك فضلا عن أنها كانت تغني أدوار عبده وكانت تقتصر في الليالي التي تغني فيها على دورين اثنين فقط تلبية لطلبات الجماهير الذين ينزعون عن سماع غيرهما لتفننها في النغمات وقت التكرار، وقد روى لي الأستاذ: محمد الشربيني ما يأتي:
جمع قبل الزواج عبده وألمظ عرس فخم بدار وجيه، فبدأ عبده فاصلا غنائيا خلب عقول الحضور من تلامذة المدارس العليا والحربية وهواة ومحترفين. ولما انتهى منه قام عمران مطيب «ألمظ» يتمايل كعزة الميلاء بملابسه الغالية، والخواتم بأصابعه، والكتينة والساعة الذهب على صدره، وأخذ يخطب الجماهير كعادته المألوفة خطبة بمثابة مقدمة وقال «قولي لنا يا ست «ألمظ»الدور الفلاني» وسماه حسب طلب الحضور، فأجابته وقالت «رايحه أقول إيه بعد إللي قاله سي عبده» فرد عليها وقال: قولي إللي تقوليه. قولي يا فجل أخضر. فما لبثت تفكر في ذلك مدة دقيقتين حتى رتبت للفجل دورا غنته ونال الاستحسان العام وكان مسك الختام، ومن مزاياها أنها كانت تغني أحيانا في سراي الخديو إسماعيل في حضرة حرمه المصون وهي تلعب النرد معه، مع رفع التكليف أو تلوح منديلا بيدها بدون أن تتحمل من تصعيد غنائها أو تعاني فيه جهدا على حد ما كان يطلق عبده صوته في الفضاء متجاوزا مطارح النسر، وهو يلعب بحبات السبحة الكهرمان أو العنبر التي كان يفركها بكلتا يديه ويشم رائحتها، وكان لنغماتها الرنانة ما يذبذب في آذان سامعيها مدة من الزمن، كما كان لصوتها من صدى يتكرر حدوثه بنفسه عدة مرات في السراي حين الغناء، ويكون سببه وجود سطحين متآزيين على جانبي الصوت، يرد كل منهما صداه إلى الآخر كما يكون مثل ذلك في المرئيات عند تقابل مرآتين متآزيين.
وكانت قمحية اللون واسعة العينين كثيفة الحاجبين مسحاء الثدي، وكان لها من عذوبة المنطق وجمال العقل والقلب ما يجعل لها أسمى موضع من النفوس، إذ أن جمال العقل والقلب سرمدي، وهو لأفضل من جمال الجسم الباطل الذي عرفه الفلاسفة وعلماء النفس ببغي قصير الأمد وغدر صامت وأذى لاذ فلأجل ذلك أحبها عبده حبا انطوت تحته نغمة من نغمات حب الوالدات وحنانها على الفطيم (وشبيه الشكل منجذب إليه) ومنعها من الغناء منعا باتا بعد أن تزوجها، وكان تخته ليلة زفافها إليه مؤلفا من أكابر العازفين أمثال: أحمد الليثي العواد، والجمركشي، وإبراهيم سهلون الكماني، ومحمد خطاب شيخ الآلاتية. وأبدع عبده في الغناء إبداعا أخذ بمجامع القلوب، وكان مدلوله دمعة الباكي، وقبلة العابد، وتعزية الحزين، وهادي المسافر، ورسول السلام، ومنعش المكتئب، ومحمس الجبان، ولا أبالغ إذا وصفت غناءه في هذا المقام كبستان فيه الزهور والورود والرياحين يفوح شذاها على الحاضرين، أو كمعرض تعرض فيه جميع النغمات الموسيقية التي خلقها الله وحصرها في صوت الإنسان حتى أضحى في الشرق مهوى الأفئذة وبهجة الناظرين.
وقد روى لي الأستاذ محمد الشربيني أن الخديو إسماعيل كان يأنف من عادات العامة في العويل والصراخ وراء الميت، ويتشآم من ذلك؛ فأصدر أمره الكريم بألا تمر الجنازات بساحة عابدين، ولما سمع بوفاة «ألمظ» رخص لآلها بأن يمر جثمانها منها، ولدى وصوله أطل من الشرفة بالسراي وترحم عليها مكبرا موسيقاها العربية، وكان ساكن الجنان الخديو إسماعيل ولعا بالموسيقى العربية؛ فعين للمرحوم عبده 15 جنيها مرتبا شهريا، ولكل من «ألمظ» وأحمد الليثي وإبراهيم سهلون ومحمد خطاب 10 جنيهات، واستمروا يتقاضون هذه الرواتب بعد تولي الخديو توفيق الأريكة الخديوية، وانقطعت في عهد الخديو عباس. أما ساكن الجنان السلطان حسين فكان ولعا بالموسيقى العربية (وهذا الشبل من ذاك الأسد) إلى أبعد مدى بدليل أنه استدعى قبل وفاته بأربعين يوما تختا مصريا مكونا من الأساتذة: محمد العقاد القانونجي، وسامي الشوا أمير الكمان، وعلى عبد الباري المطرب، وحسنين العواد، والبرزي العازف على الناي، فغنوه غناء عربيا ذا صبغة شرقية وروح مصرية، انفسح له صدره فأجزل لهم العطاء وأكرمهم إكرام إسماعيل أبي الأشبال، وصاح عند انصرافهم قائلا لهم اطلبوا إلى الله أن يطيل في عمري ليتسنى لي القيام بإحياء الموسيقى العربية وتجديد شبابها وإعادة مجدها الأثيل، ولم تعقب «ألمظ» نسلا بل تركت لزوجها الحسرة على فقدها. كما أنها تركت له جواهر ونقودا ومفروشات وشالات كشمير زين بها رياشا لعدة غرف وبهو وردهة منزله وستائر إلخ ومنزلا بدرب سعادة باعه قبل سفره إلى أوربا للاستشفاء، وقد غنى عقب وفاتها المذهب الآتي على نغمة العشاق:
شربت الصبر من بعد التصافي
ومر الحال ما عرفتش أصافي
يغيب النوم وأفكاري توافي
عدمت الوصل يا قلبي علي (دور)
على عيني بعاد الحلو ساعة
ولكن للقضا سمعا وطاعة
دي غرشى الروح في الدنيا وداعة
عدمت الوصل يا قلبي علي
ولما كان هذا المذهب وهذا الدور مدونين بالنوتة عن عبده بالمعهد الملكي بمعرفة الأستاذ: داود حسني لم يا ترى لم يتلقنه الطلبة فيه احتفاظا بسحر الموسيقى الشرقية، وتوجد غيرهما أدوار له ولمحمد عثمان وإبراهيم القباني، فما فائدة تدوينها الذي صرف عليه مبلغ طائل وهي من مودعات الخزائن؟
الفصل السابع
أزواج عبده الخمس
كانت زوجته الأولى منذ ارتفع عن سن الحداثة ابنة المعلم شعبان القانونجي من طنطا، و «ألمظ» الثانية، والثالثة من جهة الأمام الشافعي التابعة لقسم الخليفة خلفت له محمودا الذي سيأتي الكلام عليه، أما الرابعة فقد رزق منها بنات فقط كانت إحداهن المدعوة زينب تزوجت من محمد بن محمود القرا حنفي شيخ طائفة الطباخين من ذوي اليسار، طلقت منه مرة واحدة، ولما تصالحت مع زوجها أسكنهما عبده معه تأليفا لقلبيهما وعطفا على ابنته بداره بالجزيرة الجديدة المشهورة بجزيرة العبيط تبع قسم عابدين التي كانت مسكنه الثاني بعد مسكن حلوان، وتزوج محمد العقاد الكبير من الثانية منهن بعد وفاة والدها، وقد توفاهن الله جميعا، أما زوجته الخامسة وهي الأخيرة فهي سيدة تركية اسمها جولتار هانم، وهي من أسرة كريمة بينها وبين عائلة المرحوم: أحمد باشا رأفت قرابة، وكان الأخير محافظ الإسكندرية، فمأمور ديوان الخديو إسماعيل. خلفت له محمدا، وكان حين وفاة والده يبلغ من العمر أربع سنوات ربته أمه تربية حسنة وبعثته بعد إتمام دراسته بمصر إلى ألمانيا ليتعلم الطب، وبعد أخذ الشهادة دخل في خدمة مصلحة الصحة، وله شقيقة واحدة متزوجة في طنطا، وقد نقل الله والدتهما إلى دار كرامته في أواسط شهر مايو سنة 1935، وقد عين باسيلي بك عريان قيما عليهما حتى بلغا سن الرشد.
محمود ولده
كان محمود أسمر اللون نحيف البدن مربوع القامة ساهم الوجه، ما تعرفت به ليلة زواج المرحوم: يوسف شديد بالزقازيق، وقد مات بالسكتة القلبية. أما فيما يختص بزمن وفاته، فقد اختلفت الرواة فيهم. فمنهم من قال إنه مات ليلة زفافه، ومن قائل إنه مات بعد مرور ستة وعشرين يوما على زواجه، وما ذهب إليه الثاني هو الأصح الذي لا شك فيه استنادا إلى ما أستقصيته من أخيه الدكتور محمد الحمولي.
ومما لا يختلف فيه اثنان أن المرحوم والده عندما بلغه الخبر المشئوم بوفاته تمالك وتماسك كأنه طود من الأطواد، وكأني بالحمولي الحمول للنائبات، الجلد على الخطوب والنوازل، وغنى مرتجلا:
الصبر محمود لمثلي على حبيبي وبعده
والنار في القلب ترعى والرب يلطف بعبده
وغنى مرتجلا أيضا:
ليه يا عين ليه يا عين
يا حليوة يا نور العين
كبدي يا ولدي يا جميل يا جميل لما
رأيت البدن داب مني
ودمع عيني جرى بعد أن نشف مني
كبدي يا ولدي آه يا جميل يا جميل.
وكثيرا ما كان محمد عثمان ينهاه عن الاستسلام إلى الحزن ويقطع عليه وجهة الابتكار والتصنيف لمثل هذه الأغاني المحزنة؛ محافظة على البقية الباقية من صحته.
أمراضه وآلامه
أما عن أمراضه وآلامه فحدث عنها ولا حرج، وإليكم ما ذكره إبراهيم بك المويلحي بجريدة: (مصباح الشرق) بحروفه «فلم يفارقه داء الصداع طول حياته، وكانت إذا اعترته نوبته ألقته على الأرض صريعا يتخبط في أشد الآلام لا يكاد من يراه على تلك الحال يصدق بنجاته منها، فإذا أفاق لزم الفراش من عظم وقعها مدة طويلة ولم ينجع في ذلك الداء معالجة الأطباء، وكان رحمه الله جلدا صبورا على تحمل الآلام في نفسه وبدنه، فقد أصابه غير هذا الداء من الأمراض علل كثيرة بعضها في إثر بعض، حتى كان يقول أنه قضى ثلثي أيام حياته في المرض، والثلث في مراعاة خواطر الناس. وقد أصيب بخراج في الكبد استعصى على الأطباء أمره ويئسوا فيه من نجاته حتى امتنعوا عن العملية الجراحية وقرروا أن النجاح فيها كنسبة الواحد إلى المائة، فألح عليهم المرحوم بوجوب عملها على أية حال، فعملوا له عملية البزل، فلم يخرج من الأنبوبة شيء؛ فتركوها في جوفه بمبزلها، وأمروه أن يستمر راقدا على ظهره لا يتقلب على أحد جنبيه طول ليله، وأنذروه إن هو تحرك وانفلتت الأنبوبة من مكانها قضي عليه، ثم وكلوا به من يحرسه واستمر في حالته التي تركوه عليها إلى أن غشيه النعاس في آخر الليل، وغفل الحارس عنه برهة فانقلب على جنبه، فأصاب سن المبزل رأس الخراج من طريق الاتفاق، فلم يشعر الحارس إلا وقد سال الصديد حول الفراش، وأيقن بالخطر وأسرع إلى الطبيب، فلما حضر وفحص حالته قال: «إن يد القدرة قامت بما عجزت عنه يد الأطباء».
وما كاد يشفى من هذه العملية حتى ظهر في الكبد خراج آخر، فعملت له عملية ثانية بالإسكندرية. ثم أصيب بعد ذلك في سنة 1888م بالتهاب في الرئة، فكان ينفث الدم وتأكل جزء من إحدى الرئتين، ومن هنا ابتدأ الداء الذي مات به، فعالجه الأطباء وأشاروا عليه بسكنى حلوان فسكنها ووقف سير الداء فيه، وسافر المرحوم في سنة 1896 إلى الأستانة العلية، وحظي هناك بالمثول في الحضرة الشاهانية مرارا، فأعجب أمير المؤمنين بمهارته في فنه وحسن أدائه فأسنى عطيته وبلغه حسن رضائه ا.ه.
ترفعه عن وظيفة مغن
وقال أيضا ما أنقله بنصه حرفيا: «كان المرحوم الحمولي كبير النفس علل الهمة يحاول الارتفاع عن وظيفته، وسعى في الخروج منها مقتصرا على الاشتغال بالفن لذاته لجهل الناس في جيلهم الماضي بعلو قدر هذا الفن، وغفلتهم عن جلال منزلته بين الفنون، وناهيك به أن أفلاطون وهو حكيم الحكماء جعله في مقدمة علوم الحكمة، وأول مراتب التهذيب، وقد عمد المرحوم إلى ذلك بالفعل في أيام المغفور له إسماعيل باشا فترك مزاولة صناعته بالأجرة بين الناس وخرج من زمرة المغنين إلى زمرة التجار غير طامع في الذهب الذي كان يسيل من حياله بممارسة صناعته في تلك الأوقات. فافتتح محلا لتجارة الأقمشة اشترك فيه مع بعض التجار بمبلغ عشرين ألف جنيه، فما مضى عليها عشرون شهرا إلا وانتهت به سلامة نيته وحسن ثقته أن خرج منها صفر اليدين مدينا للشريك، دائنا للناس يمنعه الخجل ويحجبه الحياء عن طلب الوفاء، ولم يمتنع في أثناء ذلك عن الغناء بين الناس، بل امتنع عن طلب الأجر عليه، إلى أن عادت به حاجة العيش إلى مزاولة صناعته كما كان في أول أمره. ولم يزل يتطلع إلى غرضه في الانقطاع عنها كما فعل، ودهره يحول دونه فلا يستطيع بلوغه إلى آخر مدته».
فيستدل من كل ذلك أنه أرفع من أن تحوم نفسه على استغلال مواطنيه والاتجار بالفن، وأن فراره من المهنة هو محمول على شرف نفسه وإبائه، كما أن استمراره في الغناء بلا أجر في أثناء اشتغاله بالتجارة دليل على زهده في المال وانصرافه عنه مما يخالف على خط مستقيم حال المطربين المجددين في زماننا المادي في القرن العشرين. وحال قريش فكان عمر يرقع ثوبه بالجلد، وكان علي (رضى الله عنه) يقول للمسكوك من العملة: «يا صفراء يا بيضاء غزي غيري».
الموسيقار العربي يلبي دعوة المنيلاوي
دعا الشيخ يوسف المنيلاوي المرحوم عبده الحمولي وحضرة مخائيل بك تادرس وآخرين لتناول الغداء بمنزله بكوبري القبة بعد أن اشترط الثاني على الأول ألا يأكل عنده إلا أكلة مصرية بحت كالملوخية «المطراوي» المطبوخة بمرق الأرانب «البلدي» الشمرت، فجهز الشيخ يوسف ذلك على الطراز المراد، وأخذ المدعوون يغدون إلى داره وحضر عبده بملابسه العربية المكونة من جلباب جوخ وعباءة وكوفية «محلاوي» وبيده عصا أبنوس شغل أسيوط، فلما استقر به المقام وتفقد أخوانه المدعوين لم يجد بينهم صديقه الحميم مخائيل بك تادرس، وما لبث أن أمسك بالعود ليغني حتى قدم الأخير مهرولا وقال له إنه حضر قبل انصراف الديوان بساعتين إكراما لخاطره بعد أن استأذن من أحمد فريد باشا رئيس الدائرة السنية آنئذ بالانصراف بحجة أن أمرا مهما طرأ عليه، وأخذ يغني ويبدع حتى الساعة الخامسة بعد الظهر، واستغنى الحضور عن الغداء بما غذى نفوسهم من غناء. وليس هنا محل الغرابة ولكن المستغرب أن الشيخ: يوسف على ما هو معدود من أكابر المنشدين وأشهر المطربين فإنه تأثر من حسن إلقائه حتى صاح قائلا «سبحان الوهاب سبحان الوهاب» والدموع تتساقط على خديه على حد ما حدث للأستاذ: الأسواني العواد الفذ فإنه بعد ما سمع عبده يغني دور (يا أهل العجب شوف حبك كواني تعالى شوف) دهش وتعجب من حسن إلقائه وغريب تصرفه الفني، ومال نحو الأستاذ: أحمد نسيم الشاعر الموظف بدار الكتب وقال له ليس العجب أن يعجب الحاضرون بغنائه الفريد المدهش وهم لا يعرفون للفن قبلة ولا دبرة، بل الأعجب هو أن أكون أكثر دهشة منهم على ما أنا عليه من تضلع من الموسيقى وأصبح أحير من ضب لا أتمكن من الاهتداء لمعرفة كيف علا صوته وانخفض في لفظة «العجب»، وتجمع وتفرق وتداخل وتخارج وتأصل وتفرع وأوغل وتخلص وتوغر وتسهل وأغار وتسلسل، وأردف قائلا إنه لو خير بين مدينة لندن ولفظة العجب لفضل الأخيرة على الأولى وما عليها، وكانت له بحة حلق طبيعية وعربية وإليكم ما قاله كشاجم في بحة حلق المغني:
أشتهي في الغناء بحة حلق
ناعم الصوت متعب مكدود
كأنين المحب أضعفه الشو
ق فضاهى به أنين العود
لا أحب الأوتار تعلو كمالا
أشتهي الضرب لازما للعود
وأحب المجنبات كحبي
للمبادي موصولة بالنشيد
كهبوب الصبا توسط حالا
بين حالين شدة وركود
المواويل (المواليا)
أذكر أوائلها وهي كالآتي: «يا مفرد الغيد يا سيد الملاح يا سيد» و«ما حد زيي على خله إنضنى حاله» و«محبكم داب وأنتم لم دريتوا به» و«حبك شغلني عن الخلان وألهاني» ولما للموال الآتي من منافثة أذكره برأسه:
أهل السماح الملاح دول فين أراضيهم
أشكي لهم ناس لم يعرف أراضيهم
وكم حفظت الوداد ونسيت مواضيهم
إن غبت عنهم بنار البعد انكوى
وإن مسني قرب تجرحني مواضيهم
فلما كرر عبده عبارة «دول فين أراضيهم أجابه محمد بك البايلي الفكه» وقال: «في البنك العقاري» اسألني أنا أقول لك ولا تتعبش «ملا حبيبي كؤوسي قلت وأنا مالي» و«موارد الصبر أحلالي وأسمى لي» و«مين في الفؤاد يا حبيبي غير جمالك مين» و«وحق من أطلعك يا فجر متحني» و«يا ناس أنا منيتي حلو اللمى ولطيف» و«بالبخت كنت أفتكر بالأنس ودا جالي» و«يا اللي القمر طلعتك يا بو قوام عادل» و«يا اللي عليك الليالي نبكي ونناهد» و«وحيد الحسن يا اللي كل الجمال منك» و«من حق سود العيون يابو خدود وردي» و«مر الغزال الفريد من بعد ما سلم» و«قم في دجى الليل ترى بدر الجمال طالع» و«عوازلي فيك أطالوا اللوم وعيوني» و«يا حادي العيس خليني أسير وحدي» و«يا بدر تم الجميل واطلع لنا بدري» و«يا بدر داري عيونك وخلي الخد باين لي» و«يا بدر إيه العمل حيرت أفكاري» و«الليل أهو طال وعرف الجرح ميعاده» و«بدال ملامك لأهل العشق عللهم» و«إمتى الحبايب ييجو ونشوف لواحظهم» و«فيك ناس يا ليل يشكوا لك مواجعهم» و«ليه حاجب الظرف يمنعني وأنا مدعي» و«الفجر أهو لاح قوموا يا تجار النوم» و«كل البدورا بتورد وخلي لم ورد بدري».
الفصل الثامن
القصائد التي غناها
قصيده لابى فراس
أراك عصي الدمع شيمتك الصبر
أما للهوى نهي عليك ولا أمر
نعم
1
أنا مشتاق وعندي لوعة
ولكن مثلي لا يذاع له سر
إذا الليل أضواني بسطت يد الهوى
وأذللت دمعا من خلائقه الكبر
تكاد تضيء النار بين جوانحي
إذا هي أذكتها الصبابة والفكر
معللتي بالوعد والموت دونه
إذا مت ظمآنا فلا نزل القطر
تسائلني من أنت وهي عليمة
وهل بفتى مثلي على حاله نكر
فقلت كما شاءت وشاء الهوى لها
قتيلك، قالت، أيهم فهم كثر
وقالت لقد أزرى بك الدهر بعدنا
فقلت معاذ الله بل أنت لا الدهر
قصيدة لآخر
أسرت فؤاد المستهام عزيزة
ملكت قلوب العاشقين بأسرها
جلست على عرش الجمال فأشرقت
شمس الجمال تضيء ساحة قصرها
من قال أن أشكو الغرام وإنني
لأقل قدرا أن أموت بحبها
أنا عبدها
2
مهما تحكم أمرها
في كل حال عاجز عن شكرها
في الشرق شمس للنهار نظيرها
في الغرب بدر ليس يغرب نورها
قصيدة لآخر
فيا مهجتي ذوبي جوى وصبابة
ويا لوعتي كوني كذاكي مذيبتي
ويا نار أحشائي أقيمي في الجوى
حنايا ضلوعي فهي غير قويمة
قصيدة ليزيد بن معاوية
نالت على يدها ما لم تنله يدي
نقشا على معصم أوهت به جلدي
كأنه طرف نمل في أناملها
أو روضة رصعته السحب بالبرد
خافت على يدها من نبل مقلتها
فألبست زندها درعا من الزرد
أنسية لو رأتها الشمس ما طلعت
من بعد رؤيتها يوما على أحد
سألتها الوصل قالت لا تغر بنا
من رام منا وصالا مات بالكمد
فكم قتيل لنا في الحب مات جوى
من الغرام فلم يبد ولم يعد
قد خلفتني طريحا وهي قائلة
تأملوا كيف فعل الظبي بالأسد
واسترجعت سألت عني فقيل لها
ما فيه من رمق دقت يدا بيد
واستمطرت لؤلؤا من نرجس وسقت
وردا وعضت على العناب بالبرد
هم يحسدوني على موتي فوا أسفي
حتى على الموت لا أخلو من الحسد
قصيدة لآخر
حجبوها عن الرياح لأني
قلت يا ريح بلغيها السلاما
فتنفست ثم قلت لطيفي
ويك إن زرت جفنها إلماما
حيها بالسلام سرا وإلا
منعوها لشقوتي أن تناما
قصيدة لآخر
تذلل لمن تهوى فليس الهوى سهل
ففي حبه يحلو التهتك والذل
تذلل له تحظ برؤيا جماله
إذا رضي المحبوب صح لك الوصل
الفصل التاسع
ما اخترته من ألحان المرحوم عبده الحمولي
(1) مذهب عراق
فؤادي أسألك قول لي
تعلمت الهوى دا منين
وتاه فكري معاه قال لي
أنا حاضر وأنت فين (دور)
غرايب والنبي سيرك
وحق اللحظ والخدين
أنا قلبي ما فيه غيرك
وليه قلبك يساع اثنين (2) مذهب حجاز كار
مليك الحسن في دولة جماله
ملك عقلي وأفكاري وروحي
ومن تيهه أسر قلبي جماله
وزاد في محبته وجدي ونوحي
أنا عاشق ومغرم يا حبيبي
ومن مثلي عشق يا حلو مثلك (دور)
أنا عاشق ومغرم يا حبيبي
وزاد في محبته وجدي ونوحي
أعيش مسعد ولو يزداد لهيبي
وأتهنى بأنعامك ووصلك (3) مذهب حجاز كار أيضا
الله يصون دولة حسنك
على الدوام من الزوال
ويصون فؤادي من نبلك
ماضي الحسام من غير قتال (دور)
أشكي لمين غيرك حبك
أنا العليل وأنت الطبيب
اسمح وداويني بقربك
واصنع جميل إياك أطيب (4) مذهب حجاز كار
كنت فين والحب فين
لم يفارق لحظ عين (5) مذهب بياتي
أنا السبب في اللي جرى
ما حد غيري اللي انظلم (6) مذهب نهوند
يا منية الأرواح
جد لي بوصلك يوم
العقل مني راح
وهجر عيوني النوم
والمدامع مطر
يا شقيق القمر
والقليب انفطر
وازداد عذولي لوم (دور)
دا الهجر يا روحي
زاد الفؤاد أشجان
ارحم بقا نوحي
واسمح يا غصن البان
انعطف لي وميل
والنبي يا جميل...
واشفي صب عليل
في محبتك حيران (7) مذهب نهوند
جاني الجميل والكاس على يده
عمل أبيبة من ورد خده
أسر فؤادي من حسن قده
حبيت ولكن وعد علي (دور أول)
ليه الدلال يا حلو زايد
دا هجر منك والا وحايد
جعلت حبك من الفرائض
حبيت ولكن وعد علي (دور ثان)
محبوب قلبي يكفي دلال
البعد طول ولا أنت مالك
واصل يا حبي واترك دلالك
حبيت ولكن وعد علي (8) مذهب حجازي دوكة
أنت فريد في الحسن - والا جمالك
يا حلو واصل وكيد الأعادي - يكفي دلالك (دور أول)
من علمك على الدلال - والا دا طبعك
كوى فؤادي الجبين والخال - احكم بشرعك (دور ثان)
اسمح وجود بالوصال - يا نور عينيه
كوى فؤادي الخديد والخال - ارحم شوية (9) مذهب رصد
فؤادي جد به حالات
لمين يا حلو أشكيها
وتحكم لي أنا ساعات
أشاهد موقفي فيها (دور)
حياتي بعد بعدك نوح
ووعدي ضيعك مني
وهو أنت الفدا للروح
وليه ترضى البعاد عني (10) مذهب بياتي قديم وله تلحين آخر جركة
في مجلس التفريح مليت المدام - للي أحبه
فقلت له عبدك ضناه الغرام - اسمح بقربه (دور أول)
سقمي ظهر لما هجر باهي الجمال
يا رب يسمح
الشعر جعدي والخد وردي والمسك خال
واللحظ يجرح (دور ثان)
يا ناعس الأجفان أطلت الدلال
والوصل ماله
إن جدت للمشتاق بطيب الوصال
يفديك بماله (دور ثالث)
جسمي انتحل لما رحل حلو الدلال
والخصر خده
إمتى يجيبني واشرب مدام
من صحن خده (11) مذهب جهار كاه
الحب صبحني عدم
والجسم منى زاد سقام - شوف يا جميل
ارحم محبك بالوصال
واترك بقى هذا الدلال - واصنع جميل (دور)
يا منيتي إيه السبب
في دى الخصام اللي جرى - قوللي عليه
هو عذولي جالك ولام
علشان كده عامل خصام - وأنا ذنبي إيه (12) وكان في ضمن الأدوار والقطع التي اشتهر بغنائها ما يأتي بالإيجاز
يا منية الأرواح، روح يا عذول يا فاضي، أنا وحبيب راضي، عذول وعامل قاضي... إلخ.
ويا سيدي خدك وردي... إلخ. ويوجد مذهب قديم (رصد) غناه كثيرا وهو كالآتي:
توبي يا حلوه توبي
أنت قصدي ومطلوبي
شوفوا حالي يا أخونا
دا العشق من الله وعدي ومكتوبي
إزاي أتوب يا لسمر
ريقك أحلى من السكر
أنا أتوب وأنت تسكر
دا العشق من الله وعدي ومكتوبي (13) مذهب عشاق (لحنه عقب موت «ألمظ»)
شربت الصبر من بعد التصافي
ومر الحال ما عرفتش أصافي (سبق ذكره) (14) مذهب سيكاه
متع حياتك بالأحباب
سعدك قمر (تقدم بيانه)
مذهب حسيني دوكاه:
جددي يا نفس حظك
منيتي الهاجر تعطف
مذهب شرحه:
حظ الحياة يبقى لروحي
لما الهوى يجي سوا
يا قلبي طال نوحك ونوحي
واللي جرح عنده الدوا (دور)
سحر الجفون خد مني قلبي
وأنا أعمل إيه في دى الهوى
يا ناس عجيب السقم زاد بي
واللي جرح عنده الدوا
مذهب كردان:
شربت الراح في روض الأنس صافي
على زهر الغصون وردي وصافي
وهناني الزمان والوقت صافي
سمح بالوصل محبوبي إلي ...الخ
شرحه
المطر يبكي لحالي
والقمر يطلع يكيدني
وعذولي ما رثى لي... إلخ
مذهب أوج
ياللي خليت م الحب
حسك تلامسني
أحسن أنا هوه
تصبح جريح القلب
وتحب صدقني
بالغصب والقوة
مذهب حجاز
فؤادي من لحاظك يا حبيبي
وليه جرحته والوصال هو مرادي
وسقمي زاد ولم طفيت لهيبي
فرفقا يا رشا واترك عنادي ... الخ
مذهب بياتي
قده المياس زود وجدي
في شرب الكاس قضيت عمري
ده حبه كاس وسبب وعدي
طول ليلي سهران ارحم قلبي
مذهب بياتي أيضا
بسحر العين تركت القلب هايم
ولا في الفكر غيرك كل ليلة
أشوف طيفك وأنا صاحي ونايم
كأني في هواك مجنون ليلي ...الخ
مذهب شورى
حبيت جميل طبعه الدلال
بالبدع والتيه أفناني
قصدي يتوب عن الخصام
وأقول حبيبي يا ناس هناني (دور)
لو كان وفاني بوعده يوم
لو في المنام زارني طيفه
ما كان كفاني لذيذ النوم
لكن ده كله على كيفه
مذهب بياتي دارج
الحلو لما انعطف
أخجل جميع الغصون
الخد لما انقطف
ورده بغير العيون ... الخ
مذهب نو أثر
كل يوم أشكي من جراح قلبي
وكل ما أشكي من نار الغرام
العذول يفرح من بعاد حبي
والله أنا ما أسلاه لو زاد الملام
مذهب نهاوند
أهين النفس وأتذلل إليكم
وأقول للقلب ذق نار الغرام
يقضيني عذابي حرام عليكم
يدوم لي حسنكم طوال الدوام
مذهب نهاوند
كادني الهوى وصبحت عليل
مثل النسيم في روض الحسن
حبي قمر طالع على غصن
كله أدب وطرب وجميل
مالوش مثيل
فمن قائل إنه تلحين محمد عثمان، ومن قائل إنه تلحين عبده كما جاء في كتاب الموسيقى الشرقي لمحمد كامل الخلعي:
مذهب حجاز كار
غرامك علمني النوح
يا حبيب القلب شوف
مع طيفك أرسلت الروح
أترجاك تعمل معروف
ومما رواه لي حضرة الأستاذ: بطرس باسيلي بن المرحوم: باسيلي بك عريان صديقه ورئيس قلم النشر والترجمة بوزارة الزراعة أجتزئ بما يأتي:
لما شعر عبده بدنو أجله غادر حلوان ولما وصل إلى مصر أقلته عربة إلى منازل أصدقائه الذين زارهم واحدا واحدا واستودعهم الله إلى اللقاء، وأعطي الحوذي جنيها واحدا أجرته، وبعد قليل من الزمن انطلقت في فجر الأحد الواقع 12 مايو سنة 1901 ألسنة البرق بما أصم المسامع حاملا نعيه إلى ذويه ومريديه وأصدقائه في أنحاء القطر المصري خصوصا والشرق عموما، فقضي مأسوفا عليه مزودا بصالح الأعمال تاركا من جميل الذكر ما يستدر عليه المراحم مدى الدهور.
الفصل العاشر
قصيدة المرحوم أحمد شوقي بك أمير الشعراء
التي جادت بها قريحته الفياضة وتعد رمزا للوفاء وصدق العهد للمرحوم: عبده الحمولي قال:
ساجع الشرق طار عن أوكاره
وتولى فن على آثاره
غاله نافذ الجناحين ماض
لا تفر النسور من أظفاره
يطرق الفرخ في الغصون ويغشى (لبدا) في الطويل من أعماره
سلب الفن ألحن الطير فيه
والمتين المكين من أوتاره
كان مزماره فأصبح داو
د كئيبا يبكي على مزماره (عبده) بيد أن كل مغن
عبده في افتنانه وابتكاره
معبد الدولتين في مصر إسحا
ق السعيدين رب مصر وجاره
في بساط الرشيد يوما ويوما
في حمى جعفر وضافي ستاره
صفو ملكيهما به في ازدياد
ومن الصفو أن يلوذ بداره
يخرج المالكين من حشمة المل
ك وينسي الوقور ذكر وقاره
رب ليل أغار فيه القمارى
وأثار الحسان من أقماره
بصبا يذكر الرياض صباه
وحجاز أرق من أسحاره
وغناء يدار لحنا فلحنا
كحديث النديم أو كعقاره
وأنين لو أنه من مشوق
عرف السامعون موضع ناره
يتمنى أخو الهوى منه آها
حين يلحى تكون من أعذاره
زفرات كأنها بث قيس
في معاني الهوى وفي أخباره
لا يجاريه في تفننه العود
د ولا يشتكي إذا لم يجاره
يسمع الليل منه في الفجر يا لي
ل فيصغي مستهملا في فراره
فجع الناس يوم مات الحمولي
بدواء الهموم في عطاره
بأبي الفن وابنه وأخيه
والقوي المكين في أسراره
والأبي العفيف في حالتيه
والجواد الكريم في إيثاره
يحبس اللحن عن غني مدل
ويذيق للفقير من مختاره
يا مغيثا بصوته في الرزايا
ومعينا بماله في المكاره
ومجل الفقير بين ذويه
ومعز اليتيم بين صغاره
وعماد الصديق إن مال دهر
وشفاء المحزون من أكداره
لست بالراحل القتيل فتنسى
واحد الفن أمة في دياره
غاية الدهر إن أتى أو تولى
ما لقيت الغداة من أدباره
نزل الجد في الثرى وتساوى
ما مضى من قيامه وعثاره
وانقضى الداء باليقين من الحا
لين فالموت منتهى إقصاره
لهف قومي على مخايل عز
زال عنا بروضه وهزاره
وعلى ذاهب من العيش ولي
ت فولي الأخير من أوطاره
وزمان أنت الرضا من بقايا
ه وأنت العزاء من آثاره
كان للناس ليلة حين تشدو
لحق اليوم ليله بنهاره
الفصل الحادي عشر
مرثية جريدة المقطم
للمرحوم عبده الحمولي
جاء بالمقطم عدد 3683 بتاريخ 13 مايو سنة 1901 ما يأتي:
فقدت مغاني الأنس ضحوة أمس منعش الصدر ومطرب النفس المرحوم: عبده أفندي الحمولي؛ فخرست الدفوف وقطعت أوصال الأعواد حزنا وأسى على أشهر من اشتهر في مصر بالغناء والتلحين، قضي رحمه الله مناهزا الستين من عمره بعد ما بسم له الدهر فنال الحظوة من الملوك والأمراء والعظماء، وكان سمحا جوادا أنيسا محبوبا من صحبه ومعاشريه.
أصيب بعلة منذ عهد قريب فقصد الصعيد مستشفيا حتى إذا عاد إليه أمل الشفاء أشار عليه الأطباء بالسكن في حلوان فلم يدفع ذلك عنه مقدورا. وكان من رجال الخير وخير الرجال همة في المساعدة والإسعاف فقد أحيا الليالي التي لا تحصى وهو يطرب المدعوين في الأندية والحفلات التي خص دخلها بإنشاء المدارس أو بإعانة الفقراء والمحتاجين.
وقد جيء بجثته بعد الظهر من حلوان إلى مصر، ثم شيعها خلق كثير جدا من الأعيان والوجهاء والأدباء إلى مدفنه في باب الوزير، وأقيم مأتمه البارحة في منزله بالعباسية، وسيقام فيه الليلة والليلة الآتية أيضا، ويقتصر فيه على ثلاث ليال. سقى الله مثواه وابل الرحمات وأجمل عزاء ذويه والمصريين عموما فيه.
الفصل الثاني عشر
مرثية جريدة الأهرام
جاء في الأهرام عدد 7036 للسنة السادسة والعشرين بتاريخ 13 مايو سنة 1901 عن وفاة المرحوم: عبده الحمولي ما يأتي:
فاضت روح المطرب المبدع والموسيقي الشهير ، فاضت روح عبده أفندي الحمولي على أثر داء عياء؛ فحق لمصر أن تحزن لوفاته بقدر ما كانت تطرب بنغماته، بل حق للموسيقى العربية أن تبكيه، وتستعظم الخطب فيه، فقد كان فخارها ومعلي منارها في هذا القطر، بل في كل قطر نطق أهله بالضاد.
وكان رحمه الله كريم الشيم، عزيز النفس، رقيق الجانب، ونال الحظوة لدى الأمراء والكبراء، وما انتشر نعيه حتى شمل الأسف كل عارفيه - وكثير ما هم - وفي الساعة الثالثة بعد الظهر أمس نقلت جثته من حلوان إلى القاهرة وشيعت بمشهد لائق وبعد أن صلي عليه دفن في مدفنه بباب الوزير.
وما زاد الأسف عليه وكان من أكبر الدلائل على كرمه وسخائه أنه ترك صبية صغارا ليس لهم من عضد ولا سند سوى ذكر أبيهم، فعسى يبقى لصدى صوته بقية تؤثر في القلوب رحمه الله أوسع الرحمات.
الفصل الثالث عشر
رأي في الموسيقى الشرقية والغناء العربي
للعلامة الجليل صاحب العزة خليل بك ثابت، رئيس تحرير المقطم الأغر بمناسبة الاحتفال بإحياء ذكرى عبده الحمولي
ذكرت جريدة المقطم الأغر بعدد 14182 بتاريخ: 24 يوليه سنة 1925 ما يأتي:
نشرنا يوم الجمعة الماضي وصفا لحفلة إحياء ذكرى المغفور له خالد الذكر عبده الحمولي وقد أقيمت على مسرح حديقة الأزبكية يوم الثلاثاء 16 يوليو بدعوة من حضرة الأستاذ قسطندي رزق.
وننشر فيما يلي الكلمة التي ألقاها الأستاذ، مصطفى الحكيم، وقد كتبها حضرة رئيس تحرير المقطم في هذه الحفلة لما فيها من التنبيه على حالة في الغناء العربي الجديد يراها حضرة العلامة المتواضع صاحب العزة: خليل بك ثابت، رئيس تحرير المقطم، جديرة بعناية أرباب الفن الموسيقي حرصا على أصول الغناء العربي. •••
عزيزي الأستاذ قسطندي رزق:
وطنت النفس على أن أشهد احتفالك الكبير بذكر أمير الغناء العربي في عصر نهضة مصر الحديثة، وأن أشاركك وأنصار هذا الغناء المجتمعين الليلة لذكرى الفقيد العظيم، غير أن طارئا لم أكن أتوقعه طرأ علي، وحال دون تحقيق هذه الأمنية.
ولا أحاول هنا التنويه بما شهدت من عظيم غيرتك وحميتك في السعي لإحياء ذكرى عبده، وإطلاع أبناء هذا العصر على ما فاتهم مما تمتع به أبناء العصر الماضي فجزاؤك على هذا ما أنت شاعر به الساعة من اغتباط وارتياح وهو خير ما يجزي به العاملون.
ولكن اسمح لي أن أضيف إلى جهدك الذي بذلت بالدعوة باللسان والقلم تنبيه أنصار الغناء العربي والموسيقى الشرقية إلى ما نحن مصابون به الآن وما نتوقعه إذا استمرت هذه الحال.
فقد ابتلينا بداء (التجديد) هذا في كثير من أمورنا - في اللغة والعادات ثم امتد إلى الغناء فأصيب الغناء العربي بهذا «الإلحاد الفني» المشهود الآن، والذي يؤذي أسماع وقلوب عارفي هذا الفن والمعجبين به، ولا أنكر أننا اقتبسنا في الأصل جانبا يذكر من غنائنا من الفرس، ولا نزال نستعمل في موسيقانا الألفاظ الفارسية للأنغام والسلم الموسيقية، ولكن كر الأيام وانقضاء الأعوام صقلا هذا كله فألفناه وأحببناه.
ولا بد لغنائنا وموسيقانا من أن يتأثر باتصالنا بالغرب وموسيقاه المتقنة المهذبة الأصول والفروع، ولا ريب في أننا من الناحية الفنية مقصرون عن الغرب تقصيرا كبيرا، ولكن هذا لا يعني وجوب تطليق فننا أو مسخه، فلا يبقى شرقيا ولا يصير غربيا.
فإذا قيل إن هذا تحول أو «تطور» قلت إنه تحول بغير ضابط وإفساد للذوق.
لست من خصوم التجديد غير أني - وأنا من عارفي أصول الموسيقى الشرقية والغربية ومن الذين درسوها وألفوا العزف على بعض آلاتها - أشعر بأننا بهذا الإلحاد الفني المسمى خطأ تجديدا خاسرون، ومن سوء الحظ أن يستعان على هذه الضلالة بذوي الأصوات الرخيمة المحبوبة من الجمهور من مغنين ومغنيات؛ فإن جمال أصواتهم يستهوي الأفئدة ويطرب السامع فلا يفطن الناس إلى الإلحاد الموسيقي والخروج على أصول غنائنا الذي هو من مميزاتنا.
أترى من الضروري أن أذكر حكاية الغراب الذي أراد أن يقلد مشي الحجل أو يكفي ما تقدم.
فعسى هذا الاحتفال بإحياء ذكرى أشهر مغن مصري في عصر نهضتنا الحديثة أن ينبه المشتغلين بالموسيقى الشرقية والغناء العربي إلى ما نحن مستهدفون له من فعل هذه العاصفة التي أخذت تهب علينا والتي يخشى من أن تكتسح ما بقي لنا من هذا الفن البديع؛ فننبذ الحرير الطبيعي مأخوذين ببهاء الحرير الصناعي وهو دون ذاك.
والله يهدينا جميعا إلى أقوم السبل وأصلح الطرق ويتولى إرشادنا، وجزاء العاملين الحريصين على إرث الشرق والشرقيين.
الفصل الرابع عشر
الموسيقى العربية وعبده الحمولي
لشاعر الأقطار العربية الأستاذ خليل مطران (1)
مات عبده فمات فن وزال آخر شعاع من عصر توارت شمسه في ظلمة الأبد، فقد كان إسماعيل شمسا في سماء مصر. وكان كل ذي شأن من معاصريه ككوكب يستمد منه نوره. فلما أفلت لحقت بها تلك الأنوار يتلو بعضها بعضا إلى أن تم الزوال بوفاة صداح تلك العظمة الشماء وغريد ذلك الملك العظيم.
وكثيرا ما كان عبده يبكي لحنا من ألحان ذلك العهد فيمثله لنا من خلال مدامعه الجارية ونغماته الشجية، كأنه زينة منارة بألوف المصابيح حافلة بجماهير الفرحين الطروبين. وكأن مصر دار ذلك العرس تضحك بالأنوار لمستقبلها العابس. وكأن الأمير أمير الزمان يومه وغده. وكأن الوفود من عرب ومن عجم أعوان دولة تشاد. وإنما كانوا هدمة أمل رفيع العماد. وكان «عبده» من على أريكته بشير السعادة الخالدة في ذلك الاستقلال الزائل. فإذا فرغ من إنشاد صوته ورجعنا إلى أنفسنا نظرنا حولنا فرأينا دولة اليوم ورجال هذا الزمن. ولم يثبت لدينا من حقيقة ذلك الحلم الرائع إلا ذلك المغني المنتحب على حال حالت. ونعمة زالت، ودولة دالت. ولقد كان في مصر قبل انقضاء هذه الأشهر الأخيرة مغنيان هما «عبده» «وعثمان» فاليوم نحن ولا مهنئ في الفرح، ولا معزي في الترح، إلا ما كان من قبيل رجع الصدى الذي يتردد حينا بعد هتاف الهاتف.
كان عبده مبتكرا يخلق اللحن خلقا من حاضر ما يوحي به إليه فيحير به المهرة ويطرب السامعين ما يشاء التطريب بالنغمة والإعجاب بقدرة مبتدعها. وربما كسر القيد ونقض القاعدة وند عن المألوف فطار وحلق. وقد بكم العود، وعي القانون، وأنصت الناي، مطلقا صوته يمرح في سماء التطريب. فمن وثبة النسر إلى انحدار السيل، إلى خطف البرق، إلى تغريد القمري، إلى نوح الحمامة، إلى أنين الجدول. كل هذا والصوت عال منخفض جهوري خافت، رنان مرتجف، مشبع ضئيل، والنغمات تجتمع أصولا وتتفرق فروعا، وتنثني وتتفرد وتتدانى وتتباعد وتتواصل وتتفاصل مفضية بعضها إلى بعض، متسلسلة على مقتضى سلامة الذوق والمهارة الفنية منتهية إلى القرار.
شاعر القطرين الأستاذ خليل مطران.
وكان «عثمان» مؤلفا بارعا في ترتيب الألحان. بصيرا بأخذ النغمات من مواضعها وجمعها على نسق مستحب، كلفا بصناعته جادا في إتقانها إرادة أن يستعيض عن طلاوة الصوت بحسن الأسلوب ولطف السياق. ولهذا كان لا يغني منفردا. ولا يطلق صوته إلا على أجنحة الآلات. فإذا لحن أغنية وأسمعها الناس لأول مرة خرجت متقنة صحيحة الوضع رائعة للسمعه. ولكن يبدو عليها أثر إعنات الفكر ويشتم منها ريح الشمع المذاب في السهر على تخريج أجزائها، وتوجيه ضروبها، والملاءمة بين رناتها ومعانيها. على أن هذا لا ينفي أن «عثمان» كان ضريب «عبده» وأنه أثبت بنتيجة عمله أن لحسن التأليف مكانا بجانب الابتكار، وأن للاجتهاد منزلة قد تعادل منزلة الاختراع. بل إن المجتهد قد يكون ذا فضل على المخترع بما يهيئه له من مواد الابتداع. ومن الحق أن يقال إن «عثمان» كان في أخريات هذه السنين واضع معظم الألحان فيأخذها «عبده» عنه ويكسوها من الحلل والحلي ما تشاء بديهته الخاصة به، فبينا هي سوقة حسان إذا هي ملكات بتيجان. وبينا هي أشخاص ترمقها عيون المعجبين، إذا هي أرواح تتنسمها قلوب المحبين.
وعلى هذا كان «عثمان» يجدد للناس روح «عبده» و«عبده» يسمع الناس علم عثمان فهما العاملان المتكاملان أحدهما بالآخر على ما بينهما من تحاسد وتباغض وتباعد.
هذه صفة «عبده» مغنيا وتلك منزلته التي لم يدانه فيها من أرباب فن الموسيقى إلا «عثمان».
أما أخلاقه فكانت أخلاق كرام الناس، وبها شرف قدر مهنته التي كانت إلى عهده تعد من المهن الوضيعة. فقد كان أنيس المحضر، كارها للغيبة، راغبا في مجالس الظرفاء المتأدبين، محدثا ذكيا لا تفوته شاردة ولا واردة من طرف الكلام، جوادا جود الأمراء، متلطفا وديعا كأنه أبدا في حضرتهم وفيا لأصدقائه لا يضن عليهم بما فيه نفع لهم ورضى، مجاملا لذوي فنه، محسنا إليهم لا يبغض منهم إلا من ركب الدنايا وأخل بما يسميه شرف الحرفة.
ولو كتب الله له فسحة في الأجل لعاش عيشة مقيدة بنظام. ولكنه كان مطلق هوى النفس كما هو شأن النوابغ، ولا شك في أن نعم الله الكثيرة قد حسبت عليه رحمه الله رحمة واسعة. (2)
أما وقد أشرنا بما يقتضيه المقام من الإيجاز إلى منزلتي «عبده» و«عثمان» فيجمل بنا تعميما لفائدة هذا المقال أن نتكلم على فن الغناء العربي كما هو الآن، ونبحث فيما إذا كان ينبغي أن يبقى كما استخلفنا عليه هذان الفقيدان، أو أن يعدل ويكيف بحيث يصبح أتم تأثيرا في النفوس وأصلح لأن يشربها ما هي في حاجة إليه من الخلال الشريفة والفضائل.
فالموسيقى فيما اشتهر من تعريفها إنما هي تأليف أصوات تحدث طربا في قلوب السامعين. والطرب قد يكون سرورا وقد يكون شجوا، ومعناه في الحقيقة الانفعال الذي تولده الأنغام في النفس أيا كان.
ومن أوصاف الموسيقى أنها في بناء الأصوات كفن العمارة في تشييد الأبنية وتأليف أجزائها والمناسبة بين رسومها ونقوشها وتقاطيعها وتحليلاتها، يسميه الإفرنج بموسيقى البناء على أن أساسها التناسب كما هو أساس كل فن نفيس، وهذا التناسب في الموسيقى يعرف اصطلاحا بالإيقاع، والإيقاع قديم قدم الموسيقى غير أن المغنين من العرب حصروه في نغمة نغمة مما يغنون. فكان في حقيقته مفضيا إلى الملل بخلاف الإفرنج فإنهم استخدموه وسيلة للتنقل من نغمة إلى نغمة، ولإعطاء كل نغمة جميع الرنات التي يتم بها طربها الناجم عنها بذاتها، أو باجتماعها مع سائر الأنغام التي يتألف منها الصوت.
ولا غرو أن يكون مغنونا على مثل هذا الجهل الذي أبقى الموسيقى العربية على حالها الفطرية، فإن شعراءنا - إلا بعضهم - وكتابنا - عدا القليل منهم - لا يزالون إلى الآن أرقاء الجناس، وعبيد مراعاة النظير، وخدمة السجع، وذباحي المعاني الجليلة، وناسخي الحقائق، وماسخي الصور الجميلة في الطبيعة، وجاحدي وجدانات النفس وانفعالات الحس ليقتدوا بأمة هم تركوا عاداتها وأخلاقها، وهجروا خيامها وصحاريها وأنكروا ملبسها ومأكلها ومشربها، ولم يحتفظوا بشيء من خلالها ومزاياها. ولم يستبقوا منها إلا النسبة إليها. فلا هم يحسنون تقليد أدبائها ولا هم ينتزعون من لغتها، لهم لغة خاصة فصيحة ذات أساليب ومصطلحات وألفاظ تمكنهم من التعبير عما يخالج ضمائرهم ويخامر نفوسهم بما ينطبق على الواقع ويكون صدى حقيقيا لما يشعرون به.
كتب إعرابي في صدر منظومة له «قفا نبك» فلم يستهل واحد منهم منظومة بعد ذلك إلا وهو واقف باك. ونظم آخر أبياتا كثيرة بروي واحد سميت قصيدة، فتبعه في ذلك في كل ناطق بالضاد من صحراء الجاهلية الأولى العريقة في الهمجية إلى ساحة المعرض العام بباريس في أجمع زمان لأسباب الحضارة، وكل كتب القصيدة على ذلك النمط. وذكر أحد ظرفائهم أن الأرجوزة حمار الشعر فلم يروا عقب ذلك أرجوزة إلا ولها أربع قوائم تمشي عليها. وهكذا هم يتقيدون بسلاسل التقليد. وكتاب اللغة الأجنبية يذهبون كل مذهب في اختراع التراكيب وابتداع الأساليب التي يظهر معها كل خفي ويتجسم كل روحاني، وتتمثل كل صورة، ويصور كل شعور، فهم أبناء عصرهم ونحن أبناء العصور الخالية. وهم يحيون بما ينظرونه ويحسونه. ونحن نحيا بما ننقله حتى في التصور والحس.
ومعلوم أن الموسيقى شقيقة للأدب مطبوعة على غراره فكيف كان الأدب تكون الموسيقى. وهي الآن منحطة في الشرق لأنه منحط، وانحطاطهما على قدر. فكلاهما يجب نقده وتنقيحه وإخراجه إلى ما تقضي به الحاجة الماسة. وإلا فأي مصلح للأمة يكون أقوى في البيان؟ وأي بيان يكون أشد وقعا في النفس من الذي توصله إليها النغمة وتمزجه بها مزجا؟
على أن الإصلاح الذي نبتغيه ميسور، إذ يكفينا أن نبدأ بتطبيق الموسيقى العربية على الموسيقى التركية تطبيقا تدريجيا إلى أن يألفها الذوق، وتوضع لها قواعد، وترسم علامات، ويغني الدور الواحد بنغمة واحدة وألفاظ واحدة في المنتديات وفي البيوت وفي الأسواق. فإذا وصلنا إلى هذه الدرجة انسقنا بحكم السير الطبيعي إلى ما هو أعلى فأعلى . وهكذا فعل الأتراك، إذ أخذوا عن الأروام الذين غناؤهم أقرب إلى الغناء الشرقي. فأصبحوا الآن ينشدون في ملاعبهم أجل الروايات الموسيقية الأجنبية بألفاظ تركية، وقد لا يمضي زمن حتى ينشئ بعضهم رواية موسيقية متقنة فيبلغون بها الغاية.
وكان المرحوم «عبده» قد شرع في نقل شيء عن الموسيقى التركية. ومنها أخذ الآهات الطويلة التي يصاعده فيها جمهور المغنين، وهي أحسن ما في غنائنا الآن. غير أنه لم يتسن له معين على إحداث الرموز التي هي أساس علم الموسيقى والتي بغيرها لا تكون الأنغام إلا فوضى. وأذكر أني شكوت إليه يوما هذا القصور وقلت له:إن الرموز الموسيقية موضوعة منذ نيف وخمسة آلاف سنة. وأنها أول ما رسمت في الهند وفي الصين. فمن المخجل أن تكون مصر سيدة الموسيقى في الشرق الآن ولا يستطاع إثبات لحن من ألحانها على صحيفة يعلم منها أخواننا القاصون أو أبناؤنا الآتون أي فن كان فننا في التلحين، وما كان «عبده» وكيف كان أسلوبه؟ وهل كان جديرا بالمحل الذي أحل فيه من إكرام الناس؟ فأجابني: أنه كان يود ذلك وأنه سعى ما سعى للوصول إليه فلم يفز بطائل، وأنه لم يجد واحدا في القطر يستطيع أن يعرفه معنى لحن من الألحان الأجنبية تركية كانت أو غير تركية. وأن كل ما حصله من مغنى الأتراك وأدخله في المغنى العربي كان سماعيا اجتهاديا رائده فيه موافقة الذوق المألوف، ومراعاة الإصلاح المعروف.
لا جرم أن عملا كهذا ليس مما يقوم به فرد أوعى صدره ما أوعى من المعارف الموسيقية المختلفة، وبلغت ثروته ما بلغت من السعة، وإنما هو عمل شركة أو جمعية تستقدم أساتذة من الأستانة لتخريج جمهور من ذوي الفطرة الموسيقية والأصوات الحسنة على مبادئ هذا الفن. وتعليمهم حقيقة مقصده وشرف غرضه، وتدريبهم على التأليف فيه كل بما يوحي إليه علمه وعقله وترشده إليه ملكته كما يفعل ذلك الذين يدربون على الإنشاء، ونتائج مثل هذا التدريس أبين من أن أطيل الكلام عليها فحسبي الإشارة.
أما إذا بقيت الموسيقى على ما هي عليه الآن فإنها بلا ريب تلذنا، ولكنها تمثلنا أبدا بأخلاق الرعاة الفوضى وإن كنا في أزياء المدنيين الحضريين؛ لأن هذه الأصوات الأنفية، وهذه الأنات المرضية، وهذه النفثات الصدرية لا تصدر عن بأس وحزم ولا تدل على شرف وعلم. (3)
بقي أن نصف كيف ينبغي أن تكون الموسيقى العربية ليحسن تصورها الذين يروعهم من الموسيقى الأفرنجية دوي الطبل وقعقعة النحاس وطنطنة المثلثات الحديدية، وخوار المعازف المعدنية، إلى ما يماثل ذلك مما يختلط على ذهن جاهله ويسوء وقعه في نفسه لعدم إدراك معناه. وإنما الموسيقى في إصطلاح الغربيين فن كالكتابة أو الرسم، سوى أنها تمثل لنا بالصوت ما يمثله لنا الإنشاء بالألفاظ التي تستثير في مخيلتنا تصور مقصوداتها، وما يمثله الرسم بالصور التي تنطبق على مرئياتنا.
وبدهي أن كلا من هذه الفنون لا يرينا مما يماثله إلا جانبا ويدع لنا الجانب الآخر نتممه بما نتخيله أو نعلمه أو نشعر به، فالكاتب إذا حدث عن عاصفة مثلا وصف لنا شمسا محمرة كالجمرة في كبد السماء يحيط بها قتام يغتالها إلى أن تنطفئ فيشمل الظلام ويكون مهيبا. ونشر سحائب سوداء كثيفة ترسل في الجو رعودا مليئة الدوي ثم صادعة، وبروقا ملطفة اللمعان ثم ساطعة، وأطلق ريحا هجوميا عاصفة تمر على البلد الموصوف فتهدم واهية مبانيه وتذري رماده وتجتث أشجاره العاتية وتصفع وجوه زجاجه بالبرد، وتجري بطرقه سيولا فإذا أبلغ السهول منتهاه وصف لنا في خلال هذه الروائع كلها طفلا يتيما هائما على وجهه، وقد لجأت الناس إلى مساكنها جزعا، وقد اطمأنت الأطفال بين أيدي آبائها وأمهاتها في مآمنها، وإنما يقف ذلك الطفل الصغير في ذلك الموقف الرهيب ليحرك في قلبنا وتر حنان، ورفق خلال، خفقان الهلع، وثورة الدهشة، فمن قرأ هذا الوصف رأى تكلح الشمس وأفولها وانتشار السحائب السوداء، ولمع الوميض المتتالي، وتقلع الأشجار، وتقوض الجدران على التوالي، وسمع زئير الرعد القاصف، وهدير السيل الجارف، وركض الزمهرير العاصف، وركوع البناء الواقف، ورأى في أثناء هذا الحادث الجلل دهشة ذلك اليتيم الخائف، وسمع خفقان قلبه الصغير الواجف، كأن ما قيل حاضر بين يديه وكأنه منه على كثب ينظره بعينيه ويسمعه بأذنيه مع أنه في الحقيقة لم ير ولم يسمع من ذلك شيئا. فالكاتب رمز له بما ينبه عنده هذه التصورات الشتى ويجمعها على الشكل الذي أحبه فتم له ما أراد على قدر مهارته.
وللألفاظ في بلاغ قصده رنة لا تنكر. وللتراكيب امتزاج بالنفس لا يجحد. ولأصوات الحروف لعب بالدماغ والقلب لا ريب فيه. ولكن كل هذا ليس إلا من المتممات. فإذا قدرنا بعد هذا أن رساما تولى تصوير هذا المشهد فغاية ما يستطيعه تمثيل قدة كالهلال من الشمس الحمراء في جهة الأفق. وتكديس طبقات من الغيوم القاتمة في صدر السماء. وتحدير سموط كنسج المنوال من المطر الغزير. وإقامة أمواج من الزبد في الطرق السائلة بالوحل والماء تلاطم من الحجارة أشباه أنياب العجوز الفلجاء، وإمالة حائط وصرع شجرة وتقصف أخرى، وتكسر زجاج، ووقفة طفل بالي الأطمار في موقف الحيرة والجزع بعينين نجلاوين وقد سالت منهما دمعتان. ولكن الرسام يرتب هذه الأجزاء ويحكم وضع كل معنى مقصود في اللون الذي يلونه حتى أنك لتسمع الرعد وأنت تنظر البرق، وتحس الدمار وأنت ترى آثاره، وتحس خفقان قلب الطفل وأنت ترى الانفعال البادي على وجهه والدمعتين المتسلسلتين من مقلتيه.
وصفوة القول إن الكتابة فن منبه للتصور والحس رمزا. وأن الرسم فن منبه لهما نظرا. فكان والحالة هذه لا بد من فن متمم لهذين الفنيين لينبه التصور والحس سمعا، وهذا ما بنيت عليه الموسيقى منذ بضع مئات من السنين في أوربا على اعتبار أنها فن نفيس مثلهما قابل لتأدية المعاني التي يؤديانها. وقد وصلت الآن في تلك البلاد إلى هذه الغاية. وأصبحت عاملا من أكبر عوامل تقدمها العجيب.
فلنصف الآن كيف نتخيل تمثيل الموسيقى للمشهد الذي ذكرناه آنفا، وإن لم نكن ممن لهم رأي في هذا الفن هنا أسأل الصديق الذي يقرأ هذه السطور أن يتخيل أنه أجاب دعوتي وصحبني إلى دار غناء لأريه بسمع أذنيه ما نظره في الرسم بعينيه. فنحن الآن إذن جالسان في تلك الدار على كرسيين متجاورين. وهذه أمامنا مجالس الضاربين والعازفين.
أنظر أيها الصديق أن عدد هؤلاء نحو المائة أمام كل منهم دفتر فيه رموز الأصوات التي ينبغي أن يحدثها في الأوقات المعينة له. وهذا كل ما عليه. وعلى الأستاذ الذي فوق المنصة أن يتنبه لعامة الترتيب ويمنع الشذوذ، اجمع حواسك الآن واصغ بكليتك فقد أشار الأستاذ بأن يبدءوا.
ماذا تمثل لك هذه السحابة من النغمات التي تخرج من الأوتار مضطربة سريعة مبتدئة من القرار؟ أليس هذا أول تنهد الريح المنذرة بالهجوم؟ أو ليس فيها ما يشعر ببرد الزمهرير؟ أتسمع كيف تترقى صاعدة متدافقة كأنها علت فوق الأرض ذاهبة في الجو كلما جازت شوطا زادت قوة واتساعا إلى أن تتخيلها بلغت السحاب؟ هذا تنبيه يسمو بالفكر على مثل البساط الروحاني ليوصله إلى الأفق الأعلى ويشهده حادثا جليلا فقد دنت الغيوم من الشمس فاغرة فاها، وانضمت أصوات المعازف النحاسية إلى نغمات الأوتار وعلت الصيحة إلى منتهاها. حتى إذا غال السحاب الضاري جانبا من الشمس وأدماها بأنيابه صكت الصنوج هذه الصكة الفجائية المنكرة التي ختمت بها حكاية الحال، فكأن الشمس قد انشقت كالقطعة المحمية من النحاس الرنان، وكأنها انشطرت شطرين وتوارت بالحجاب. وبعد هذا تأمل كيف تراجعت أصوات تلك الصيحة هابطة تدريجا إلى أن انقطع خوار المعازف، واستقلت رنات الأوتار تنحدر كرش المطر في أول انهماره.
إلى هذا المقام انتهت الإنذارات.
أنظر كيف أخذ جمهور النغمات يخرج من عامة الآلات متموجا تموجا ثقيلا كأول تحرك البحر ليهيج. أتسمع انسكاب الوبل الشديد، وتدفق الميازيب، وعصفات الريح الطويلة التي تبدأ مثل أرنان النادبة وتنتهي مثل غمغمة الأسد الجائع الذي جلس يأكل فريسته؟ أتسمع قرع الحجارة تحت السيول؟ أتسمع تقصف الأشجار المتكسرة؟ أتسمع وقوع الصخور وتهدم الجدران يشمل كل ذلك دوي الرعد الذي يحدثه الطبل ويفزعه الصدى، إلى عدة رعود صغيرة متتالية يحدثها الطبلان الصغيران تحت النقر السريع المتتابع. أليس لكل صوت من أصوات هذه العاصفة ما يحاكيه إما في آلة أو في جمع صوتي آلتين على ترتيب معلوم؟ ألم ترتسم البرق خلال غضب الرعد، ورسم الشجرة الواقعة خلال تقصفها وهي تتكسر على متانة بها؟ أو لم تر نواصي السيول وأعرافها البيضاء خلال وكفها وتهورها وصعودها وتحدرها. هذا منتهى ما يكون هول العاصفة.
اسمع الآن كيف أخذت هذه العناصر الجمة تتناوب مراوحا بين بعضها والبعض. السر في ذلك من جهة أن يستبقي في النفوس شعور باستمرار العاصفة وقد تراخت قليلا بعد الشدة كما هو شأن العواصف، ومن جهة أخرى التمهيد لأسماع الناس أنه ذلك اليتيم في حيرته وخوفه. هذه أنة اليتيم تنطلق من أوتار ذلك العود الضخم القائم كالأمير بين الآلات كأنه سرير داود بين أسرة الملوك في زمانه. أتشعر بما فيها من لذة وحنان؟ ألست مدركا من نفسك أنها زفير طفل حزين؟ أما في هذه الآونة عثرات أشبه بعثرات قدم الطفل المتحير في خفتها وعدم انتظامها؟ ولكن هنا انقطعت النغمة اللطيفة وعاد الإنذار بالهول. سيستأنف جميع ما سمعته من الصيحات والجلبة، غير أنه ملطف كأنه مسموع عن بعد ومن وراء حجاب كثيف. ولم هذا؟ لأن ما يستأنف ليس أصوات العاصفة بالذات بل صداها في دماغ ذلك اليتيم المروع الضعيف.
هذا بيان واحد من ألف من الأمور التي تصلح لها الموسيقى، ويكون موقعها من النفوس بها كموقعها من النفوس بالرسم والكتابة. ومن المعاني ما يكون تأثيره بالموسيقى أشد وأمتن، على أن لكل من هذه الفنون مزيته التي لا تجحد في تنشيط العزم وإزالة الملل. فإن المرء بسمعه وبصره لا بأحدهما.
فإلى هذه الغاية الشريفة من إصلاح فن الموسيقى ينبغي أن تتجه الرغائب العامة في مصر فإن «عبده» كان خير مغن لزمانه، وعهده عهد صبابة ورخاء. أما نحن فإن أردنا النهضة من الحطة التي نحن فيها فينبغي لنا مغن ينهض عزائمنا الخائرة ويرفع أبصارنا إلى السماء.
الفصل الخامس عشر
عبده الحمولي وفنه
لحضرة العلامة المفضال صاحب الفضيلة الشيخ: مصطفى عبد الرازق، الأستاذ بكلية الآداب بالجامعة المصرية
رغب إلي الفاضل الأديب قسطندي أفندي رزق أن أكتب له كلمة في حياة عبده الحمولي وفنه. وجه إلي هذه الرغبة في رسالة يقول فيها «إنه وفق إلى تصنيف كتاب في الموسيقى الشرقية والغناء العربي وحياة عبده الحمولي، وفي الكتاب بحوث وآراء الفحول الموسيقيين وفطاحل الشعراء والأدباء، ومعارضات في التجديد والتطور اللذين أوشكا أن يجهزوا على الرمق الباقي من الموسيقى الشرقية، وما لها من سحر وتأثير في النفوس».
ويتلطف قسطندي أفندي رزق فيقول «ولما كنتم معاصرين لغريد الشرق الذي لا تفتح العين على مثله، ولا تضنون أبدا في ضم يدكم إلى يدي الضعيفة لتشاطروني الأجر عند الله وحسن الأحدوثة لدى الناس لقيامي بالواجب نحو الأفذاذ الراحلين المصريين الذين أخذت على عاتقي القيام بتخليد ذكراهم ... أرجوكم أن تحضروا لي كلمة عن الفقيد، وعما إذا كنتم من أنصار موسيقاه العربية الساحرة لأدرجها ضمن كتابي».
وكان المعقول أن ألتمس سبيلا للخلاص من مزاحمة فحول الموسيقيين وفطاحل الأدباء والشعراء، ولي العذر بأنني لست موسيقيا، ولم أسمع عبده الحمولي مغنيا قط إلا ما حفظه الحاكي من بعض أدواره الشجية. لكن قسطندي أفندي زارني ليبين لي رغبته شفاها، فلقيت منه رجلا مخلصا للموسيقى العربية مخلصا في حب عبده الحمولي أمام الموسيقى العربية في القرن التاسع عشر مخلصا في معارضة كل تجديد يذهب بسحر الموسيقى الشرقية ويبطل مميزاتها.
وما يكون لي أن ألقى هذا الإخلاص كله بغير التلبية والتشجيع في زمن قلما تجد فيه عاملا مخلصا.
وإني وإن كنت غير موسيقي فإني أحب الموسيقى بفطرتي حبا جما، وقد حاولت في عهد الشباب مرة أن أتعلم بعض الموسيقى فلم يسعدني الفراغ بل لم يسعدني فراغ للإكثار من سماع الموسيقى، لكنني ظللت دائما محبا لهذا الفن الجميل، بل ظللت متتبعا ما يمر به من أطوار التجديد في بلادنا.
وأحب أنواع الموسيقى إلي أبطسها وأسرعها تأثيرا في العواطف، وعندي أن الموسيقى متعة للنفس وراحة للخاطر المكدود فإذا تعقدت ألحانها وأصبح تأليفها عويصا يحتاج في إدراك مراميه إلى كد الذهن وفرط التأمل فقد خرجت الموسيقى عن حدودها واتجهت إلى غير وجهتها.
ليس أفضل الموسيقى عندي ما انطبق على قواعد الفن، فلم يدركه شذوذ ولم يخالف قانونا من قوانين الصناعة لأنني لا أعرف هذه القوانين ولا أستطيع أن أميز الألحان التي تراعيها من الألحان التي تجاوزها، ولكنني أحس لبعض الأنغام بطرب لا أحس به لسائرها، وأذكر أنني سمعت بعض المغنين العصريين في بداية عهدهم يوم كان الفن لم يقيدهم تقييدا ولم يحطهم بالسلاسل من قواعده والأغلال، فكنت يومئذ معجبا بهم كل الإعجاب وكان أشد إعجابي بهم حين تثور عاطفة من عواطفهم عند الإنشاد فتسمو بألحانهم وأنغامهم صعدا إلى ما وراء القواعد الفنية. ولما سمعت هؤلاء المغنين بعد أن حذقوا الفن وأتقنوا أصوله وأصبحوا لا يسيرون في أغانيهم إلا على صراط ممدود، أصبحت آسف على تلك الوثبات التي كانت تطير بهم وتطير بنا معهم إلى آفاق لا تعرف الحدود.
قد يكون بحكم الإلف ما يروقني من الألحان الشرقية أكثر مما يروقني من غيرها، لكنني كثيرا ما يذهب بي الطرب إلى غايته عند سماع قطع موسيقية أوربية؛ ففي الموسيقى الغربية كما في الموسيقى الشرقية أنغام إنسانية من شأنها أن تهز العواطف البشرية هزا عنيفا، أو ترد العواطف الهائجة إلى هدوء مريح. والموسيقي العبقري هو الذي يستطيع بموهبته أن يهتدي إلى هذه الأنغام فيؤلف منها نظما متسقا يحدث أثره الموسيقي البليغ في نفوس البشر جميعا.
ويخيل إلي أن عبده الحمولي كان عبقريا من هذا الطراز فهو قد استخلص من الأغاني المصرية التي كانت معروفة لعهده كل ما يصلح أن يكون لحنا موسيقيا إنسانيا، وألف من ذلك على قلته أغاني نقل بعضها من أناشيد الخلود، واقتبس عبده الحمولي مما وصل إليه من أغاني الأتراك ما يلائم مذهبه، فجمع ألحانا إنسانية أيضا لم يتناولها تقليدا ولكنه نفذ إلى أعماقها وصقلها بذوقه وفنه صقلا حتى تماثلت بما تم له من الألحان المصرية، وألف من هذا وذاك ترانيم بهرت ذوق الترك والعرب، ولو أن عبده الحمولي عرف الموسيقى الغربية لاستخلص منها أيضا أبعدها عن التعقيد والتكليف وأدناها أن يكون غذاء للروح الإنساني، وراحة ونعيما، ثم لسلط عبقريته على تلك الخلاصة، فلم تدع فيها شذوذا ينبو عن ملاءمة ما تم له من التأليف بين الموسيقى المصرية والموسيقى التركية، ثم لألف بعد ذلك من موسيقى الشرق وموسيقى الغرب تلك الموسيقى الإنسانية التي تهفو إليها الفطر في الناس جميعا ولا تهتدي إليها سبيلا.
هذا النزوع إلى إيجاد موسيقى إنسانية تجتمع الأذواق كلها على الإعجاب بها والشعور بجمالها على أساس ما أبقت الأيام في طيات الموسيقى المصرية والذوق المصري من آثار الحضارات الماضية والعصور الخوالي هو رسالة عبده الحمولي النبيلة التي أدى بعضها وترك للأعقاب أن يتموها.
وكان عبده الحمولي نبيلا في مذهبه الفني كما كان نبيلا في أخلاقه وشمائله، وفي سيرته بين الناس، وإنك لتدرك النبل في جوهر صوته وفي كيفية أدائه واختباره للأنغام وتأليفه بين الألحان. كان يتسامى بفنه عن التبذل والتكلف فلا ينحدر في غنائه إلى مثل التكسر في النبرات المائعة الذليلة. «ومن أكبر الأدلة على استعداده شدة طربه من الغناء كأنه كان يغني ليطرب نفسه. وشغف المرء بصناعته وتلذذه بممارستها يدلان على انطباعه عليها واقتداره على إتقانها».
هذا ما يقوله جرجي زيدان في تراجم مشاهير الشرق وأين ممن يغني ليطرب نفسه؟
أولئك الذين إذا تغنوا في محفل بصبصت عيونهم يمينا وشمالا، وتمايلت أخادعهم صيدا ودلالا، وتصنعوا العبوس تارة، ثم تصنعوا الابتسام كأنما كل جهدهم مصروف إلى إلهاء الناس بتقلبات سحنهم وحركات جسومهم، وكأنما كل هم سامعيهم أن يتلقفوا من ثغورهم بسمة طائرة أو يغنموا من عيونهم لمحة راضية أو يروا في تزايل أعضائهم وضعا معجبا.
لم يكن كذلك عبده الحمولي الذي كان إذا شدا توجهت نفسه إلى الفن وحده، يريد أن تستوفي الصناعة حقها، وأن تبرز الألحان مستكملة جمالها فإذا استوت له القطعة الموسيقية البارعة كان أول مدرك لسحرها وروعتها وأول مستمتع بلذتها وبهجتها.
فليس يستجدي من الناس إعجابهم، ولكنه يرى من البر بالناس أن يمتعهم بهذه اللذة الفائقة، وأن يشركهم في تلك السعادة العالية.
عاش عبده الحمولي حياة كريمة نبيلة فلما مات مات أيضا موتا نبيلا كريما تجلى فيه نسيانه نفسه في سبيل المروءة والوفاء.
ورد في تراجم مشاهير الشرق في القرن التاسع عشر نقلا عن جريدة: «مصباح الشرق» أن عبده الحمولي أصيب في آخر عمره بذات الرئة، وتراكمت عليه هموم الحياة «ودخل من داء السل في الدرجة التي لا يرجى منها شفاء، وأشار عليه الأطباء بسكنى الصعيد مدة الشتاء؛ فأقام في سوهاج شهرين ونصفا عادت له في أثنائها بعض قوته، وتقوى أمله في شفائه، ولم يدرك المرحوم كنه دائه إلا في اليوم الذي مات في غده. ثم عجل العودة إلى مصر ليشتغل بوضع غنائه في اسطوانات الفنوغرافات طلبا للعيش، ولما حضر باشر ذلك فعلا ثم جاءه نعي أحد أصدقائه المخلصين بالمنيا فاغتم غما شديدا، ولم يسمع لنصيحة أصحابه بل خالفهم لقضاء ما توجبه عليه مروءته، وسافر إلى تلك المدينة وأقام هناك أياما ولما عاد عاد باشتداد المرض عليه حتى أدركته منيته».
وإذا كان ذكر الفتى عمره الثاني فإن ذكر عبده الحمولي لا يزال بعد موته مثال النبل والكرم.
والذين يحيون اليوم وبعد اليوم تذكار الحمولي إنما ينشرون صفحات من آيات العبقرية ومكارم الأخلاق ليوجهوا الإصلاح الموسيقي في بلادنا وجهة صالحة ويضربوا لأهل الفن ولغير أهل الفن مثلا في المروءة وفي عرفان المرء لكرامة نفسه، وكرامة الفن الذي يمارسه وعبده الحمولي ممن يصدق فيهم قول أبي العلاء:
جمال ذي الأرض كانوا في الحياة وهم
بعد الممات جمال الكتب والسير
الفصل السادس عشر
كلمة الدكتور عبد الرحمن شهبندر
الزعيم السوري الكبير
لا أكاد أعرف من الموسيقى إلا أنها ضربان، ضرب يثير الطرب، وضرب يدعو إلى الاشمئزاز، لذلك لا أرى نظرا لمعرفتي هذه كبير فائدة من المجادلة في شأن الموسيقى العربية أهي متقدمة أم متأخرة لأنني ما دمت أطرب منها كما يطرب غيري من أبناء العرب الذين يسمعونها فهي موسيقى تؤدي وظيفتها، ألم يقولوا كذلك عن اللغة العربية أنها ضعيفة لا تصلح للتعبير عن النهضة الحاضرة فكذبتهم المجلات العربية والصحف العربية والكتب العربية؟ وهل أدل على حياتها من أنها أصبحت لغة الثقافة في هذا العالم العربي الشاسع الناهض؟
على أنني لا أنكر أبدا أن الملحنين العرب لم يجاروا النهضة إجماعا في بلدان العرب، فهم يحتفظون بما خلفه لهم الآباء والجدود المتأخرون من ذكريات آلام وأحزان تدل عليها تلك الأنات والآهات المتكررة، وغير ذلك من الألفاظ والألحان الحافلة بمعاني الانكسار والخضوع وزوال النشوة وعزة النفس، وإذا جاز لمثل هذه الألحان أن تأخذ بمجامع القلوب فيعصر التشاؤم الوضيع فهي تدعو إلى الملل والضجر والسآمة في عصر النهضة الطامحة.
الزعيم السوري الدكتور عبد الرحمن شهبندر.
والموسيقى مثل الشاعر والمصور وسائر الفنانين مدره يعبر عما يخالج صدور الناس من هواجس وانفعالات فعلية أن يماشي العصر الذي يعيش فيه، والتطور الذي يحيط بكل شيء حتى بالتخت الذي يغني عليه. فكما أننا لم يعد يلذنا كثيرا هذا التذلل والترامي على أقدام الأحبة، وتقبيل نعال الخيل التي تحملهم، كذلك لا تروقنا اليوم العبرات والحسرات من غدر الزمان، وقوارع الحدثان، بل إننا أحوج ما نكون إلى من يفصح عما في قلوبنا من غليان، ويدل على ما في نفوسنا من تحفز، ويترجم عما في عزيمتنا من قوة. لذلك لا أخطئ أبدا إذا ما قلت إن الموسيقي الذي ستنصت له الآذان وتنفتح له القلوب هو الذي يعبر عن الانقلاب الاجتماعي السياسي الخطير في بلادنا، وعما يحدث في قرارات نفوسنا من التبدل الكبير. وليقل المحافظون والمجددون ما شاءوا أن يقولوا فإن المهم الذي يجب أن يصرح به على رؤوس الأشهاد ومن غير محاباة هو أن هذه المواليا النمطية المملة، وما تبتدئ به من النداء «يا ليل»، وهذا التكرار الثقيل السقيم الذي يكرره المغني للكلمة التي يتمسك بها، وهذا التسكع والتشاؤم كله سيحول أنظار النشء الحديث عن التخت العربي، ويرغبه عن سماع المغنين العرب ما لم نعتمد في موسيقانا على تلك العناصر التي تعيد إلى القلوب ثقتها، وإلى النفوس نشوتها، وإلى العضلات قوتها ووثبتها.
وقد يكون من المستحسن أن يسمع المرء في حفلة كاملة لحنا واحدا محزنا، وقد يكون من الجائز أن يسمع لحنين اثنين، ولكن أن يقضي الحفلة كلها في نواح وبكاء ورجيع فهذا أليق بنصب المآتم وزيارة المقابر. ويعجبني كثيرا أن يقول الأستاذ: قسطندي رزق في «عبده الحمولي» إنه كان يضع نصب عينيه الفرح والابتسام فلا يغني من الأدوار إلا ما أثار البهجة والحبور.
إن معاجم لغتنا اليومية قد اتسعت وتعدلت وتحولت حتى أصبحت تستوعب ألوفا من الألفاظ الدالة على المعاني العلمية والفلسفية الحديثة، وهكذا موسيقانا فإنها ستتسع وتتعدل وتتحول حتى تستوعب تلك الهواجس التي تجول في أفئدتنا والثورات التي تغلي في نفوسنا، والانقلابات التي تشب في مداركنا، وإننا وقد صممنا على الحياة فلا بد لنا من تكييف أنفسنا وأوضاعنا وعلومنا وفنوننا بحسب حاجاتنا، والحاجة أم الاختراع.
المؤلف - كل واحد منا يعرف من هو الدكتور: شهبندر وماله من قدم سابقة في قضية استقلال سوريا والبلاد العربية وما بذل من مجهود، وتحمل من مشاق واضطهاد في سبيل الوطن الذي تحفزه همته إلى حماية حوزته باتحاد الوجهة، واجتماع الكلمة، وتعليقا على كلمته البليغة في باب الموسيقى التي لأجلها أملأ فمي بحمده الجزيل أقول إن وزارتنا الماهرية الجليلة قد عنيت ببث روح الشجاعة وعزة النفس والكرامة الشخصية في النشء الحديث تمشيا مع النهضة القومية في هذا العصر إسوة بالأمم المتمدنة، وقررت عمل مباراة في نظم وتلحين نشيد قومي كنشيد ألمانيا مثلا القائل «ألمانيا فوق الجميع» الغرض منه أن ينشأ المصري حرا مستقلا ووطنيا أمينا ورجلا صادقا يضطلع بأعباء مهمات بلاده، وقد أصاب حضرة الدكتور المشار إليه كبد الحقيقة بقوله إن الموسيقب كالشاعر والمصور وسائر الفنانين مدره يعبر عن عواطف الأمة، وعما تصبو إليه من رغائب وآمال، ويدلنا على ما بنا من نقص وضعف عزيمة، وحسبي من هذه الوجهة أني قد وجدت في أغاني غريد الشرق «عبده الحمولي» غضبة في الله، ولله انتصارا للحق وأربابه جماعات ووحدانا ونبلا وجذلا وسعادة وعفة وفروسية ومروءة ووفاء فاستطاع بقلبه وصوته أن يدلنا على مناهج الشفاء من الداء ذهابا إلى ما جاء بحديث المصطفى
صلى الله عليه وسلم
القائل «من رأى منكم منكرا فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه» فما بال المطربين المجددين لا ينسجون على منواله ولا يستنون بسنته؟ إن ذلك لأمر غريب فإنهم لم يقتصروا على أن كسوا أغانيهم التجديدية لباسا من الهجنة لا يرجع إلى ترتيب، ولا يجري على شيء من التناسب الذي هو قاعدة الجمال بل بثوا في النشء روح الذل والإنكار والكآبة كأنهم يبكون بكاء الخنساء على صخر، متصنعين الحب وهم مذاعون يأخذون صديقهم أخذا عنيفا حتى ماتت في النشء ملكة البحث والنظر، وكادوا يتفادون من كل ما فيه بأس وعزة، فلينشأ المصري حرا يرضع البأس وقت رضيع الحليب، ويسمع نشيدا قوميا فيشرب حب وطنه ويحمي حوزته؛ لأن الطفل أبو الإنسان وهو يسد المخلوقات «وفي أنفسكم أفلا تبصرون».
الفصل السابع عشر
لمحة عامة في الموسيقى
بقلم نيافة المطران: كيرلس رزق
لما كان مؤتمر الموسيقى على أهبة الانعقاد بمصر بإيعاز من حضرة صاحب الجلالة الملك فؤاد الأول المعظم حامي العلوم والفنون الجميلة، وعناية الحكومة المصرية النشيطة، رأيت أن ألقي دلوي في الدلاء؛ لمزاولتي الأنغام الكنسية واطلاعي على أنواع الأنغام الشرقية العربية المدنية؛ لعلي أؤدي بعض الفائدة لهذا الفن الجميل فيما يدور بحث المؤتمر عليه فأقول:
اختلفت الأقوال في أصل الموسيقى ومبادئها عند الأمم وأنا لا أجزم بأصح الأقوال لغموض الأمر. واختلفوا في تحديدها، فقال بعضهم إنها كل حركة واهتزازات في الطبيعة كحركة الأشجار والنبات وما أشبه، وقال البعض الآخر إنها من الأصوات الطبيعية الإنسانية إلى غير ذلك من الأقوال. وقد قال ذلك غير واحد من علماء الموسيقى «أن تحديد الموسيقى الصحيح هو فن التأثير في النفس، ويتم ذلك كله بتأليف أصوات تلذنا فتثير فينا هذه العواطف المختلفة من أول وهلة فيصل تأثير الموسيقى إلى النفس مباشرة، فيجب والحالة هذه أن تسمى الموسيقى لغة النفس».
والذي ينظم نغمة موسيقية فإنما ينظمها على مثال ما يشعر به في نفسه من العواطف، ففن الموسيقى يفترق جوهريا عن سائر الفنون كالتصوير مثلا فإنه خاضع للإصلاح مرارا تحت نظر الرسام، وليست الموسيقى كذلك في إنشاء التأثير مع خضوعها للمؤلف في إصلاح بعض التراكيب الصوتية إذا كان مخالفا لمبادئ الفن، أما الشعر فهو أقرب ما يكون إلى الموسيقى لصدوره عن النفس، ولكنه يفارقها بكونه خاضعا لروية العقل، ولإصلاح لغوي منطبق على وزن خاص.
أما تاريخ الموسيقى فغير محدود بعصر من العصور، بل هو تاريخ الإنسانية نفسها، وكانت الشعوب القديمة تقدرها حق قدرها، فالهنود نسبوها لإلههم برهم، والمصريون لأوزيريس مخترع المعرفة وهرمس موجد العود. وكان اليونانيون يلقنونها لأولادهم في المدارس وخارجها ويمنعونها عن العبيد، وأن الحيوانات الضارية نفسها كانت تستأنس بها. وقد عد قدماء اليونانيين أول موسيقي العالم، وأحصى كبار الموسيقيين عندهم بين آلهتهم، وامتزج فن الموسيقى بفن النظم في بلاد اليونان فاعتبروا هوميروس شاعرا وموسيقيا وكان يغني منظوماته أمام الأبواب. ومن لفظة موسا اليونانية وهي إلاهة الشعر اشتقت الموسيقى.
نيافة المطران كيرلس رزق.
وكان عند العبرانيين أثر كبير لهذا الفن يتأكده من تصفح التاريخ المقدس وقس سائر الشعوب على ما ذكرناه. وأن ما أوردناه هو توطئة للكلام على الموسيقى العربية التي نرمي إلى الكلام عنها اشتراكا في أغراض المؤتمر الذي سيعقد في القاهرة بشأنها.
نقول إن العرب لم يكونوا أقل ميلا إلى الموسيقى من غيرهم من الأمم، وكانوا يتغنون بأشعارهم لمقاصد جمة أخصها إثارة الحماسة في المتحاربين. ولما اختلطوا بالأمم الأخرى بعد الإسلام وتأسست دولهم اقتبس الخلفاء من رعاياهم الجدد أفضل ما عندهم من الأنغام الموسيقية، فاختلط بالأنغام العربية الأصلية، ففاقت بعد التنظيم سائر أنواع الموسيقى عند بقية الشعوب، وزادت شهرتها وتأثيرها في عهد العباسيين، ولا سيما عهد هارون الرشيد، وكانت أكثر القصائد تنشد. وكان عند العرب والفرس حتى اليوم سبع أنغام أصلية، وضعوها على أسماء السيارات، وهي الرست والدوكا والسيكا والشركا والنوى والحسيني والعجم ويضاف إليها الحجاز، ومن هذه الأنغام اشتقت عدة فروع تقارب التسعين، ولها ديوان (سلم) يتألف من جملة مقامات، وإذا قابلنا الموسيقى العربية بالأفرنجية من حيث الشعور باللذة والتأثير في المجموع العصبي وجدنا العربية أشد تأثيرا ولذة. ولقائل أن يقول ولماذا لا يتذوق الإفرنج الموسيقى العربية فالجواب على ذلك هو: أولا لأن ليس في موسيقاهم ما في الموسيقى العربية من التقاسيم الدقيقة للمقام ولم يتعودوها. وثانيا وأن لكل أمة عادات وأمزجة وأميالا تختلف عن الأخرى، ولكن متى ألفت سماع الموسيقى عند أمة أخرى تكررا ينتهي بها الحال إلى أن تجدها لذيذة. ومما يثبت هذه النظرية هو أن الحكومة الفرنسية أرسلت بعثة موسيقية في أواسط القرن الماضي إلى الشرق للدرس، فمرت في أثينا ومصر، وبعد المراقبة وصلت إلى النتيجة التي ذكرناها، وقد لبث أعضاؤها أكثر من شهرين في مصر سمعوا في أثنائهما الموسيقى والمغنين غير مرة، وأخيرا صاروا يلتذون بالموسيقى العربية وفضلوها على موسيقاهم بعد ما كانوا يتأففون في بدء الأمر من سماعها، فضلا عن أن الأوتار العربية أكثر حساسية من أوتارهم المعدنية. ولا بد للوصول إلى ذلك من مراعاة عدة أمور أخصها اتفاق أصول النغم عند الغناء أو الترتيل، ومراعاة الضرب الخفيف والثقيل، وتطبيق المعنى على النغمة، وحسن النطق اللفظي، وتكييف النغمات لئلا تمل السامع إذا بقيت على وتيرة واحدة، بشرط الانتقال بمهارة من نغمة إلى أخرى، والعودة إلى النغم الأساسي من دون أن يشعر السامع بمفاجأة. على أنه لا ينبغي أن يستنتج مما تقدم أن الموسيقى العربية بلغت حد الكمال، أو أنها تفضل الموسيقى الأوروبية في كل شيء، فلا بد من ذكر الفوارق بينهما من هذا القبيل والنواقص الواجب تلافيها بمناسبة انعقاد المؤتمر:
أولا:
أن الموسيقى العربية بحالتها الراهنة لم ترتق إسوة بسائر الفنون فإن تحسنها ضئيل من قرن مضى حتى الآن. والرقي واجب لكل شيء مسايرة للحركة العامة بخلاف الموسيقى الإفرنجية الدائبة على التحسن.
ثانيا:
أنها محرومة الهرمونيا أو المساوقة، وهو جزء مهم في الفن بخلاف الإفرنجية البالغة فيها حد الإعجاز، ولا شك في أن الهرومونيا أقدر من السنفمونيا، أو اتفاق الأصوات، على إثارة عواطف الحماسة والإقدام ونحوهما.
ثالثا:
ينقص الموسيقى العربية علامات للديوان ترتبط بها بحيث يستطيع أي موسيقى عند النظر إليها التغني بها أو ضربها على الآلة من دون أن يسمعها من غيره، ويسهل على الطالب تناول الفن واكتساب جزء من وقته الضائع الآن سدى، ويحفظ للمبرزين في الفن منظوماتهم الفنية بعد الوفاة.
فليبتدع الموسيقيون الشرقيون العلامات الموسيقية كما ابتدعها موسيقيو الغرب واليونان الشرقيون.
رابعا:
وإذا اخترعوا تلك العلامات واستفادوا من ميزان الموسيقى الإفرنجية الراقية أمورا جديدة فليحتفظوا بالفارق بينهما؛ لكي لا يختلط النغم بين عربي وأفرنجي؛ وإلا خسرت الموسيقى العربية استقلالها النوعي وميزتها وابتلعتها الأوربية.
خامسا:
أن القطع التي نظمها فنيا أصحاب الكفاءات الموسيقية للإنشاد والغناء، يجب أن تسمو بلفظها ومعانيها الأنيقة؛ لتستطيع العذراء أن تنشدها في خدرها، وأن يتناول النظم شتى الموضوعات الدينية والأدبية والحماسية والوطنية والأخلاقية وما أشبه ذلك، فإن ما تعاب به موسيقانا اليوم هو اقتصارها على الغزل واستعمال الألفاظ والمعاني المبتذلة في عموم الأغاني، فلا تساعد والحالة هذه على رقي الأخلاق والتربية الاجتماعية ولا سيما على إسماعها للفتيات.
هذا ما توخيت نشره بالإيجاز في هذه العجالة عن الموسيقى عموما والموسيقى العربية خصوصا غير متعرض للبحث عن آلاتها المشهورة. ويحسن بنا قبل الختام أن نستنتج من بحثنا هذا النتائج التالية:
أولا:
إن الموسيقى مصدرها النفس البشرية.
ثانيا:
إن تاريخها من هذه الوجهة هو تاريخ البشرية نفسها.
ثالثا:
إنها على وحدة مصدرها متباينة عند كل الشعوب تبعا لاختلاف الميول والأذواق واللغات.
رابعا:
إن اليونان أشهر الأقدمين الذين اشتغلوا فيها.
خامسا:
بلغت الموسيقى الحديثة عند الأوربيين طورا فائقا ولا سيما في الآلات.
سادسا:
بطلان الزعم بعدم حسن الموسيقى العربية ولذتها، بل ثبوت مزاياها العجيبة في دقة الشعور وقوة التأثير في من يألفها ولو كان غريبا عنها.
هذا ولا أتعرض لموسيقى الكنسية الشرقية، ولا سيما اليونانية منها المستعملة في طقس كنيستنا لخروجها أيضا عن أبحاث المؤتمر أساسا. وإني أدعو بنجاح المؤتمر لتزداد مصر رقيا في عهد حضرة صاحب الجلالة فؤاد الأول مليكها المعظم ذي الأيادي البيضاء على كل المشروعات التي تمت في عهد ملكه السعيد حفظه الله ذخرا للبلاد والعباد والسلام.
الفصل الثامن عشر
فذلكة عن الغناء العربي
للأستاذ: محمود فؤاد الجبالي السكرتير بمجلس النواب سابقا
صديقي: قسطندي أفندي رزق
أتذكر في ليلة السمر الحلو التي دعوتني إليها في منزلك أننا رجعنا بالحديث الشهي إلى ذكريات الماضي الجميل، وأخذنا ننشر من الثناء حللا على بعض رجال الغناء العربي الذين أضافوا إلى شهرتهم في الفن، شهرة تستحق الحمد في المروءة، والكرم، ومؤاساة الفقير بالبذل والعطاء عندما يعوزه النصير، وكان من أوائلهم، بل كان جماع الفضائل، ومصدر المحامد المرحوم: عبده الحمولي ذلك الرجل الذي نهضت بذكره، والإشادة بمحاسنه، وبذلت جهدا ومآلا عن طواعية لإحياء مآثره بعد أن كاد الزمن يعفي على آثاره خصوصا في هذا العصر الذي انبرت فيه طائفة من المولعين بما يسمونه التجديد في الغناء، فيعمدون لي مزج الغناء الشرقي بالغناء الغربي، ثم يخرجون للناس نغمات لا تمت إلى الشرق بصلة، ولا إلى الغرب بنسب، وبذلك أضاعوا المقامات التي تعب السلف في تركيزها، وأتبعوا طرقا فيها الكثير من العثرات. أتذكر ذلك يا صديقي؟ ثم تذكر أنك تمنيت لو أن أحد رجال الفقه الإسلامي ممن بلغوا شأوا بعيدا في الثقافة العربية كتب جملة صالحة في الغناء العربي من الوجهة الدينية، وسماع آلات العزف في محافل السرور والفرح. وهل هي مما تحرمه الشريعة السمحة أم تحلله؟
الأستاذ محمود فؤاد الجبالي.
وطلبت إلي أن أتصل بأحد شيوخ العلم من أصدقائي الذين عبد الله لهم سبل الفهم، ووصلوا في معرفة دقائق اللغة إلى لبها، فاكتسبوا شرفا بغوصهم على المعاني الدقيقة التي تفيض بها صحائف الكتاب الكريم والسنة، وتعتز بها كتب التاريخ والسير، فأقول لك إنني اتصلت بالكثير منهم فلم يجدوا في وقتهم متسعا لخوض هذا البحث لما تكتنفهم من ظروف، وما يحيط بهم من ملابسات تستلزم العجلة فيما هم مقبلون عليه.
لهذا السبب رأيت أن أرجع - على قلة بضاعتي - إلى كتب السير تحقيقا لغرضك، وإتماما لبحثك ليخرج كتابك للناس في المرحوم: عبده الحمولي شاملا للكثير الممتع من الحقائق، حاويا لبعض النوادر التي وقعت للسلف الصالح في الصدر الأول في الغناء، وسماع الآلات، أيام كان الدين غضا، وكان رجاله يقيمون بقلوبهم بناءه، ويبذلون الأرواح رخيصة لتشييد صرحه، بل كانوا يخافون الله في الشبهة. فإذا وقعت لأحدهم في عمل جعلوا من الكتاب الكريم حكما، ومن السنة الصحيحة موئلا، واعتصموا جميعا بحبل الله في أمره. ولم تصرفهم الحروب والغزوات عن أن يعلوا منار التشريع في الخطير والحقير من الأمور حذرا من أن يميل بين أيديهم اللواء المعقود، ويبدد عقد الشمل المنضود. وإنك يا صديقي ستقرأ فقرا مستملحة في الغناء وسماع الآلات، وهي وإن كانت لا تنقع غلة ولا ترد لهفة، لضيق المناسبات التي وقعت فيها، وإمساك النفوس عن التوسع في بيانها إلا أنها من الوجهة الدينية تعد كفيلة لتحقيق الغرض الذي تصبو إليه وسأجتهد في إيجاز القول ما استطعت إلى ذلك سبيلا.
إن بعض شيوخ الدين من السلف الصالح قد استدلوا على إباحة الغناء وسماع الآلات بأحاديث شريفة صحيحة عن رسول الله
صلى الله عليه وسلم
منها ما روي عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: دخل علي أبو بكر (رضى الله عنه) وعندي جاريتان من جواري الأنصار تغنيان بما تقاولت به الأنصار يوم بعاث، وليستا بمغنيتين، فقال أبو بكر (رضى الله عنه): أمزمار الشيطان في بيت رسول الله
صلى الله عليه وسلم
وذلك يوم عيد فقال له رسول الله
صلى الله عليه وسلم
يا أبا بكر إن لكل قوم عيدا وهذا عيدنا.
وروي عنها أيضا رضي الله عنها أن أبا بكر (رضى الله عنه) دخل عليها وعندها جاريتان في أيام منى تدففان وتضربان، والنبي
صلى الله عليه وسلم
متغش بثوبه فانتهرهما أبو بكر فكشف النبي
صلى الله عليه وسلم
عن وجهه وقال دعهما يا أبا بكر فإنها أيام عيد، وتلك الأيام أيام منى. وعنها أيضا رضي الله عنها قالت، كانت جارية من الأنصار في حجري فزففتها، فدخل رسول الله
صلى الله عليه وسلم
ولم يسمع غناء فقال، يا عائشة ألا تبعثين معها من يغني فإن هذا الحي من الأنصار يحبون الغناء، ومما رواه أبو الزبير بن مسلم المكي عن جابر قال:
زوجت عائشة رضي الله عنها ذات قرابة لها رجلا من الأنصار فجاء رسول الله
صلى الله عليه وسلم
فقال: «أهديتم الفتاة، قالوا: نعم. قال: أرسلتم معها - قال أبو طلحة راوي الحديث: ذهب عني - فقالت لا. فقال رسول الله
صلى الله عليه وسلم «إن الأنصار قوم فيهم غزل فلو بعثتم معها من يقول:
أتيناكم أتيناكم
فحيونا نحييكم
ولولا الحبة السمرا
ء لم نحلل بواديكم
ويروى عن فضالة بن عبيد قال رسول الله
صلى الله عليه وسلم : (لله أشد أذنا إلى الرجل الحسن الصوت بالقرآن يجهر به من صاحب القينة إلى قينته).
أما عن سماع الآلات فقد روي عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله
صلى الله عليه وسلم
سافر سفرا فنذرت جارية من قريش لئن رده الله تعالى أن تضرب في بيت عائشة بدف، فلما رجع رسول الله
صلى الله عليه وسلم
جاءت الجارية، فقالت عائشة لرسول الله
صلى الله عليه وسلم : فلانة ابنة فلان نذرت لئن ردك الله تعالى أن تضرب في بيتي بدف، قال فلتضرب.
أما ما ورد في القصب والأوتار والمزامير فلا خلاف في إباحة سماعها، والدليل على ذلك أن إبراهيم بن سعد بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف مع جلالته وفقهه وثقته كان يفتي بحل ذلك، وقد ضرب بالعود، وكان الإمام أحمد بن حنبل لا يحدث حديثا إلا بعد أن يغني على عود إلى غير ذلك من الأدلة والشواهد العديدة التي يضيق المقام عن سردها. ولا بأس من أن نورد هنا جملة صالحة لابن خلدون في هذا الموضوع وهو الحجة الثبت في الاجتماعيات قال: «لما جاء الإسلام. واستولى رجاله على ممالك الدنيا، وحازوا سلطان العجم، وغلبوهم عليه، وكانوا من البداوة والغضاضة على الحال التي عرفت لهم، مع غضارة الدين وشدته في ترك أحوال الفراغ، وما ليس بنافع في دين ولا معاش، هجروا ذلك شيئا ما، ولم يكن الملذوذ عندهم إلا ترجيع القراءة، والترنم بالشعر الذي هو ديدنهم ومذهبهم، فلما جاءهم الترف، وغلب عليهم الرفه بما حصل لهم من غنائم الأمم، صاروا إلى نضارة العيش، ورقة الحاشية، واستجلاء الفراغ، وافترق المغنون من الفرس والروم، فوقعوا إلى الحجاز، وصاروا موالي للعرب، وغنوا جميعا بالعيدان، والطنابير، والمعازف، والمزامير. وسمع العرب تلحينهم للأصوات، فلحنوا عليهم أشعارهم، وظهر بالمدينة نشيط الفارسي، وطويس، وسائب خائر - مولى عبد الله بن جعفر - فسمعوا شعر العرب ولحنوه، وأجادوا فيه، وطار لهم ذكر، ثم أخذ عنهم معبد وطبقته وابن شريح وأنظاره، وما زالت صناعة الغناء تتدرج إلى أن كملت أيام بني العباس عند إبراهيم بن المهدي، وإبراهيم الموصلي، وابنه إسحق، وابنه حماد، وكان من ذلك في دولتهم في بغداد... إلخ». ا.ه.
وما زال فن الغناء يتنقل من عصر إلى عصر، ومن دولة إلى دولة ويعتريه الضعف والوهن تبعا لضعف الزمن ووهنه، والشهرة والذيوع إن أخصب ربعه، وأخضل واديه، تسمعه الخلفاء في قصورهم، وتهش له الأمراء في دورهم إلى أن وصل إلى عهد أبي الأشبال المغفور له إسماعيل باشا وهنالك طلع فجره، وبزغ هلاله، وأنارت شمسه، وكمل أنسه بوجود المرحوم: عبده الحمولي الذي ملك ناصية الفن فأخذ يعبد طريقه، ويحسن تنيسقه، ويأخذ من عواطف الشعب المشهور بالرقة مادة لتلحين أدواره، وإنشاد أشعاره، ولم يكفه هذا بل عمد إلى نغمات الترك والفرس فصبها في قوالب من صنع مصره، وجعلها زينة لعصره فتراها تجمع بين بغداد في حضارتها، ونجد في بداوتها، والفرس في غضارتها، والترك في منعتها وقوتها.
فما لمصر وهي أمة عربية تصبو بغرائزها إلى سماع صوت الحداة وهم يحدون ونحن في أثر الطعن وهم مجدون، ويخفق قلبها إن هبت من نجد صبا، وتصفق منها الضلوع إن لمع برق من بغداد أو خبا، وجرى الماء في غياض الشام يسقي هام الربى، يراد بها أن تكون في نغماتها غربية وهي ربيبة الشرق، ورضيعة لبانه ولسان حالها يقول:
وتلفتت عيني فمذ خفيت
عني الطلول تلفت القلب
إن أمة هذه خصائصها ومميزاتها لن تنفع فيها إن شاء الله حيلة المجددين في الشعر والغناء، وستسير القافلة وهم في الطريق، وأن ملكا على عرشه حضرة صاحب الجلالة الملك أحمد فؤاد الأول ابن ناصر هذا الفن المغفور له إسماعيل باشا خليق بأن يغني بمحاسنه الدهر، ويمرح تحت وارف ظله كل مبتكر، وينشد في واسع رحابه لكل أديب، ويسير إلى الأمام بفضله كل مخترع، فلك الشكر الجزيل يا صديقي على ما بذلت من جهد، وأديت من أمانة، بوضعك الحق في نصابه، وإرجاعك السيف إلى قرابه، واختتم عجالتي هذه ببيتين من قصيدة المرحوم شوقي بك في المرحوم عبده.
يا مغيثا بصوته في الرزايا
ومعينا بماله في المكاره
ومجل الفقير بين ذويه
ومعز اليتيم بين صغاره
وسلام الله عليك من صديقك محمود الجبالي.
الفصل التاسع عشر
عبده الحمولي مع سليم سركيس
مما يدل أيضا على عظمة أخلاق عبده الحمولي وما كان له على الناس من جميل الأثر حادثة وقعت في نيوبار ومنزل يوسف بك صديق في سنة 1897 عقب عودته من الأستانة أرويها تفكهة لحضرات القراء، وعبرة للمحترفين من بعده من حيث شريف المبادئ وحسن الحفاظ، وذلك نقلا عن مجلة سركيس عدد سنة 1906 قال سليم سركيس أسماء الأشخاص: عبده الحمولي. سليم سركيس. باسيلي باشا تادرس. عثمان باشا رأفت. يوسف بك صديق. عطا بك.
كان المرحوم عبده الحمولي نديم الملوك وأمير المنشدين قد تلطف فجعلني من خاصة أصدقائه كان يكرمني بمودته كل يوم فإذا عاتبه قوم على ميله هذا إلي على ما كان من حدتي في جريدتي القديمة - يقول - أنا أحب سليم سركيس لا جريدته - وأعاشر الرجل لا سياسته وأحبه لأنه أحبني من أجل شخصي لا من أجل صوتي كما تفعلون، أنتم فإنكم لا يقع نظركم علي حتى تطلبون مني صوتا، وسركيسا كلفني الغناء مرة واحدة في عامين.
قد قضت سياسة جريدتي في ذلك الحين أن أنشر مقالات استاء منها بعض أمراء العائلة الخديوية ، وسر منها قسم آخر من الأمراء، وكان وكيل أشغال الأمراء الذين استاءوا من مقالاتي رجلا اسمه: عطا بك فلحقه شيء من حدة هذا القلم في ذلك الحين فأضمر لي الشر.
وحدث ذات يوم في سنة 1897 أن عبده الحمولي - رحمه الله عداد حسناته - جاءني في منزلي يقول: أنت أسيري طول هذا النهار، فقضينا يومنا في التنقل من مكان إلى آخر على أتم ما يكون من المسرة والحبور، حتى إذا كانت الساعة السابعة مساء، وجدت نفسي على رصيف (النيوبار) فأمر بإحضار العشاء، وبسطت أمامنا مائدة الشراب، وعبده يحدثني بما لذ وطاب، وفيما نحن كذلك جاء صاحب (البار) يقول: إن قوما يطلبون عبده بالتليفون فمضى، وبعد قليل عاد يهز رأسه فقلت: ما الخبر؟ قال جماعة من إخواننا يتمتعون بضيافة يوسف بك ويطربهم محمد عثمان، وقد بحثوا عني كل نهارهم فلم يقفوا لي على أثر ثم أدركوني هنا الآن، وهم يطلبون مني موافاتهم إلى هناك. قلت: اذهب إليهم، قال: ما أنا فاعل. قلت: إنك تجتمع بي غدا إذ القوم في انتظارك؟ قال لا أستبدل مقامي معك وهو مقام الصديق بمقامي بينهم وهو مقام المغني - ثم عدنا إلى حديثنا وإذا بزنجي في عربة قد جاء برسالة من يوسف بك صديق أن القوم ينتظرون عبده، فصرف الزنجي معتذرا. وما مضت نصف ساعة حتى أقبل علينا عثمان باشا رأفت الفريق، وسعادة باسيلي باشا تادرس وكان يومئذ (باسيلي بك) القاضي فرحب عبده بهما. وبعد أن جلسا أوعز أحدهما إلى الخادم أن يرد الطعام، وطلبا من عبده أن يذهب معهما إلى منزل يوسف بك صديق؛ لأن القوم ينتظرونه - فاعتذر إليهما قائلا: إنني منذ الصباح مع صديقي سركيس وهذا اليوم خاص بنا، فلما وجدا أنه مصر على البقاء معي عرضا عليه أن يحملاني على الذهاب معهما. فقال: إذا رضي سركيس بالذهاب فأنا راض، فتحولا إلي يدعوانني إلى منزل صديقيهما، فاعتذرت قائلا: لا أعرف أكثر الذين هناك - وقلت لعبده: أرجوك أن تذهب معهما، وأنا أمضي في شأني، فأقسم أن لا يفعل - عند ذلك قال لي عثمان باشا إن صاحب المنزل مشترك في جريدتك. وفضلا عن ذلك، فلا يليق أن ترفض دعوتنا وأنت لا تحتاج إلى أعظم من رجل في رتبة فريق وآخر قاض في الاستئناف يدعوانك فهي دعوة كاملة جديرة باهتمامك، ولك منا أن تكون في المركز الأسمي من الإكرام هناك، فضلا عن ذلك فأنت في إصرارك على عدم الذهاب تكدر جمهورا كبيرا لأنك تحرمهم من صديقهم عبده الحمولي. فلما رأيت أن إصراري ليس من الحكمة، أجبت دعوتهم فركب الحمولي وتادرس باشا عربة وسرت في العربة الثانية مع عثمان باشا حتى وصلنا إلى منزل المضيف، وإذا به غاص بالوجهاء والأعيان، فلما وصلنا احتفلوا بعبده احتفالا عظيما وتنحى محمد عثمان عن مجلسه له - أما عبده فأراد أن لا أشعر بوحشة فأجلسني بجانبه، وبعد قليل دعاني صاحب المنزل إلى غرفة «البوفيه» لأتمتع بما كانوا قد سبقوني إليه من دلائل كرمه وسخائه وأظهر لي لطفا كثيرا أذهب وحشتي، ثم عدت وجلست بجانب عبده حتى إذا بدأ يجس عوده استعدادا للغناء شعرت بوجود اضطراب في القاعة، وفي إحدى زواياه جماعة يتكلمون وينظرون إلى ناحيتنا. وبعد قليل جاء باسيلي باشا تادرس إلى عبده يقول: لي كلمة أقولها إليك في الخارج فسر معي. فخرج عبده وقد هم أن يأخذني معه فقال تادرس باشا «إن حديثي معك خاص بك فاتبعني وحدك، وما غاب عبده إلا مدة قصيرة حتى عاد وعلى وجهه لوائح الغضب فجلس في مجلسه وأدناني منه وطلب شرابا لكلينا»، وأخذ يغني ويطرب حتى أدهش من حضر، ولبثنا كذلك حتى شابت ناصية الليل فانصرفنا، وأردت أن أوصله إلى محطة حلوان فأبى إلا أن يوصلني إلى بيتي، وكنت أحاول مرارا أن أفهم منه سبب غضبه وهو يأبى الإيضاح، حتى إذا كان اليوم الثاني علمت ما يأتي: لما دخلت معه إلى المنزل ورأى الناس احتفاله بي كان بين الموجودين (عطا بك) الذي تقدم القول إنه كان متكدرا من بعض كتاباتي في قضية الأمراء فسأل: من الرجل؟ قيل له: هو سركيس - فأرعد وأزبد وانصرف إلى الخارج، وكلف باسيلي باشا أن يدعو عبده إليه فلما تقابلا جرى بينهما الحديث الآتي:
قال عطا بك: من هذا الذي جاء معك؟ قال عبده: هذا سليم أفندي سركيس، قال عطا بك: أما هو صاحب الجريدة - قال: نعم - قال: أنت تعلم يا عبده أني أكرهه فلا تلمني إذا أسأت إليه. فنظر إليه عبده شذرا وقال: إن سليم سركيس ضيف لصاحب هذا البيت الكريم، ولولا لطفه ما تمتعتم بحضوري، ولولا أن ذهب إلى دعوته رجل في رتبة فريق وقاض في الاستئناف ما جاءكم، فاعلم يا عطا بك إذا أسأت إليه بكلمة أسأت إليك بعشرين، فهو صديقي وضيفي والضيف من عند الله - قال عطا بك - إذا واحد منا ينصرف الليلة من هنا - قال عبده تنصرف أنت إذا - قال عطا بك اختر بيننا - قال عبده قد اخترت سركيس فانصرف إذا شئت. وهكذا انصرف عطا بك، وعاد عبده إلى مجلسه كما ذكرنا فرحم الله تلك الروح الذكية والعواطف الشريفة.
المؤلف - ولا يفوتني قبل مسح القلم عن هذا الحادث الواقعي الغريب إلا أن أقول كلمتي الآتية تعليقا عليه:
حق القول على الحمولي مخالفة ابن خلدون فيما قاله في مقدمته عن الملكة: «إن من حصلت له ملكة في صناعة قل أن يجيد بعد في ملكة أخرى» لما أن عبقرية الحمولي كانت متنوعة النواحي متشعبة الأطراف فإن الله سبحانه وتعالى يقيم العباد فيما أراد، ومن كان الله في عونه تيسرت عليه المذاهب ونجحت له المطالب؛ ذلك أنه كان منشدا ومطربا وكاتبا وأنيسا وزعيما وقدوة تحتذى في الأخلاق، وكان ينبوع الرحمة للفقراء، والمثل الأعلى في الوفاء بالعهد، وسفير صدق يصلح بين قومه، ويؤلف قلوب الحاقدين، ويعد مع عبقريته المركبة من أكثر الناس تجافيا عن مقاعد الكبر؛ لأن العبقرية من مزاياها التواضع وعدم الميل إلى الدعاية والشعور بعدم أهمية العبقري لنفسه وجهله ما احتوت عليه عبقريته من كنوز ثمينة خالدة، وإذا اعتبرنا أن عبقريته خصيبة منتجة كما تقدم وجب أن ننعم النظر في عظمتها وصمتها وعدم ثرثرتها وكفى بعبقريته لحنا واحدا أو موالا واحدا نتبين منه جمال فنه وجمال خلقه ونوع نبوغه الذي يبنى عليه الحكم ويقام له الحساب، ذهابا إلى ما نطقت به شواهد الحال وأيده أحد علماء الإنكليز فقال: «إن العبرة بالنوع لا بالكمية
It is quality that counts ».
وبناء عليه فإن ما يوجد من العبقرية في عبارة واحدة أو في ألفاظ منفردة مؤثرة يتجاوز في الغالب ما قد يوجد منها في أضخم مجلد لما أن العبقرية لهب يتوقد لوقته على حد ما روي عن ڤرجيل أنه بكلمات مؤثرة قليلة استطاع أن يسبر غور الجمال والحزن ويخبر سر الشرف في الحياة والأمل في الموت، كما أن شكسبير تتمثل لحس القارئ عظمته ويشعر بلا مراء بخلود مصنفاته ودواوينه بمجرد اطلاعه على رواية واحدة من الأربع والثلاثين رواية التي قام بتأليفها، ويستنتج من تحليل حياة عبده النفسية أن ما من عمل من أعماله إلا يدل على إيحاء وعبقرية وعظمة ويعد ناموسا للاجتماع ومثلا أعلى يعمل بمقتضاه أبناء النيل، ومأثرة ينقلها السلف إلى الخلف على مر الأيام وكرور الأعوام، والحق يقال إنه كتب اسمه بأحرف من ذهب ليس على رخام ضريحه فحسب بل على قلوب أبناء مصر عموما، والمحترفين والهاوين والمعجبين خصوصا، وسيظل ذكره خالدا ويطيب نشره في المحافل مدى الدهور.
الفصل العشرون
شهادة إبراهيم بك المويلحي الكاتب القدير
في مصباح الشرق بتاريخ 17 مايو سنة 1901
بعنوان «خلقة كاملة»
إذا بحث الباحث في أطوار الناس وأخلاق الخلق تعين عليه أن يجردهم من طيالس المراتب والمناصب ومظاهر الثروة والجاه، ثم يلفي في نظره ما بينهم من تفاوت الطبقات واختلاف الدرجات التي وضعها الناس لأنفسهم بأنفسهم، ثم ينظروهم على تلك الحالة المجردة إلى ما وضعه الله فيهم من المواهب والمزايا، وأسباب التفاضل بينهم وما هذه الدنيا في نظر الحكيم إلا ملعب، وما الناس في مراتبهم ودرجاتهم إلا كالمشخصين فيه يتزيون بالأزياء المختلفة، هذا ملك، وهذا وزير، وهذا قائد، وهذا أمير، فإذا أراد الباحث أن يعرف حقيقة اقتدارهم وقيمتهم في ذاتهم نظر إليهم من وراء الملعب مجردين عن تلك الألبسة الفاخرة في الحالة التي كانوا عليها قبل تشخيص أدوارهم، وهنالك يرى الباحث في طبائع الناس وأخلاقهم أنهم مختلفون بينهم، ومتفاوتون في سلسلة الترقي والكمال تفاوت الصوان من الياقوت في الأحجار، والسيالة من البنفسج في النبات، والفهد من القرد في الحيوان - ومن الناس من تميزهم الطبيعة بكمال الخلقة وترتقي به في كمال التصوير فينشأ فيها من حسن الانتساق ولطف التركيب ما تتجلى في عالم الإحسان والإتقان والتصوير؛ فيصدر عنه من بدائع الأعمال ومحاسن الأفعال ما تطرب له النفوس، وتشجي به القلوب. فإن نشأ في طبقة الشعراء كان كالمعري مثلا، وإن نشأ في طبقة الحكماء كان كابن سينا، إن نشأ في طبقة الجند كان كطارق بن زياد، وإن نشأ في طبقة المغنين كان كإسحاق أو كهذا الفقيد الذي فقدناه بالأمس. وهب الله المرحوم عبده الحمولي سجية الإحسان ومزية الإتقان، فكان وحيد عصره، وفريد دهره في صناعة مارسها بين الناس أكثر من أربعين عاما لم يضارعه فيها مضارع، ولم يلحق به لاحق، وانحصر فيه الغناء في مصر طول هذه المدة فصار الكل له مقلدين يأخذون عنه ولا يبلغون شأوه، ولا يتعلقون بغباره، ولا غرو فإنه هو الذي أخرج فن الموسيقى من سقوطه وتأخره إلى ارتفاعه وتقدمه، ولم يقتصر على طريقته التي وجده عليها، بل أخذ فيه بأسباب الاختراع والابتداع والتحسين والتهذيب، وأنشأ له طريقة جديدة بحسن اجتهاده ورقة ذوقه.
وجاء في مصباح الشرق بتاريخ 24 مايو سنة 1901 ما يأتي: «من الناس من يهبه الله سجية الإحسان ومزية الإتقان فينصرف إتقانه وإحسانه إلى الفن أو الصناعة التي اختارها لنفسه فيحسنها ويتقنها ويتحول بكليته إليها، ويغفل في نفسه ما عداها من مغارس المحاسن ومنابت الفضائل ومكامن المكارم فيعيش غفلا منها، وإن كان نابها في صناعته فيلقى الناس منه ما يسوء من أخلاقه بقدر ما أحسن من صناعته، يرضيك حسنه من باب، ويسخطك قبحه من عدة أبواب، فترى الشاعر يرتقي في عالم شعره فيسبق فيه من يباريه ويعلو قدره على سواه، فإذا عطفت نظرك إلى أخلاقه وجدته أحط الناس فيها درجة، وأدناهم منزلة، وأردأهم سيرة في المخالطة، وأسوأهم معاملة في المعاشرة، وتجد هذا الذي لم يكتف بعلم الحقيقة في الجمال حتى تجاوزه إلى عالم الخيال أبعد الناس عن جميل الفعل وكريم الخصال، وترى المصور الذي يباري محاسن الطبيعة بحسن المحاكاة في جمال النظام ولطف الانسجام يكون فيما عدا ذلك أخرق أحمق شرس الطباع سافل الأخلاق، وترى العالم يصعد بعلم إلى عالم الفضائل والحقائق، ثم ترذل أخلاقه بالغلظة والجفاء وتسوء بالتيه والضلال وتراهم جميعا قد ارتكنوا في طبقاتهم على فضلهم في صناعاتهم وفنونهم، وأهملوا بقية الفضائل وبعدوا بنفوسهم عن جمال التهذيب وحسن التثقيف، فإن تحمل الناس منهم سوء الأخلاق ظاهرا للمزية التي انفردوا بها فإنهم لا يتحملونها باطنا يرضونهم بالوجوه ويبغضونهم في القلوب، أما إذا التفت المتقن لفتة المحسن في صناعته إلى تهذيب بقية أخلاقه وصفاته إلى تحسينها، وصرف إلى ذلك بعض همه بما أوتيه من سجية الإتقان ومزية الإحسان وارتقى إلى فضائل الأخلاق ارتقاءه في فنه أو صناعته، فإنه يرضي الناس ظاهرا وباطنا وتبلغ مزاياه من قلوبهم المحل الأعلى فتنطوي على محبته وتجتمع على تفضيله في حياته وبعد مماته».
وقال في موضع آخر «ولما سافر المرحوم في سنة 1896 إلى الأستانة العلية وحظي هناك بالمثول في الحضور الشاهاني مرارا، وأعجب أمير المؤمنين بمهارته في فنه وحسن تأديته له أسنى عطيته، وبلغه حسن رضائه، وكان الواسطة بينهما للتبليغ في ذلك المجلس سماحة السيد أبي الهدى، ومما تلقاه عنه من أوامر أمير المؤمنين أن يلقن ما غناه في حضرته من الأصوات لبعض ضباط الموسيقى الشاهانية، فلقن المرحوم منه ما أمكنه، ولم يسع الوقت تمام القيام بالأمر، ووعد أنه سيشتغل عند عودته إلى مصر بربط تلك الأصوات برابطة «النوطة»، ثم يعرضها على الأعتاب ليسهل أخذها على ضباط الموسيقى، وأهمل المرحوم مدة وجوده في الأستانة التردد على سماحة السيد، واجتمع ببعض المتزاحمين معه على الأعتاب الشاهانية، ورغب كل واحد منهم أن يكون له الحظوة بتقديم تلك الأغاني والأصوات عند عودة المرحوم إلى مصر وإرسالها إلى الأستانة، فلما عاد أتمها عشرين صوتا (دورا) مربوطة بالنوطة ثم تردد في كيفية إرسالها، وخشي أن يغضب أحدهم باختيار سواه عليه في تقديمها فامتنع عن إرسالها لهم جميعا، وأرسلها من طريق رسمي، فأسرها له السيد في نفسه، ولما ذهب إلى الأستانة وقابل من قابل مزودا بالآمال لم يشعر هناك - وهو في مجلس أنس لبعض كبار المصريين من أصدقائه في جهة البوغاز - إلا وقد أحاط به رجال الشرطة فسار معهم وصاروا ينقلون هذا الذي لم ينتقل في عمره من مجلس أنس إلا إلى مجلس سرور طول ليلته، من مخفر إلى مخفر ومن سجن إلى سجن، حتى وصلوا به إلى مأمور الضابطة فأمره بالخروج في الحال من دار الخلافة، وعلم المرحوم مما سمعه من بعض الأعوان الحلبيين من ذكر السيد ووجوب السعي في دوام رضائه، أن الأمر مقصود لمجازاته على إهماله أمر سماحته، فلم يلتفت إلى غير المبادرة إلى إجابة الأمر بالرحيل عن الأستانة؛ فأثرت فيه هذه الحالة وعاد إلى مصر مصابا بداء البول السكري فانهك قواه».
وقال أيضا وكان شهما غيورا شريف السيرة يغار لنفسه ولأعراض الناس لا يبالي في ذلك بهول الموقف وفداحة الخطوب. كان كتوما للسر مؤاسيا لعائلته طلق الوجه طليق اللسان يصيب غرضه بحسن بيانه حتى لقد قيل عنه: إنه لو كان سفيرا لدولة من الدول لما تعقد عليه أمر في السياسة، فكان خفيف الروح متوقد الذهن، مات والناس إجماع على تفضله والقلوب مرتبطة بمحبته.
فاذهب كما ذهبت عوادي مزنة
أثني عليها السهل والأوعار
فما روضة غناء كأنها غادة حسناء قد افتتن في تصويرها الجمال وجعلها للناظرين كالمثال، فالغصن قدها والورد خدها، والرمان نهدها، وعليل النسيم عهدها، والكرم شعرها، والأقاح ثغرها، انتهت فيها غافية حمام فوق نمارق الأغصان والأكمام آخر الليل وقد عسس، وأول الصبح وقد نفس، فلما رفعت طرفها وجدت بجانبها إلفها بعد أن نأى عنها مكانا، وفارقها زمانا، فزال عنهما ألم الشوق، والتف الطوق بالطوق، وهتف منشدان فوق خرير الماء قصيدة على روي الراء، أودعاها ما أرادا من معاني العشاق في وصف صلة الوصل بعد الفراق، ومن حولهما بقية الأطيار ترجع إنشادهما ترجيع الأوتار تهزه على كل غصن مائس كأنها القيان تزف العرائس بأطرب من صوتك في الآذان، وألذ من ذكرك بين القلب واللسان، وما أحرى من سكان الأشجار وذوات الأوكار غادرت أفراخها من وكرها في ليلة موصوفة ببردها وحرها تلتمس لهن شيئا من القوت، وقد عز كالياقوت، فوقعت من الأمطار في شبكة منعتها عن السعي والحركة إلى أن غادرتها العهاد، وأمكن لها الإرشاد، فعثرت لهن على نزر من الحب، ودت لو زيد فيه حبة القلب فراحت إليهن ولا الظافر بتاج الملك، ولا الناجي مع نوح في الفلك، فوجدت السيل قد أتى على الشجرة فاقتلعها، وعلى الأفراح فابتلعها، وبينا هي بين تصعيد وتصويب وحنين ونحيب إذ أنقض عليها صقر أنشب في طوقها أظفاره، وغمس في جوفها منقاره فاجتمعت عليها صنوف الآلام: آلام الأرواح، وآلام الأجسام بأوجع في قلوب رفاقك من يوم فراقك.
الفصل الحادي والعشرون
آراء أعضاء المؤتمر الموسيقي المنعقد سنة 1932 في الموسيقى العربية
قال جناب البارون كارا دي فو في خطابه في حفلة اختتام المؤتمر ما ترجمته نقلا عن كتاب مؤتمر الموسيقى العربية لوزارة المعارف العمومية: «إن الموسيقى الشرقية علم عظيم وليست موضوعا يمكن استيعاب البحث فيه في يوم أو في ثلاثة أسابيع، ويشعر الإنسان بهذا التأثير إذا ألقى نظرة على فهارس الكتب الموسيقية القديمة».
إننا لم نواجه مبحثا أكثر أهمية وأعظم شأنا من مسألة تأثير الموسيقى الشرقية في الموسيقى الغربية في القرون الوسطى.
إن جميع مجموعات الآلات الموسيقية لعمل شاق يستلزم السنين الطويلة - وقد بدأت مصر - ولله الحمد - الخطوات الأولى منه، وأشارت لجنة الآلات بالإرشادات والمعلومات اللازمة لذلك.
هذا ما يخص المسائل الواسعة المدى. أما المسائل الدقيقة بل الشائكة - إن أردت - فأهمها اثنتان: تتابع المقامات، وإمكان الامتناع بأرباع الأصوات بالتقريب. وهنا لا يكفي العلم وحده بل تدخل عناصر فنية وبسيكولوجية.
غير أننا نستطيع أن نبذل المعونة للموسيقيين الشرقيين ليجتنبوا المناقشات غير المنظمة بما نبث في نفوسهم من طريق البحث والتحليل على النمط الأوروبي، وإني أذكر مثالا لذلك الصوت المعروف بالسيكاه الذي أثار مناقشات حادة وهو الصوت الثالث من ديوان المقام، ويظهر أن الموسيقيين الشرقيين يريدون أن يثبتوا سيكاه وحيدة مطلقة، أو مثلا أعلى للسيكاه، وقد قال لهم العلماء الغربيون حللوا وميزوا لأن سيكاكم يمكن تغييرها مع المقامات، حتى أن المقامات نفسها تختلف باختلاف البلدان، ولقد وجدنا بعد التجارب أن مقام الراست والسيكاه على حسب العزف عند كبار المغنيين مرتفعين قليلا في سوريا عن مثيلهما في مصر، وهما في تركيا أكثر ارتفاعا منهما في سوريا، وعلى العموم قد تحققنا أن في مصر استعدادا فطريا لدى المغنين والعازفين للاقتراب من الصواب. ا.ه.
وقد جاء في خطبة حضرة السيد حسن حسني عبد الوهاب ما يأتي:
وأكبر مزية سيخلدها لك تاريخ الفنون الجميلة إلى دهر الداهرين القرار الإجماعي الصادر من أعلى منبر في هذا المؤتمر بحماية الألحان العربية من العجم، تلك التي كادت تبتلعها وتقضي عليها القضاء الأخير، وما حماية الألحان إلا حفاظ لروح القوم الخالدة. وفيك يا مصر يرجى الحفاظ، وها نحن أولاء من خلف أعوان وأنصار.
وقبل أن نختتم هذه الكلمة نرى من واجب الضيافة الكريمة التي حبينا بها في وادي النيل من جلالة الملك المعظم وحكومته وشعبه أن نرفع لهم جزيل الامتنان ووافر الثناء على ما لاقيناه من الحفاوة والإكرام. وكذا للنتائج الغالية التي سنعود بها إلى أقطارنا رافعي الرؤوس ونفوسنا ممتلئة إعجابا بأننا أعدنا إلى الشرق - على يد مصر - ميزته الفنية وألحانه الشجية وتراثه القديم.
فدومي يا مصر لنهضة الشرق وذويه رافلة في مطارف العز والبهاء للحضارة والجمال والخلود. ا.ه.
وقال جناب الدكتور هنري فارمر:
واسمحوا لي أن أقول كلمة في الختام، لما كنت قد وقفت حياتي على خدمة الموسيقى العربية، أعني القديمة منها، فإن هذا المؤتمر كان سبب مسرة خاصة لي إذ قد جعل الأماجد من رجال الثقافة العربية في العصور الغابرة يحيون مرة أخرى، وإن سماع الموسيقى الرائعة التي وضعها أسلافنا الموسيقيون الذين قضيت سنين عدة في الكتابة عنهم أدخل على قلبي سرورا عظيما، وإني بالرغم من صعوبات كثيرة أشعر عن يقين أن هذا المؤتمر سينتج ثمارا دانية القطوف. نعم لقد كان هناك تضارب في الآراء، ولكنا نستطيع مع شيء من الصبر والتسامح أن نجد طريقا أمينا للمستقبل.
وهناك أمر واحد لا ريب فيه وهو أن الموسيقى العربية لا تستطيع أن تقف جامدة، فالمدينة العصرية مع تياراتها الجارفة التي لا تعوقها العقبات ستدفع الموسيقى العربية إلى التقدم إلى الأمام، وعلينا متى ظهرت بوادر هذا التقدم أن نحرص على أن تسلك طريقا بحفظ روحها الوطنية وطابعها؛ لأن فقدانها ذلك الميراث المجيد يعد كارثة عظيمة.
وعلينا أن نمنع وقوع هذا ويجب أن تعنى مصر بالمحافظة على ذلك المجد. فهي التي أنبتت الحسين بن علي المغربي والمسبحي في القرن الخامس بعد الهجرة، وقد وضع كل من هذين المؤلفين كتبا على طراز كتاب الأغاني العظيم لمؤلفه أبي الفرج. ومصر هي التي أهدت إلى العالم الإسلامي الفلكي الشهير ابن يونس الذي وضع أيضا كتابا خاصا في تمجيد العود بعنوان: «العقود والسعود» ومن أرض النيل المبارك خرج ابن الهتيم الذي وضع الشروح الوافية والنقد الصحيح لنظريات إقليدس الموسيقية. وفي هذه البلاد عاش أيضا أبو الصلت أمية. وقد كانت رسالته في الموسيقى على جانب من الخطورة؛ إذ ورد ذكرها واستشهد بها في الكتب العبرية. وقد كان البياسي المعدود من أخصاء الفاتح العظيم صلاح الدين موسيقيا بلغ شيئا من الإجادة، وعلم الدين قيصر الذي كان من أبناء مصر كان أشهر أهل عصره في نظرياته الموسيقية. ثم ابن الطحان وهو مصري آخر وضع مؤلفا في الموسيقى ربما كان أهم ما وضع من نوعه؛ لأنه يبحث فيه في تاريخ الموسيقى ونظرياتها جنبا إلى جنب، وجميع هؤلاء عاشوا قبل القرن السابع للهجرة.
واليوم وذكريات الأسابيع الثلاثة الماضية لا تزال ماثلة بجمالها أمام أعيننا، نشعر أن مصر ستتخذ مرة أخرى مركزا ساميا ممتازا في طليعة البلدان في عالم الفنون الإسلامية، فترسم الطريق في هذا الفن الشريف المجيد لغيرها من البلدان العربية وتنقش اسمها على تاريخ الموسيقى في الأقطار الشرقية. ا.ه.
وقال جناب الأستاذ جوستو زامبيري:
إن التبادل المستمر في الشعور والأفكار بين الأمم القريبة والنائية قد حصل في غالب الأحيان بواسطة الفنون؛ لأن الفن له مزية قائمة بنفسها وجدت بوجود الإنسان، وجعل لها الأقدمون صبغة روحية؛ فقد قال القديس أوجستان: «إن الفن موطنه الروح فلا ينفصل عنها»، وقد اهتم علماء إيطاليا بفنون الشعوب كلها؛ لأن إيطاليا الحديثة الناهضة تعلمت كيف تفكر للوصول إلى مطالبها العالية، وتمهيد السبل لمثلها في باقي الشعوب. والفن الشرقي له صبغة شخصية في غاية الطلاوة. ففي الفنون الحسية نرى الخطوط والدوائر مرسومة على ألوف من الأشكال البديعة التي أحدثت في الغرب تأثيرا فنيا مهما، ولما اكتست هذه الفنون بالأنغام الشرقية التي تمكنت من استعمال أدق الأبعاد التي بين صوت وآخر وأتقنتها ولدت في الغرب حاسة الخيال المبدع.
وقد كان في إيطاليا في العصور الوسطى نزعة قائمة على نقض الأنغام الكروماطيقية والهارمونية والاقتصار على الدياطونيقية، ولكنا نشاهد في العصور الحديثة حركة يقصد بها العود إلى الأنغام المهملة؛ فاتجهت لذلك الأفكار إلى الشرق، لأن الروح الموسيقية التي تكتنف الأرض وتصل الشعوب بعضها ببعض قادت الأفكار في هذه المرة أيضا إلى المسلك القديم الذي سلكه الفن، وهو الاتجاه دائما من الشرق إلى الغرب.
يا أيها الأماجد إن معرفتكم لتاريخ هذا الفن وعلومه التي لم تزل غامضة علينا بعض الغموض سيكون لها في هذا المؤتمر شأن عظيم، فإن نهضتكم الموسيقية وأعمال سلفكم ومؤلفات علمائكم كشرف الدين هارون وغيره مما لم ينشر فوائدها بعد سيكون لها عظيم من البحوث والتنقيب في هذا المؤتمر الذي دعوتم إليه علماء أوروبا. ومن البدهي أن انتشار العلوم يساعد على المحافظة على الفنون. وقد ذكر ذلك القديس السالف الذكر «أن العلم المجرد عن الفن إنما هو معرفة سطحية»؛ لذلك أرى أن رقي الفن الذي هو ضالتكم المنشودة سيكون ضالة المؤتمر أيضا ا.ه.
وقال الأستاذ الدكتور كورت زاكس في حضرة جلالة الملك في الحفلة التي أقيمت بدار الأوبرا الملكية نائبا عن أعضاء المؤتمر:
فهذه البلاد التي نشأت قبل بلاد الغرب تريد الآن أن تقاسمها الحياة، وأن تتبوأ بينها المكان اللائق بها، فهي الأم التي تجدد صباها وأصبحت تعد نفسها أختا لبناتها. وهاك شعار المؤتمر والروح التي تتجلى فيه عن مصر. إن هذه البلاد التي نعجب بجدها ونشاطها ترغب في ترقية موسيقاها وتجديدها. وهي التي غذت منذ ألف عام الموسيقى الأوربية. وقد تفضلتم جلالتكم فدعوتمونا وأدركتم مع منظمي المؤتمر أن هناك صعوبات جمة تقف في سبيل إصلاح الموسيقى العربية. لكنكم ذللتم هذه الصعوبات وتحملتم أعباءها؛ لأن الغرض هو توسيع نطاق فن الموسيقى العربية دون التورط في تقليد أوربا تقليدا أعمى. فعلينا أن نسعى في هدوء إلى الرقي الذي ننشده؛ لأن الطفرة بعد انقضاء ألف عام كثيرة الضرر، كما يجب علينا أن نضع أسلوبا جديدا دون أن نهمل شيئا من التراث النفيس الذي خلفته لمصر هذه الأجيال الكثيرة.
وقال حضرة الأب كولانجيت ضمن الكلمة التي ألقاها في حضرة صاحب الجلالة، عند تشرف رؤساء اللجان ومندوبي الدول في مؤتمر الموسيقى العربية بمقابلة جلالته يوم 31 مارس 1932. «إن للسعادة مظاهر تتم عنها، والموسيقى واحدة منها، لا يجوز إسقاطها، فإن الشعب الذي يغني لهو شعب سعيد، وفي عرفنا أن الترقية والتجديد لا يستلزمان حتما هدم القديم، بل نحن نعد جرما كل مساس بهيكل الموسيقى العربية القديم ونريد هذا الفن الجميل الذي ازدهرت به عصور الحلفاء الأقدمين، وتناقله الخلف عن السلف بعناية حتى وصل إلينا، نريد أن يحتفظ بصبغته التقليدية، وأن يبقى فنا عربيا حقا». ا.ه.
وإني أقتطف من خطبة صاحب المعالي وزير المعارف ورئيس المؤتمر في حفلة الاختتام ما يأتي حرفيا:
وإن اجتماع هذا المؤتمر وما ضم من العلماء ومن مختلف البلدان الغربية والشرقية المطلعين على أسرار فن الموسيقى العربية المحبين له واجتماعهم في صعيد واحد بالقاهرة عاصمة مصر لما يقدم لنا برهانا جديدا على أن التعاون الفكري بين جميع الأمم، وفي جميع نواحي النشاط العقلي من علم وفن وصناعة يؤدي إلى أحسن الثمرات. والحكومة المصرية تلحظ بعين السرور أن علماء الغرب في معاونتهم للشرق إنما يعاونونه لينهض في حدود مدنيته، ويرقى إلى أسمى الدرجات في دائرة تقاليده بغير أن يعتور مميزاته الخاصة تغيير أو يلحقها فساد.
ويسرنا أن ذلك رأي أعضاء هذا المؤتمر فقد أرادوا بفن الموسيقى العربية أن ينهض وينشط في دائرة الاحتفاظ بطابعه ومميزاته الخاصة، وقال أيضا ما يأتي:
ولقد حوى تقرير لجنة التعليم بيان القواعد الأساسية لتعليم الموسيقى العربية ودراستها والآلات الواجب استعمالها والوسائل المؤدية إلى ذلك من حيث التدريس والمؤلفات. وعنيت بصفة خاصة بحث المؤلفات الموسيقية التي وضعها الشبان المؤلفون المصريون، ونصحت لهم أن يتجنبوا الطريق الذي سلكوه لتكون الموسيقى عربية خالصة من ألوان الموسيقى الغربية.
وقدمت لجنة التاريخ الموسيقى والمخطوطات بيانا وافيا للمخطوطات العربية الهامة التي تجب العناية بدراستها والرجوع إليها لمعرفة تاريخ الموسيقى العربية وأصولها، وتحقيق الغاية التي ينشدها المؤتمر بإحياء مجد الموسيقى العربية، كما بينت فيه ما ترجم وما نشر من تلك المخطوطات.
أما لجنة المسائل العامة فقد عنيت ببيان الوسائل المؤدية لترقية الموسيقى العربية والوصول بها إلى الدرجة المبتغاة لها من رفعة الشأن مع الاحتفاظ بطابعها ومميزاتها.
الفصل الثاني والعشرون
شعور المغفور له سعد زغلول باشا
نحو فقيد الفن (الحمولي)
دعى عبده في المدة المتراوحة بين سنتي 1896-1899 للغناء في أسيوط بدار الدكتور: حبيب بك خياط احتفاء بزواجه بابنة الوجيه المرحوم: ويصا بقطر، فاعتذر عن قبول الدعوة لارتباطه بإحياء حفلة زفاف ربة الصون والعفاف كريمة المرحوم: مصطفى باشا فهمي - رئيس مجلس الوزراء الأسبق - (صاحبة العصمة صفية هانم) إلى سعد بك زغلول (آنئذ)، فغنى دور «أنا من هجرك أحكي خصرك. ولي أنت الآمر الناهي»، وكأنه بإيحائه تنبأ بزعامة سعد زغلول للأمة المصرية الكريمة، كما أنه غنى دورا آخر نظم: إسماعيل باشا صبري وكيل الداخلية وقتئذ: عشنا وشفنا سنين ومن عاش يشوف العجب غيرنا تملك وصال (بواو العطف ) واحنا نصيبنا خيال فين العدل (كررها ثلاثا) يا منصفين، بلهجة الغضب مصورا بنغماته الحماسية، وشعور الأمة الوطني، مما كان يحيط بالبلاد من ظروف وانفعالات ذودا عن حوزة الوطن العزيز، على أنه لا يعزب عن البال من طريق الاستنتاج أن نغمات المطرب كالشاعر والمصور أصدق دلالة على ما في نفسه من عوامل ونزعات وتحفز، ففي هذه النغمات الأخيرة ألفينا عبده شجاعا أبيا ووطنيا حرا ومصريا حميما، خلافا لما نجد في نغمات المجددين من خلاعة وتهتك ليس عليها مسحة القومية، ولا هم لهم إلا الكسب والجشع في عصر استنوقت فيه جماله، وأصبح ونساءه رجاله يشترينهم بالبائنة بدل المهر ليسيطرن عليهم وينفدن بالأمر والنهي.
المغفور له سعد زغلول باشا.
ولما مات عبده ذهب المرحوم سعد بك إلى دار الفقيد بالعباسية وأراد أن يقابل إحسانه السابق بمعروف لاحق يسديه إلى عائلته رأفة بحالها بعد فقده، فاقترح تلميحا على زوجته السيدة جولتار هانم أن يجمع لها بطريق الاكتتاب مالا يساعدها على تربية أولادها، فأعرضت عن النزول على مقترحة شاكرة، وقالت له «إن عبده مات غنيا كما عاش غنيا وترك لنا ثروة أدبية وفنية خالدة في السماء لا يأكلها السوس ولا تمتد إليها يد سارق. فنعم الزوجة التي آثرت أن ترضى غيرة على سمعتها بميسور ما تركه لها على أن تضرب عليها الذلة، وأكرم بعبده بعلا حمي الأنف قد بث فيها طيلة حياته إباء وشرفا وعزة نفس. وشكرا لك أيها الزعيم الكريم على ما قمت به من ثواب، وأظهرته من كريم الشمائل ورقة العواطف، ووثيق العهد نحو من أنسته المروءة نفسه، وكرس للخير حياته التي عدها ملكا مشاعا بين قومه، وأهلك نفسه ليحفظ غيره، قدس الله روحيكما وأسكنكما فسيح الجنان».
الفصل الثالث والعشرون
تراجم حياة أشهر الموسيقيين والمطربين في مصر
المرحوم أحمد الليثي «العواد»
ولد المرحوم الليثي في الإسكندرية سنة 1816 ومات سنة 1913. وكان والده «قانونجيا» شهيرا وبعثه إلى أحد الوزانين «القبانية» ليتعلم بدكانه القراءة والكتابة. ولما وجد الأخير أن تلميذه ليس بقارئ ولا بكاتب ومادام عديم الميل إلى العلم لا يضطلع بمزاجه حفظ، أشار عليه بأن يتعلم فنا من الفنون الجميلة كالموسيقى فاختار لنفسه «العود»، وبدأ والده يعلمه العزف عليه على طريقة القانون بواسطة السمع لا الأصبع كما هو المتبع فيما إذا كان المعلم عوادا، فأدرك شيئا من العلم بادئ بدء واستعان أخيرا بفطرته الطبيعية على الابتكار دون التقليد في تصوير النغمات، ثم حضر إلى مصر ولم يكن فيها تخت للآلات الوترية معروفا سوى تخت المرحوم: منسي الكبير، والد الأستاذ: قسطندي منسي، والتحق بسراي ساكن الجنان الخديو إسماعيل كمعلم، وانضم إلى «ألمظ» وعبده الحمولي، وكان الوحيد في تصوير نغماتها، وفي التقاسيم المعتاد البدء بها على عوده بدلا من القانون، بالرغم من وجود قانونين على تخت عبده، ولم يشتهر سواه في تصوير النغمات بالأصابع دون الريشة؛ لأن العادة المتبعة في الأستانة أن تستعمل الريشة للعزف ابتداء من التقسيمة أو خلافها من القطع لغاية التسليم (أي النهاية)، وهذه الطريقة تسمى «بالمزراب» وقد خالفها الليثي في مصر بأن استعمل الأصابع دون الريشة لاستخراج الأصوات، وتسمى طريقته «بالبصم» ولا يخفى على اللبيب ما لطبيعة الأصابع من لين وحنان، وما للريشة من يبوسة. وكان قصير القامة مليح الوجه تتوسم فيه مخايل الكرم، ويعد عبقريا في العزف على العود رحمه الله رحمة واسعة.
المرحوم الأستاذ أحمد الليثي «العواد».
المرحوم: محمد عثمان
ولد المرحوم: محمد عثمان بن الشيخ عثمان حسن المدرس بجامع السلطان أبي العلا حوالي سنة 1855 في مصر، وأدخله والده في ورشة برادة ليتعلم صنعة يرتزق منها، ولما آنس فيه شديد الميل إلى الغناء وسمعه يقلد المنشدين في الأذكار أخرجه منها وضمه إلى تخت الأستاذ: منسي الكبير، والد الأستاذ: قسطندي منسي الذي تخرج عليه في العزف على العود، والتدرب على الغناء، وتركه بعد وفاة والده ليشتغل على تخت: علي الرشيدي الكبير، ومكث مع الأخير مدة طويلة تعمق في خلالها في البحث الفني، وتبسط في التلحين إلى أن كون تختا خاصا به، ولما فقد صوته من جراء مرض أصابه عهد إلى التلحين؛ فتصحفه المحترفون والهاوون، فإذا هو محكم الوضع متناسق النغمات ، وإليكم مجموعة مقطوعاته الغنائية المبينة بالجدول الآتي: «أما بسحر العين» و«المطر يبكي يا ناس لحالي» و«متع حياتك» و«نور العيون شرف وبان» و«بدع الحبيب كله يطرب» فهي منسوبة للمرحوم: عبده الحمولي كما قرر ذلك الثقة الأستاذ: داود حسني الملحن الكبير، وقال أيضا إن مقطوعة الحبيب لما هجرني قديمة، وليست له، ولا يفوتني أن أذكر أن محمد عثمان ابتدع طريقة خاصة به تسمى «الهنك» في الغناء، التي يردد فيها رجال تخته المذهب نفسه أو غير ذلك ليتسنى له التنفس والراحة في أثناء ذلك استعدادا للإبداع، وقد ذهب مع عبده إلى الأستانة، وقد بكاه الأخير على ما كان بينهما من تباغض وتنافس عندما بلغه نعيه وهو في سوهاج بوابور حسن بك واصف يوم 19 ديسمبر سنة 1900.
وقد روى لي الأستاذ داود حسني أن محمد عثمان على ما كان معجبا بنفسه لانتشار تلحينه لا يعنو لمشاجرات العصبجية من أهل الحسينية، وأهل الجمالية في أثناء الحفلات والأعراس لصرامة بأسه وصلب عوده، ولم يقم لأي أمر وزنا، ولم يعظم أحدا إلا عبده، فإنه كان يسميه لدى رجال تخته «الأفندي بتاعنا»، ولو كانت له صورة فوتوغرافية لتشرفت بوضعها في صدر مقالي هذا، ويعد أكبر ملحن في عالم الغناء رحمه الله رحمة واسعة.
اسم المقطوعة
المقام
اسم المقطوعة
المقام
مليكي أنا عبدك
راست
اليوم صفا
عجم
يا ناس خايف أقول أحبه
راست
ما أحب غيرك
صبا
أصل الغرام نظرة
راست
أعشق الخالص لحبك
صبا
بستان جمالك
راست
أدما أحبك
صبا
عشنا وشفنا سنين
راست
آهين وآه من العشق آه
صبا
أنا يا بدر لم بانظر مثالك
راست
الحب أصله منين
صبا
دواعي الحب تشغلني
راست
على الملاح أنت الأمير
جهاركاه
بعد الخصام حبي اصطلح
راست
صبحت من عشقك أبكي
جهاركاه
من يوم عرفت الحب
بياتي
تيهك علي اليوم
جهاركاه
قده المياس
بياتي
النوم وعد
جهاركاه
عهد الأخوة
بياتي
القلب سلم من زمان
جهاركاه
حبيت جميل
بياتي
غرامك علمني النوح
حجاز كار
يا وصل شرف
بياتي
ياما أنت واحشني
حجاز كار
قل لي رايت إيه
بياتي
فؤاد من لحاظك
حجاز
قدك أمير الأغصان
بياتي
لسان الدمع أفصح من بياني
عراق
ثلاثين يوم ما شفت النوم
بياتي
البخت ساعدني وشفتك
عراق
إن كان كده والا كده
بياتي
أنا أعشق في زماني
رمل
ياللي معك روح الأمل
بياتي
كادني الهوى
نهوند
حبي دعاني في البستان
بياتي
كل يوم أشكي
نهوند
القلب داب
سيكاه
فؤادي رقيق يعشق
نهوند
في البعد ياما
سيكاه - -
الشيخ يوسف المنيلاوي
ولد المرحوم يوسف خفاجي المنيلاوي حوالي سنة 1850 بمنيل الروضة في القاهرة، وحفظ ما تيسر من القرآن الشريف، وألف منذ حداثته الإنشاد الذي اقتبسه عن الشيخ خليل محرم و الشيخ محمد المسلوب، ولما ظهر نبوغه في هذا الفن لما له من صوت حسن رخيم ولين أشار عليه المرحوم عبده بترك الإنشاد لممارسة الغناء؛ فاندمج في سلك المطربين وأخذ عن «عبده» و«محمد عثمان» أدوارهما الملحنة وغناها على تخته الخاص، وانقطع عن الإنشاد إلا في حفلات مولد النبي، وتشييع الكسوة الشريفة، وليالي شهر رمضان في منزل آل البكري، فكان ينشد فيها الأدوار الخاصة بالذكر حتى إذا تمزق ستر الليل غنى القصيدة التي مطلعها:
فتكات لحظك أم سيوف أبيك
وكؤوس خمر أم مراشف فيك
وقد سافر إلى الأستانة سنة 1305ه. وغنى السلطان عبد الحميد لأول مرة القصيدة المشهورة التي مطلعها:
ته دلالا فأنت أهل لذاك
وتحكم فالحسن قد أعطاك
ولك الأمر فأقض ما أنت قاض
فعلي الجمال قد ولاك
وأنعم عليه بالنشان المجيدي وقد أعطى صوته سنة 1908 لشركة عمر أفندي، وكتب على اسطواناته لفظتا «سمع الملوك» وعبأت له شركة «جراموفون» سنة 1910 عدة اسطوانات مازال الناس يتداولون سماعها بالفونوغراف، ومن طريق الإذاعة اللاسلكية الحكومية، وقد اشترى قطعة أرض بكوبري القبة بنى عليها منزلا جميلا بجوار منزل آل السيوف باشا، وقضى نحبه يوم 6 يونيو سنة 1911.
ومن لطيف النكت أن أتحف القارئ برواية طريفة نقلا عن جريدة الاتحاد العثماني البيروتية التي نعت الشيخ يوسف المذكور وذكرت بها ما يأتي بنصه: أن بعضهم سمع في الليلة الماضية صوت الفقيد في الفونوغراف ينشد قول الشاعر «فلا كبدي تبلى» فقال سبحان الله ميت يتكلم وقد بليت كبده، وهو يقول «فلا كبدي تبلى» فسبحان من أنطق الجماد وأمات المتكلم وعلم الإنسان ما لم يعلم.
في الوسط الشيخ يوسف المنيلاوي وعن يمينه محمد العقاد القانونجي وعن يساره إبراهيم سهلون وخلفهم: (4) أبو كامل، (5) علي صالح، (6) علي عبد الباري.
الشيخ محمد الشنتوري
كان الشيخ: محمد الشنتوري منشدا عظيما وهو أقدم عهدا في الإنشاد من الشيخ: يوسف المنيلاوي، ومعاصر للشيخ: خليل محرم، وكان قوي الصوت، حر الخلال ومحبوبا من جميع الناس، ثم احترف الغناء على التخت، وأخذ عن عبده الحمولي تلاحينه وأدواره الخاصة، وأحسن غناءها حتى أشار الأخيرة على أنصار الفن بأن يسمعوه من بعده واستمر يزاول الإنشاد مع الغناء، وذهب إلى الأستانة مرة وغنى في حضرة السلطان عبد الحميد، فأسنى له العطايا وأنعم عليه بالنياشين.
المرحوم الشيخ محمد الشنتوري.
محمد أفندي سالم
ابن سالم من قراء القرآن وعاش نحو 120 سنة وكان يسكن في جهة المغربلين. واحترف الغناء لكثرة سماعه إياه من كل من محمد المقدم، وموسى اليهودي في ليالي الأفراح والحفلات، وكان صوته حسنا لينا ورنانا، وكان يأخذ الأغاني عن المقدم وعبده الحمولي ومحمد عثمان، ويسبك أدوارهم سبكا محكما، ويعتبر مغنيا جيد الأداء حسن الترتيب دون أن يكون فنانا، وقد ذهب إلى فلسطين في سنة 1900 وغنى في يافا وغزة وأخذ بمجامع القلوب هناك، وكان يعزف على العود ويغني منفردا وكان محمود الشمائل.
أمين البزري
كان من أغنياء البلد، ومن هواة الناي الذي تعلمه عن رجل إسلامبولي (مولوي) اسمه دادا وتفوق على أستاذه، ولما قلب له الدهر ظهر المجن اضطر إلى احتراف العزف في الأعراس والحفلات، وتزوج بإنكليزية توفيت بعد أن خلفت له ولدا ذكرا وثلاث بنات، وقد اعترف عبده الحمولي له بالعبقرية في العزف على النار بدار الوجيه موسى بك عصمت نجل المرحوم جعفر باشا، وقد حضر عثمان الموصلي الفنان المشهور إلى مصر خصيصا ليسمعه وهو في حلوان ، ولما سمعه بمنزل عثمان باشا غالب الذي كان يحسن إلى الموسيقيين، ويعد من محبي الغناء العربي بعد أن أبطأ ونوط الروح تيها ودلالا، دهش من مهارته التي أنسته ما حصل منه من تثاقل وتباطؤ.
الأستاذ أمين البزري الناياتي.
إبراهيم سهلون
تعلم الكمان عن حسن الجاهل الكماني والربابي الذي طار صيته في الآفاق في العصر الذهبي لساكن الجنان الخديوي إسماعيل، وكان والده المدعو سليمان سهلون قانونجيا معروفا. واستمر إبراهيم يشتغل على تخت عبده زمنا طويلا - (انظر صورته بتخت يوسف المنيلاوي).
محمد العقاد الكبير
ابن مصطفى العقاد الكبير العواد تخرج على والده ونبغ في العزف على القانون نبوغا لا يجاريه فيه أحد بما أوتي من روح وخفة أصابع، وتزوج بابنة عبده الحمولي بعد وفاته، ولما زفت إليه عروسه بدار باسيلي بك عريان بالفجالة كان طروبا فرحا، وصاح وهو على التخت قائلا على رؤوس الأشهاد أنه تزوج ابنة سيده، ويعتبر أول العبقريين في العزف على القانون، وأن كل من تصدى لمجاراته من المحترفين المقلدين ولو اغترف من فضالته باء بالفشل المبين؛ لأن المسألة مسألة روح واستعداد فطري وخلو الأصابع من الملوحة ودقة معرفة للدوزان، وعاش ثمانين سنة، ومما نطقت به شواهد الحال أن حفيده محمد العقاد سيكون له مستقبل باهر في القانون أسوة بجده، ولو لم يمضي عليه في العمل أكثر من ست سنوات - (أنظر صورته بتخت يوسف المنيلاوي).
عبد الحي حلمي
كان صاحب صوت قوي وعال، وكان يغني بروح قد لا توجد في كثير من المغنين، وكان يغني بحسب كيفه والموسيقى دوزان كما قال: موزارت ويعرف في الأوساط الموسيقية بأنه مغن غير فنان، وكان الجمهور يلاحظ منه في أثناء العمل نزقا وزهقا يؤديان به غالبا إلى مغادرة التخت والانصراف قبل نهاية السهرة، وكان يذهب مرارا عديدة إلى دار المرحوم باسيلي بك عريان ليسمع بالاسطوانات القديمة قصيدة «أراك عصي الدمع» التي ألقاها عبده الحمولي.
المرحوم عبد الحي حلمي المطرب الشهير.
أبو العلا محمد
بدأ حياته بقراءة القرآن ثم تدرج إلى فن الغناء شيئا فشيئا ونبغ نبوغا تاما في إلقاء القصائد على طريقة المرحوم عبده الحمولي الذي عني بتقليده فيها، وفي سائر أغانيه الساحرة، وقد تخرجت عليه الآنسة أم كلثوم في القصائد مثل: وحقك أنت المنى والطرب. وقد عبئت له عدة اسطوانات في بعض الشركات، ومنها شركة الجراموفون التي عبأت له في سنة 1912 قصائد كثيرة مثل:
غيري على السلوان قادر. وأفديه إن حفظ الهوى. ومواليا وخلافها. ويا مليح الحلى.
لم يعزف على العود قط وكان غناءه بادئ بدء مقصورا على أصدقائه في منازلهم وفي بعض الحفلات، ولما اشتهر اسمه بعد تعبئة الشركات لاسطواناته اشتغل بالغناء على التخت، وقفا إثر عبده غريد الشرق سيد المطربين في بعض ألحانه.
الفصل الرابع والعشرون
الموسيقى فن سماوي
الحمد لله الذي خلق الإنسان خلقا سويا وسخره لتسبيحه وجعله موسيقيا بارعا، وجعل الكون بمثابة أرغن يحتوي على أنابيب قوية، ومزارد مكونة من الفضاء الفسيح اللانهائي والزمن والأبدية، وحسبك ما أنشأه مبدع الكائنات في الطبيعة من تناسب في المسموع كالسلم الموسيقي المؤلف عادة من سبع نغمات تتوالى من القرار إلى الجواب، وتلذ السمع وفي المنظور كالألوان السبعة الأساسية لقوس القزح التي تبهج النظر ولا تصل إلى محاكاتها مقدرة الفن، وتقسيم الزمن على قياس مضبوط، وجعل أيام الأسبوع سبعة معدودة، والأغرب أن الإنسان إذا بدرت من صوته نغمة ما تلقفتها الطبيعة وتمهلت ونقرتها بأصبعها لتختبرها هل هي من الغث أم من السمين؟ ولا ترد صداها موزونة متناسبة إلا بعد تنقيحها وتصحيحها، وحسبك الإنسان المخترع المبتدع الذي يعد أجمل المخلوقات صورة وأنضرها شبابا وأعدلها خلقا وأصغرها حجما وأحلاها صوتا والذي استولى على مقاليد الطبيعة الطافحة بالأنغامآ وحاكى على ضعف جسمه وصغر حجمه مالها من قدرة وجلال، وجعل الأثير رسول خواطره وبريد نغماته وانفعالاته، وأصبح خدنا لها ومتسلطا على جوها وبرها وبحرها حتى إذا وضع أنامله الصغيرة على مفاتيح الأرغن قصفت في العالم على أصوات متجانسة متناسبة ومتتابعة رعود متعددة تثير في الخليقة كلها ضجيجا حماسيا يفضي بها في النهاية إلى حاد الهتاف وحار التسبيح باسم ربك الأعلى.
وإثباتا لما قاله كارليل في أن الموسيقى مركبة للنبوة أبادر إلى إيراد قصة النبي إليشع التي تدل صريحا على أن المواهب النبوية يصحبها غالبا هياج جسدي وعقلي هو من القوة بمكان ويعهد إلى الموسيقى وحدها في إنتاجه؛ وذلك أنه لما دعاه ملوك إسرائيل الحلفاء ويهوذا وإيدوم ليتخلصوا من مخاطر الحرب الناشبة بينهم وبين ميشا طلب منهم أن يأتوا له بموسيقي ليعزف أمامه على آلته الموسيقية استحضارا لروح الإلهام النبوي، وقد شوهد ذلك جليا بما ثارت في نفس إليشع من نزوة الإيحاء النبوي عندما سمع صوت الموسيقى التي بواسطتها تمت لهم جميعا أسباب النجاة من ويلات تلك الحرب الضروس.
ومما لا شك فيه أن سفر التوراة يعد أعظم الأسفار الشعرية طلاوة وأصفاها ديباجة في عالم البديع وأكثرها احتواء على الموسيقى صوتية كانت أو وترية، وحسبك ترنيمة الانتصار والشكر التي رنمت على ضفة البحر الأحمر (إصحاح 15 خروج من 1 إلى 21) وهي الترنم للرب لأنه تغلب على فرعون وجنوده حينئذ رسم موسى وبنو إسرائيل هذه التسبيحة للرب، وقالوا «أرنم للرب فإنه قد تعظم الفرس وراكبه طرحهما في البحر» ولا يعزب عن البال أن سفر العهد الجديد يحتوي على مثل هذه الثروة الفنية على حد ما جاء في رومية 15: 11 «سبحوا الرب يا جميع الأمم» من أفواه الأطفال والرضع قد هيأت تسبيحا «سبحوا الرب بالمزمار والقيسارة».
وقد جاء في القرآن الكريم ما يأتي
وإن من شيء إلا يسبح بحمده
وفي سورة الحديد
سبح لله ما في السماوات والأرض وهو العزيز الحكيم ، وخاطب النبي الله سبحانه وتعالى وقال
فسبح باسم ربك العظيم ، وفي سورة المزمل
يا أيها المزمل * قم الليل إلا قليلا * نصفه أو انقص منه قليلا * أو زد عليه ورتل القرآن ترتيلا .
وعند قراءة القرآن فقد قال رسول الله
صلى الله عليه وسلم
حسنوا القرآن بأصواتكم فإن الصوت الحسن يزيد القرآن حسنا، وكان داود عليه السلام يقرأ مزاميره بالألحان حتى أن بعض الطيور كانت تقع وتموت من شدة الطرب؛ لأنه كان حسن الصوت، وكانت أصوات الأنبياء كلها حسنة ذهابا إلى ما قاله النبي
صلى الله عليه وسلم
ما بعث الله نبيا إلا حسن الصوت والمزامير، وقد روي عنه أيضا
صلى الله عليه وسلم «قد أوتى مزمارا من مزامير آل داود» وقد اتخذ بلال الحبشي (الذي كان أول من اعتنق الدين الإسلامي) موذنا له، لما وجد فيه من حسن الصوت فكان يقول له أذن يا بلال ولا تخش من ذي العرش إقلالا.
على أن مارتن لوثر اللاهوتي القدير والزعيم الكبير فقد أبان للملأ الوظيفة المهمة التي تؤديها الموسيقى في المجتمع من إلانة الطباع وتهذيب الأخلاق وتسكين الهياج، وقال على رؤوس الأشهاد ما يأتي: إني أفسح بكل سرور للموسيقى بعد علم اللاهوت المكان اللائق بها.
ويستنتج مما تقدم أنها لغة الأنبياء وينبوع العواطف النبيلة، بل هي فن سماوي، ومن ظن أنها إلهية يتلهى بها قتلا للوقت وعدها أداة للسخرية فهو في ضلال مبين، ومن اعتقد أنها مفسدة للأخلاق ومؤذنة بخراب العمران ويمكن الاستغناء عنها فهو أضل سبيلا.
فعلينا أن نتأمل ما نراه جميعا ماثلا أمام أعيننا في الطبيعة من ثروة الجمال المدهشة، وفي مختلف مناظرها من الروعة والبهجة والسحر ما يعبر لنا عن دقة صنع الخلاق العظيم، والانسجام الموسيقي، والتناسق والتناسب بما نسمعه من هدير مياه الأنهار، ومن حركات المد والجزر، ومن حفيف الأشجار وتنهدات نسيم الأسحار، وصياح البلابل، وهطل الوبل والطل، وهبوب الرياح، ونغمات الكواكب عند مسيرها المتناسب في أفلاكها المتنوعة حول الشمس - تلك النغمات التي تختلف باختلاف حجم كل كوكب وتفاوت درجته الاهتزازية عند اجتيازه الأثير - التي تكون إيقاعا متناسبا لا يعرف كنهه على وجه البسيطة، ويكنى بموسيقى الأكوان، وقد صدق الدكتور فيربون فيما قال: وهو أن الطبيعة طافحة بالأصوات الموسيقية.
الفصل الخامس والعشرون
الفوارق
بين بتهوفن الغرب وبتهوفن الشرق
تقدم لي في هذا الكتاب شرح مستفيض عن حياة عبده الحمولي وبيان المزايا التي اختص بها وما انتابه من محن وأمراض على قدر ما أدى إليه البحث وأعانت عليه البصيرة، وإثباتا لما ذكره المرحوم: إبراهيم بك المويلحي في مصباح الشرق من أنه قلما يوجد مثله من يحسن في صناعته ولا يسيء في أخلاقه، وتسهيلا على القارئ معرفة الفوارق بينهما لتتمهد المقارنة، ويصيب بحكمه وجه الصواب أنشر موجز ترجمة حياة بتهوفن معربا عن تاريخ حياته بقلم: سليڤان وهو كما يأتي:
بتهوفن نابغة الموسيقى الغربية.
ولد بتهوفن في مدينة بون (ألمانيا) سنة 1770 وتوفي في 26 مارس سنة 1827، وله عدة مؤلفات أذكر منها: الصوناتا والكوارتر والسنفونيا فيديليو ذات الألحان المسرحية (Quarlets, Sonata Symphonies)
وغني عن البيان أن ما من أحد من الموسيقيين يستطيع أن يجاريه لا في دقة التعبير ولا في عمق الشعور. وقد أصيب بمرض الاستسقاء الذي من أجله عملت له أربع عمليات. وقد وصفته أحسن وصف اليزابيت برينتانو
1
للشاعر جوتا بخطاب مؤرخ في 28 مايو سنة 1810 ذكرت فيه ما قاله عن نفسه ملخصا وهو كالآتي: «إن نفسي تذهب حسرات بكل تأكيد عندما يقع بصري على أشياء تخالف عقيدتي، وأعد هذا العالم أحقر من قلامة ظفر؛ لأنه لا يستبطن كنه الموسيقى التي تسبق الحكمة والفلسفة من وجهتي الإلهام والوحي، وتعتبر خمرا تعبق أنفاسها بشخص تحفزه إلى بعيد المدارك، وتحثه على التزام المناهج المفيدة المنتجة، وطلب الأقدار الخطيرة، وهأنذا باكوس إله الخمر للرومان الذي يعصر أحسنها ليشربها بنو الإنسان صرفا فتتمش فيهم الحميا تمشيا روحيا يبعثهم على جلب ما عثروا عليه في البحار إلى الأرض اليابسة بعد أن يفيقوا من نشوتها» وقال أيضا في موضع آخر «يجب علي أن أعيش وحيدا لأني لا أجد لي صديقا أخلص له ولائي وأفضي إليه بخبيئة سري، وإني لعلى يقين بأن الله أقرب إلي من إي فنان، وهو شريكي بلا وجل، فلا خوف إذن على موسيقاي من أن ينالها حيلة محتال، أو تصاب بسوء الطالع، وقد أتى على وصف الموسيقى بنوع عام، وعرفها كأداة للتفكير وصلة موثقة العرى بين الحياة الروحية، والحياة الجسدية».
أما ما كان من أمر عقليته فأذكر أنه كان يستشهد بأقوال أبطال اليونان والرومان في أقاصيصهم الخرافية، وكان سرف العقل لا يستقر على حال كريشة في مهب الريح بدليل ما يطلع عليه القارئ في الخطابين المتتابعين المرسلين منه لشخص واحد وإليكم نصهما بالإنكليزية. (1)
Do not come to me any more. You are a false fellow, and the knaker take all such. (2)
Good friend Nazerl.
You are an honourable fellow, and I see you were right. So come this afternoon to me you will also find Schuppanzigh, and both of us, will hump, thump and pump you to your heart’s delight.
ومعنى أولهما يقول له «لا تعد تأتي إلي لأنك شخص كذوب فليأخذنك وأمثالك ذباح الخيل الضعيفة».
وفي ثانيهما يقول: «صديقي الطيب نازرل.
أنت رجل معتبر وإني أرى أنك كنت محقا ولذا تعال إلي بعد ظهر اليوم حيث تجد أيضا شوبانزيج لكي نمرح ونطرب ونعزف معا بما يشرح صدرك ويقر ناظرك».
وقد كانت لموسيقاه عدة نواح مختلفة منها الناحية الروحية التي عبرت بها عن رؤيا الحياة على حد ما دلت عليه تآليفه الأخيرة مما وقع فيه من تجارب ومحن، وأصابه من آلام كانت من أهم البواعث على نمو حياته الداخلية، وأكسبته قوة عجيبة نادرة، ووسمته بطابع الجمال الذي به عبر عن موسيقاه تعبيرا أنصع بيانا من تعبير شكسبير، ولو تخير من المنظوم أحسنه وشيئا، وأمتنه حبكا، فنشر في تاريخ الفن صفحات من آيات العبقرية المجيدة، ويرجع الفضل في ذلك إلى أنه لم يعبأ في تعبيره بأي لفظ من طريق اللغة التي ليس له بأصولها خبرة بل كان يلجأ إلى النغمات وحدها ليعبر عن شعوره وأفكاره وميوله.
على أنه لما مات والده في سنة 1792 ترك له أخوين هما كارل وجوهان وأختا تسمى مرجريت ماتت بعده في شهر نوفمبر من السنة نفسها، وزادت مسئولية بتهوفن في حياته المرة المؤلمة؛ لأن والده لسوء سلوكه وإدمانه الخمر لم يترك له مالا، وقد تلقن دروسه الموسيقية عن موزارت في مدينة فيينا ابتداء من سنة 1787 وما كاد يبلغ السادسة عشرة من سنيه حتى عرف نفسه، وتحقق من عبقريته، وكان فظ الطباع مكروها من الناس، لا سيما من الجنس اللطيف، حتى أن ماجدلينا إحدى المغنيات وزميلته في الدرس لما طلب يدها سنة 1895 رفضت طلبه، وبعد موزارت تلقى دروسا أخرى على هيدن وشتيك وألبر كستبرجر وأخذ ينتقد القواعد التي جروا عليها، وسلق جميع الموسيقيين بألسنة حداد، واتبع خططا خاصة به نزولا على نزعاته وذوقه وميوله، وسما بنفسه تيها واستكبارا إلى أن أصيب بالصمم في سنة 1798 وكتب إلى أمندا صديقته كتابا في أول يونيو سنة 1801 قال لها فيه: «إنه سيئ الحظ وأن في صدره وغرا شديدا على الطبيعة، وعلى الخالق الذي يعرض مخلوقاته للحوادث التي فيها تتلف أجمل البراعم، وبسبب صممه انقطع عن مقابلة الناس عدة سنين لأنه لا يقدر أن يقول لهم إنه أصم لا يسمع، ولو كان محترفا مهنة أخرى غير الموسيقى لهان الأمر لكنه حرم السمع، وبالتالي نضب معين مرتزقه؛ فانعدمت حياته وقضي على مستقبله قضاء مبرما، وأردف قائلا لها في ختامه ومستطردا في وصف مصابه الهائل: أنت تعلمين أن أعدائي يشمتون بي - وكثيرا ما هم - ولو أمكن لي الانتقام من سوء الحظ لقبضت على حلقه بكلتا يدي»، وبدهي أن صممه جعله أبغض إلى الناس من قبل وأحقد من جمل حتى على ذوي قرباه، إلا ابن أخيه الذي كان ولي أمره، ولم يعلق قلبه بحب سواه منذ وفاة والده، وكان محتفظا بعدة أسهم لحسابه الخاص، ولم يمد إليها يده حتى في إبان اشتداد مرضه عليه اهتماما بشأن تربيته، وعمد إلى جمعية محبي الفنون والطرب في لندن فأسعفته مع صديق له بمبلغ مائة جنيه، صرف منها جانب على جنازته، وكان ذلك العبقري المسكين يقول لطبيبه فيرنج الذي ضاعت حيلته في شفائه: آه يا دكتور لو كان يوجد بين الأطباء الفطاحل من يستطيع أن يشفيني لأسميته بالطبيب العجيب، وقال قبل أن يلفظ نفسه الأخير «إن عمل يومي قد انتهى» وقد رآه المجتمعون حول سريره يحرك قبضة يده نحو السماء، بينما كان فاقد الشعور هو في سكرات الموت وغمراته، وليس أدل على ذلك من ذهاب نفسه شعاعا، وعدم رضوخه لأحكام الله وعظيم ثقته بنفسه التي لم يقهرها سوى هادم اللذات دون ثقته بمن أنشأنا من الأرض نسما، ويسر لنا منها أرزاقا وقسما. أما فقيدنا عبده الحمولي إذا قيس بيتهوفن في العقيدة والرجاء كان الفرق بينهما كالبعد بين الأرض والسماء لأن الأول كان أصبر منه على محن الزمان فأدرك نعيم الجنان، وآمن بالله في الحياة وفي الممات، وثبت على طاعته في وسط أمراضه وآلامه، وكان عظيم الرجاء بأنه سيبلغ الإرث في الآخرة بتركه في الدنيا ما يحب فمات وقلبه مليء بالرجاء وعلى فمه ابتسامة رحمهما الله أوسع الرحمات.
الفصل السادس والعشرون
سلامة حجازي
ولد الشيخ سلامة حوالي سنة 1278ه بالإسكندرية وبعد أن تعلم مبادئ الكتابة والقراءة اشتغل بفن الإنشاد على الأذكار، ثم تدرج إلى احتراف الغناء التمثيلي فوق المسارح، وانضم إلى فرقة إسكندر فرح حيث بهر العقول بصوته الفتان، وكون بعد أن انفصل منه فرقة خاصة به، وقام بتمثيل روايات نسج إبراد معظمها المرحوم الشيخ: نجيب الحداد، الذي عرب ثلاثة أرباع الروايات التي مثلت، فضلا عن روايات خطية لم يفسح له أجله بإتمامها وطبعها.
وسافر في سنة 1908 إلى حلب حيث تقابل مع الأستاذ المرحوم: أنطون الشوا وطلب إليه أن يقدمه لبعض العائلات الوجيهة فيها؛ لأجل التعرف بها، وطلب أيضا أن تعرض عليه رقصة السماح التي اشتهر بها الحلبيون، فشاهدها وسمع تواشيح من مقام العجم التي يندر وجودها في مصر. فلما أعجب بها تلقف وصلة جميلة منها وكلف كلا من محمود رحمي وأحمد فهيم بتدوين ما سمعه في حلب من تواشيح جميلة.
وكان على اتصاله برجال الأدب الذين استمد منهم خلاصة ما عربوه من روايات دائبا على اقتفاء إثر عبده الحمولي، وموفقا بالاهتداء إليه بواسطة: جمعه المطيب، الذي كان يطلعه على برامج حفلاته الغنائية ليستقي من بحره بعد إنهائه عمله المسرحي. وقد روى لي الأستاذ: داود حسني أن دعى عبده وسلامة حجازي والسيدة ليلى خياط للغناء بدار الأوبرا في ليلة خيرية، فابتدأ الشيخ سلامة بإلقاء قطعة غنائية تمثيلية أطرب بها الحضور، وتلته ليلى المذكورة وغنت على تختها بمساعدة شقيقتها «كقانونجية» ونالت الاستحسان، ثم صعد عبده على تخته المكون من كل من الليثي والعقاد وسهلون وأحمد حسنين وبركات وغنى مذهب رصد، تلحين محمود الخضراوي الآتي بيانه.
مذهب
قلبي في حبك ليه مشغول
من يوم رأيتك وعرفتك
أطلب وصالك وأفضل أقول
بالست زينب حلفتك
دور
دا يصح منك يا جميل
تلوف بغيري وتهجرني
وأنا بحبك صرت عليل
وحياة جمالك ترحمني
فكان يكرر «يا جميل دا يصح منك تلوف بغيري...» مطلقا صوته في الفضاء إلى أن بلغ أقصى حد، ثم أخذ ينحدر رويدا رويدا إلى أن بلغ القرار، حيث أقفل دوره على المقام بقوله «دا يصح يا سيدي منك» وما كاد يرتكز على «القفلة»، ويرسخ رسوخ الطود على آخر العبارة «يا سيدي منك» حتى فتن العقول وأحرز خطر السبق عليهما:
فقيد التمثيل والطرب المرحوم الشيخ سلامة حجازي.
وقد تفضل علي حضرة النابغة الأستاذ: خليل مطران ببيان موجز عن الفرقة التمثيلية في مصر جم الفائدة، وحري بالاعتبار آثرت إيراده إتماما لما ذكرته بأول كتابي في باب التمثيل، وتنويرا للأذهان، فإني أشكره على جميل صنعه وأسأل الباري أن يكلل أعماله في الفرقة القومية بالنجاح؛ لتبلغ الشأو الذي يصبو إليه قلبه الطاهر، ويستحقه مجهوده العظيم. وإليكم البيان.
الفصل السابع والعشرون
الفرق التمثيلية في مصر
بيان موجز
إن كان فن التمثيل العربي تأخر، قامت الفرق التمثيلية المتتابعة في مصر لتحاول أن تدرأ عن وصمته، فمن العدل ألا ننسى أننا ما زلنا في طفولة الفن، وأن الذين يعالجون التقدم به يعالجون في آن لغة ليست مستعارة من أقوال وآراء للعلماء والشعراء الجمهور، فيسهل عليه فهمها، وتبين وقائعها، بل هي مستعارة له من شعب آخر كانت عيشته وبيئته وخلائقه غير عيشتنا وبيئتنا وخلائقنا، وناهيكم بهذه العقبة من عقبة كئود. ثم هم يعالجون موسيقى لا شيء فيها يصلح للعزف الجهوري، ولا للنغمات تسير بها الجيوش وتسمعها الآلاف من الناس. ثم هم يعالجون حركات ورموزا قد اختلط شرقيها بغربيها، وليس بميسور تمحيصها إلى حين، فلنصابر العاملين منا ولنعاونهم كل بقدر مجهوده ذلك خير وأبقى من تغطية قصورنا بالتشدق والتشدد فيما لا يدرك إلا بميقاته من المطالب. وإنني لمورد بإيجاز منشأ التمثيل في هذه البلاد، ومنه نتبين أين نحن من الطريق وما الذي يبقى علينا اجتيازه للدنو من الشأو، إن لم أقل لبلوغه. على أن تاريخ الفن عندنا إنما هو تاريخ الفرق التي تولته وتوالت في القيام به. فأول من خطر له إدخال هذا الفن في لغة الناطقين بالضاد وهو المرحوم: مارون النقاش لخمسين سنة مضت أو نيف، جمع فرقة من الشبان الذين استصلحهم في بيروت وعرب لهم روايات: «البخيل» و«الحسود» و«أبي الحسن المغفل» تعريبا جاء أشبه بالتأليف؛ لحسن تصرف الرجل فيه مراعاة للذوق العربي، ولم تقدم تلك الفرقة هذا القطر، ولكن شدة الاشتراك المتصل بين الشام ومصر - ولا سيما منذ ابتداء هذا العصر - لا تدع فرجة للفصل بينهما في تاريخ الأدبيات والمعنويات. ففرقة مارون النقاش لبثت حيث نشأت إلى أن انحلت، ولكن رواياتها «البخيل»، و«الحسود» و«أبا الحسن المغفل» جابت التخوم إلى وادي النيل، وما برحت من لهجات مسارحنا إلى هذه الأيام، أعقب مارون قريب له معروف بين أدباء المحروسة في زمانه هو المرحوم: سليم النقاش، وسليم هذا أول من أنشأ فرقة للتمثيل بمصر باتفاق بينه وبين الحكومة أوجبت على نفسها بمقتضاه إمداده بمال، والترخيص له في استخدام الأوبرا زمنا معلوما لتمثيل رواياته، وأشهر تلك لروايات «مي» و«المقامر» و«عائدة» ثم أندروماك، وهذه بقلم أقدر أدباء وقته وأشهر خطبائه المرحوم: أديب إسحاق.
انحلت فرقة سليم نقاش بعد حين، ونهض المرحوم: يوسف خياط بتكوين جماعة أخرى يساعده أخوه المرحوم: أنطون خياط، ثم تلاهما المرحوم: سليمان القرداحي، فجمع جماعة لم تقصر تمثيلها على مصر بل تنقلت بين الشام وطرابلس غير مرة، ورأت أهل الغرب العربي أشياء من روائع هذا الفن لأول ما رأوها. في أثناء تلك المدة كان المرحوم: أبو خليل القباني قد أخذ يجمع فرقة بدمشق الشام، وطفق بوحي فطرته يخلق للعربية نوعا جديدا من التمثيل هو خليط من هزل وجد وكلام وغناء يعرف عند الإفرنج بالأوبريت، وأبدع ضربا حديثا من الإبداع يسميه الغربيون باليه
ballet
وأسموه عندنا رقص السماع، فصادف النجاح الذي كان به خليقا عند السواد الأعظم. حمل أبو خليل بعد قليل فرقته إلى مصر، ومصر يومئذ كعبة القصاد من فاقدي حرية القول والكتابة في بلادهم، بل فاقدي كل نوع آخر من أنواع الحرية العمومية والفردية، فشرع يعرض ما لديه والأمة فرحة مقبلة عليه.
وفي تلك الأيام عينها كان المرحوم: إسكندر فرح وفي فرقته المرحوم الشيخ: سلامة حجازي يبلي البلاء الحسن ليجلب الجمهور، ويستمد للنوع الذي آثره ما يعربه بعض أقطاب الأدب في ذلك العهد كالمرحوم الشيخ: نجيب الحداد، والمرحوم أخيه الشيخ: أمين، والشاعران الناثران المرحومان: طانيوس عبده وإلياس فياض، على أنه قد تخلل روايات هذه الفرقة ما دل على حالة لو تهيأت لكانت الأمة أرغب فيها وأميل إليها: من تلك الروايات «أنيس الجليس» «وصدق الإخاء» للمحامي الشهير المرحوم: إسماعيل بك عاصم.
بعد ذلك تلاشت فرقة المرحوم: خليل القباني. وقد سمعت من نادرتي زمانهما المرحومين: عبده وعثمان، أنه على توسط صوته كان أكبر أساتذة الموسيقى علما وإنشاء وبراعة إيقاع. ثم انفصل الشيخ: سلامة من إسكندر فرح، وأسس فرقته التي لقيت النجاح العظيم، والفضل في ذلك لهمة الشيخ وثباته وسخائه، وخصوصا لإحداثه ألحانا شائقات، وتطبيقه إياها على قصائد مما تقوى به أغراض الرواية في القلوب والأذهان نهاية قوتها، ويستمد به الخيال من ظاهر الحقيقة غاية التشويق والتطريب. في هذه الفرقة تخرج غير واحد من مهرة الممثلين الذين يصفق لهم الجمهور الآن وفيها رأينا للمرة الأولى ظهور الأخوة العكاشيين وأخذهم بهذا الفن ذلك الأخذ الذي تطرقوا معه إلى تأليف فرقتهم مستقلين، ثم دخولهم في شركة: «ترقية التمثيل». وقد قامت إلى جانبهم آنئذ فرقة الأستاذ: جورج أبيض، ثم فرقة الشيخ: سلامة بعد اعتداله وأبيض، ثم فرقة أبيض مستقلا للمرة الثانية، كما قامت فرقة الأستاذ: عبد الرحمن أفندي رشدي، على أثر انفصاله من فرقة أبيض، وفي خلال اشتغال هذه الفرق وبعد أن وال بعضها، وجدت على الولاء فرقة الأستاذ: يوسف وهبي، وكلتاهما أبلت بلاء حسنا في سبيل الفن، وأصابت حظا من ازدهار. ثم فرقة السيدة: فاطمة رشدي، ثم آل كل أولئك إلى التحول والشتات إلى أن وجدت منذ نصف عام الفرقة القومية المصرية .
هذا ما رغبتم إلي في إيجازه، أوجزته بقدر ما بقي في ذاكرتي، وأرجو الله ألا أؤاخذ إن كان قد وقع سهو أو خطأ.
الفصل الثامن والعشرون
أقوال وآراء للعلماء والشعراء والفلاسفة والأطباء
قال كرليل: «الموسيقى ضرب من الكلام غير المنطوق به، وغير المحدود، وهي توصلنا إلى حد اللانهائية، وتصيرنا ننظر مليا في ذلك مدة من الزمن، ومن ذا الذي يستطيع أن يصف بألفاظ منطقية مبلغ تأثير الموسيقى في نفوسنا. فلندعها تبقى لغزا وذلك خير من أن نحله، وتضيع الموسيقى سدى» وقال في موضع آخر ما محصله: «قد قدرت الأمم العظيمة الغناء والموسيقى قدرهما باعتبارهما أعلى مركبة للعبادة والنبوة وسائر ما يكون سماويا في نفوسهم».
قال شكسبير: - الشاعر الكبير - زاجرا الذين لا يهتزون للموسيقى ولا يقيمون لها وزنا «إذا خلت نفس إنسان من الموسيقى وانعدم تأثره من اتحاد الأصوات الرخيمة كتب عليه أن لا يصلح إلا للمخادعة، ونصب الحبائل للناس، والإضرار بهم؛ فتخور عزيمته، وتموت مشاعره، وتظلم عواطفه كالليل الدامس، ويكون غير أهل لأن يخلد إليه بالثقة».
قال مؤرخ ألماني عظيم: «إن عزف المرسلياز في الحرب أثار في نفس الجنود الفرنسويين حماسة وشجاعة، وكانت سببا في قتل خمسين ألف ألماني، على حد ما قال بروس الرحالة: من أن الناي الحبشي إذا عزف به في ساحات الوغى كان باعثا على تحميس الجنود الأحباش إلى حد الهوس والجنون».
قال بوسيه: - المؤلف الفرنساوي الكبير - مؤكدا أن ضابطا من الضباط في الباستيل كان يخرج للعيان من مخابئها فأرا وعناكب كلما كان يعزف على الناي، فكانت مجلبة للتسلية في وحشته، وكذلك الأسماك عند صيدها فإنها كانت عند سماع صوت الموسيقى تصعد وتتكاثر على سطح الماء.
قال غلادستون: «إن الذين يعتبرون الموسيقى من بين السخريات في هذا الوجود ويتخذونها آلة يتلهون بها هم في ضلال مبين»؛ لما أنها لا تزال تعد من العوامل الفعالة في تنشئة وتنبيه وضبط عقل الإنسان بناء على ما تسومع به في جميع العصور منذ بدء الخليقة إلى يومنا هذا، ولم تكن معرفتها خافية علينا يوم تفنن الناس في مذاهب الحضارة والعمران، وارتضعوا أفاويق العلم والعرفان، بل كانت بعكس ذلك أرفع من أن تكون خادمة لا تتخطى مراسم من يلهو بها هزؤا وسخرية، وأبعد عن الدعاية كل البعد، بدليل أن الصلة بينها وبين فن الشعر الشريف موثقة العرى؛ إذ أن من المحال أن يكون الإنسان شاعرا دون أن يكون موسيقيا، وما من شعر تم نظمه في المراحل الأول لهذا العالم إلا وكانت للموسيقى اليد الطولي في صوغه من خالص النضار، واحتوائه على لطيف الحس، وشريف الوجدان، فضلا عن أنها المرشد الأمين والسراج الوهاج الذي يضيء النهج الموصل إلى قلب الإنسان.
قال ريتشنر: «يمكننا بواسطة الموسيقى أن نستبطن كنه أمور لم يسبق أن رأيناها ولن نراها».
قيل عن كلمنصو ما يأتي: «سأل كلمنصو - رئيس وزراء فرنسا الأسبق - بتروفسكي - رئيس وزارة بولونيا المشهور بالعزف على البيانو - عندما دخل ميدان السياسة قائلا له: هل تركت الموسيقى ودخلت السياسة؟ فأجابه نعم. فرد عليه كلمنصو وقال له «يا له من تقهقر».
السراج الوراق:
أنشد السراج الوراق البيتين الآتيين:
إذا خمدت نيران صفوك فاعتمد
لإشعالها خمسا غدت خير أعوان
فراح وريحان وساق مهفهف
ونغمة ألحان وصحبة أخوان
رأي هولمز العلامة:
مر هولمز منذ سنين مضت بين قبور الموتى بناحية «سانت أوبرن» فوجد على رخامة ضريح العبارة الآتية
She was so pleasant
التي معنا «كانت جذلة بهذا المقدار»، وبعد أن تأملها هنيهة غلبت عليه نشوة الطرب وصفق بيديه؛ لأن هذه العبارة الوجيزة أوحت إليه ما كان في نفس الراقدة من موسيقى وبهجة وغبطة وسلام ورضى وأخلاق كريمة مما لم تترك مزيدا لمستزيد، وأردف قائلا: كم يمكن أن يصنع من الخير في البيت وفي الجماعة إذا كان قلب الإنسان فرحا مسرورا، وكم تلطف الموسيقى ما بالعيش من مرارة، وكم تزيل من صعوبات، وتحل من معضلات في طريق الحياة الشائك. ومما هو جدير بالاعتبار أن فضائلنا يجب ألا تبلغ أقصى حد من جد يكاد يخرج إلى الجفاء، وأن تكون صفات فروسيتنا على ما تكنه من قوة وعنف، محتوية على نغمات حنان لطيفة ومودة وصفاء، حتى نجعل منها دواء ناجعا في دفع أسواء الحياة، إذ بدون المويسقى كما لا يخفى لا تلين العريكة ولا تنكسر حدة الغضب، وبها يفيض قلب الإنسان بالحب لأخيه الإنسان وكل مخلوق حي.
ومما يحسن ذكره نقلا عن الضياء (لليازجي) أن طبيبا أمريكيا يقال له ليونار كورننج قد زاول معالجة الأمراض بالنغم، وطريقته في ذلك أن يضجع العليل علي وسادة مستلقيا على ظهره ويظلله بخيمة لا منفذ فيها فيكون ما تحتها مظلما، ويجعل في رأسه كمية من جلد لين قد نيط إلى جانبيها مسمتعان يجعلهما على أذني العليل، ويتصل بهما سلكان يفضيان إلى فونوغراف، ويرسل عند أسفل الوسادة حجابا أبيض يستقل عليه صور أشباح مختلفة بواسطة الفانوس السحري، فإذا تم إضجاعه على هذا الوجه أعمل الفونوغراف، ووجه الفانوس إلى الحجاب فيسمع العليل أنغاما لطيفة وتترادف أمامه صور الأشباح والألوان البهيجة، وبتوارد هذه المؤثرات على سمعه وبصره لا يلبث أن يدب النعاس في عينيه ثم ينام نوما هنيئا يتخلله أحلام طيبة ومناظر جميلة، ويقول الطبيب المذكور أن تكرار مثل هذا على العليل مرات قليلة يؤدي إلى الشفاء.
وأقدم ما يروى من ذلك ما كان من أمر شاول ملك بني إسرائيل حين تخبطه روح السوء، وكان داود يضرب له بالعود فيجد روحا (بالفتح).
وقد نقل عن أوميروس وبلوطرخس وتيوفرست أن الموسيقى تشفي من الطاعون والرثية ولدغ الهوام، وزعم قوم من المتأخرين منهم ديمربروك وبونيت وكرخر أنها تشفي من السل والكلب، وذهب غيرهم إلى أبعد من ذلك، وزعم بورتا أنه إذا اتخذت المعازف من خشب بعض العقاقير الطبية وضرب بها على سماع العليل فعلت فعل العقار نفسه. ا.ه.
الفصل التاسع والعشرون
محادثتي مع صاحب المعالي سعيد ذو الفقار باشا كبير الأمناء
تحدثت إلى معاليه صباح الأربعاء 10 يوليه سنة 1935 بالسراي الملكية بشأن حياة عبده الحمولي، صديقه الحميم، ورجوته بأن يرفع إلى الأعتاب الملكية ملتمسي الخاص بإحياء ذكراه يوم 16 منه تحت رعاية جلالة الملك؛ لأنه أكبر موسيقي أنجبته مصر، فاعتذر إلي من ذلك لأسباب لا محل لذكرها في هذا المقام. وقد أفضى بنا الحديث إلى ذكر بعض نوادره التي غلبت على الحكايات الخرافية، ومن ضمن ما قصه معاليه علي أذكر الواقعة الآتية: وهو أنه حينما ظهر دور «قد ما أحبك زعلان منك» وقد أعلز عبده داء ذات الرئة، وأضرب بسببه عن الغناء؛ نزولا على مشورة أطبائه الذين وضعوا بحلقه معلقة طبية؛ تسهيلا للتنفس، وقد اتفق أن جمعه وعبده مجلس أنس على ظهر ذهبية فخمة في النيل، فرأى عبده من بهجة وابتسام الطبيعة وتنهدات النسيم العليل ما حمله على التصدي للغناء لكي يستمتع صديقه ومن كان معه بصوته قبل الفراق. فعمد إلى رفع الملعقة من حلقه وأخذ يغني الدور المشار إليه، ولما اعترض عليه الحضور رأفة بحاله لم يقلع عن عزمه على إتمام الغناء حتى إذا ما أراد «قفل» الدور ضم إلى صدره لضعفه عمود صاري الذهبية. فهل يوجد أدل من ذلك على مبلغ تضحيته وتفانيه في خدمة الناس؟ ثم استطرد معاليه إلى الكلام عن سخائه وفنه وعبقريته بعد أن دخل علينا الهمام صاحب العزة: محمد بك حسين - الأمين الثاني - وجلس بجانبه فقال لي إنه لم ير طيلة حياته بين الباشوات في مصر أكثر منه تبرعا بعطاء، ولم يخلق قبله ولن يخلق بعده من يجاريه في فن الغناء وقوة الصوت. ومكث يقص علي عن كرمه ورقة عواطفه حديثا أشد تغلغلا إلى الكبد الصديا من زلال الماء. وبعد أن دعوته وحضرة محمد بك حسنين إلى تشريف الحفلة التأبينية التي قمت بإحيائها بدعوة مني على مسرح حديقة الأزبكية انصرفت شاكرا لمعاليه حسن استقباله لي وتفضله بالتحدث إلى عنه بما سرى عن خاطري.
وقصدت مساء السبت 13 شهره بناء على موعد تحدد إلى مكتب حضرة الأستاذ الكبير صاحب العزة: إبراهيم الهلباوي بك، بمنيل الروضة، وطلبت إليه أن يلقي كلمة عن الفقيد في الحفلة التأبينية؛ ظنا مني أنه من معاصريه وعشرائه، فاعتذر لي وقال: إنه لو كان يعلم شيئا عنه لما تأخر عن الخطابة كما فعل من يومين مضيا في تأبين المرحوم الشيخ: محمد عبده الذي كان متصلا به لوحدة عملهما في معهد الأزهر. وأردف معربا عن استحالة تعرفه به لما كان له من شخصية بارزة لا يوصل إليها، فشكرت لحضرته وصراحته وانصرفت.
ولما وصلت إلى مكتبي اتصلت تليفونيا بحضرة الأستاذ: محمد رفعت وشرحت له الموضوع ورجوته أن يتلو ما يتيسر من الآي الكريمة عند افتتاح الحفلة مساء 16 يوليو الماضي، فأسف جد الأسف لارتباطه في نفس الوقت بالعمل في محطة الإذاعة، وسألني عما إذا كان يمكن إرجائها إلى الليلة التالية، فأفهمته عدم إمكان ذلك لتوزيع تذاكر الدعوة للجمهور، والتنويه بها رسميا على صفحات الجرائد، ثم قال معجبا بعبقرية الفقيد ما مؤداه «إن عبده كان سيدا على الموسيقى، أما المطربون السابقون واللاحقون فهم جميعا عبيد لها».
الفصل الثلاثون
مشاهير رجال الموسيقى
الأستاذ سامي الشوا
ولد الأستاذ سامي الشوا في حلب سنة 1889 وبعد أن تعلم مبادئ الكتابة والقراءة في مصر، ترك المدرسة لضعف صحته وعكف على تعلم الكمان منذ نعومة أظفاره. ولا غرابة في ذلك كما أن المرحوم أنطون الكبير عم جده إلياس كان يعزف على الكمنجة الصغيرة والكمان الأكبر حجما منها المسماة ب
Viole d’amour
ذات السبعة أوتار، وهو أول الحلبيين الموسيقيين الذي عزف عليهما في حضرة إبراهيم باشا بحلب، وأن أهل حلب ولعون بالطرب كل الولوع ويحفظون التواشيح والأوزان والقدود، وقد لا يخلو بيت فيها من ذوي الأصوات الحسنة أو من الآلات الموسيقية. ويرجع السبب الرئيسي في فسيح خطواتهم في الموسيقى إلى أن حلب كانت قبل فتح قنال السويس محط رحال التجار والسياح من أعاجم وترك وتتر وأرمن، وكانت نقطة اتصال بين مختلف الشعوب، وكانت التواشيح العربية تترجم إلى اللغتين الفارسية والتركية وبالعكس، وكان فتح قنال السويس في سنة 1869 ضربة قاضية على تجارة حلب؛ لما أن البضائع التي كانت ترسل إليها فتحملها القوافل برا إلى نواحي العراق وبلاد العجم لا بد أن ترسل بعد ذلك بحرا عن طريق السويس ثم البصرة، ومع ذلك كله لا يزال ديدنهم الغناء ومذهبهم رقص السماح والترنم بالشعر ونظم الموشحات التي اشتهر بها حضرة الشاعر الناثر: قسطاكي بك حمصي اقتداء بالأندلسيين، وقد قال أثير الدين الجياني الأندلسي:
نصب العينين لي شركا
فانثنى والقلب قد ملكا
قمر أضحى له فلكا
قال لي يوما وقد ضحكا
أتجي من أرض أندلس
نحو مصر تعشق القمرا
وقد خلف إلياس عبودا من أكابر المطربين في حلب وأنطون والدكل من الأستاذين سامي، وفاضل الشوا، وكان إلياس ينزل في الأستانة ضيفا على السيد أبي الهدى الذي كان يعد من أكابر الصوفيين المشهورين بحفظ التواشيح وإنشادها، وكان قانونجيا يرأس تختا وعلى يمينه ويساره ولداه يعزفان على العود والكمان، ويدعى للعزف في الحفلات الفخمة، ولو كانت البقرة التي كان أبونا إبراهيم الخليل يحلبها على قمة الجبل سمعت بوجه الافتراض حين حلبها نغمات الأستاذ: سامي الشوا على كمانه لأدرت لبنا يزيد خمسة وعشرين في المائة إن لم يكن أكثر على المقدار الاعتيادي.
الأستاذ أنطون الشوا والد أمير الكمان.
وقد ذهب الأستاذ سامي إلى برلين عام 1931 وزار المعهد الموسيقى للحكومة زيارة رسمية برئاسة سعادة حسن باشا نشأت، وحضور أساتذة الموسيقى الذين أعجبوا بنبوغه وأخذت لمعزوفاته عدة إسطوانات حفظت كتذكار له بالمعهد، وزار أيضا باريس حيث احتفل به المعهد برعاية سعادة فخري باشا وحضور المسيو رابو - رئيس «الكونسرڤاتوار»- والمسيو شولمان - سكرتير المعهد الوطني الأكبر - وزار روما ولندرا ثم أميركا الشمالية.
وقد رفع أينما حل رأس مصر عاليا، وهو خليق بكل رعاية واحترام ويعد أول عبقري في عالم الموسيقى.
ولا يسعني في الختام إلا أن أتحفكم بما جادت به قريحة المرحوم أمير الشعراء كتحية ومديح لأمير الكمان في 16 مايو سنة 1928 اقتطف منها بعض الأبيات الآتية:
يا صاحب الفن هل أتيته هبة
وهل خلقت له طبعا ووجدانا
وهل وجدت له في النفس عاطفة
وهل حملت له في القلب إيمانا
وهل لقيت جمالا في دقائقه
غير الجمال الذي تلقاه أحيانا
وهل هديت لكنه من حقائقه
يرد أعمى النهى والقلب حيرانا
الفن روض يمر القاطفون به
والسارقون جماعات ووحدانا
أولى الرجال به في الدهر مخترع
قد زاده جدولا أو زاد ريحانا
العبقرية فيه عز مالكة
إذا مشى غيرها لصا وجنانا
لا تسأل الله فنا كل آونة
وأسأله في فترات الدهر فنانا
الأستاذ سامي الشوا أمير الكمان.
صورة لأمير الكمان الأستاذ سامي شوا وهو في برلين ويرى في الوسط.
الأستاذ داود حسني
ولد داود حسني في مدينة القاهرة عام 1871 وفكر بعد أن أتم دراسته الابتدائية أن يحترف فن الموسيقى والغناء، فأخذ يتلقى دروس العزف والإيقاع على أكبر الأساتذة فتعلم الضروب والأوزان والبشارف والقواعد الموسيقية كما تعلم العزف على العود، ومن مميزاته اقتداره على تقليد المرحومين: عبده الحمولي ومحمد عثمان، وله عدة تلاحين خالدة بادر المطربون إلى غنائها، أذكر منها «حبك يا سلام» «يا طالع السعد» «الصباح لاح ونور» «الحق عندي لك» وهو أول دور لحنه، «وأسير العشق» الذي لحنه من نغمة ابتكرها وأسماها بالزنجران، كما لحن عدة أدوار أخرى من نغمات خاصة به تسمى «الحجاز كار كرد»، وكان له تخت خاص غنى عليه مدة طويلة وترك أخيرا الغناء وعكف على التلحين، وتخرج عليه كل من الأستاذين: زكي مراد، وصالح عبد الحي، والآنسات: ليلى مراد، ونجاة، وسهام، وأسمهان، ونادرة، كما لحن للآنسة: أم كلثوم - المطربة الشهيرة - عدة أدوار منها الدور المشهور «روحي وروحك في امتزاج» ودور «يوم الهنا»، ومما يجمل في التاريخ ذكره أنه لم يجد بابا في الموسيقى إلا طرقه، ولم يصادف نغمة غريبة، أو وزنا مبتكرا إلا لحن منهما لحنا أو أكثر.
ولم يقتصر مجهوده على التلحين الغنائي فحسب بل شق له طريقا في الموسيقى المسرحية، ولحن أولا «صباح» التي كانت فاتحة الألطاف، وأخرج الأوبرا: شمشون ودليله، وليلة كليوباترة، وأكمل أوبرا: «هدى» للمرحوم: سيد درويش، والأوبريت الكوميدي «الليالي الملاح» و«الشاطر حسن»، و«أيام العز»، و«الغندورة»، و«ناهد شاه»، ورواية «معروف الإسكافي».
الأستاذ داود حسني.
وهو سريع الحفظ لجميع الأدوار والمقطوعات التي ألقيت قديما وحديثا، ويرجع إليه الفضل في تدوين نحو مائة دور دونها بالنوتة الإفرنجية للمعهد الملكي للموسيقى العربية، فضلا عن أنه لحن ما يقرب من خمسماية دور ومقطوعة، ونحو ثلاثين رواية غنائية حتى قال عنه المرحوم: أحمد شوقي بك، أمير الشعراء، إنه كنز فني عظيم لا يفنى ودرة ثمينة لا تقدر بثمن.
وقصارى القول إن موسيقاه موسومة بطابع شرقي جذاب، ومصبوغة بلون مصري بهي مفرح، وهو على نبوغه في التلحين متواضع النفس كريم الأخلاق.
الأستاذ: قسطندي منسي
ولد بدمياط في شهر أكتوبر سنة 1866 وانقطع عن طلب العلم لضعف بصره، فاضطر إلى الانصراف إلى درس الموسيقى وهو دون البلوغ بمعاونة المرحوم: عبد الله القانونجي عمه الذي كان ضريرا، وقد ترأس تخته مع أحمد الشربيني ومحمد الشربيني ولده، العوادين، وعزفوا في الحضرة السلطانية بالأستانة، وتلقى تدوين الألحان بالنوتة عن الأستاذ: أنطون جوان، المدرس بسراي الخديوي إسماعيل، فعمد إلى عمل أدوار وبشراوات منها بشر وجهار كاه عديم النظير، وأول الأدوار التي دونها على الحجر للافتقار إلى المطابع في أول العهد بها كان دور «تيهك علي اليوم بسنين» وأصدر منها نحو ألفي نسخة نفذت جميعها بسرعة.
ولما بلغ الثانية والعشرين من سنيه وقع دور «كادني الهوى» (نغمة النهوند) على البيانو، يوم كان البيانو قليل الاستعمال في المحافل، حتى أن من كان يضرب عليه دور «يا طير الحمام يا أخضر» كان يعد بلا منازع من جهابذة العازفين، وقد وفق إلى اختراع العرب للقانون بدل العفق طلبا لإيجاد نصف المقام وربع المقام عند اللزوم، وهما موجودان في الموسيقى العربية، ولم يسبق لمحمد العقاد الكبير أن استعملها بل استعاض عنها بالعفق، على ما في هذه الطريقة من كتم الصوت وضياع الوقت والإعياء كما يزعم بعضهم.
الأستاذ قسطندي منسي.
على أنه والحق يقال هو أول من عمل في نغمة لجهار كاه بشرفا - كما تقدم - وأسماه بالبشرف العباسي، وقدمه للخديوي عباس، وكان مخصصا أولا للخديوي توفيق الذي توفاه الله قبل طبعه.
ولا يعزب عن البال أن والده المرحوم منسي كان أول من ألف تختا للآلات المصرية، وأن عبد الله القانونجي كان عبقريا في العزف على القانون، وقد أديا للموسيقى العربية خدمات جليلة تخلد لهما أجمل ذكر. وللأستاذ: قسطندي ولدان أحدهما: الأستاذ فريد المحامي لدى المحاكم المختلطة والأهلية، يشتغل بمكتب عمه المحترم الأستاذ: عزيز منسي - نقيب المحامين الأسبق بمحكمة مصر المختلطة. والثاني بعد أن نال البكالوريا المصرية انصرف إلى درس الحقوق الفرنسية، وهم من خيار الناس قد جمع الله فيهم خلال الفتوة ولين الطباع.
الأستاذ: منصور عوض
ولد الأستاذ منصور عوض بقصورة الشوام بشبرا (مصر) عام 1880، وكان والده المرحوم حنين منصور عوض من أكابر تجار الأقمشة بالحمزاوي، وتعلم بادئ بدء بمدرسة الفرير بالخرنفش، وهو دون البلوغ مبادئ اللغتين العربية والفرنسية، والعزف على الكمان بالنوتة الإفرنجية، واتفق أن دبت فيه الغيرة على اقتناء العود مما أحاط به من عوامل حينما كان يزور والده كل من الشيخ: خليل محرم المنشد، وعمر أفندي التركي - موسيقار الخديوي إسماعيل - الذي كان يعزف على الطنبور فألح على والده أن يشتري له آلة شرقية كالعود، فنبذ الأخير طلبه وراء ظهره؛ لما كان لحرفة الغناء من حقارة وازدراء في عصره، ولكنه نزولا على رغبة ولده المولع بالموسيقى الشرقية اشترى له آخرا عودا وقانونا، ثم انتقل من مدرسة الفرير إلى المدرسة التوفيقية، فمدرسة الأقباط لقربها من شارع محمد علي، حيث كان يتلقى دروسا موسيقية على يد مدرس ماهر.
الأستاذ منصور عوض.
ولما وفد إلى مصر من الأستانة سنة 1898 نفر من مشاهير الموسيقيين الأرمن الذين كونوا جوقتين موسيقيتين، وكان مركز الأولى بالعتبة الخضراء بجوار محلات ألف صنف، والثانية بشارع عبد العزيز، أخذ يتردد عليهما واقتبس عن الموسيقيين فيهما بعض مقطوعات وبشارف وغيرها، وأخذ يعطي دروسا في فن الموسيقى لبعض العائلات، وافتتح سنة 1907 بالاشتراك مع الأستاذ: سامي الشوا مدرسة موسيقية بالظاهر بمصر، كان يحتم فيها تعلم النوتة الإفرنجية، ونظريات خاصة بالأنغام والأوزان، وكانت تلقى بها بعض محاضرات قيمة مرة في الأسبوع، واستمرت هذه المدرسة إلى سنة 1925، ولما عين مراقبا فنيا للتعليم في فرع المعهد الملكي المدرسي اضطر إلى إغلاقها، ونظرا لكثرة أشغاله بشركة الجراموفون وتنقله بين مصر والإسكندرية اضطر إلى تقديم استقالته إلى المعهد في أواخر ديسمبر سنة 1931 وهو لا يزال إلى الآن شاغلا مركز مستشار فني وإداري بالشركة المذكورة.
وغني عن البيان أنه قد وضع عدة مؤلفات منها: كتاب التحفة البهية في الاصطلاحات الموسيقية، ومناظرات علمية في الموسيقى الشرقية والغربية تشهد له بطول الباع في هذا الفن الجميل، ويرجع إليه الفضل في تسجيل عدة إسطوانات ربحت منها الشركة فضلا عن بشروات وسماعيات وأناشيد وطنية ومارشات من ضمنها مارشات مصطفى باشا كامل، ورعمسيس، وبطرس باشا غالي، والأميرة فاطمة هانم إسماعيل، والسلطان حسين، وسعد زغلول باشا، والحرية، وأدرنة، والهلال الأحمر، والسلطان محمد الخامس بالأستانة، والنشيد الوطني نظم الأستاذ: مصطفى صادق الرافعي - وهو سلس الطباع وفي متجاف عن مقاعد الكبر بشوش الطلعة. (غزل)
قد روي عن كتاب الأغاني ما يأتي: «كان
زلزل
أضرب أهل زمانه بالعود، وكانت له جارية علمها الضرب والغناء»، ولما بلغ إسحق الموصلي بعد موت
زلزل
أنها تعرض في ميراثه للبيع صار إليها ليعترضها فغنت:
أقفر من أوتاه العود
فالعود للأوتار معمود
وأوحش المزمار من صوته
فما له بعدك تغريد
من للمزامير وعيدانها
وعامر اللذات مفقود
الخمر تبكي في أباريقها
والقينة الحمضانة الرود
الأستاذ: محمد السبع
ولد الأستاذ محمد السبع بدمياط في سنة 1870 وبعد أن تعلم القراءة والكتابة وحفظ ما تيسر من القرآن احترف فن الغناء؛ لما له من صوت رخيم حسن، وجاذبية قوية، بالرغم من اعتراض الشيخ: علي العفني جده (أب والدته) عليه؛ خشية أن يناله شين المهنة في ذلك العهد، وذهب أولا إلى المنصورة حيث بدأ يغني بقهوة الخواجا ديليا على البحر الأعظم، وكان موضوع عناية الخواجا نقولا قسيس - أحد أقرباء آل منسي بدمياط - نزولا على توصيتهم به، وما لبث أن سمعه الأستاذ: عبد الله القانونجي حتى استصحبه إلى مصر ودربه على الغناء، حتى اشتغل بجبلاية الأزبكية يوم كان محمد عثمان والشيخ يوسف يشتغلان تجاهه بالجنينة، ولما سمعه عبده الحمولي - بينما كان يتنزه فيها مع أولاده - ضمه إلى تخته، حيث اشتغل سبع سنوات كمساعد له، وأبلى بلاء حسنا بما اقتبسه عنه من ضروب وتوقيع فاستضاء بمشكاته حتى أحبه وعطف عليه عطفه على بنيه، ولم يكن تخرجه عليه مقتصرا على فن الغناء، بل استفاد منه بما يرضي الله والناس جميعا بالتقوى والاستقامة وصالح الأعمال، وقد رزق ولدا يدعى إبراهيم أفندي دسوقي السبع موظف بالقلم الجنائي بمحكمة مصر الكلية، وبنات فاضلات من ذوات الصون.
الأستاذ محمد السبع.
وقد دعاني مساء 7 فبراير الماضي لسماعه في بار اللواء على تخته المؤلف من أعاظم العازفين وهم الأساتذة: عبد الحميد القضابي القانونجي، وكريم الكماني، وعيد قطر العواد، وجرجس سعد الناياتي، فسمعته بعد عدة تقاسيم على الآلات يغني مذهب «كنت فين والحب فين» فأعجبت به وأعادني إلى ماضي الذكريات في العصر الذهبي لأستاذه الحمولي؛ بما أتاه من حسن الإلقاء، وضروب التفنن، ويالعمري لو عنيت محطة الإذاعة اللاسلكية بتشغيله بالمحطة لكي يتمكن من يسمعه من النشء الحديث الحسن الصوت من التقاط ما بقي بصوته من نغمات ساحرة ونبرات عربية باهرة.
وبالجملة أقول في النهاية حقا أكرم به رجلا نبيل النفس ندي الراحة وصبيح الوجه.
الأستاذ: محمد كامل رشدي
رئيس القسم الفني بإدارة تحقيق الشخصية
ولد في سنة 1879 وتربى في سراي والده التي كانت تقع بباب الشعرية وتشرف على الخليج المصري قبل سده، وكانت محط رحال الموسيقيين للتدرب على مقطوعاتهم ومعزوفاتهم؛ لما ألفوا فيها من المناظر الرائعة الطبيعية من أشجار وزهور ومياه.
الأستاذ محمد كامل رشدي الرئيس الفني بإدارة تحقيق الشخصية، عواد قديم شهير وتلميذ الأستاذ الكبير أحمد الليثي.
فشغف بالعود، واقتبس عن الأستاذ: العريان والد إبراهيم العريان القانونجي قسما من التعليم على القانون، على حد ما فعل الأستاذ الليثي الذي تخرج عليه في سنة 1908 وأضحى من كبار العازفين على العود.
السيد: أمين المهدي
السيد أمين المهدي العواد الفذ.
الذي لا يحتاج إلى تعريف هو من كبار هواة العود يجيد العزف عليه، ويعد من أنصار الموسيقى العربية، ومن المعارضين في التجديد الأبتر، وقد عبئت لبعض معزوفاته إسطوانات في الشركات الفونوغرافية لا بأس بها.
غزل
دعيت جارية
زلزل
إلى الغناء في حضرة الرشيد فقال لها غني صوتا فغنت:
العين تظهر كتماني وتبديه
والقلب يكتم ما ضمنته فيه
فكيف ينكتم المكتوم بينهما
والعين تظهره والقلب يخفيه
فأمر بأن تباع وتعتق، ولم يزل يجري عليها إلى أن ماتت.
الأستاذ مصطفى ممتاز
الأستاذ مصطفى ممتاز الكماني.
هو من الهواة العازفين على الكمان، ومن أنصار الموسيقى الشرقية والغناء العربي، وقد تخرج على الأستاذ: إبراهيم سهلون ويحفظ له بعض تقاسيم.
الفصل الحادي والثلاثون
شكر عام
ليس فينا من يجهل ما لحضرتي العلامتين: الدكتور فارس نمر، وصاحب العزة خليل بك ثابت - رئيس تحرير المقطم الأغر - من رفيع المنزلة في النفوس لما اتصفا به من أريحية الطباع وكرم الأخلاق، وتحليا به من العلم الذي وقفا حياتهما على الغوص على أسراره، وبحث الحقائق ونشر الفنون وفي مقدمتها الموسيقى العربية التي جرى لأصحاب المقطم فيها بحوث مستفيضة ومناقشات جمة مع بعض الموسيقيين الأمريكيين قبل انتقالهم إلى هذا القطر، فضلا عن تضلع حضرة رئيس التحرير منها، ومعرفته العزف على بعض آلاتها.
ولما أخذت على عاتقي إحياء ذكرى النابغين الراحلين من المصريين وبدأت بذكرى عبده الحمولي وما له من الأيادي البيضاء على الموسيقى الشرقية والغناء العربي، وتقدمت ما أتاه المجددون من ضروب التضليل فيها، كتبت بعض كلمات إلى المقطم الأغر، الذي فسح لها مكانا ونشرها غير مرة، فصادف قبوله ما هو كامن في نفسي من حب مفرط للموسيقى، وغيرة عليها، وتنبهت الأمة إلى ما أبديته من الاعتراضات على التجديد الذي لا يرتكز على قواعد، ولا يقصد به إلا تشويه محاسن مويسقانا، وإزالة طلاوتها وصبغتها الشخصية، ومسخ نغماتها التي تولد منها في الغرب حاسة الخيال والجمال.
الدكتور فارس نمر صاحب المقطم.
فيرجع إذا كل الفضل إليهما في هذا التشجيع الذي دفعني إلى وضع هذا الكتاب المفيد، وقد أحجم المقطم عن نشر كلمة الشكر المقدمة مني مرتين لهما، وكانا يختبئان اختباء البنفسج بين العوسج؛ فنمت رائحة إنكار ذاتهما عنهما، ولذا لا يسعني إلا أن أقدم لحضرتيهما جزيل الشكر واعترافي بجميل صنعهما، ولحضرات أفاضل الأدباء وأكابر الشعراء الأستاذ: خليل مطران، وصاحب الفضيلة الشيخ: مصطفى عبد الرازق، وسيادة المطران: كيرلس رزق، والدكتور: عبد الرحمن شهبندر، والأستاذ: محمود فؤاد الجبالي، على مقالاتهم النفيسة التي بعثوا بها إلي، مع اعتذاري للآخرين الذين لم أتمكن من نشر مقالاتهم لضيق نطاق هذا الكتاب، وفقنا الله إلى ما فيه كل الخير للوطن وللفن.
الفصل الثاني والثلاثون
مذهب: كنت فين والحب فين
تلحين المرحوم: عبده الحمولي، ووضع الأستاذ: قسطندي منسي
تجدون أعلاه ما دونه بالنوتة الإفرنجية الأستاذ: قسطندي منسي عن عبده الحمولي، وهو مذهب حجاز كار تلحينه الخاص، والغرض من تدوين هذا الدور إعطاء القارئ صورة مصغرة لنغماته، والإشارة إلى ابتكاره الذي يأتيه بما توحي به إليه نفسه، وتراه عينه من المرئيات المتنوعة الكثيرة، وما أقلها في عينه الصغيرة على حد قول البارودي باشا:
كالعين وهي صغيرة في حجمها
تسع الوجود بأرضه وسمائه
وبيانه أن النوتة مهما بلغت من الدقة لا يمكن بها تصوير نغماته لعدم وجود ربع المقام في العلامات الإفرنجية، وبدونه لا يمكن الإحاطة بتموجات صوته ولعبه بالألحان، وغريب تصرفه وبحته، ناهيك بالروح الذي به يؤدي نغماته ونبراته الخاصة به، وتعتبر حينئذ كتصميم لبناء نغماته، أو خطوط أولية مرسومة لتصوير شكل من الأشكال، ومما يؤيد ذلك ما قاله الأستاذ: منصور عوض بعدد 7004 من مقطم 13 إبريل سنة 1912 وهو بحروفه كما يأتي «أن الأنغام الشرقية لا يمكن تصويرها بالعلامات الإفرنجية التي وضعت وألفت بها قبلا عدة أدوار وموشحات وبشارف وخلافها، والسبب في ذلك أن «سكك» التصوير عبارة عن وضع الأنغام في غير محلها عند اللزوم، والاستزادة من التبحر في الفن، وهي تنطق كما كانت في محلها مع اختلاف الطبقة الأصلية، وذلك يحتاج طبعا إلى ربع المقام دائما، ولما لم يكن ربع المقام موجودا على الإطلاق في العلامات الإفرنجية؛ فيستحيل والحالة هذه وضع سكك التصوير بهذه العلامات».
وقد ذكر المقطم تعليقا عليه : (المقطم) مسألة (ربع المقام) هذه جرى لنا فيها بحث مسهب ومناقشة مستطيلة مع بعض الموسيقيين الأمريكيين قبل انتقالنا إلى هذا القطر منذ 28 سنة، فليست بجديدة على سماعنا، ولكننا لا نزال نسأل الموسيقيين الشرقيين ألا يمكنكم استنباط علامة خصوصية لها تضيفونها إلى العلامات الإفرنجية ليتم بها المقصود، وقد استنبط الأستاذ: منصور عوض علامات مخصوصة إضافية للاستدلال على أصوات ربع المقام في النوتة الموسيقية الإفرنجية أجرى تسجيلها بمحكمة مصر المختلطة في سنة 1915، وتفضل المقطم الأغر بتقريظها.
هذه خريطة تبين الطريق الموصل إلى ضريح المغفور له عبده الحمولي.
هذا ضريح فقيد الفن المغفور له عبده الحمولي بقرافة باب الوزير.
الفصل الثالث والثلاثون
مصاب الأمة الفادح
بفقد الملك فؤاد الأول
ما كدت أتأهب لإهداء كتابي هذا إلى الأعتاب الملكية حتى فوجئت الأمة بنبأ أصم صداه المسامع، واستوكف الأجفان بالمدامع، ألا وهو نعي من كان لذمار الوطن حاميا، أمينا، وللعلوم والفنون كوكبا منيرا، وللفضل منهلا غزيرا، ولخير مصر ومجدها نصيرا وظهيرا، فيا لهف وادي النيل ومائه على فؤاده. فإذا ماتت الأفئدة فمحال أن تعيش أجسامها. فإلى ذمة الله أيها الراحل العظيم، وسيظل اسمك عظيما في التاريخ كما كنت للشعب المصري رمزا ومرشدا. هبنا اللهم على الزرء فيه صبرا جميلا، يبرد قلوبنا، وأشمله بأوسع الرحمات وأسكنه فسيح الجنان.
ناپیژندل شوی مخ