تمهيد من الناشر
الموسيقى
المراجع
تمهيد من الناشر
الموسيقى
المراجع
الموسيقى
الموسيقى
تأليف
يوكيو ميشيما
ترجمة
ميسرة عفيفي
تمهيد من الناشر
هذا تقرير عن حالة مريضة ببرود جنسي كتبه الدكتور كازونوري شيومي ووضع له عنوانا باسم «الموسيقى». يعتمد التقرير على وقائع وسجلات حقيقية تماما مع إخفاء أسماء أبطالها الحقيقيين. ويمثل هذا التقرير مدى إخلاص هذا الطبيب لروح البحث العلمي، ويوضح كذلك تفانيا نادر المثال لمحاولة إنسانية هادئة للتفكير ومحاسبة النفس. وبمجرد أن وصلت مخطوطة التقرير إلينا، لم نتردد في النشر مطلقا، إلا أنه ظهر رأي يقول إنه يجب قبل النشر لفت انتباه القراء مسبقا لنقطتين:
النقطة الأولى:
تتعلق بسياق الحديث عن الجنس عند المرأة في التقرير؛ فربما يثير موقف الطبيب وتعامله المطلق - بصفته عالما ليس مطلوبا منه مراعاة هذا السياق أو ذاك - مشاعر غضب واعتراض، وخاصة من القارئات. لو كان ذلك التقرير عملا أدبيا، فلا خوف من أن يعامل الجنس على أنه أمر موضوعي إلى هذا الحد، ولكن من المعتاد أن يتخفى - بغض النظر عن صحة ذلك أو خطئه - وراء حجاب من الزخرفة، لإثارة خيال القراء، ولكن هذا التقرير يفتقر إلى مثل تلك المراعاة، وربما تظهر وسط الكلام زخرفة باستخدام أسطورة من الأساطير الرمزية للجنس، وهي صادرة جميعها من تأثر الكاتب بأوهام المريضة.
والنقطة الثانية:
أن محتوى تقرير الطبيب ينحرف انحرافا شديدا عن المنطق السليم، ويبعد تماما عن الحياة العاطفية للمرأة الطبيعية، مما يدعو إلى الخوف أن يعد التقرير بأكمله عملا مختلقا غير قابل للتصديق. ولكن لا مفر لدينا من الإقرار - على كره منا - أن هذا التقرير كله يعتمد على حقائق واقعية. وإن اعترفنا بذلك، فلا مفر من الإقرار بعمق واتساع الجنس الذي لا يعرف له قاع أو حدود عند البشر. ولا يقتصر ذلك على ما يسعد القلب دائما، بل هو يمثل غابة من غابات الأساطير، إذا ظهر فيها أي نوع من أنواع الوحوش المخيفة فلن يستدعي ذلك اندهاش أحد أو تعجبه. وليس من يختزن ذلك داخل قلبه أنثى واحدة هي «ريكو» بطلة هذا العمل، بل كل أنثى من القراء هي كذلك حقا.
دراسة حالة لمصابة ببرود جنسي من خلال طريقة التحليل النفسي.
كتب التقرير: كازونوري شيومي.
الموسيقى
1
مرت خمس سنوات سريعا منذ أن افتتحت عيادة في الطابق الرابع بإحدى مباني منطقة هيبيا. ولقد تعودت الأعين والآذان تدريجيا على وظيفة المحلل النفسي التي لم يكن يعرفها في البداية إلا القليل، مع ذلك لا يجب بالطبع مقارنة الوضع في اليابان بالوضع المزدهر في أمريكا. إن قدرتي على تدبير عيشي ودفع إيجار باهظ الثمن وسط العاصمة، لهو أمر يدعو للسرور، ليس من أجلي فقط، ولكن من أجل مهنة التحليل النفسي عامة.
وأعتقد أن سبب النجاح الأول في ذلك، هو افتتاح عيادة في وسط العاصمة، مع خلق بيئة تساعد أي شخص أن يدخل العيادة بسهولة، وأن يستشير عن حالته استشارة سريعة. وحاليا ليس من النادر أن يزور العيادة فجأة وبدون موعد (مع الإقرار بالصراع النفسي)، موظفون وموظفات في طريق عودتهم من العمل، ببساطة وبدون تكلف، مثل من يذهب لقارئي الكف.
وكان واضحا وضوح الشمس أن زيادة عدد المرضى باطراد، كان نتيجة تطور المجتمع بدرجة عالية؛ فالإنسان يعامل معاملة الترس الذي يركب في آلة عملاقة، ولا يسمح له بمقاومة. وأعتقد أن ذلك كان سببا كافيا لزيادة أعراض العصاب أكثر وأكثر في اليابانيين، وخاصة من يسكن في المدن الكبرى، حتى وإن انعدم الصراع مع الضمير البيوريتاني المتأزم، كما الحال مع الأمريكيين.
ولذلك كما ذكرت منذ قليل؛ فمن بين مرضاي موظفون وموظفات، ومنهم نادلات الحانات وربات البيوت ذوات الوقت الفارغ الطويل، ومنهم منتجو برامج تلفزيونية ولاعبون محترفون لكرة البيسبول. ولن أكون مبالغا إذا قلت إن المرضى يغطون جميع الوظائف الرائدة في العصر الحالي.
منهم من يأتي عبر مريض آخر، ومنهم من يأتي بتوصية من زملائي الأطباء. وفي كل الأحوال، يعد انعدام شعور الخزي والعار للعائلة كلها من تردد أحد أفرادها على مستشفى للأمراض النفسية؛ والموجود منذ القدم، تطورا كبيرا. ومع ذلك، يختلف الأمر بالتأكيد عن الذهاب إلى طبيب الأسنان، ويبدي الأغلبية خجلا من أعين الناس. ولكن الاتجاه الجديد مؤخرا، وما أعاني منه شخصيا هو كثرة عدد المرضى الذين يزورون عيادتي من أجل إرضاء ما يجب وصفه بمرض الاستعراض النفسي وعادة الاعتراف بلا داع، وخاصة من النساء.
كنت أحصل على الأجر الكافي طبقا لما تقتضيه القواعد من أي مريض كان. وفي الواقع يعد هذا جزءا من العلاج بالتحليل النفسي. فأنا أستهدف ضبط وتنظيم الحالة النفسية للمريض باستخدام وظيفة المال في اللاوعي. أتجنب أخذ التكاليف مرة واحدة قبل العلاج أو بعده، ووضعت قاعدة لدفع الأجرة بعد نهاية كل جلسة على حدة، عبر الدفع مباشرة للمعالج النفسي يدا بيد، وهو ما علمني إياه أستاذي البروفيسور «ف».
1
وإن قيل لي: «أعطنا مثالا من بين هذا العدد الكبير من المرضى، ترك انطباعا لا ينمحي من ذاكرتك.» - مع وجود أنواع متعددة من المرضى أصحاب المرض العضال، ومع وجود مرضى يشكون من أعراض غريبة - فإنني لا أجد مفرا من ذكر «ريكو يوميكاوا» في البداية.
فعندما زارت عيادتي، لم تكن تشتكي، كما سأذكر فيما بعد، من مشكلة مخيفة؛ ولكنها جعلتني في النهاية أرتعد رعبا من غرابة روح الإنسان وجسده.
لقد تعاملت في عملي بالتحليل النفسي مع حالات متنوعة، وكنت أظن أن تراكم خبراتي وتدريبي لن يجعلني أندهش من أي حالة. ولكن كلما ازدادت معرفتي أجد أن عالم الجنس عند البشر عالم واسع لا حدود له، ويتعمق إحساسي بأنه ليس معتادا ولا يسري على نمط واحد. ففي عالم الجنس ما من سعادة واحدة تناسب جميع البشر. وأريد من القراء التأكد من وضوح ذلك الأمر في ذهنهم عند قراءة هذا التقرير.
2
صممت جميع غرف التحليل النفسي الثلاث الموجودة في عيادتي بجدران بحيث تمنع تسرب الصوت منعا صارما. ولكيلا يعوق تتبع المرضى الطبيعي لذاكرتهم من خلال محفز غير مرغوب فيه، لم أزين أيا منها بمزهرية واحدة أو لوحة. وبديلا عن ذلك جعلت غرفة الانتظار تعطي الزوار شعورا بأكثر أنواع الراحة قدر الإمكان؛ بنوافذها الواسعة جدا والتناسق بين ألوان الجدران والمقاعد المريحة، وجمعت في رفوف المجلات جميع المجلات المصورة من الشرق والغرب، وحرصت على ألا تنقطع الورود والزهور من المزهريات. وحدث عندما وضعت زهور الأقحوان في غرفة الانتظار أن أكلها أحد المرضى بعد أن غضب من طول فترة الانتظار، ولكن ذلك استثناء نادر حتى بين الاستثناءات ذاتها.
ذكرني موقف الأقحوان هذا أن الصباح الذي جاءت فيه ريكو يوميكاوا لأول مرة كانت مزهرية غرفة الانتظار تتزين بزهور الأقحوان أيضا، فلا شك أنه كان صباح يوم خريفي مشمس.
حجزت ريكو موعدا بالهاتف في اليوم السابق، وكانت أول زائر في ذلك اليوم. والانطباع الذي أخذته عنها من مكالمة الهاتف أمس أن صوتها منخفض قليلا، وبه نضارة محببة للنفس، ولاحظت في نبرة صوتها قلقا إلى حد ما، ولكنها أعطت لي انطباعا بأنها طبيعية. ولقد كانت تحمل معها خطابا يعرف بحالتها من أحد أصدقائي القدامى وهو طبيب باطنة بإحدى المستشفيات. وعند النظر إلى حالتها من عدة نقاط بدا لي أنها ليس بها مشكلة عويصة.
في ذلك الصباح وصلت إلى عيادتي، وألقيت تحية على المساعد «كوداما» والممرضة «ياماؤتشي» ثم ارتديت المعطف الأبيض، وجاء موعد ريكو يوميكاوا سريعا. دخلت العيادة متأخرة سبع دقائق تقريبا وهي ترتدي معطفا بلون أحمر فاقع. وإلى حد ما يخفي تفضيلها لهذا اللون الذي يلفت أنظار الناس إليها، معنى نفسيا.
أذهلني جمالها؛ عمرها بين 24 و25 عاما، ومقابل المعطف الأحمر الفاقع اللون، كانت مساحيق وجهها راقية وغير لافتة، وأعتقد أن سبب ذلك هو ثقتها الشديدة بجمال تقاطيع وجهها الأصلية.
ملامح وجهها متناسقة، ولكنها تخلو من برودة التناسق. أنفها الجيد يجعل جانب وجهها جميلا، ولكن لم يكن أنفا مفرطا في النتوء مطلقا، ويحمل لطافة بدرجة مناسبة. ومع اكتناز شفتيها كان فكها دقيقا ورقيقا، ويبدو رهيفا وحساسا. لا يرى في عينيها الصافيتين وحركتهما غرابة أو شذوذ.
ولكن عندما خرجت لاستقبالها وإلقاء التحية عليها، كان واضحا أنها تحاول أن تظهر على وجهها ابتسامة مشرقة، ولكن في تلك اللحظة ذاتها، تتحرك في خدها رجفة (
tic ).
رأيت تلك الرعشة في الوجه على الفور، وهي بدون أدنى شك بوادر الهيستيريا ولكنني تعمدت إظهار عدم رؤيتي لها. ولم تكن رجفة شديدة بل مجرد رعشة مرتين أو ثلاث مرات مثل تموجات ضئيلة.
وعرفت فورا ما في داخل قلب ريكو من اضطراب. فمع أنني ظننت أنني أتقنت التظاهر بعكس ذلك إلا أنها استشفت سريعا رؤيتي لتلك الرجفة. ربما كان تشبيها وقحا، ولكن كانت ريكو في تلك اللحظة تشبه الجميلة التي اكتشف بنظرة سريعة أنها الثعلب المتنكر.
لا يتناسب مطلقا هذا الخيال الوهمي الذي طرأ على ذهني، مع غرفة الانتظار التي ينبهر بها كل من يراها متيقنا أنها عيادة حديثة جدا، ولا يتناسب أيضا مع المكاتب والمسارح والفنادق المتراصة في طريق أواخر هذا الخريف المشرق كأسنان المشط خارج النافذة.
أدخلتها غرفة التحليل النفسي، وبعد أن أقنعتها تماما أنه لا قلق من أن يراها أو يسمعها أحد، عرضت عليها الجلوس على المقعد المريح الذي يمكن من خلال ضبطه أن يصبح أريكة صالحة للنوم، وأما أنا فقد جلست على مقعد صغير، وأمامي المفكرة التي فوق مكتبي وتظاهرت أنني لا أنوي وضع أهمية مطلقا لتلك المفكرة.
بدأت بعد أن أصبحنا بمفردنا في شرح حالتها بصوت مريح للنفس فقالت: «منذ بداية هذا الصيف، فقدت شهيتي للطعام نوعا ما، وفكرت أنه لا حيلة في ذلك بسبب الصيف، ثم تحول الأمر تدريجيا إلى الإصابة بالغثيان والرغبة في القيء. لم يحدث مرة واحدة فقط، ولكن عندما تأتيني تلك الرغبة مرة، تستمر مرة بعد مرة بإلحاح شديد؛ لذا اشتريت دواء للمعدة مما يباع في الأسواق وتناولته ولكنه لم يأت بنتيجة. وعند هذا الحد انتبهت إلى أمر فجأة فأصابني الرعب.»
توقفت ريكو عن الكلام وهي تبلل شفتها العليا بطرف لسانها الذي جعلته مدببا صلدا. «فكرت: ألا يكون السبب هو الحمل؟»
فسألتها دون تردد: «وهذا يعني وجود سبب لهذا الشك، أليس كذلك؟» «بلى.»
هذه المرة أجابت ريكو بجراءة بل على العكس بنبرة فخر، ثم أضافت: «... سوف أتحدث عن ذلك فيما بعد بالترتيب. ولهذا السبب ذهبت إلى الطبيب، فأخبرني أنه لم يعثر على مؤشر للحمل، وحولني إلى الطبيب «ر» أخصائي الباطنة، وبعد أن أجريت عنده فحوصات متنوعة، لم يصل إلى نتيجة، وبناء على ما شرحت له من أعراض حولني هذه المرة إليك.»
ثم بدأت ريكو تحكي قصة حياتها منذ نشأتها دون أن تسأل عنها، وحرصت على أن أترك لها المجال تحكي ما تريد دون أن أقاطعها. وكان محتوى حديثها كما يلي: عائلة يوميكاوا عائلة شهيرة من أثرياء مدينة «قوفو» ويمثل والدها الجيل السابع عشر في سلالة العائلة، ولكن بعد أن تخرجت «ريكو» في مدرسة ثانوية للبنات في المدينة، وبرغبة شديدة منها واصلت الدراسة في جامعة «س» للبنات في طوكيو وأقامت في بيت الطالبات التابع للجامعة. ومع أنها وعدت والديها بالعودة مباشرة إلى بيت العائلة بعد تخرجها، إلا أنها رفضت بعناد العودة إلى بلدتها؛ لأنها تكره خطيبها - وهو قريب لها من نفس العائلة - والمقرر زواجهما منذ كانا طفلين، واستطاعت إقناع والدها بضرورة الاستمرار في دراسة المجتمع والحياة من خلال العمل بوظيفة إدارية في شركة كبرى للاستيراد والتصدير. ومر عامان على ذلك، ولكن لأنها إن عادت إلى بلدتها لا ينتظرها إلا الزواج من خطيبها الذي تكرهه، فهي ما زالت تمدد إقامتها هنا حتى الآن، وتعيش في شقة بمفردها كما يحلو لها، ويحرص والدها - والذي يكتفي بإبداء غضبه بالكلام فقط - على عدم التأخر في تحويلاته المالية الكبيرة إليها. هذا هو وضعها الحالي.
أي إنها تعيش حياة جيدة ولا تأمل في حياة أفضل منها. تستخدم مرتب الشركة في مصاريفها اليومية، وليس عليها واجب إرسال دعم مالي لأهلها في بلدتها، بل هم الذين يرسلون إليها تكاليف معيشتها المرفهة. على ما يبدو أن والدها لم يستطع التخلي تماما عن فكرة أن حصولها على حياة مترفة قادر على حمايتها من الوقوع في الخطأ.
ولكن بعد أن دخل الخريف - إضافة إلى فقدان الشهية والغثيان - بدأت الرجفة التي ظهرت عليها، منذ قليل، تهاجمها. «إنه أمر غريب جدا! وكأن وجهي يتحرك من نفسه حتى قبل أن أنتبه أنا إلى ذلك.»
إن هذا تعبير نفسي ماهر جدا ويبرهن على قدراتها العقلية والمعرفية الجيدة، ولكن أثناء قولها هذا أيضا سرت الرجفة على وجهها. أحسست كأن ريكو تغمز لي بعينها؛ لأنها في محاولتها لمقاومة الرجفة ظلت تحافظ على ابتسامة جامدة. وهكذا كلما حاولت أن تتفادى حدوث تلك الرجفة، كانت تحدث رغما عنها. وتلك هي مشاكسة الإرادة العكسية للهيستيريا التقليدية.
وأثناء ذلك بدأت ريكو فجأة في قول أمر مبهم وغامض تماما: «ما السبب يا دكتور؟ إنني لا أستطيع سماع الموسيقى!»
3
وعندما سألتها ماذا تعني؟ قالت إنها عندما تسمع تمثيلية إذاعية، مثلا، فإنها تسمع جزء الحوار بوضوح تام، ولكن الموسيقى المصاحبة للحوار تختفي تماما من الأذن مثلما تختفي الشمس فجأة خلف سحابة غيم، وتصبح منعزلة. ماذا إذن عن البرامج الموسيقية فقط من البداية التي تذيع الموسيقى؟ تقول: في اللحظة التي تعتقد فيها أن الموسيقى ستبدأ، لا تسمع شيئا مهما رفعت درجة الصوت عاليا، وبعد مرور فترة من الوقت عندما يبدأ شرح وتقديم الفقرة التالية يعود إليها السمع بوضوح؛ بمعنى أنها عندما يطرأ مفهوم الموسيقى على ذهنها مرة، تختفي الموسيقى في تلك اللحظة؛ أي إن مفهوم الموسيقى نفسه هو الذي يعوق سماعها.
ولأن هذا القول كان هذيانا عجيبا جدا، فقد أيقظ لدي الرغبة في إجراء تجربة سريعة. فذهبت وأحضرت جهاز المذياع من الممرضة وعدت به، وجربت أن أديره على محطات الإذاعة المختلفة. إحدى الإذاعات كانت تذيع دورس تعليم اللغة الإنجليزية، وسمعت أذنا ريكو تلك الدروس بوضوح.
أدرت المحطات أكثر، وعندما قفزت فجأة من إحدى الإذاعات موسيقى لاتينية صاخبة، أظهرت ريكو على وجهها للحظة مشاعر حيرة تمتلئ بالقلق المريب يشبه تلك التي تظهر عند محاولة تفادي السيارات في طريق مزدحم. لم تكن تلك تعبيرات عين لا تستطيع السمع من البداية، بل إنها تعطي انطباعا أنها تعبيرات نتجت من اختيار بين الخيارات التي تقول: «آه! ما عساني أفعل؟ أأسمح لنفسي بسماع تلك الموسيقى، أم لا أسمح لها؟»
ولكن في خلال لحظة واحدة كان من الواضح أنها لا تستطيع سماع الموسيقى. لقد فقد وجهها حيويته ونضارته، وأصبحت عيناها مفتوحتين على وسعهما بعدمية تجاه الصمت.
وعلى الفور امتلأت عينا ريكو الصافيتان تلك بدموع منهمرة كأن عينيها ستخرجان معها ... ... لقد كانت نيتي أن أبدأ في تطبيق طريقة العلاج من خلال تداعي الأفكار الحر من الجلسة القادمة؛ إن لم يكن ذلك ممكنا من الجلسة الأولى. ولكنني فكرت أن أحد طرق العلاج هو السؤال المباشر بدون مقدمات، والحصول منها على أجوبة قبل إعطاء المريض وقتا أثناء وجوده في تلك الحالة من اضطراب المشاعر؛ لكي يشعر بالعداء تجاه محلله النفسي. وذلك لأنها تعاني من أعراض جعلت البروفيسور «ف» نفسه - الذي يؤكد على ضرورة استخدام طريقة تداعي الأفكار الحر بدون الاعتماد على الأسئلة في الجلسات الأولى من العلاج - يستخدم في إحدى المرات هذه الطريقة العكسية، ويحقق بها نتيجة باهرة. «نعود إلى ما ذكرته منذ قليل عن احتمالية الحمل، هل العلاقة مستمرة حتى الآن مع ذلك الرجل؟» «أجل.»
هكذا أجابت ريكو إجابة مشرقة؛ كأن سؤالها هكذا كان مريحا لها على عكس ما توقعت. «وقت دخولي الشركة، كان أحد الشباب هدفا لاهتمام جميع من في نفس القسم الذي أعمل به. ولكنني شعرت تجاهه بمشاعر عكسية بسبب أن الجميع كانوا يعاملونه باحتفاء عظيم، فكنت أقابله دائما بموقف متزمت؛ إنه هذا الرجل ...»
أخرجت ريكو من حقيبة يدها حافظة اشتراك القطار، ثم سحبت منها صورة فوتوغرافية.
كانت صورة شاب يرتدي قميصا وبنطلون تدريب، ويضحك رافعا إحدى يديه وممسكا مجدافا باليد الأخرى، ويجلس على مركب فردي في فريق التجديف في الجامعة، وعرفت على الفور من الشعار الذي على القميص أنه في جامعة «ت» القوية في رياضة التجديف. في الواقع كان شابا قوي البنيان، وجميل الوجه بمعايير العصر الحديث، ويبدو أنه طويل القامة أيضا، ويمتلك جميع الشروط التي تجعل البنات تحتفي به وتميل إليه. «هذه صورته عندما كان طالبا، ولكنه حتى الآن ما زال يبدو طالبا، وسمعته في الشركة جيدة جدا.»
أضافت ريكو هذا الشرح وهي تنظر إلى الصورة معي.
فقلت موافقا على كلامها موافقة لا تتناسب مع الوضع: «هذا رائع.»
وبناء على ما أضافته ريكو، كانت الظروف التي أدركتها بعد مرور شهور في عملها في الشركة أن الموظفات الأخريات في الشركة اعتبرنها منافسة لهن على الفور. ولم تستطع واحدة منهن أن تخطف قلب ذلك الشاب؛ واسمه ريوئتشي إغامي، الذي كان معبود البنات في الشركة. ومع مرور الوقت، كانت ريكو، على غير المتوقع، لا مبالية، وكذلك لم يبد الشاب، من جهته، اهتماما متميزا بها، مما أدى إلى ميلاد علاقة صداقة لأول مرة بينها وبين البنات، واشتركت ريكو في تحالف عدم الاعتداء الذي يحيط بريوئتشي.
إن التظاهر بعدم الاهتمام وكبح المشاعر الذي تتبارى فيه البنات، على العكس، يربي بسهولة مشاعر خاصة. ولذا لم تستطع ريكو أن تبعد نفسها عن الاهتمام بريوئتشي حتى وإن كانت كارهة لذلك. وفي أثناء ذلك وقعت في حبه رغما عنها.
4
من الأفضل تلخيص بعض النقاط الهامة من حديثها؛ لأن هدفي هنا ليس الكتابة الروائية.
تقابل ريكو وريوئتشي صدفة خارج العمل، وتوثقت العلاقة سريعا بين الاثنين على إثر لقائهما ذلك. وأسر لها الشاب ريوئتشي أنه أيضا يحمل لها شعورا طيبا منذ بدأت العمل في الشركة. ولأن ريكو قد تأكدت - من المشاهدة والسماع خلال الشهور الماضية - أن ريوئتشي ليس زير نساء، ولا حتى ينافق الجميع لكسب الود، فلقد وثقت على الفور في اعترافه هذا بالحب، وسبب ذلك لها سعادة بالغة كأنها في حلم؛ لأنها كانت تحب ريوئتشي بالفعل.
استمرا في اللقاء وهما يبذلان أشد أنواع الحيطة والحذر لكيلا ينكشف أمرهما داخل الشركة. وبعد مرور شهرين من علاقتهما وهبت ريكو له جسدها. وربما كانت طريقة سماحها له بجسدها مفاجئة من خلال الطريقة المنطقية لسير الأحداث. «هل كانت أول مرة؟» «بمعنى؟» «هل كانت تلك أول تجربة لك في حياتك؟»
انسدت الكلمات في فم ريكو وعبرت عيناها عن الحزن. وسرت الرجفة في خدودها مثل برق مشئوم. «أعتقد أنني يجب، كما هو متوقع، أن أخبرك بكل شيء. عندما طلب مني السيد إغامي أن أهب له جسدي كانت معاناتي لا حدود لها.
لأنني نشأت في أسرة محافظة؛ فلم أكن مهملة في هذا الجانب، كان لي عدد من الأصدقاء الذكور أثناء الدراسة، إلا أنني كنت أحافظ بصرامة على عدم تخطيهم الحد المسموح. ولكن بعد علاقتي مع السيد إغامي كنت أحلم بالحياة الزوجية مثل غيري من البنات، وكلما زاد حبي للسيد إغامي، أصبحت فكرة الزواج مرعبة، ويملؤني الرعب أكثر كلما فكرت في إخفاقي في أن أجعله يراني فتاة محافظة على جسدها.
في الواقع إنني في فترة المراهقة، فعل ذلك الخطيب الذي أكرهه ... وفقدت ... وبسبب ذلك زادت كراهيتي له أكثر وأكثر. وكانت رغبتي في دخول جامعة بطوكيو، لرغبتي في الهروب منه، كما ذكرت لك من قبل.
وكنت أفكر في أن الموت أهون لي من أن ينكشف ذلك للسيد إغامي عند زواجنا. ربما كانت نية السيد إغامي أن يحاول محاولة وهو يعرف أنها محتومة الفشل فيرفض طلبه في النهاية. ولكن بالنسبة لي أنا التي كنت أحب السيد إغامي حبا حقيقيا، فقد شعرت أن طلبه ذلك - بدون وضع الزواج شرطا مسبقا - فرصة حقيقية لي ... وهكذا ... وهكذا بعد أن عانيت من التفكير طويلا، هزمت في النهاية أمام رغبته ووهبت له جسدي. ومن المؤكد أن السيد إغامي قد عرف على الفور أن جسدي مدنس، ولكنه لم يقل شيئا عن ذلك مطلقا. ولكن على العكس جرح ذلك كبريائي. فلم يقل لي أيضا بعد ذلك شيئا. ومن ثم فعدم قول السيد إغامي ذلك الآن، جعل بذور الشك تنبت داخلي، أنه سيجعل تلك ورقته الرابحة حين أفكر فيما بعد في طلب الزواج منه. وأعتقد أن ذلك الشك كان صحيحا. أجل؛ لأن السيد إغامي لم يذكر ولو مرة واحدة كلمة الزواج على لسانه بعد ذلك.
وهكذا استمرت علاقتي مع السيد إغامي في انزلاق لمدة عام، إلى أن بدأت في الصيف الماضي تظهر تلك الأعراض التي ذكرتها لك منذ قليل ... وما يحزنني في الموضوع أنني حتى هذه اللحظة أحب السيد إغامي جدا . أحبه حبا أقوى بكثير جدا من ذي قبل. لدرجة أنني في رعب من مدى ما يمكن أن يجرني إليه ذلك الإنسان.» ... بالتأكيد لا داعي للقول إن عيادتي ليست مخصصة للاستشارات العاطفية. ولذلك إن كانت تلك هي طبيعة المشكلة فعلى العكس، ثمة حالات يعتقد فيها أنه من الأفضل إرسال تلك المشكلة إلى صفحة الاستشارات العاطفية في الجرائد. وفي الواقع فإن هناك فائضا من مشاكل قصص الحب حتى إن أصحابها قد لا يجدون مكانا لها في صفحة الاستشارات العاطفية في الجرائد، ولكنني كنت أحمل شكا حول طريقة تحدثها عن مشكلتها تلك بطريقة منطقية مرتبة جدا. من الغريب أن تعاني من أعراض الهيستيريا، امرأة تتحدث عن حالة حبها بتلك الدرجة من المنطق المرتب. وإنني متأكد أن تلك الرجفة وفقدان الشهية والغثيان من وقت لآخر هي أعراض الهيستيريا.
إن طريقة العلاج بالتحليل النفسي تقام في أمريكا عن طريق جلسات مرة كل يوم أو يومين، ولكن المعتاد في البداية، في اليابان، أن تعقد الجلسات مرة واحدة لمدة ساعة كل أسبوع. ولأنني هذه المرة حجزت لها موعدا من الساعة العاشرة إلى الساعة الحادية عشرة، فإنني سأحجز لها موعدا في نفس اليوم من الأسبوع التالي من الساعة العاشرة إلى الساعة الحادية عشرة. وكنت أجعل المريض يتحمل مسئولية حجز ذلك الوقت، بأن يعد بدفع أجرة الحجز حتى في حالة عدم المجيء لسبب لا يمكن تجنبه.
ولأن الجلسة الأولى لريكو انتهى وقتها عند هذا الحد فقد أخذت منها أجرة الجلسة، ومن ضمنها أجرة الكشف الأول، وتركتها ترحل.
5
كان اللقاء الثاني مع ريكو من المفترض أن يكون بديهيا في نفس اليوم ونفس الساعة من الأسبوع التالي؛ لكن بعد خمسة أيام من أول جلسة، جاءتني رسالة منها. كان إبلاغا بعدم رغبتها في إجراء الجلسة الثانية. وكانت الرسالة تحتوي على ما يلي: «إلى الدكتور شيومي
في الواقع عندما تشجعت وقمت بزيارتك كنت أظن أن تفريغ مشاعري المكبوتة داخلي لزمن طويل سيجعلني أشعر بالراحة النفسية والجسمانية، ولكن على العكس؛ ففي اليوم التالي كانت النتيجة عكسية؛ فما سبب ذلك يا دكتور؟!
إن وجهي منذ ذلك اليوم لا يتوقف عن الاختلاج. وكلما حاولت أن أجعله يهدأ - أجده على العكس - يزداد سوءا. ولذلك فأنا لم أستطع الذهاب إلى العمل طوال الأيام الماضية. وكرهت النظر إلى الطعام، ولكنني إن لم آكل سأموت جوعا؛ ولذا آكل رغما عني. لكنني أتقيأ ما آكله مباشرة. وعندما أنظر إلى تلك النتيجة، أرى أنني إن ذهبت مرة أخرى إليك في عيادتك؛ فإنني لا أستطيع معرفة التأثير العكسي المرعب لذلك. كلما فكرت في ذلك لا أستطيع تحمل الخوف. أرجو أن تسمح لي أن أتغيب - رغم أخذي موعدا - عن الحضور في يوم الأربعاء المقرر.
وفي الواقع لقد تعمدت في المرة السابقة إخفاء أمر في منتهى الأهمية عنك؛ لأنني لم أجد في نفسي الشجاعة أن أخبر طبيبا أقابله للمرة الأولى بذلك الأمر. وربما عدم إخباري لك بذلك سبب لي قلقا، وهو ما أحدث تلك الأعراض الفظيعة. هذا هو حكمي الذاتي على الأمر. ومع ذلك ألا تعتقد يا دكتور أنه لا معنى للزيارة إن كنت، على العكس، أعاني تأنيب الضمير بسبب أمر تافه، مع أنني كنت أنوي البوح بالحديث إليك عن كل شيء؟»
ومع أن هذا الخطاب يبدو من الوهلة الأولى أنه مكتوب بهدوء تام، لكنه يظهر في النهاية تناقضا واضحا. فمع قولها «أمر في منتهى الأهمية» تصحح القول بعد ذلك مباشرة بقولها؛ «أمر تافه».
وبعد ذلك تعمدها كتابة رقم هاتف منزلها مع عنوان مسكنها على عكس محتوى الكلام، يظهر ذلك نيتها في رغبتها في المجيء، ولكنها هذه المرة تريد المجيء إلى عيادتي بعد أن أطلب أنا منها ذلك متوسلا.
لقد لمست من هذا الخطاب جانبا يظهر «الأنا القوية» لتلك المرأة، التي لم أشعر بها بدرجة قوية في اللقاء الأول. ومع أننا لم نتقابل إلا مرة واحدة فقط، إلا أن تلك المرأة بدأت الحرب تجاه محللها النفسي مبكرا. لا أعتقد أنها كانت تكذب بشأن تدهور حالتها كذبا، ولكن هذا السوء ذاته يخفي داخله قدرا من التحدي تجاهي .
اتصلت على الفور ببيتها تلفونيا وعلمت أنها غير موجودة في بيتها، فاتصلت مرة ثانية بعد الظهيرة، وقيل لي إنها غير موجودة. وكما قدرت في حساباتي؛ «إنها تنوي أن ترد في المرة الثالثة.» وعندما اتصلت بها للمرة الثالثة في الساعة الخامسة بعد الظهر، التقطت سماعة الهاتف فورا وقالت حجة للاعتذار: «لقد كنت خارج البيت وعدت إليه لتوي.»
ولأني اعتدت على تلك الحيل، فقد تقبلت حجتها بتلقائية، ورجوتها أن تلتزم بالحفاظ على موعدنا بعد غد. «إن تدهور الأعراض أمر مؤقت ويشير إلى استجابة صحية للعلاج. إن هذا دليل على أن الجلسة الأولى كانت لها فاعلية وتأثير إيجابي، ويجب ألا تقلقي. وعلى كل الأحوال، مستقبلا، ستندمين على أنك لم تأتي إلا مرة واحدة فقط، أنا أتقدم إليك برجاء المجيء بعد غد مع علمي أن الأمر شاق عليك.»
قالت بصوت مبحوح ومنخفض وهي تتعمد أن تكون مبهمة: «هل تنتظر حضوري في شوق؟» «بالتأكيد أنتظرك في شوق.» «أحقا ما تقول؟ ... ولكن على أي حال، لا مانع. سأحضر في الموعد.» ... ريكو التي أتت أخيرا في موعدها بالضبط، كانت هذه المرة مختلفة تماما؛ ترتدي معطفا رماديا وبدلة رمادية كذلك.
وبعد أن أرشدتها إلى غرفة التحليل النفسي، بدا عليها القلق وعدم الهدوء. ثم أخيرا نطقت بما يلي: «إنني في منتهى الخجل، ولكنني إن لم أقل لك ذلك فلن تستطيع أن تفهمني. ولذلك سأجرؤ على قوله. أرجوك يا دكتور ألا تنظر إلى وجهي بهذا الشكل! أرجوك أن تدير وجهك ناحية الجدار ... أجل، هذا جيد.
إنني منذ ارتباطي بعلاقة مع السيد إغامي، لم يحدث أن أحسست بشيء مطلقا، ولو مرة واحدة. إنه إنسان في منتهى الجاذبية، ومن الناحية البدنية فهو كامل بلا نقص، ويتوافق مع ما أفضله من الرجال، وعلاوة على ذلك - وهذا أمر لم أذكره من قبل - فهو له خبرة مع العديد من البنات خارج إطار الشركة؛ ولذا فهو ماهر جدا في تقنيات معاملة النساء، ولكن مع كل ذلك لا أشعر معه بأي شيء مطلقا. ومهما قلت لنفسي إنني سأشعر في المرة القادمة، فإنه لا يحدث. وفي مرة عندما أصابه التعب من ذلك وفتر حماسه، فكرت أن أتظاهر بأنني أشعر نوعا ما، فجربت أنواعا عديدة من التمثيل، ولكن لا يمكن أن يستمر الأمر على هذا الحال طويلا، بل أصبحت حالتي مثيرة للشفقة أحيانا، وكوميدية مضحكة أحيانا أخرى. ومع ذلك فأكثر ما يقلقني أن يكون ذلك سببا في أن ينتهي حبه لي. لقد قرأت مرة أنه عندما لا تحس المرأة بشيء؛ فإن ذلك يجرح كبرياء الرجل كثيرا ويجعله يكره تلك المرأة. وفي إحدى المرات بعد أن انتهينا قال لي بنبرة صوت كأنه مزاح: «هل أنت تحبينني حقا؟»
وعندما قيل لي ذلك، شعرت بألم نفسي ومعاناة شديدة، وكاد صدري أن ينشق نصفين. فأنا أحب ذلك الرجل وأهيم به عشقا. أحبه حبا يكاد أن يبلغ بي مبلغ الجنون. ولكن هذا الحب عندما يأتي لأهم لحظة ينقلب ليظهر في هيئة مضادة، ولا أدري ماذا يمكنني أن أفعل حيال ذلك.
وأثناء تفكيري في ذلك بإمعان، منذ بداية الصيف، بدأت تظهر علي اضطرابات متنوعة. ولذلك فأنا أعرف السبب بنفسي. أعرفه جيدا. حتى بدون أن تقوم أنت يا دكتور بالتحليل النفسي، أنا أعرف سبب مرضي. عليك فقط أن تعالج برودي الجنسي وتجعلني أشعر. لهذا السبب أتيت إلى هنا. إن استطعت فقط الإحساس جنسيا فمن المؤكد أن المرض سيختفي فورا ويصبح كأن لم يكن.»
جعلتها تتحدث كما يحلو لها، ولكن عندما التفت إليها ونظرت إلى وجهها، كان خداها توردا بلون أحمر وعيناها تبرقان بلمعان، وعندما نظرت إليها هذه المرة نظرات مباشرة لم يعتر وجهها تلك الرجفة مطلقا. ثم تابعت كلامها مباشرة، وبدأت تقول شيئا يثير الدهشة والعجب: «ألم أقل لك في المرة السابقة إنني لا أسمع الموسيقى؟»
2 «بلى.» «لقد كنت أكذب.» «تكذبين؟!» «ولكن لم أكن أقصد شرا. بالعكس لم يكن في نيتي مطلقا أن أختبرك يا دكتور.
ولكنني فقط لم أكن أستطيع مهما فعلت أن أقول بنفسي (إنني مريضة بالبرود الجنسي)؛ ولذلك أردت منك يا دكتور أن تستشف ذلك من تلك العبارة. ولأنك لم تستشف أي شيء من ذلك، فأنا آسفة، ولكنني بعد ذلك فكرت قائلة إن الدكتور - بغض النظر عما يبدو في الظاهر - هو ساذج المشاعر.» «لا يجب أن تسخري من طبيبك.»
وأظهرت لها ابتسامة مصطنعة، ولكن بهذا الانتصار أصبحت ريكو مرحة بلا حدود. «لقد أراحني هذا الحديث راحة بالغة. فأنا لم أشعر مطلقا بمثل تلك المشاعر المرحة في الفترة الأخيرة. ربما بهذا أكون قد شفيت تماما من المرض، ألا ترى ذلك يا دكتور؟»
مقارنة بالوقت الذي أعلن فيه فرويد عن أبحاثه حول مرض الهيستيريا، مر على طريقة العلاج بالتحليل النفسي العديد من التحسينات والتطورات. فتحولت إلى طريقة معقدة وشاملة ومليئة بالتفاصيل - كما هو شائع حاليا - مما يجعلها تستغرق وقتا طويلا جدا بعد المرور على عصر اعتبار طريقة التنويم المغناطيسي هي الحل لكل شيء، والتي كانت سائدة في نهاية القرن التاسع عشر الميلادي، وبعد المرور على عدد من المراحل المختلفة. كان سبب اكتمال طريقة العلاج بتداعي الأفكار الحر وتطبيقها حاليا، أن تفسير المعنى المخبأ خلف عرض ما، لا يؤدي بالضرورة إلى الشفاء من المرض في كل الأحوال؛ حتى وإن أبلغنا المريض بذلك التفسير؛ لكي يتحرر من مشاعره التي تنبع منها تلك الأعراض. وفي حالة المرأة المتعلمة المثقفة التي تملك «أنا» متضخمة وقوية مثل ريكو؛ فالتفسير الذي تصل إليه من خلال تحليلها الشخصي، ليس فقط لا يحمل أية فائدة للعلاج من المرض، بل إنه على العكس يكون له تأثير سام في حالات كثيرة جدا.
وإضافة إلى ذلك فالمجاز الذي تستخدمه هي، مفرط في وضوحه وبساطته، وتحليلها مفرط في سذاجته، مما جعلني أشعر بالامتعاض والسخط الشديدين. إنها مثلا تؤكد على أن قولها «لا أسمع الموسيقى» هو مجرد كذب، ولكن هل حقا هو كذلك؟ هل حقا الموسيقى مجرد رمز جميل بديلا عن الأورجازم؟ أليس بين ما تسميه هي «الموسيقى» وبين الأورجازم الذي تتوق إليه وتشتهيه، علاقة رمزية مخبأة ولا يمكن تبسيطها في خيط واحد مستقيم؟ ... كان ذلك هو التساؤل الأول الذي عن لي وقتها.
ولذلك قررت على الفور أن أستغل الخمسين دقيقة المتبقية في تنفيذ الجلسة الأولى من جلسات تداعي الأفكار الحر.
6
كان كرسي غرفة التحليل النفسي مريحا عند الجلوس عليه، ويمكن ضبطه على ثلاث درجات حتى يصبح الجالس في النهاية كأنه نائم على ظهره، ولكن ريكو جلست عليه وظهرها مائل بزاوية 45 درجة تقريبا، ونظرت مباشرة إلى الجدران والسقف الرمادي الخالي تماما.
جلست أنا على مقعد صغير خلف رأسها بحيث لا تستطيع عيناها أن تراني. «اسمعيني جيدا.»
بدأت الحديث بصوت عميق ورزين يجعلها تثق في وتطمئن تجاهي، وإنني لأملك ثقة كبيرة في صوتي هذا. «إنني أريد منك أن تتحدثي عما يطرأ على ذهنك كما هو. وأرجو منك أن تعديني بالتخلي تماما عن الأفكار التالية: (1)
الحديث عن مثل هذا الأمر ممل. (2)
هذا الأمر ليس له علاقة مطلقا بالمرض. (3)
أنا أخجل من الحديث عن ذلك الأمر. (4)
إن الحديث عن هذا الأمر مقزز. (5)
إن تحدثت بهذا الحديث فربما يغضب الدكتور مني.
أتسمعين! أرجو منك أن تمحي هذه الأفكار الخمس من ذهنك محوا تاما؟» «حاضر.»
ردت ريكو بتلقائية، وكان ردها هذا يظهر بوضوح أنها قررت قرارا حاسما؛ هو أن تعتمد علي في علاجها من مرضها، مما جعلني أطمئن. وفي نفس الوقت مر في ذهني للحظة خاطفة تساؤل: ألا يكون هذا هو حالها عندما تسلم جسدها إلى حبيبها الوسيم الذي لا يفلح في أن يجعلها تحس بأي شيء؟ «على سبيل المثال: تذهبين إلى الأرياف وترين هذا المنظر: حقول زراعية. غابة فوق هضبة. عدد صغير من البيوت السكنية. حدأة تطير في السماء في شكل دائري. لا عليك إلا أن تقولي لي ما يعن لك وما يخطر على بالك كما هو، لو مثلا لفت نظرك خزان الصرف، اذكريه، لو كان ما يطير في السماء طائرة بدلا من الحدأة، اذكريها، وإن كانت ثمة سيدة تمشي بين حدود الحقول مرتدية فراء «منك
Mink » بما لا يتناسب مع الأرياف اذكريها، ولا تمانعي تماما من تضارب ترتيب الأحداث، لا عليك إلا ذكر كل شيء كما يطرأ على ذهنك.
فكري أنك مجرد مخبر يراقب الأحداث التي تدور في رأسك ليبلغ عنها. وأثناء ذلك احذري أن تقرري بنفسك شيئا أو أن تعيدي ترتيب شيء أو تشويهه. هل فهمت؟» «أجل.»
أغمضت ريكو عينيها فوق الأريكة كأنها مريض قرر أن تجرى له عملية جراحية خطيرة. وعندما نظرت إليها من أعلى رأسها، كانت أهدابها الطويلة - المعتنى بها جيدا - تلقي بظلالها على خديها فبدا وجهها كأنه وجه قديسة. «هناك مخزن كبير ... أدخل المخزن ... إنه مخزن بيت عائلة شون. إن بيت شون قديم. ولأن شون - قريبي الذي أصبح خطيبي فيما بعد - قال لي إنه سيريني شيئا مشوقا، فأنا ... ولكنني في النهاية لم أستطع مواصلة الدخول في المخزن فخرجت منه ... لأنني كنت خائفة نوعا ما ... لا أعرف لماذا كنت خائفة. بعد ذلك أنا وحيدة في غرفتي أقص ورقة طي زرقاء بمقص يصدر صوتا عاليا لأصنع عملا من قصاقيص الورق. كنت طفلة بشعر يشبه الباروكة. طفلة ماهرة في استخدام يدي والعمل بالمقص ... أقص الورقة بلا توقف. همها مواصلة القص، لا تنتهي الورقة الزرقاء، ومهما جذبتها تستمر إلى ما لا نهاية ... أجل كنت أقص بالمقص. وأثناء القص وجدت أن الورقة الزرقاء اتصلت بالسماء الزرقاء. ومع ذلك عندما واصلت القص بالمقص انشقت السماء نصفين. ومن ذلك الشق ... آه ... فجأة شعرت برعب هائل ...»
قالت ريكو ذلك وهي تصرخ وتغطي وجهها بيديها. «ما الذي أخافك؟ قولي كل شيء مهما كان! قولك سيزيل الخوف!» «ثور هائج ...» «ثور؟ ماذا فعل؟» «ركض الثور نحوي بقوة هائلة. باندفاع مرعب، وهو يضرب الأرض فتثير عاصفة من الغبار، يجري تجاهي مباشرة بكل قوته. وقرناه الاثنان ... كلا ليسا قرنين، بل هما يتخذان شكلا أكثر خلاعة ... أجل، ليسا قرني ثور. بل كل منهما يأخذ شكل عضو الذكر البشري.
ولكنه اختفى فجأة عندما جاء أمامي. سرعان ما صرت طالبة في مدرسة البنات. وعندما بدأت صديقاتي الحديث عن ذلك الأمر، قلت إنني لا يمكنني تصديق شيء كهذا، إن فعلت الأنثى ذلك فلا بد من أن جسمها سينكسر وتذهب للمستشفى لعلاجه؛ مما أضحك باقي الصديقات. كانت لدي فكرة غريبة جدا عن ذلك الفعل. إن ثمة امرأة؛ نصفها الأسفل من حديد، وتقرب إليها الرجال وتقتلهم بقوة الضغط عليهم بفخذيها الحديديين. ربما كانت تلك فكرة جاءتني من قصص الأطفال الغريبة، ولكن لسبب لا أعلمه كان دائما يقع علي عبء صقل نصفي الأسفل الحديدي هذا ليكون في لمعة براقة مثل عملية تلميع الحذاء. إن السيارة التي تراكم عليها الغبار، مثلها مثل الحذاء الذي تراكم عليه الغبار؛ يعدان أشياء مخزية تجلب العار، وكان نصفي الحديدي الأسفل أيضا كذلك. أضع عليه زيت التلميع ... أجل كان كذلك، كنت ألمعه بزيت تفوح منه رائحة عطرة رائعة.
وما لا أفهمه أن ذلك كان في مدينة بعيدة غير مسقط رأسي ... في غرفة الإدارة بمدرسة تعليم خياطة الأزياء الغربية، تعاركت مع مدرسة عانس، ثم هربت وغادرت المدرسة ... ولكنني لم أذهب في حياتي إلى مدرسة لتعليم خياطة الأزياء الغربية، ولم أتعارك في حياتي مع مدرسة ... لا بد أن المقص هو السبب في ظهور مدرسة الخياطة. أجل! ... أجل! لقد فهمت. إن نصفي الأسفل الحديدي كان على شكل مقص. لقد علمتني عمتي أن أضع الزيت على المقص وألمعه حتى لا يصدأ فلا يستخدم. ولم أجد زيتا ملائما، فأعارتني عمتي زيت شعرها المستورد. أجل، لقد عرفت أن عمتي هذه لها عشيق تخفيه عن زوجها بالطبع. في ليلة من ليالي الصيف ...» «في ليلة من ليالي الصيف؟»
فتحت ريكو عينيها ونظرت إلى السقف في شرود وهي صامتة. «هل رأيت شيئا؟» «أجل، رأيت.» «ما هو؟» «كلا، لم أر شيئا على الإطلاق.»
غطت ريكو وجهها بيديها وبدأت تبكي. ... ... ...
لأكون صادقا لا مفر من الاعتراف بأن الجلسة الأولى من جلسات التحليل النفسي قد باءت بالفشل. فمع أن ريكو بدت، بدرجة كبيرة، أنها أسلمت لي نفسها، إلا أنها كانت تخفي مقاومة شديدة، وإضافة إلى ذلك - ومن أجل التمويه على إخفائها - أفرطت في استخدام الرموز الجنسية استخداما عشوائيا على حسب ما يتراءى لها بطريقة محبوكة . ومن الواضح تماما أنها تفتعل، وحدث دمج وخلط بين الافتعال واللاوعي في إطار عجيب.
لقد كانت ريكو على علم بالتحليل النفسي أكثر مما ينبغي!
وبعد أن انتهت الجلسة الأولى للعلاج اتفقنا على الموعد التالي، وقررنا أن تكتب لي ريكو ما لم تستطع قوله لي في جلسة تداعي الأفكار الحر الأولى، وترسله لي بالبريد.
7
أخذت من ريكو أجرة العلاج كل مرة كما ينبغي، حتى وإن كانت قد قررت في داخلها أنها تعبث، فأنا لم أكن أبالي بذلك، ولكنني كنت على العكس مسلوب الذهن تماما بواسطة أعراض الهيستيريا البسيطة البادية عليها، ولم أكن أكترث كثيرا فيما تشتكي منه مباشرة من برود جنسي.
جربت أن أقرأ مجددا كتاب البروفيسور شتيكل
3
الذي يناقش فيه بتوسع واستفاضة أعراض مرض البرود الجنسي عند النساء بناء على خبراته في علاج تلك الحالات على مدى طويل، وأدركت مجددا أن اسم البرود الجنسي الذي يطلق هكذا في العموم بشكل مبهم، مرض متعدد الأنواع بدرجة كبيرة جدا وله معان كثيرة، وأدركت إلى أي مدى هو معقد وذو تشعبات متنوعة. ثم اندهشت كثيرا عندما اكتشفت أن هذا الكتاب العتيق القيم الذائع الصيت الذي نشر في عام 1920م، وصل، في أماكن عديدة، إلى براعم مبادئ للطب النفسجسمي (Psychosomatic)
الذي أصبح بالفعل هو الموجة الجديدة لعلم النفس الحديث في الولايات المتحدة الأمريكية حاليا.
لدرجة أن شتيكل يجزم بالقول إن هذا العصر هو عصر العنة، والأغلبية العظمى من رجال الطبقة المثقفة العليا عنن، وأغلبية النساء فيها مصابات بمرض البرود الجنسي. وكلما كان التعليم منخفضا كانت الحياة الجنسية تسير على ما يرام بلا مشاكل، ولكن ذلك ليس بفضل «القوة الحيوية الجسورة التي تشبه الحيوانات» بصفة خاصة؛ بل لأنه مجرد أمر «تكاثري» فقط؛ أي إنه لا يزيد على مجرد «وظيفة نخاعية» فقط. إن شتيكل يقول كل ذلك وغيره بنبرة قاطعة جريئة.
لقد خدعتني ريكو بالقول إنها «لا تستطيع سماع الموسيقى.» ولكن ألم تكن تلك الكلمة تسخر من كل البشر المعاصرين الذين لا يمكنهم سماع «الموسيقى»؟
يجب علي هنا أن أغير مجرى الحديث قليلا، وأتحدث عن حياتي الشخصية وهي مما يصعب علي الحديث عنها.
إنني حتى الآن عزب، ولكن ليس معنى ذلك مطلقا أنني عنين، وكذلك ليس بسبب أنني بوهيمي ذو رغبات جنسية مريبة. إن الممرضة «أكيمي ياماؤتشي» هي رفيقتي التي أرافقها مرافقة الأزواج تقريبا لفترة زمنية طويلة مع عدم العيش معها في بيت واحد. إن «أكيمي ياماؤتشي» في عمر الشباب؛ وبخلاف «ريكو» هي ذات وجه طفولي بملامح وجه مشرقة واضحة، كأنها رسمت بحركة واحدة من فرشاة رسم خشنة مما يعجب الرجال، ولكنها امرأة لا تبدي بتاتا أية غيرة من المرضى بالطبع، بل وكذلك من خيانتي لها، ولكن يبدو أن ريكو كانت هي الوحيدة التي شعرت «أكيمي» بالكره تجاهها منذ اللحظة الأولى.
فبعد أول لقاء لها مع ريكو قالت أكيمي التي يفترض فيها قمة الهدوء في التعامل أثناء العمل: «إنني أكره هذه المريضة. لا يرتاح لها قلبي مطلقا. وكأنها تخدعني ...» «إن جميع المرضى يكذبون كما تعرفين. إنهم يأتون إلى هنا بسبب ما يعانونه هم أنفسهم بسبب كذبهم. ومن المعروف أنه كلما كان الشخص ماهرا في الكذب، كان مرضه أشد وطأة وعضالا. وإضافة إلى ذلك فما دمنا نأخذ أجرة الجلسة كل مرة بلا تأخير فلا يمكن التفكير في أننا عرضة للخداع من أي كان، أليس كذلك؟ ولا يعقل أن ثمة إنسانا يأتي خصوصا لعيادة نفسية وتلقي العلاج بطريقة التحليل النفسي من أجل الخداع وسرقة خزينة العيادة.»
انتهى الأمر عند هذا الحد، ولكن بعد أن عرفنا كذب مسألة الموسيقى، أصبحت «أكيمي» تكن كرها أكثر تجاه «ريكو».
لم يكن ثمة أي عوائق في حياتنا الجنسية أنا و«أكيمي»، ولكن كانت «أكيمي»، من أجل الحفاظ على حريتها، تخاف فقط من إنجاب أطفال، وبخلاف ذلك، ليس إلا، لم تظهر أية أعراض نفسية أو عصبية، بل إنها كانت، على العكس، امرأة ذات جسد سريع التجاوب والإحساس جنسيا.
وفي أحد أحاديثها الليلية قبل النوم قالت «أكيمي» إنها كانت حتى الآن تثق في أنها تملك حريتها باستثناء ارتباطها بجسدها ومتعته، ولكنها بعد أن عرفت «ريكو»، لم تعد كذلك، ثم أضافت بعد هذه المقدمة ما يلي: «بعد أن تعرفت إلى تلك المرأة، صرت منزعجة من الإحساس بأنني ضحلة إلى حد ما. فعندما تأتي تلك المرأة إلى العيادة وتلقي علي التحية ونتبادل النظرات الخاطفة، لا أستطيع منع نفسي من التفكير في أنها تنظر إلي بتلك النظرة.
أشعر أنها تقول في داخلها: [ماذا! إن هذه المرأة تتألق روعة في رداء الممرضات الأبيض، ولكنني أستشف من تحت ذلك الرداء جسد امرأة معتادة ضحلة مبتذلة، عندما يلمسها رجل لمسة بسيطة تسري اللذة في أنحاء جسدها.]
أشعر أن تلك المرأة تقول ذلك فينكمش جسدي، ويبدو لي برود تلك المرأة الجنسي كأنه ثلاجة كهربائية جديدة تبرق لامعة من شدة بياضها، فأحس بالغيظ والحسرة. يفترض أنني عشت حتى الآن أعظم من الحرية الروحية في كل الأحوال، ولكن أمام تلك المرأة أشعر [أن تلك المرأة ليست حرة من الناحية الروحية فقط بل إنها حرة كذلك من كل قيد آخر حتى الجسد]، وأشعر بسبب ذلك أنني في مرتبة أدنى منها.»
أوحت لي تلك الشكوى المتألمة أن الوضع متأزم جدا. لقد أعجبت بأكيمي لصفاتها النادرة حقا في النساء وهي أنها «امرأة لا ترغب في الزواج» «امرأة لا تغار من النساء»، وأمنت بذلك الحفاظ على حريتي أنا أيضا، ومع الحفاظ على علاقة عصرية بين رجل وامرأة ذات ضغوط قليلة، زرعت داخل «أكيمي» بشكل كاف تماما ما يتعلق بقيمة «الحرية الروحية»، إلا أنني سأكون في ورطة إن تخطت حدود ذلك واستهدفت الشكل الخاطئ من حرية الجسد. وهنا بذلت كل جهدي لتصحيح خطئها مستخدما كل ما لدي من حيل وكلمات. «الأمر مختلف يا أكيمي. ألا ترين أنها هي من تحمل عقدة النقص، بل وفقدت حريتها كذلك؟ إن حرية المرأة تعني حريتها في أن يشتعل جسدها كامرأة، وتكتشف داخله لذتها الإنسانية السارية على كل البشر، ولا وجود لنقطة انطلاق إلا من هذا الإدراك الذاتي، أليس كذلك؟ عليك التفكير في مدى اشتياقها هي إلى جسد [امرأة معتادة مبتذل]. لا أعتقد أنك الشخص الذي لا ينتبه إلى تلك النقطة.
أضيفي إلى ذلك أن اعتقادك أنها تملك الحرية الروحية والحرية الجسدية، هو ظن خاطئ جدا. إن نقصانها الجسدي أفقدها حريتها الروحية، وجعل جهودها التي تبذلها بلا طائل، ومقاومتها غير مجدية. إن المرأة المصابة بالبرود الجنسي يحدث كثيرا أن تنتقل من رجل إلى رجل بسبب تلهفها ونفاد صبرها الذي يجعلها تفكر في أن هذه المرة ستحل المشكلة، وهذا يجعلها ظاهريا تبدو امرأة حرة، ولكن ما من امرأة في تعاستها وقيودها، أليس كذلك؟»
ويبدو أن شرحي المنطقي أقنع «أكيمي» إقناعا تاما، ولكن مع ذلك ظلت نقطة أن المرأة المصابة بالبرود الجنسي تقيد الرجل ولا تتقيد به، تسحر لب «أكيمي» مثل بيت شعر جميل. فهذا جعلها تشعر بأنه انتصار من جانب واحد في معركة الحب.
وأدى ذلك في النهاية إلى أن يرتفع صوتي غاضبا: «إلى هذه الدرجة تريدين الإصابة بالهيستيريا؟! هل تريدين أن يتعاطف معك الناس بتلك الرجفة في الوجه؟»
فعادت أكيمي إلى رشدها أخيرا. وفي تلك الليلة صرخت «أكيمي» من اللذة وأنا أضاجعها، وبعدها بكت قليلا بلا سبب. إن كانت «ريكو» هي سبب إصابة امرأة سليمة الصحة بالخنوع والضعف تجاه صحتها تلك - وهو أمر يجب القلق منه - فليس أمامي إلا الشعور بالرعب من فعالية وتأثير الإعاقة التي تكمن داخل مرض البرود الجنسي؛ والتي تشبه سما باردا يطال الآخرين. ... ولأعترف أنني في الواقع ربما تأثرت شخصيا في تلك الليلة أكثر مما تأثرت «أكيمي».
لقد أحسست في لحظة ما أثناء المضاجعة، أن موسيقى الأسطوانة انتهت، فكانت الإبرة مستمرة في الدوران وهي تحك حكا خفيفا في فجوات الأسطوانة الخالية من الصوت، أحسست أنني أسمع صوت ذلك الاحتكاك المبحوح. ترسم تلك الفجوات مدارا لا نهائيا، ولا ينتهي الصدى المبحوح إلى الأبد، وفي الوقت الذي التقطت أذناي ذلك، شعرت أن ذلك الصوت المبحوح مستمر منذ قديم الأزل. وإذ فكرت في ذلك أحسست أن نهاية موسيقى تلك الأسطوانة، كانت في ماض سحيق ، ماض بعيد بعدا لا تستطيع ذاكرتي أن تعود منه حتى تصل إليه. لقد ماتت الموسيقى في ماض بعيد جدا.
وإذ أحسست بذلك في تلك اللحظة، هززت رأسي وهربت من تلك الأوهام، وانهمكت مجددا فيما أفعله أمام عيني. ففي الأصل لا يوجد مشغل أسطوانات في غرفة نومي ولا توجد أسطوانة تدور.
8
الرسالة التي جاءت من ريكو. «إلى الدكتور شيومي
أعتذر عما حدث في المرة السابقة. فمع أنك يا دكتور أعطيتني تلك الإرشادات بجدية مرات عدة، إلا أنني كما توقعت، لم أستطع الحديث بصراحة وتجرد من الذات؛ ولذا كرهت نفسي تلك كرها لا يحتمل.
في الواقع إنني أتذكر المقص الذي تحدثت عنه وقتها بوضوح تام. ولكنني تعمدت التحدث عنه بتلك الطريقة الملتوية.
كنا في طفولتي نلعب جميعا أمام مخزن بيت شون، وجاء أحد الأطفال بمقص، وقال لنلعب لعبة [جان كن]
4
ومن يهزم نقص له عضوه بهذا المقص. وكنت البنت الوحيدة، بل وكنت أنا أول المنهزمين. أشفق علي شون وحاول منعه، ولكن الطفل الذي يمسك بالمقص لم يرضخ. ومع أنني بكيت بكاء مريرا إلا أن الجميع قيدوا حركتي وأنزلوا بنطالي. وفي تلك اللحظة وضع الطفل الشرير حديد المقص البارد على فخذي (آه ... لقد تذكرت الآن ذلك الملمس البارد المرعب)، وبعد أن بحث بيده اليسرى في جسدي قال: [ما هذا؟! لا يوجد شيء هناك. أنت طفلة مهزومة دائما. فسبق أن قطع من قبل، أليس كذلك؟]
وعندها أخذ الجميع يغنون: [مهزومة، مهزومة، على الدوام مهزومة. زمان، زمان في قديم الزمان، قطع عضوك ولم ينم مجددا.]
وظلت الحسرة والرعب معي بعد ذلك لفترة طويلة، لدرجة أنني كنت أفكر أن أحمل مقصا وأدور به على هؤلاء الأطفال المتنمرين أثناء نومهم ليلا وأقطع به أعضاءهم جميعا.
ثم بعد ذلك موضوع الثور. بعد مرور فترة من حادثة المقص، حدثت في مدينة «قوفو» أن فر ثور هائج في طرقات المدينة بعد أن طعن بقرنه فلاحا في صدره فقتله، وعندما سمعت تلك الواقعة، تخيلت ببراءة الطفولة أن قرون الثور تشبه المقص ، ثم وصل خيالي إلى أنه ما دامت القرون تشبه المقص فهي تشبه أيضا العضو الذكري.
وأنا أعتقد أن تحويل الخيال القاطع ليكون شبيها للمقطوع، أمر يثير الدهشة، ولكنني لم أستطع التوقف عن هذا التخيل. فالمقص في الأصل يحاول قطع هذا؛ لأنه يخاف منه، وعلى الأرجح فإن ذلك الشيء المخيف أيضا في الأصل يشبه المقص، أليس هذا أمرا محتملا أن يتخيله الأطفال في أوهامهم؟
أما ما أخفيته عنك يا دكتور ولم أستطع البوح به، أنني أنا الذي أبدو أنني نشأت في رعاية وعناية شديدتين كطفلة في صندوق جواهر، في الواقع لقد تفتحت عيناي على الجنس في فترة مبكرة جدا. ليس فقط عيناي اللتان تفتحتا، بل لقد رأيت العملية الجنسية نفسها مباشرة أمام عيني.
أعتقد أنني كنت وقتها في الصف الرابع من المرحلة الابتدائية. أخذت إذنا من العائلة، وصحبتني عمتي التي تحبني وترعاني جدا، وذهبنا في رحلة لمدة يومين أو ثلاثة أيام إلى منطقة وادي شوسن. وعندما أفكر في الأمر الآن، كان شاب يقيم في نفس الفندق بعد أن اتفق على ذلك مع عمتي، وفي إحدى الليالي بينما كنت أتظاهر بالنوم، تسلل ذلك الشاب إلى غرفتنا وهو لا يعلم بأنني مستيقظة.
لقد أصابتني صدمة هائلة، ووصلت إلى قرار أنه من الأفضل أن أستمر في التظاهر بالنوم. في البداية لم أصدق أن البشر يقلدون ذلك الفعل الذي تفعله الحيوانات، ولكن ألا ترى الأمر غريبا يا دكتور؟ فمهما قلنا أطفال؛ فحتى الأطفال لديهم ما يقنعون به غريزتهم.
ولكنني كنت أفكر تفكيرا شديد الألم أنه إن كان يجب علي أن أفعل ذلك عندما أكبر، فأنا أكره أن أكبر، وأريد البقاء طفلة كما أنا. وجعلت تلك الواقعة التي كانت في منتهى الثورية عالم الكبار الذي كنت أكن له تبجيلا واحتراما ينهار ويتداعى فجأة من قواعده، وكانت كلمات اللذة التي تجري على لسان عمتي ولسان الفتى بأنفاسهما اللاهثة المتعبة، تبدو لي كأنها حسرة وتجلد ضد الانهزام، ولم أستطع معرفة هل هي حقيقية أم ادعاء.
ماذا يجب على الطفل الذي رأى النقيض التام للأخلاق الحميدة أن يفعل؟ لقد كنت أضع الفخر بأخلاقي الحميدة في موضع الأهمية الكبرى بالنسبة لي؛ ولذا بدأت أحمل تأكيدا أن أي شيء يتعلق بالفعل الجنسي سيجلب لي الخزي والعار. كان يكفيني جدا رؤية وجه عمتي الذي انهار من فوق الوسادة؛ وجه مهمل ومشوه ويمتلئ بالعرق، وجه لا يمكن أن يكون هو وجه عمتي الحنون الذي أعتاد عليه يوميا وإن كان يشبهه، وجه تبرز عليه ملامح البذاءة المتناهية ...
دكتور، أرجو منك أن تعفيني اليوم عند هذا الحد. فلقد تعبت تعبا نفسيا شديدا لأنني فقط كتبت ما كتبته حتى الآن.» ... ... ...
لقد أعدت قراءة تلك الرسالة مرة ثانية بالتفصيل، ثم كتبت ردا عليها، ولكن لم يكن ذلك عملا يمكن القول عنه إن نفسي راغبة فيه؛ لأنني شعرت أن «ريكو» تنبأت بكل إجاباتي وتجهز لها مسبقا ابتسامة صفراء باردة. «لم يظهر ذلك بوضوح في الرسالة ولكن ...» كتبت ذلك أولا على سبيل التهديد ثم أضفت: «إن لديك ذاكرة أخرى في الطفولة تمتلئ بالرعب بخصوص تحريم العادة السرية، وأعتقد أنها تحولت على العكس منها إلى عقدة الإخصاء حيث المقص هو موضوعها الرئيس. إن قصة المقص المقحمة تلك في غاية التقليدية والشيوع، وإن أسأت القول فهي مبتذلة، ولكنني لا أعرف أهي ذاكرة حقيقية مؤكدة لك، أم أنها حكاية مختلقة فيما بعد لسد النقص وإعطاء تفسيرات جنسية بما يلائمك؟
لأكون صادقا، أنا لا أحب ميلك تجاه محاولة إعادة تركيب كل ذكريات الماضي لتكون ذكريات جنسية بسبب الأعراض البادية عليك حاليا. فحتى بالنسبة لقرون الثور؛ فذاكرة طفولتك ليست ذاكرة جنسية، ولكن ربما تكون لها علاقة بإبعادك عن ثدي أمك في فترة الفطام، وإعطائك الطعام بملعقة معدنية مما جعلك تشعرين بعدم الانسجام، والغضب الذي استحثه نموك الظالم من خلال عدم الانسجام هذا. بمعنى أن الثور الهائج يشير إلى غضبك أنت شخصيا من محاولة إبعادك عنوة عن مرحلة الرضاعة.
ولكن من العجيب أن إفصاحك عما في قلبك - بتداعي الذكريات بالتشابه بين المقص والعضو الذكري؛ أي بين القاطع والمقطوع - هو الجزء الأكثر صدقا وحقيقة داخل تلك الرسالة. هنا تكمن جذور قلبك التي لا تستطيع، مهما فعلت، التغلب على الاختلاف الجنسي بين الذكر والأنثى. لسبب ما كنت منغمسة تماما في فكرة قوية لحق المساواة التامة بين الجنسين. ولم تحاولي الاعتراف بقدر الأنثى، وترين أنه من الظلم أن يكون الذكر فقط هو المهاجم، ولديك منذ طفولتك مشاعر عارمة بعدم تقبل الهزيمة من الذكور، ورغبة قوية أن تكون هناك مساواة تامة بين الذكر والأنثى في كل شيء وأي شيء. وعندما أنظر إليك الآن أجدك أنثى طاغية الأنوثة، ولكنني أتوقع أنك في صغرك كنت «أنثى مسترجلة ترتدي بنطالا رجاليا» مثل جورج صاند.
وإن سألنا ما الذي جعلك تفعلين ذلك؟ فأول ما يمكن التفكير فيه هو وجود أشقاء ذكور منافسين لك تجاه أمك.
ألم يكن لك شقيق أصغر تنازعتما بعنف في سلب ثدي الأم أحدكما من الآخر، أو ربما شقيق توءم؟ أرجو أن أسمع منك ردا عن هذا السؤال في الجلسة القادمة.
بعد ذلك تأتي ذاكرة العلاقة العاطفية لعمتك، إن تلك القصة المدرجة في رسالتك ليست إلا مجرد قصة تظهر بوضوح صفة من صفاتك وهي الإفراط في جعل المسائل درامية. كثيرا ما يقال إن مشاهدة الفعل الجنسي لأحد الأقارب يصير جرحا نفسيا بالغ التعقيد، ولكن ليس بالضرورة أن يحدث ذلك دائما. وإضافة إلى ذلك فأنا أعتقد أنك تخفين شيئا ما، ومن تلك التجربة في مشاهدة الفعل الجنسي ثمة شك في أنها ليست المرة الأولى بالنسبة لك وأنت في الصف الرابع من المرحلة الابتدائية.
ربما تستائين مما أقوله، والذي يعتمد تماما على حدسي فقط، ولكن حتى طريقة العلاج بالتحليل النفسي لا ترتكز على استبعاد الحدس استبعادا تاما. فمع أخذ طريقة علمية موضوعية محايدة بقدر الإمكان، فأنا أعتقد أن ما يجمع ذلك دفعة واحدة هو الحدس.
أنا أشتاق إلى الجلسة الثالثة القادمة بيننا.»
9
عندما كنت أفكر وأنا أنظر في التقويم فوق الحائط أن غدا هو موعد لقاء «ريكو»، جاء زائر غريب الأطوار إلى العيادة في فترة بعد الظهيرة حيث صادف أن العيادة كانت خالية من المرضى.
خرجت إلى غرفة الانتظار وأنا أنفخ دخان سيجارتي، أتأمل شاردا عبر النافذة ازدحام المارة في الطرقات، وبوسترا كبير الحجم لدرجة غبية، يعلن عن العرض الأول لأحد الأفلام. ثم أنظر إلى البالونات الإعلانية الكثيرة وهي ترتفع كذلك في سماء مشرقة لعصر يوم خريفي معتدل. إن وسيلة الإعلان البدائية المتمثلة في بالونات الإعلان توجد منذ كنت طفلا، ومع أنني أعتقد أنه قد حان الوقت لكي تذهب تلك الموضة القديمة بغير رجعة، إلا أنها لا تنتهي، مما يشير إلى شدة تأثيرها وفاعليتها الدعائية. منها ما هو مخطط بألوان أبيض وأحمر مقلمة طوليا، ومنها ما هو فضي اللون. منها الأخضر، ومنها الرمادي الباهت اللون. وعندما نظرت إليها وهي تهتز بلا سند تعتمد عليه وسط هواء المدينة الملوث، جعلتني بلا وعي أتذكر مرضاي لسبب غير مفهوم.
في ذلك الوقت دخل شاب طويل القامة دون حتى أن يطرق الباب، مقتحما غرفة الانتظار في مشهد فظ وعنيف. أخذت سريعا وضعية الاستعداد لاحتمال أن يكون أحد المرضى النفسيين الخطرين.
سألني ذلك الشاب الوسيم للغاية، ببشرته السمراء قليلا، بصوت غليظ ذي ضغط شديد: «هل أنت الدكتور شيومي؟» «أجل أنا ...»
أخرج الشاب من جيبه بطاقة اسم فجأة، وأمسك بها بين أصابعه وقدمها لي. «السيد ريوئتشي إغامي ...»
اضطررت إلى قراءة الحروف المطبوعة فوق البطاقة بدون أن أتخلى مطلقا عن وضعية الاستعداد. «أنت تعرف اسمي، أليس كذلك؟ أنا صديق ريكو.» «آه، حقا، هو كذلك.»
عرضت عليه في صمت الجلوس على طرف الأريكة الطولية. «وهل شرفتني بالزيارة لشأن يخص الآنسة ريكو؟» «أجل يا دكتور، أرجو ألا تهتم بها بعد الآن.» «ما معنى لا أهتم بها؟» «إنها تأتي إلى هنا كثيرا، أليس كذلك؟» «مرة واحدة فقط في الأسبوع. ولم تأت إلا مرتين فقط حتى الآن.»
ومثل كلب صيد يحاول أن يشم رائحة سيده، أخذت عينا «ريوئتشي» الدمويتان تنظران هنا وهناك داخل غرفة الانتظار التي لا يمكن وصفها بالواسعة مطلقا. لاحظت أن هذا الشاب - الذي يبدو بصحة جيدة لا غبار عليها - في حالة هياج وثورة عارمة تقترب من أن تكون مرضا. «لذلك أرجو ألا تهتم بها مستقبلا.» «لا أفهم ما تقوله جيدا. إن الآنسة ريكو تأتي فقط لتلقي العلاج ليس إلا.» «لا بأس. إنني أنا أيضا لم أكن أريد أن أفعل ذلك الفعل الشائن. ولكن ...»
بدا عليه التردد والحيرة نوعا ما. ثم بعد ذلك فتح سحابة حقيبته وأخرج منها مفكرة يوميات بغلاف أحمر من الجلد مما تستخدمه النساء. وقلب في صفحاتها بعصبية ثم قال: «هذا!»
ودفع إلي بإحدى الصفحات في حركة وقاحة منقطعة النظير. ولم يكن أمامي إلا أن أمرر عيني على الصفحة المفتوحة تحت أنفي حتى وإن كنت كارها ذلك. كان مكتوبا ما يلي بخط يد «ريكو» الذي اعتدت رؤيته: «يوم
x
من شهر
x .
كانت الجلسة الأولى مع الدكتور «شيومي» كأنها تدغدغ حقا مشاعري بريشة وردية. فقد جعلني الدكتور أنام على المقعد الوثير ثم في البداية أخذ يقبض على يدي بوقار، وهو يكرر أسئلة شكلية مملة، ثم بدأت يده تدريجيا تزحف نحو ذراعي. ولأنني كنت أحس بالدغدغة. ضحكت ضحكة منخفضة الصوت، ولكن منعني الدكتور قائلا: صه، وقام واقفا فأطفأ مصابيح السقف، وجعل الغرفة ليس بها إلا إضاءة مصباح المكتب النيون في ركن الغرفة فقط.
كنت أشعر برائحة جسده مباشرة.
قال الدكتور: «أغمضي عينيك! أغمضي عينيك!»
وعندما أغمضت عيني كان الشيء الثقيل الحار الذي لمس جفوني هو، بلا شك، شفتا الدكتور. نزلت الشفتان ببطء بمحاذاة أرنبة أنفي وفي النهاية غطت فمي الذي كان مفتوحا فتحة ضئيلة من الدهشة.»
10
أثناء قراءتي ليوميات «ريكو» المختلقة، وهذا أمر مخجل لطبيب تحليل نفسي، أعترف أنني فقدت اتزاني وهدوئي بدرجة ما.
فبدلا من هلوسات وخيالات مريضة نفسية توجب التعاطف والشفقة، نجد أنه قد تولد داخلها شر قاس وشديد السواد. ما السبب الذي يجعلها تتحداني بمثل هذه القسوة؟ وحتى سرقة حبيبها ليومياتها، لا يمكن الآن إلا التفكير في أنها كتبت ذلك متعمدة، وهي تتوقع أن يسرقها.
والجزء الذي يلي ذلك كان أكثر فظاعة، وقد أصبحت أنا ذلك الطبيب الشرير الخليع المضحك الذي يظهر كثيرا في أفلام الدرجة الثالثة الرديئة.
أحسست أن «ريوئتشي إغامي» يحدق بغل وغضب تجاهي وأنا أقرأ اليوميات بمشاعر كراهية.
كنت مضطرا وأنا أقرأ أن آخذ وضع التحفز والاستعداد بلا انقطاع حذرا من ذراعي ذلك الشاب المفتولتين. عندما يصبح الوضع هكذا فالإنسان الطبيعي يصبح أخطر من المجنون.
وأنا أوجه عيني جزئيا على صفحات اليوميات الحرة، كنت أفكر في كيفية التعامل مع هذا الموقف العصيب والحرج. كانت ثمة ضرورة في أن أنشغل أنا في هذه اليوميات لأطول فترة ممكنة من الوقت حتى يهدأ الشاب من هياجه. قلبت الصفحات الأولى عدة مرات متتالية محاولا البحث عن عيوب منطقية فيها بدرجة تقنع هذا الشاب على الفور، ولكن لسوء الحظ لم أجد مثل ذلك الشيء، بل تجتاح الإباحية الكلام من أوله لآخره. ولكن استعادت ملامحي اتزانها وهدوءها بالكامل أثناء قراءتي.
قلت لريوئتشي الذي ظل واقفا يحدق في بغضب: «اجلس على الأقل. دعني أشرح لك الأمر بتأن.»
ومع أنه قال: «إنني لا أريد سماع أعذار واهية.» إلا أنه جلس أمامي مما جعل قلبي يطمئن. «على أي حال لم آت إلى هنا لأسمع شرحا منك، ولم آت كذلك للعراك معك. ويجب مسبقا أن أقول بوضوح إنه سيكون أمرا مزعجا لو ظننت أننا ننوي الابتزاز أو أننا نمثل أنها تغويك لتهديدك. أنا فقط هنا لكي أقول لك ابتعد عن ريكو.» «فهمت.»
اجتهدت في أن يكون صوتي لطيفا، ولكنني أحسست أنا نفسي بالاستياء من ذلك؛ إذ إنه ربما تكون نبرة صوتي اللطيفة أكثر من اللازم تشابه الصورة الخليعة التي في اليوميات. «الحقيقة أنني وضعت في موقف يصعب علي جدا شرحه، ولكن الأمر الذي يؤسف له، أنك حكمت على الأمر حكما نهائيا من خلال رؤية وثائق جانب واحد فقط. إن الوثائق الطبية التي لدي، في الأصل، يجب أن تكون في منتهى السرية، ولكنني أريد منك أن تقرأها لكي تكون مرجعا لك في الحكم. وبالتأكيد لك مطلق الحرية في أن تثق في الجانب الذي تريده، ولكن على الأقل ستعرف أن يوميات «ريكو» وتقريري الطبي لهما نفس القيمة الوثائقية من وجهة نظر محايدة. ولك حرية الحكم فيما بعد ذلك. يا كوداما! أحضر لي تقريرا رقم «ن 85» من الملف الثالث.»
أعطيت هذا الأمر لمساعدي بعد أن ضغطت على زر الإنترفون.
وكانت دقائق انتظار وصول التقرير الطبي كأنها دقائق ما بعد انتهاء حادثة ما بالفعل، لم يحاول «ريوئتشي» أن ينظر إلى وجهي مباشرة بل اجتهد في أن يجبر عينيه على النظر خارج النافذة.
أحضر المساعد «كوداما» التقرير الطبي، فسلمته لريوئتشي صامتا. أما «كوداما» الذي رآني أفعل ذلك السلوك لأول مرة فقد غادر المكان وهو مندهش.
قرأ ريوئتشي التقرير بتركيز شديد. ومن الطبيعي أن يقرأ بحماس أكثر الرسالة التي كتبتها «ريكو» لي مما كتبته أنا. وعلى ما يبدو أن محتوى الرسالة جعل ذلك الشاب يفطن إلى تهوره؛ وذلك لأن محتوى الرسالة يتناقض بوضوح مع محتوى اليوميات، فلا يبدو أن من كتبته امرأة تعامل معها الطبيب بتلك الصورة من الخلاعة منذ الجلسة الأولى للعلاج. وعرفت بوضوح أن «ريوئتشي» قد وقع في ورطة فجأة.
11
في ذلك اليوم عرض ريوئتشي علي أن نتقابل في الخارج على سبيل الاعتذار، ولكنني رفضت بشدة إلا أنني في النهاية اضطررت إلى أن أوافق، فقررنا أن يعزمني على شراب في الساعة السابعة - موعد إغلاق العيادة - في مطعم صغير بجوار العيادة، وثمل ريوئتشي تدريجيا فاعترف لي بالدافع إلى غضبه، تأثر قلبي من صراحة وصدق ذلك الشاب. لقد كان يملك قدرة عظيمة على التحليل النفسي لذاته لا تتناسب مع مظهره الخارجي الذي يبدو بسيطا ساذجا. ثم لم يكن ذلك الغضب مجرد غضب من الغيرة، ولكن إن استعرت كلمات ريوئتشي نفسه فهو لم يستطع تحمل أن: «تلك المرأة الباردة جنسيا تتجاوب في حماس وحرارة مع مداعبة طبيبها.»
كان كبرياء ذلك الشاب محطما إلى أشلاء، مع ما يبدو عليه من قوة بدنية في مظهره الخارجي. لقد كان رجلا يراهن بكل قواه على كبريائه الجنسية، مثل الشباب الذين يملئون المجتمع.
سوف أذكر فيما بعد محتوى نقاشنا أنا وريوئتشي، ولكن من خلال حديثنا معا كان الإحساس بأن المرأة المسماة «ريكو» تمثل لنا لغزا هو العامل المشترك لنا نحن الاثنين كرجال. لم يكن ثمة غبار أن تكون لغزا بالنسبة لريوئتشي، ولكن بالنسبة لي أنا، الطبيب النفسي، كان اللغز يمثل عارا.
لقد كنت حذرا تجاه نفسي التي بدأت تحمل تدريجيا شكوكا حول قدرتي وطبيعتي كمحلل نفسي، وكان ذلك يحدث لأول مرة لي أنا الواثق جدا من قدراتي.
في كتابه «العلاج المرتكز على المرضى» يناقش البروفيسور كارل روجرز بالتفصيل موقف المعالج النفسي تجاه المريض. ويؤكد في كتابه هذا أن المريض يكتشف «بديلا للأنا» في معناها الحقيقي داخل المعالج النفسي من حيث التقنية والممارسة. في النهاية يستطيع المريض الاعتراف بأي ذنب أو جريمة وهو مطمئن بسبب العلاقة العاطفية الحارة مع المعالج النفسي، ويولد ذلك الاعتراف شعورا بالراحة والأمان يجعله يتقبل ما فعله «بالاعتراف والتبجيل». فيجب على المعالج النفسي أن يصبح بديلا لذنوب المريض.
وليس أمامي إلا مراجعة النفس والتفكير؛ هل كنت حقا أملك ذلك الوعي الذاتي امتلاكا مؤكدا؟ ألم أخف داخلي مشاعر غير نقية متنوعة من الحياد البارد والفضول العلمي النفعي؟ ألم تكن «ريكو» حقا رسول السماء إلي لكي أعيد مراجعة نفسي تجاه هذا الإهمال؟
عندما وصلت إلى تلك النقطة من التفكير كنت قد انحرفت عن العلم ودخلت نطاق الأديان، وبالطبع هو موقف يجب علي أنا ألا أفعله، بالإضافة إلى أنه حتى المريض المعتاد كلما لاقى معاناة كان شعور القتال لدي يشتعل، ولكن «ريكو» كان لديها قوة ساحرة تفقدني حماسي للقتال.
كان يجب أن أنتبه إلى أنني أرتكب تناقضا واضحا من خلال عملي في وظيفة طبيب تحليل نفسي، في التعامل مع النفس البشرية التي لا يمكن مطلقا رؤيتها بالعين المجردة. إن الجراحة هي أكثر فروع الطب وضوحا وشفافية، والطبيب من خلال التدريب والصقل التقني فقط، يستخدم أدواته في استئصال بؤرة المرض وينتهي الأمر. ولكن الطب النفسي من خلال التعامل مع الروح لا يمتلك أدوات إلا مجرد أدوات روحية فقط، وحتى وجهة النظر التي تتعامل مع مريض معافى البدن على أنه حالة خاصة ضد التعميم، لا تزيد على مجرد اختلاف في الدرجة فقط.
لقد انحرف الحديث قليلا، لأرجع بالحديث إلى ريوئتشي؛ كان كلما غرق في السكر أصبح في حالة بائسة وبدأ يشكو مر الشكوى من «ريكو» بلا توقف. إنه يحب «ريكو» بالتأكيد. ومع أن حب «ريكو» له أيضا أمر مؤكد (بخصوص هذه النقطة يتبقى شكوك قليلة داخلي أنا كطبيب تحليل نفسي)، ولكنه لا يستطيع مهما فعل التأكد من حبها له عبر جسدها، ويفشل مهما لاحقه إلى ما لا نهاية. ولكن هل يدعوه ذلك إلى أن يضجر منها؟ كلا، على العكس، يصبح أكثر تشبثا بها وتجره معها إلى حيث تذهب. «لم أشعر حتى الآن أن ثمة امرأة تجرني معها بتلك الطريقة كأنني أجر لأسقط في هوة سحيقة.»
إن تلك الكلمة التي قالها ريوئتشي تحتوي، في الواقع، على حس واقعي غريب.
وكما كررت مرارا؛ لست معنيا بالرد على الاستشارات العاطفية للناس، ولكن هكذا أصبح إنسانا كان، حتى صباح اليوم، مجرد شخص غريب لا أعرفه، يبوح لي بما في أعماق قلبه، ويصبح من الصعب عدم إظهار حميمية زائدة تجاهه. وأثناء سماعي له، تعاظم لدي تخمين محتواه: «ألا يكون سبب برود «ريكو» الجنسي وحيلها السيئة النية تلك، هو موقف ريوئتشي بعدم وعدها مطلقا بالزواج بسبب أنها لم تكن عذراء؟» ولكنني مع ذلك لم يصل يقيني إلى أنه لو تزوج ريوئتشي من «ريكو» غدا ستحل كل مشاكلها. ولا يجب مطلقا أن تتدخل مشاعري الشخصية في هذا الأمر، ولكن قلبي كان يشعر أنني إن جعلت ريوئتشي يتزوج ريكو، ثم تفاقمت حالتها سوءا؛ فإنها ستكون مشكلة كبرى، ومع الحذر الواجب علي كطبيب، فإنه من جانب آخر كان داخلي مشاعر تعمل خفية على عدم السماح لهما بالزواج. ولم يكن أمامي في النهاية إلا أن أقنع ريوئتشي أن يترك ريكو تواصل العلاج معي لفترة من الوقت.
12
في اليوم التالي ، ظهرت «ريكو » التي لم أكن أتخيل أنها ستأتي، في موعدها تماما دون تأخير. واستطعت أن أرشدها إلى غرفة التحليل النفسي بعد أن استعدت هدوئي تماما خلال الليل، وحرصت على كتمان ما حدث أمس تماما.
للحظة، هاج صدري متخيلا خيالات غريبة؛ إذ رأيت عينيها الجميلتين، في المعتاد، حمراوين؛ لأنها لم تنم ليلة أمس تقريبا. في العادة من غير المستحب دخول المريض غرفة التحليل النفسي بتلك الظروف الجسمانية السيئة، ولكن الأمر يختلف من شخص لآخر، وعندما رأيت رجفة «ريكو» تتوقف في اللحظة التي دخلت فيها غرفة التحليل النفسي هذا الصباح، على العكس، أدركت أنها بدأت تتعود على العلاج لأول مرة بعد مرورها بتلك البلبلة الفكرية.
بعد أن رقدت «ريكو» على المقعد نزعت الشال عن عنقها، وفتحت زر بدلتها عند الصدر فعرت المثلث الأبيض من صدرها، ثم قالت وهي تزحف بأصابعها الجميلة من هناك حتى عنقها: «آه، إنني أرتاح بمجرد مجيئي إلى هنا. لم يسبق لي يا دكتور أن اشتقت إلى العلاج مثل اليوم. أعتقد أنه ما من مكان في العالم كله يجعلني أستريح حقا؛ بدنيا ومعنويا، إلا على هذا الكرسي.» «ولكنني كنت أعتقد أنه بالنسبة لك يشبه كرسي الإعدام بالصعق الكهربائي.»
وعلى العكس أجابت ريكو على مزاحي اللاذع بنبرة صوت جادة قائلة: «حقا يا دكتور! إن هذا هو السبب. الإنسان الذي ارتكب ذنوبا فوق ذنوب، يرتاح في النهاية على كرسي الصعق الكهربائي، أليس كذلك؟»
كان من الواضح أنها تملك بالفعل وعيا ذاتيا بالذنب، ولكنني قررت قرارا حاسما؛ هو ألا أبدأ من نفسي الكلام عما حدث أمس.
قلت لها بصوت لطيف وبدون تعمد: «أريحي أعصابك وجربي أن تتحدثي عن أي شيء يطرأ على بالك.»
إن اللقاء الثالث والجلسة الثانية من تلقي العلاج؛ وحتى وإن لم يصل الأمر إلى أن تكون مفترق طرق يفصل بين النجاح والفشل في طريقة العلاج بأسلوب تداعي الأفكار الحر، فإنها في حالات غير قليلة تضع خطا فاصلا وهاما جدا في نقطة تحول في منتهى الأهمية؛ لأن رد الفعل العصبي للمريض يضعف ، والأهم أن المريض نفسه يبدأ في الإحساس أنه شخصيا لا يعلم ما مشكلته حقا. ولأن مسألة «لا يعلم» تلك في غاية الأهمية، فالمريض في جلسة العلاج الأولى يظن أنه يعلم بوضوح السبب الذي من أجله أتى إلى هنا، وأنه يعلم مشكلته التي أدت به إلى ذلك. إن المريض يكون مخدوعا بواسطة «الإرادة» الشجاعة جدا التي جعلته يأتي إلى هنا، وفي جلسة العلاج الثانية بالذات، تكون الفرصة لكي يدرك أن إرادته تلك ذات طبيعة غامضة وذات قيمة عكسية لما تنوء بحمله «الإرادة» الطبيعية في المجتمع.
كنت آمل خيرا في حدوث ذلك، فاجتهدت في أن أزيل وجودي تماما من ذهن ريكو بقدر المستطاع، وانتظرت وأنا أضع طرف القلم الرصاص المسنون بعناية على الورقة. كنت دائما أحرص على أن أخفي هذا القلم الرصاص - المحبب إلي والمسنون بعصبية - عن عيون أي مريض مصاب برهاب الأطراف الحادة.
وسط إضاءة رقيقة، أو ربما هي إضاءة معتمة قليلا، بدأت شفتا ريكو تحكي شيئا ما. وكلما رأيت ذلك المنظر لا يسعني إلا أن أفكر في غرابة الإنسان. تبرز تلك الشفاه في هذه الغرفة القليلة الألوان وكأنها زهرة صغيرة زاهية، ولكن تحتوي الكلمات التي تحكيها تلك الشفاه، في داخلها، ذاكرة الأرض الرحبة. ويمكن فهم ومعرفة أن جميع القضايا المتعلقة بتاريخ الإنسان وأمراضه النفسية تتزاحم وتحتشد ليساعد بعضها بعضا - حتى وإن كان ذلك بكمية ضئيلة جدا - من أجل إزهار تلك الزهرة الواحدة. ويجب علينا نحن معشر أطباء التحليل النفسي، عبر تلك الزهرة الصغيرة الجميلة، أن تكون لنا علاقة بذاكرة الأرض والبحار كلها.
بدأت «ريكو» الحديث وهي مغمضة العينين: «لقد أحسست بالوحدة بسبب عدم ذهابي للعمل في الشركة. فجاءت لي رغبة في الذهاب إلى أمام الشركة ورؤية الوضع من الخارج. فركبت القطار كالمعتاد. وعندها اكتشفت أنه ما من راكب واحد في القطار، ولم أدر السبب. وعندما نظرت من النافذة كانت كل لوحات الإعلانات الكبرى بيضاء تماما بلا حرف واحد ولا رسم واحد. نزلت من القطار، وأثناء المسافة حتى مبنى الشركة - ومع أن الوقت صباحا والجو جيد - لم أقابل إنسانا واحدا في الطريق. وأخيرا انتبهت إلى أنني في حلم. ولم أمانع أن يكون حلما. وقررت الذهاب إلى أقصى ما أستطيع، فبقيت أمشي قدما. فبدا لي مبنى الشركة على الجانب الآخر من طريق ليس به سيارة واحدة.
وبالطبع ما من أثر لإنسان في محيط المبنى، ولا يبدو في أي نافذة - من نوافذ الطوابق الثمانية - أن هناك من يعمل داخل المبنى. ووقتها لمع زجاج إحدى نوافذ الطابق الثامن. كانت، حتى الآن، نافذة غائمة كأنها ميتة، ولا شك أن سبب لمعانها فجأة هكذا، أنها فتحت من الداخل صدفة ليعكس زجاجها أشعة الشمس.
عندما حاولت أن أنطق بسبب الفرحة والاشتياق لرؤية إنسان: [هناك أحد.]
ظهر ظل أسود لإنسان. وعرفت على الفور بالحدس أنه السيد ريوئتشي، وعندها وضع ذلك الشخص قدمه على حافة النافذة ودفع بجسمه للخارج. صرخت باستماتة: [لا تفعل! لا تفعل!] ولكن ذلك الشخص ألقى بجسده للخارج أكثر وأكثر، ثم سقط فورا ورأسه لأسفل ورجلاه لأعلى.
وعندما انتبهت، كان بحر من الدماء قد ملأ الطريق الهادئ والمشرق تماما، ويرقد وسط تلك الدماء شاب غارق فيها، وجسده يرتعش ارتعاشات طفيفة. اقتربت منه لا إراديا واحتضنته. كان وجهه محطما تماما ولكنني عرفت أنه السيد ريوئتشي بالتأكيد. وعندها صرخت صرخة أيقظتني من النوم. كان وقت استيقاظي في منتصف الليل تماما، وصوت عقارب الساعة المجاورة للفراش، يسبب لي الرعب بحيويته وشدته. ولم أستطع بعدها النوم حتى الصباح. وهذا هو سبب مجيئي إلى هنا بمثل هذا الوجه المرهق من قلة النوم.»
كتبت ذلك الحلم مثل الكاتب المخلص الأمين، ولكن بغض النظر عن كونه رأيته ليلة أمس أم لا، فقد كان رأيي أنه ليس كذبا على إطلاقه. ومن خلال النظر إلى الأوضاع المحيطة، فليس غريبا أن تتمنى «ريكو» انتحار ريوئتشي. ولكنني لم يكن أمامي - وأنا أستمع لها وهي تفرض بقوة تفسيرها لذلك الحلم - إلا أن أفقد اهتمامي بما تقول.
بعد أن تحدثت «ريكو» حتى هنا، صمتت قليلا. وأثناء ذلك كان صدر بدلتها يرتفع وينخفض بعنف واضح جدا للعين. فجأة نهضت قائمة بجسدها وغطت وجهها بيديها، وصرخت بما يلي وهي تبكي: «أنا آسفة يا دكتور. لقد كذبت عليك. كل ذلك كذب. إنني امرأة لا تقدر إلا على الكذب.»
شجعتها بصوت هادئ ورزين قائلا: «لا عليك اهدئي. فلسنا في قسم الشرطة هنا. ولا مانع من أن تقولي أي شيء صدقا أم كذبا. ألم أقل لك من قبل أن تتحدثي بأي شيء يخطر على قلبك.»
لم تتوقف «ريكو» عن البكاء مطلقا وهي تقول: «حقا لقد قلت لي ذلك.» ثم أخرجت منديلها وتمخطت بأنفها وبعدها لوت جسمها فوق الكرسي وتوجهت مباشرة نحو وجهي وقالت: «هل تسمح أن تعدل وضع الكرسي لأعلى قليلا؟» «أجل، لا مانع مطلقا.»
ثم مددت يدي وضغطت على الزر وجعلت مسند ظهر الكرسي في زاوية قائمة تقريبا. أدارت «ريكو» الكرسي وأصبحت الآن تجلس في مواجهتي تماما. كان ذلك الوجه المبلل بالدموع أبيض لدرجة مرعبة، وعندما رأيت خصلة شعرها تهفو على صدغها مثل الطحالب، اكتشفت للحظة داخل مثل هذه المرأة العصرية، شبح «امرأة الماء» التي يتحدث عنها علماء الفولكلور. «لقد أتيت اليوم وأنا عازمة على الاعتذار لك يا دكتور. ولكن ... ولكنني حتى هذه اللحظة لم أستطع النطق بكلمة الاعتذار ... أعتذر لك بشدة عما حدث أمس.
بالطبع السيد ريوئتشي ليس بريئا تماما، ولكنني أعتقد أن ذنبي أعمق منه، فقد كتبت تلك اليوميات وتعمدت أن يراها؛ لأنني ليس لدي ثقة في جسمي، لم يكن أمامي وسيلة أخرى إلا تلك لكي أجعل قلبه يستمر في الاهتمام بي من خلال إشعال نار الغيرة العنيفة في قلبه بهذه الطريقة.» - «هل حقا لم يكن هناك وسيلة أخرى؟» - «أجل، أعتقد أنني أسأت لك يا دكتور، ولكن بفعل ذلك ...»
انتهزت الفرصة وقلت بقليل من الحدة: «آنسة ريكو! هل أنت حقا لديك مشاعر مخلصة تجاه السيد ريوئتشي؟» - «أجل، بالتأكيد. ولكن لماذا تسأل؟» - «دعيني أسألك إذن، في حالة نجاح طريقة العلاج بالتحليل النفسي وتمام شفائك من مرض البرود الجنسي، هل ستحاولين تذوق اللذة الحقيقية مع السيد ريوئتشي، أم ستتخلين عنه وتحاولين تذوق حياتك التي ولدت من جديد بين ذراعي شخص آخر، أيهما ستختارين؟» - «بالتأكيد سأختار الأولى؛ بمعنى أنني جئت لزيارتك بسبب مشاعر الأسف التي أحس بها تجاه السيد ريوئتشي. من المؤكد أن ذلك من أجله.»
قلت وأنا أضع القلم الرصاص فوق الورقة بحسم وأنظر مباشرة إلى عينيها: «كلا. أنت تكذبين. إنك ترغبين أن تظلي باردة جنسيا تجاه السيد ريوئتشي إلى الأبد.» - «ماذا؟» - «إن ذلك واضح جدا من نتيجة التحليل النفسي. منذ مجيئك إلى هنا تقولين بلسانك فقط إنك تريدين علاج برودك الجنسي، ولكنك تقاومين ذلك بكل قواك الروحية وكل قواك الجسدية. وأسباب أعراض مرض الهيستيريا البادية عليك كلها تنبع من هنا. إن ضميرك يقاتل بشراسة رغبتك العنيدة بعدم طلب العلاج، ومن خلال هذا الصراع النفسي تظهر الرجفة وغيرها من الأعراض.
عندما جئت في المرة الأولى، اشتكيت من أعراض عجيبة بعدم سماع الموسيقى، وبعد ذلك قلت إن ذلك كذب للتورية ببساطة عن مرض البرود الجنسي، أليس كذلك؟
لم يكن ذلك كذبا في الحقيقة.
إن الموسيقى ليست رمزا عن الأورجازم داخل لاوعيك، بل إنها صوت ضميرك الذي يقول [أريد العلاج من مرض البرود الجنسي من أجل السيد ريوئتشي]. لقد ذكرت ذلك القول للتعبير عن رغبتك العنيدة في رفض العلاج، تلك الرغبة التي تجعل بين الموسيقى وبين أذنيك حاجزا وتمحو ذلك الصوت.
وأيضا علاقة المقص والعضو الذكري تبدو واضحة جدا من خلال هذا التحليل. وسبب أخذ شكل الرمز الجنسي عن عمد هو أنك استخدمت خصيصا ذلك الرمز المفضوح؛ لأن لديك معرفة بعلم التحليل النفسي، محاولة منك لخداع طبيبك، وهو أكثر الرموز سطحية وسذاجة. إن العضو الذكري يعني التعاطف الشعوري مع حالة نفاد صبر عضو السيد ريوئتشي الذكري، وهذا العضو الذكري يعبر عن شكل ضميرك أنت شخصيا، وقد تحول ضميرك نفسه مؤقتا إلى ذكر. والمقص لا يحتاج إلى شرح، فهو حالة النفي والعداوة تجاه ذلك؛ إنه يمثل المعارض العنيد المختبئ داخلك؛ ولذلك عندما قلت أنا إنه من العجيب تتابع أفكار المقص والعضو الذكري، القاطع والمقطوع بنفس الشكل، كنت قد أمسكت بالفعل بطرف الخيط المؤدي لحل المشكلة. إن تتابع وتسلسل الأفكار معا ليس عجيبا ولا غريبا؛ لأن كليهما يرمز إليك أنت نفسك.
ما رأيك؟ أما آن لك أن تعترفي بصدق أنك لا تريدين علاج مرض البرود الجنسي؟»
طأطأت ريكو رأسها خجلا. كانت تلك حقا هيئة متهم قد أذعن ولم يقاوم.
إنني لا يمكن بأي حال أن أنكر عشقي رؤية مرضاي في تلك الحالة من الانسحاق. «ما رأيك؟» تابعت الضغط عليها أكثر «وتلك اليوميات الكاذبة أيضا، لقد استخدمتني أداة من أجل محاولة جعل السيد ريوئتشي يعاني أكثر. لا مجال للشك في نيتك أن تعطي له بطريقة غير مباشرة إعلانا قاسيا محتواه: [وحتى وإن لم أكن أشعر معك بشيء فأنا أشعر مع رجل غيرك] أليس كذلك؟»
ظلت ريكو صامتة لبعض الوقت مطأطئة الرأس كما هي، ثم أخيرا قالت ما يلي في كلمات متقطعة: «أعتقد أن ما تقوله صحيح يا دكتور.» - «ولكن ما سبب ذلك؟» - «أعتقد أنك لا يمكن أن تفهمني ما لم أقل لك كل شيء. لقد سألتني في السابق: [ألم يكن لك شقيق أصغر تنازعتما بعنف في سلب ثدي الأم بعضكما من بعض، أو ربما شقيق توءم؟] أليس كذلك.
قد كان لي حقا، وربما كان ذلك العبء يجر أذياله في كل حياتي المعيشية حتى الآن. يجب علي أن أحكي عن ذلك ...» - «تفضلي بالحديث.»
أمسكت القلم الرصاص المسنون، وانتظرت كلمات ريكو وأنا أشعر داخلي برضا شديد عن النفس.
13 ... كان ما حكته ريكو كما يلي:
لدى ريكو شقيق أكبر منها، يفصل بينها وبينه عشر سنوات. وذلك الشقيق له علاقة بما ذكرته في السابق من اصطحاب عمتها لها إلى منطقة وادي شوسن، ورؤيتها لخيانة عمتها وهي في الصف الرابع الابتدائي.
كان عشيق عمتها، هو شقيق ريكو الأكبر!
لقد امتلكت شعورا بأنني أمسكت بالحقيقة لأول مرة، ويمكن التفكير في أن الجرح النفسي الذي أصاب ريكو وقتها كان كافيا ليجعل ريكو تعتل بعد سنوات طويلة فيما بعد. وكما يقول شتيكل: «كل المرضى النفسيين يعانون من أسرهم. ويبين وصف أحد الحكماء له باسم «حمى الأسرة» (
Familitis ) آثار الذيوع الشديد لهذا المرض». ولكن عند النظر إلى أن صورة الأب لم تكن قوية بدرجة كبيرة لدى ريكو، وأنها لم تظهر عندها أعراض عقدة «إلكترا» (الارتباط الشديد بالأب)، فلقد بقيت غير قادر على التعرف بوضوح على وجود ذلك النوع من الجرح النفسي الناتج عن زنا المحارم.
لقد كنت حتى الآن أثق بحدسي ثقة كبيرة، وكتبت في رسالتي لها: «ثمة شك في أن الخبرة التي تنتمي إلى ذلك النوع من مشاهدة الفعل الجنسي لأحد الأقارب - على ما يبدو - لم تكن التجربة الأولى بالنسبة لك وأنت في الصف الرابع الابتدائي.» كانت اعترافاتها تتطابق مع ذلك حقا.
كانت ريكو على علاقة جيدة مع شقيقها الأكبر، وكانت تحبه حبا جنونيا. كانت تسير دائما خلفه أينما ذهب، وعندما تسمع أنه قوي الشكيمة وينتصر في العراك، أو أنه وسيم الوجه، كانت تفرح لذلك فرحة الأطفال الصغار العارمة التي لا توصف. في الصف الثالث الابتدائي، في إحدى الليالي، عندما دخلت لتنام في سرير شقيقها الأكبر (كان أبواها قد منعاها من ذلك؛ وكان ذلك إغراء وتساهلا واضحا منها)، لمست أصابع شقيقها المحارة الوردية الصغيرة لها، وعلمها أن تلك المحارة تسمعها صوت البحر البعيد جدا.
قال لها شقيقها: «هل تسمعين يا ريكو، أغمضي عينيك ولا تفتحيهما. سأعلمك أمرا جيدا. ولكن حذار أن تبلغي أحدا بذلك.»
ثم بدأ يمد أصابعه ببطء، وهو يمسك بإحدى يديه كتف ريكو ويثبته في حضنه، وذهب بها إلى ذلك الإحساس الذي لم تذقه من قبل، ذلك الإحساس المعسول المخيف الذي يسبب الرعشة. ومنذ ذلك اليوم لم تستطع أن تفصل ذلك الإحساس المعسول عن وجود شقيقها ذاته، وزاد تعلقها به أكثر وأكثر، ولكنه لم يفعل معها تلك المداعبة الشريرة مرة ثانية وخجلت هي من أن تطلب منه ذلك.
وفي صيف العام التالي، وقعت حادثة وادي شوسن.
كان شقيقها قد انعزل وحيدا في غرفة بمنتجع وادي شوسن من أجل التركيز في الاستذكار لاختبارات دخول الجامعة التي رسب فيها مرتين من قبل. وكانت ريكو تطلب دائما الذهاب للقائه، ولكن قيل لها إن وجودها عقبة للاستذكار، ثم قال لها والداها إنه يمكن أن يسمحا لها بالذهاب ليومين أو ثلاثة أيام، إن صحبها أحد وذهب بها إليه مع الإقامة في مكان منفصل. وتصادف أن قبلت عمتها القيام بذلك الدور.
ولكن لم يكن ذلك «مصادفة»، ولكنها كانت خطة متفقا عليها بين عمتها وشقيقها. ويصعب التفكير أن شقيقها كان يخطط لذلك منذ عام كامل سابق، ففعل تلك المداعبة الشريرة مع شقيقته الصغرى، ولكن على الأرجح أنه كان يأمل في أحد أنواع التسامح الجنسي من شقيقته الطفلة بسبب وجود ذلك الماضي بينهما؛ حتى إنه لاحظ، عندما تسلل إلى فراش عمتها، أن ريكو تتظاهر بالنوم، فيمكن تخيل - بعد ما حدث بينهما - أنه ظن ذلك الظن الأناني الذي يميز كل الشباب؛ أنها لن تكون صدمة كبيرة بالنسبة لها.
تسلل شقيقها إلى الغرفة من الحديقة، ثم ترك الغرفة قبل مجيء الصباح. وكان يرتدي قميصا بولو أسود وبنطالا أسود، وحذاء رياضيا بدون جوارب، لكي يساعده ذلك على الاختباء في الظلام.
ولأن عمتها خرجت من الناموسية لوداعه، فقد استطاعت ريكو هذه المرة أن ترى بوضوح وعيناها مفتوحتان على وسعهما من داخل فراشها تحت إضاءة الحديقة المغبشة عمتها وشقيقها يتبادلان قبلة الوداع ثم ترى شقيقها وهو يرحل مختفيا وراء أشجار الحديقة.
في الصباح التالي أبدت ريكو رغبتها في العودة وهي غاضبة، وفي النهاية أنفذت رغبتها وصحبت عمتها وعادت بها إلى مدينة قوفو.
في نهاية ذلك العام تقريبا افتضحت علاقة شقيقها مع عمته للجميع، ووبخ الأب ابنه توبيخا شديدا، بل ورسب شقيقها مجددا في اختبار دخول الجامعة، وفي أحد الأيام قرر الهرب من بيت الأسرة ولم يعلم أحد مصيره. وتقدم الأهل على الفور ببلاغ للشرطة عن غيابه للبحث عنه، ولكن حتى اليوم لا يعلم أحد مكان وجوده.
ويمكن إرجاع سبب موافقة الأب وتدليله المفرط لريكو بالسماح لها أن تعيش وتدرس في طوكيو، ثم بالعمل فيها بعد التخرج، إلى تلك التجربة في فقدان ابنه الغالي الذي كان يفترض أن يرث اسم العائلة.
قرر الوالدان - اللذان خافا أن تؤثر مشاكل الشقيق الأكبر على مستقبل ريكو - أن تخطب إلى قريبها بعد تخرجها مباشرة في المدرسة الابتدائية، وكانت نتيجة ذلك هي ما ذكر بالفعل فيما سبق.
ولم يكن قلب ريكو، ومع نضوجها، به مساحة أخرى لوجود أية مشاعر غير الحقد والحب الشديد تجاه صورة شقيقها الغائب. ... ... ... «أعتقد أنك تستطيع أن تفهمني بعد حديثي إلى هذا الحد.
إن السيد ريوئتشي يشبه كثيرا الصورة الباقية لأخي في ذاكرتي. وهذا سبب أنني أحببته، وهو أيضا سبب رفض جسدي له.
كان اليوم الذي ذهبت معه لأول مرة إلى الفندق، هو الضربة القاصمة.
كان يوم أحد من أيام الصيف. جاء إلى المكان الذي تواعدنا للقاء فيه مرتديا قميص بولو أسود وبنطالا أسود. بالإضافة إلى ذلك وضع نظارة شمسية على عينيه، كان مشهدا لا يمكن تخيله من مظهره الحسن المهندم المعتاد الذي يظهر به كل يوم في العمل. وعندما رأيته من بعيد ظننت أنه أخي. وصرخت في سري: [أخي]، وجريت تجاهه وأنا في نشوة عارمة وقلبي يخفق من الفرحة.
أزال نظارته الشمسية، ثم قال وهو يضحك: [أهلا.]
فعرفت أنه السيد ريوئتشي حقا وليس أخي.
في تلك الليلة ذهبت معه إلى الفندق بعد أن عرض هو ذلك، وبعد أن أخطأت مرة بينه وبين أخي، لم أستطع المقاومة. أيقنت أنني أحبه فعلا. ولكن جاءت المقاومة بعد ذلك. منذ الليلة الأولى لم أشعر بشيء. كان السيد ريوئتشي منهمكا ومتحمسا فلم ينتبه لبرودي، ثم بعد عدد من المرات بدأ يقتنع أن الأمر بسببه هو وبدا وكأنه يريد الاعتذار لي ...
في الليلة الأولى كانت تتصارع داخلي فكرتان. كانت الأولى هي أمل عظيم مثل الحلم أن يكون السيد ريوئتشي هو أخي، وأتمكن من إعادة بعث ذلك الشعور المعسول الطاغي الذي يستطيع التحكم والسيطرة على حياتي كلها مثل تلك الليلة عندما كنت في الصف الثالث الابتدائي . وكانت الفكرة الثانية رعبا ميتافيزيقيا يتخطى الواقع؛ فلو كان السيد ريوئتشي هو أخي، فمن المحرم علينا النوم معا، ولا يجب مطلقا أن أحصل منه على متعة.
واستمر تأثير تلك الأفكار يا دكتور حتى الآن مسببا لي المعاناة. كما تفضلت يا دكتور بالقول، ربما فعلا أنا أريد أن أبقى أمام السيد ريوئتشي بنفس برودي الجنسي مهما حدث؛ لأنني أرى أخي والسيد ريوئتشي نفس الشخص. وهذا هو انتقامي الأخير من أخي الذي أظهر أمامي وأنا في الصف الرابع الابتدائي علاقته الآثمة مع عمتي.»
ظهرت على وجه ريكو، التي انتهت من الحكي، ملامح جليلة مهيبة وصافية لم تظهر عليها من قبل. وشعرت بإثارة شديدة أن طريقة علاجي بالتحليل النفسي بدأت تظهر ثمار النجاح الحقيقية. ... ولكن الواقع لم يكن يحمل نتيجة مثالية لتلك الدرجة.
14
لم يسبق لي مطلقا أنني كنت مشتاقا إلى الزيارة التالية لمريض بمثل هذه الدرجة من الاشتياق. إن الزيارة التالية لريكو ستكون الزيارة الرابعة والجلسة الثالثة من جلسات العلاج. من أول لقاء معها في يوم خريفي معتدل. مر بالفعل ما يقرب من شهر، وبدأ الإحساس بطقس بدايات الشتاء البارد، وعلى سبيل المثال بدأت تنتشر في الجو أنوار النيون الأبيض المفسدة للمتعة فوق أغصان أشجار الطريق العارية.
كانت عيادتي غريبة إلى حد ما، فعندما يكون الناس لديهم وقت فراغ، تصبح العيادة أيضا فارغة، وعندما ينشغل أفراد المجتمع تزدحم العيادة، وليس السبب فقط هو موقعها في حي هيبيا بوسط العاصمة. مثلا في الصيف، تكون العيادة عموما هادئة تماما، ثم تصبح مزدحمة مع مرور الوقت في اتجاه نهاية السنة الميلادية، وفي بداية العام - حتى وإن كانت العيادة فارغة قليلا - فترة اختبارات دخول الجامعات في يناير وفبراير، وفترة إقفال حسابات الشركات والمؤسسات الحكومية في مارس، ويميل المرضى للزيادة في تلك الفترة التي كانت تسمى في الماضي «بدايات الربيع». وفي الصيف، وبسبب الإفراط في مشاهدة مباريات البيسبول الليلية في التلفزيون، يأتي مرضى مصابون بحالة رؤية الأوهام أو الإصابة بطنين الأذنين بسبب تدافع الموجات الكهربائية في الرأس ، ولكن عند التعامل مع مثل هؤلاء المرضى يبدأ الحديث وينتهي كله بالكلام عن لعبة البيسبول.
من ضمن الحالات الغريبة مؤخرا، رجل أمريكي في السابعة والستين من العمر؛ شعر رأسه أبيض بالكامل، يملك شركة خاصة صغيرة في مدينة أمريكية صغيرة، جاءني بخطاب توصية من طبيب نفساني كان صديقا لي عندما كنت أعيش في أمريكا، نصحه صديقي هذا بزيارة اليابان، ومن ثم زيارتي.
كان خطاب التوصية يذكر ببساطة بعض الحقائق من نتيجة تحليل صديقي، منها أن ذلك العجوز كان يتبع بتطرف طائفة التطهيريين (البيوريتان)، فهو حتى وصوله لذلك العمر لم يعرف امرأة أخرى غير زوجته، وعندما وصل إلى ذلك العمر هجمت عليه فجأة أعراض الإحباط من عدم إشباع رغباته، فأهمل في عمله. وكانت طريقة العلاج بسيطة أيضا؛ إذ نصحه أن يسافر إلى اليابان (وهو أمر يدل على الاستهزاء الشديد باليابان)، بمفرده بحجة العمل، واللهو كما شاء مع نساء اليابان.
وهذه الحالة ليست مرضا نفسيا ولا غيره، وكان العجوز نفسه مدركا لذلك، وكان متعاقدا مع صديقه الطبيب النفسي الذي يتردد عليه في بلاده على أنه مستشار أمين يستشيره في مشاكل الحياة. وبعد جلسة مرة واحدة فقط ترك بطريقة تقترب من الإجبار مبلغا كبيرا جدا يثير الدهشة، كأجرة علاج. ومقابل ذلك أجبرت على أن أكون دليله في طوكيو طوال الليل. ولأنني، كما ترون، شخص غير اجتماعي بالمرة؛ فقد طلبت من طبيب صديق ماهر في اللهو أن يعرفني على الأماكن المطلوبة.
وربما يعد ذلك من قبيل الرفاهية، وكنت قد عانيت معاناة كبيرة من ممثلة سينمائية أصيبت بانهيار عصبي بسبب ذهاب شعبيتها. إنها شهيرة جدا فلا يمكن أن أعلن عن اسمها هنا. كانت تتعامل معي من البداية للنهاية بعجرفة وهي مستاءة، قالت في بداية حديثها: «أنت أيضا يا دكتور تعرف ماذا سيظن الناس عندما يرونني أدخل إلى مثل هذا المكان بجراءة (قالت كلمة مثل هذا المكان بطريقة في منتهى الوقاحة)؟ أليس كذلك؟ وأنا آتي إلى هنا من أجل تلك النتيجة فقط؛ ولذلك ليس الهدف من قدومي هو تلقي العلاج منك، فمن البداية كيف يمكنك علاج شخص غير مريض؟»
إن ما كانت تلمح له بالقول هو أنها ليست مريضة على الإطلاق. ولكن من خلال التردد على عيادة طبيب نفسي لافتة للأنظار وتقع في مركز العاصمة، فإنه سيشاع على الفور في المجتمع أنها مصابة بانهيار عصبي وتنخفض قيمتها كممثلة شهيرة. ومن أجل أن تعلم منتجها الذي يهملها بقيمة الجوهرة التي في يده، تسقط تلك الجوهرة من يده وتجعلها تنكسر متناثرة إلى قطع صغيرة، وليس أمامها إلا فعل ذلك لجعله يندم. ولذلك تأتي إلى هنا في جسارة وبلا تردد؛ فقط من أجل تقليل قيمتها الفنية لكي تلفت انتباه المنتج ...
ولكن ذلك المنطق كان به بعض الجوانب الغريبة، فالممثلة التي يفترض أن تأتي «بجراءة» على مرأى من الجميع، لا تخلع النظارة السوداء مطلقا عن وجهها حتى تدخل العيادة، وهي تلتفت يمينا ويسارا مما يجعل في قولها تناقضا.
لا يمكن القطع بشيء مؤكد قبل عمل جلستين أو ثلاث جلسات من التحليل النفسي، ولكن إن تأكدنا من أعراض «اختلال الحالة النفسية الداخلية» أو «انفصام الوعي عن الحركة والمشاعر» فإنه يمكن التفكير في أنها مصابة بفصام (شيزوفرينيا) شديد. وهي نتيجة مؤلمة إذا تذكرنا العديد من الأدوار العظيمة التي أدتها ببراعة كبطلة جميلة حتى الآن. ويمكننا التفكير في أن انخفاض شعبيتها كان على العكس من حسن حظها في العلاج؛ لأن تحجيم فرص العلاج من أجل الحفاظ على صورتها لدى معجبيها، هو أمر لا يمكنني الموافقة عليه مطلقا.
وقد أظهرت أكيمي ياماؤتشي اهتماما وقحا جدا بتلك المشكلة. ومن الصعب معرفة لماذا تحمل اهتماما عميقا تجاه إصابة نجمة سينمائية جميلة بأعراض الفصام؟ فذهبت خصيصا إلى محلات الكتب القديمة واشترت الكثير من المجلات السينمائية القديمة، وأخذت تقارن صور تلك الممثلة في الأفلام التي قامت ببطولتها وهي في منتهى السعادة. «لا يبدو أن الناس في المجتمع يعرفون أنها مصابة بالفصام. ماذا ستكتب المجلات الأسبوعية لو عرفت ذلك؟» «حذار من بيع تلك المعلومة للمجلات الأسبوعية فهي ورطة كبرى.»
كانت أكيمي، بشكل خاص، تحملق بالتفصيل في صورة لأحد الأفلام المأساوية حيث كان ممثل وسيم يحضن تلك الممثلة وعلى وشك أن يقبلها. «بم سيشعر ذلك الممثل الذي يحضنها لو علم أنها [مجنونة]؟»
على ما يبدو أنه ما من شيء يدغدغ قلب «أكيمي» مثل أنها الوحيدة التي تعرف ذلك الوضع المدمر دون الجميع في مدينة طوكيو الواسعة.
أحسست بالاشمئزاز من حالة أكيمي تلك، ولكن على الأقل فإن انشغالها تماما بأمر تلك الممثلة، أنقذني من إزعاجها المستمر لي بخصوص «ريكو». ولكن عند التفكير في الأمر جيدا أجد أن أكيمي لم تكن تقول لي كلاما مزعجا على الدوام بشأن «ريكو». ولكن ربما كانت أكيمي تشعر بالعداوة تجاه ريكو؛ لأنها كلما نطقت اسم ريكو أمامي، تبرز صورة ريكو في ذهني وتلمس بقوة عصبا حساسا داخلي.
بالإضافة إلى فرحتي بوصول التحليل النفسي لريكو أخيرا إلى النقطة الحاسمة، فقد كان لدي أمل كبير في أنه عندما تأتي ريكو للعلاج المرة القادمة، سيكون وجهها مشرقا ولن يكون بها أثر لتلك الرجفة بتاتا. وكذلك كنت كل ليلة أواظب على قراءة المراجع العلمية والأبحاث، وأمنيتي أن نتيجة علاجي لها بطريقة التحليل النفسي، ربما تضيف اكتشافا جديدا لم يخطر لي ببال من قبل.
وكانت الحقيقة أن أكيمي كانت، على الأرجح، تتأمل دأبي ومثابرتي تلك بعيون ساخرة. وفكرت في أن أكتب بحثا علميا متخذا حالة ريكو مادة له، فكنت أكتب كل شيء في مفكرتي بالتفصيل. وأمرت مساعدي كوداما بالحفاظ على ملفها بعناية شديدة، فكان كل ذلك، على ما يبدو، ينعكس في عيني أكيمي على أنني أعامل ريكو معاملة خاصة.
فكانت تلقي جزافا بقول لا يمكن التصنع بعدم سماعه مثل: «لا فائدة مما تفعله. مهما أتعبت قلبك فستكون النتيجة مثل زبد البحر.»
ولأنني من صفاتي عدم العراك مطلقا، فقد كنت دائما أسخر بضعف قائلا: «حقا! يبدو في الفترة الأخيرة أن حالتك أنت هي التي تستدعي جلسات تحليل.» - «حاول أن تقوم بتحليلي. سيكون ذلك ممتعا. فستظهر بيانات ومعلومات كلها تضعك في وضع حرج. ما رأيك في أن تقدمها هي بحثا إلى اللجنة العلمية؟»
هكذا ترد بتهكم يشبه تهكم الزوجة مع أننا لا نقيم معا أصلا.
نتيجة قراءاتي مؤخرا - ومع أخذ طريقة أستاذي بعين الاعتبار - صرت تدريجيا أميل إلى طريقة التحليل النفسي الوجودي (
Daseinsanalyse ) التي بدأها لأول مرة البروفيسور السويسري لودفيغ بنزفانغر في أبحاثه لطرق علم الأمراض النفسية (
psychopathology ). كانت تلك الطريقة متأثرة تأثرا عميقا بالفلسفة الوجودية للفيلسوف الألماني هايدجر، فهي طريقة تنسلخ من الطريقة الفرويدية التي تعمل تصفية لوجود الإنسان الحي كأنه آلة من خلال أفكار المصطلحات المختلفة للتحليل النفسي، وتحاول الإمساك بصورة إنسانية أكثر تحديدا وواقعية للمريض، وتكون وجودية وجودا حقيقيا. تلك الطائفة من العلماء؛ ومنهم على سبيل المثال عالم التحليل النفسي في زيوريخ ميدارد بوس؛ تتحدث - عبر خلفية فلسفية ضخمة جدا؛ ومن خلال مشاهدات محايدة وحميمية للإنسان؛ ظهرت من خبرات العلاج السريري العميقة - عن أن اكتشاف الجروح النفسية في مرحلة الطفولة فقط، لا يكفي لتفسير أنواع الانحرافات الجنسية المختلفة، ولكنهم يفسرون أن تلك الانحرافات نفسها هي فشل وانتكاسة، وأنها - حتى وإن كانت سلوكا ضالا عن الطريق المستقيم - في الأصل مثلها مثل السلوك الصالح للشخص الصالح. ومن خلال ذوبانها في تجارب جنسية متفردة، تكتشف للحب «إمكانات وجود داخل العالم»، وتحاول بشكل ما الوصول إلى «شمولية الحب».
وحتى وإن قلنا إنها نظرية علمية لم تتقبلها اليابان تماما بعد، فإنها تملك إجابة كافية لبعض الشكوك التي كانت تعتري صدري في الآونة الأخيرة، وتحتوي كذلك على جانب يقارب النظرية العلمية للفرويدية الجديدة في الولايات المتحدة.
لا نستطيع أن نضع البرود الجنسي لريكو في سلة واحدة مع الانحراف الجنسي، ولكن ما دام واضحا أنها جعلت ذلك العيب سلاحها الذي تحارب به في حياتها - سواء عن وعي أم عن لاوعي - فلا يكفي أن يؤخذ هذا البرود الجنسي على أن له جانبا سلبيا - أي جانب «الرفض» - فقط، بل يجب النظر إليه على أن له جانبا إيجابيا؛ فمن خلال ذلك السلاح، أو ذلك الدرع، تحاول في أعماق قلبها دائما الوصول إلى «شمولية الحب». هل الوصول إلى «شمولية الحب» بالنسبة لها، هو فقط قدرتها على مقابلة شقيقها الأكبر الذي لا يعرف مصيره؟ ... أنا شخصيا لا أعتقد ذلك.
إن الإنسان حيوان متعب جدا، يضع بنفسه العوائق أمام الأهداف التي يجتهد هو نفسه في الوصول إليها، وإن فكرنا في أن البرود الجنسي هو العائق الذي وضعته «ريكو» بنفسها، فإنه يمكن التفكير في أن الهدف النهائي الذي تريد هي الوصول إليه، هو حديقة زهور اللذة الكاملة للحب الجنسي، والذي لا تعرفه جيدا نسبة تصل إلى 99٪ من نساء المجتمع، وما يمكن اعتباره أيضا، «جنة النشوة» منقطعة النظير.
وإن كان الأمر كذلك، أفلا يكون مرض برود «ريكو» الجنسي، مجرد برهان على أنها شخصية تطلب المثالية الشديدة؟ ... مع تأملي في هذه الأفكار كل ليلة، كنت أقرأ تقرير التحليل النفسي لريكو عشرات المرات بحثا عن شيء هام مختبئ داخله ولم أستطع اكتشافه. وعندها، اتضح لي أن التحليل النفسي لم يصل بعد إلى الشاب قريبها الذي أصبح خطيبها؛ تلك الشخصية التي «يجب النفور منها وكرهها»، وكان اغتصاب ذلك الشاب لبراءتها في عمر المراهقة، السبب الأساسي لإقامتها في طوكيو. فكرت كثيرا في تلك الشخصية، ولكنني لم أصل مطلقا إلى رسم صورة محددة وواقعية له. وفكرت في أن ثمة ضرورة لكي أقتحم قليلا العلاقة بين تلك الشخصية المكروهة وشقيقها المختفي.
هناك أمر عرفته فيما بعد وهو أن حدسي هذا كان صائبا بدرجة مخيفة.
15
في النهاية، لم تأت ريكو في يوم جلسة العلاج الذي انتظرته على أحر من الجمر. ولم يأت منها اعتذار ولو باتصال هاتفي.
فكرت بغضب وأنا منفعل الأعصاب في العديد من الاحتمالات.
أحدها وهو احتمال متفائل جدا، وهو لا يعدم منه أمثلة لمرضى لا يعرفون الجميل في هذا المجتمع، تخيلت أن ريكو بفضل نجاح العلاج في الفترة الماضية قد استطاعت في النهاية سماع «الموسيقى» مع الشاب ريوئتشي لأول مرة، فتخلت عن كل شيء، واحتفالا بذلك ذهبا في رحلة لكي تزيل من ذاكرتها مناخ غرفة التحليل النفسي المثيرة للحنق.
والاحتمال الآخر، هو أن مقاومتها للعلاج تضخمت فجأة فوصل بها الأمر - من خلال الرعب من تحليل نفسيتها لأعمق أعماقها - إلى أن تحمل حقدا وكرها تجاهي، ولم تعد تستطيع رؤية وجهي لفترة طويلة من الوقت.
شعرت ببعض الغيرة من حدوث الاحتمال الأول، فنشأت داخلي رغبة في تصديق الاحتمال الثاني، ولكن كان معنى ذلك أن أعترف بنفسي أنني فشلت في أن أكون محللا نفسيا جيدا، وفي كلتا الحالتين، كانت مشاعري لا أستطيع الفخر بها بصفتي طبيب تحليل نفسي.
كانت عيون أكيمي كأنها تحكي ضمنيا بالقول «انظر ألم أقل لك؟» لم تنطق بذلك بلسانها ولكنها كانت مسرورة بإصابة تخمينها للهدف.
وبصراحة لقد قضيت طوال ذلك اليوم بمشاعر محبطة وكئيبة، ومن أجل ذلك كنت على وشك أن أنسى الصفة الأهم للمحلل النفسي وهي «الصبر.»
إن دور المحلل النفسي هو فقط الانتظار بصبر وتحمل، وإعطاء الزرع الماء والسماد، حتى تنفلق البذرة في باطن التربة المظلمة، وتنمو البراعم شيئا فشيئا، ثم تتفتح زهور الحل، ولكن مشاعري كانت لا تستطيع الانتظار. ومع ذلك لم أقرر بعد الاتصال هاتفيا بشقتها، وعندها بدأت أكيمي في قول ما يلي بنبرة إدارية غير ملفتة: «ماذا حدث؟ هل أصابتها نزلة برد؟ هل أتصل بها؟»
فقلت بحسم: «كلا، من الأفضل عدم الاتصال بها.» وبهذا أجبرت على فقدان الأمل من الاتصال بها هاتفيا. وندمت بكآبة لاختلاط مشاعر العناد تجاه أكيمي في ردي هذا، أكثر من كونه حكما من وجهة نظر الطب النفسي.
وفي الليل، مباشرة بعد أن أصبحت بمفردي، اتصلت هاتفيا بالشاب إغامي. وعلى غير المتوقع كان قد عاد من عمله إلى بيته مباشرة، ورد علي بصوت به ود كأن اتصالي به قد أنقذه، فقال إنه يريد الحديث معي على مهل في نفس المطعم الصغير الذي تقابلنا فيه من قبل في منطقة يوراكوتشو.
وقال إغامي إن ذلك المطعم الصغير الذي يقع في زاوية من حارة سوياشي، يعرفه منذ كان لاعبا في فريق التجديف بجامعة «ت»، ويتردد عليه جميع لاعبي الفريق؛ حيث كانت مالكة المطعم مشجعة لفريق الجامعة وتغدق على اللاعبين عنايتها وحبها. وعاملني إغامي في تلك الليلة كما يعامل صديقا قديما يشتاق إليه. قدم لنا في البداية أطباق صغيرة للمقبلات غير جذابة، وبدأت أتحدث بصراحة قائلا: «لقد مر أسبوع بعد آخر لقاء معا، كيف كان الحال؟» - «بعد يومين أو ثلاثة أيام من آخر جلسة علاج، كانت حالتها جيدة جدا. فلم تظهر عليها أعراض الهيستيريا، وكذلك في الليل، وإن لم تصل الحالة بعد إلى الشفاء الكامل، ولكنها أصبحت تترك لي القيادة بمشاعر مرتاحة. وشعرت بالامتنان لك يا دكتور؛ إنها لو استمرت على تلك الحالة فيبدو أن الأمر سيسير على ما يرام.
ولكن انقلب الحال رأسا على عقب، لقد جاءنا نبأ أن قريب ريكو وخطيبها يحتضر. جاء ذلك في رسالة من والدها، وأطلعتني أنا أيضا عليها، ويطلب فيها والدها سرعة العودة؛ لأن خطيبها أصيب بسرطان الكبد وعلى وشك الموت في أي وقت، مع أنه ما زال شابا لم يبلغ الثلاثين بعد، وربما كان بسبب استمراره في تعاطيه المتواصل للخمور غضبا من عدم عودة ريكو من طوكيو، ويقول إنه يريد رؤية وجه ريكو ولو مرة واحدة فقط قبل موته.
بالتأكيد تعاركت معها بسبب تلك الرسالة. وعندما قلت لها ما من ضرورة لكي تسرع بالذهاب لمقابلة خطيبها الذي تكن له كل تلك الكراهية لمجرد أنه يحتضر، اتهمتني ريكو على غير المتوقع بقسوة القلب.
قالت لي: «مهما كرهته فلن تكون تلك الكراهية كافية، ولكن من جانب آخر، فهو قريبي الذي قضيت معه طفولتي ولعبنا كثيرا معا، وثمة الكثير من ذكريات الطفولة البريئة معه. إنك بذلك تفرط كثيرا في الإساءة إلى أقاربي وتحتقرهم.» كانت نبرة كلامها في هجومها المضاد علي لا علاقة لها بنبرة ريكو الساخرة المعتادة، وأحسست نوعا ما أنني لمست فجأة وعي القبلية الريفي العطن داخل ريكو، فأصابتني خيبة أمل.
لقد كنت حتى تلك اللحظة أفكر في أنها لو أصرت على الذهاب أن أحصل على إجازة من عملي وأرافقها حتى مدينة قوفو، ولكن هجومها العكسي هذا جعلني أفقد رغبتي في الذهاب معها.
لقد ودعتها في محطة القطار أول أمس، وسألتها ماذا تنوي أن تفعل في موعدها القادم معك. أجابت بأنها سترسل رسالة من هناك، ألم تصل إليك منها رسائل؟»
كنت أسمع حديثه شاردا، فأجبت بلا وعي: «كلا.»
فلقد شعرت بنفس شعور خيبة الأمل الذي شعر به ريوئتشي إغامي. أحسست أن حب القبيلة الساذج لتلك الفتاة من بيت عتيق في الأرياف قد أفسد تماما كل الحيل النفسية التي ظللت أحبكها ببراعة حتى الآن، وأفسد معها حماسي في التحليل النفسي من أجل دراسة داخل أعماق النفس الإنسانية.
ومع ذلك سأكون كاذبا إذا قلت إن ذلك جعلني أفقد اهتمامي تجاه ريكو.
فلقد بدأت منذ اليوم التالي أنتظر رسالة منها. ولكن بعد أسبوع آخر اتصل ريوئتشي بي مجددا، وأخبرني أنه سيذهب إلى مدينة قوفو لاستطلاع الأمر بشكل غير مباشر؛ لأن بقاء ريكو هناك قد طال أكثر مما هو متوقع.
والآن لم يكن أمامي إلا أن أنتظر عودة ريوئتشي من هناك بفارغ صبر ليعطيني تقريرا عن الوضع.
وبالفعل زارني ريوئتشي في العيادة بعد عودته مباشرة، وفي فرصة خلو غرفة الانتظار من الزائرين، قال لي بنبرة مكتئبة وعلى جانب وجهه تنصب أشعة الشمس لسماء الشتاء الغائمة المتسربة من النافذة: «لم أعد أفهم شيئا. إنها غريبة جدا.» «كيف كان حالها؟» «لقد ذهبت إلى المستشفى التابع لبلدية المدينة، ولم أستطع على الفور زيارة المريض في غرفته وعانيت معاناة كبيرة إلى أن أمسكت بممرضة وقلت لها إنني أحد أقارب المريض ...»
وعندما سخرت منه قائلا: «مثل هذه الوسيلة أنت بارع فيها.»
مرت أكيمي بملابس التمريض البيضاء من أمامنا وهي تسترق السمع، فنظرت إليها نظرات سريعة وعنيفة جعلتها ترحل عن المكان.
لم يحرج الشاب وقال: «فعلا؛ طلبت منها قائلا لها إنني قريب له أسكن في طوكيو ولا أستطيع لسوء الوضع العائلي أن أقابله شخصيا، ولدي قلق عظيم عليه، أرجو منك أن تخبريني بكل ما يخص حالته. نظرت الممرضة سريعا إلى وجهي وأعطت لي موعدا في كافتيريا خارج المستشفى.
بعد انتظار قليل، جاءت الممرضة مرتدية معطفا أحمر فوق ملابس التمريض البيضاء، وأخبرتني بود وإخلاص بحالته.
إن المريض المسكين لن يعيش أكثر من أسبوع أو اثنين، وإن حالته سرطان كبد متأخر جعل الماء يتجمع في بطنه، ومهما شفط الماء، يظل بطنه منتفخا مثل بطن الضفدع، مما يزيد الضغط على صدره ويشعره بالمعاناة، وأن ذراعيه نحفا ليصبحا في نحافة أعواد مشجب التعليق، ... ثم بعد أن سمعت باقي أوضاع مرضه وأنا أبدي قلقا عليه، بدأت تدريجيا أوجه أسئلتي إلى لب الموضوع.
كيف تسير أوضاع عيادة المريض؟ هل ضمن من يزورنه من أقاربه؟ ... وغيرها من الأسئلة بشكل غير مباشر وغير لافت. كانت الحقائق التي تحدثت بها الممرضة تثير الدهشة. [أنا أعتقد أن ذلك المريض سعيد.]
قالت الممرضة ذلك بنبرة كأنها تحلم وهي تشبك أصابعها. [عندما أرى شيئا كهذا أشعر بنوع من الغيرة.] [الغيرة؟ من أي شيء؟!] [خطيبته تلك الجميلة. الآنسة ريكو التي جاءت خصيصا من طوكيو من أجله؛ من المؤكد أن ثمة ظروف جعلتهما يعيشان مفترقين بعضهما عن بعض، يا لتعاستهما بسبب ذلك! لقد مرت عشرة أيام منذ أن جاءت إلى هنا، فلم تبتعد عنه بل تقيم معه لتمرضه. لقد رأيت العديد من المرضى؛ حتى الزوجات لا يستطعن بسهولة تمريض أزواجهن بتلك الطريقة من التفاني والإيثار. في الليل تغفو قليلا فقط على الكرسي الطويل بجواره، تقوم حقا بتمريض متفان لدرجة أن عيني تدمعان لرؤيتها. لقد أصبحت تدريجيا مقربة منها وأنصحها بالقول مثلا إن ضغطك على نفسك هكذا سيمرضك، ولكنها تبدو في منتهى الجمال عندما تبتسم في وحشة وهي تقول لي شكرا. لم يسبق لي أن رأيت امرأة بمثل هذا الجمال كأنها مريم العذراء. ولكن لقد نحفت الآنسة ريكو المسكينة جدا بعد مرور عشرة أيام منذ أن أتت إلى هنا. فتمريضها ليس له فائدة؛ لأنه مريض لا أمل له في الشفاء، بل وهو أكثر إنسان تحبه في هذا العالم. إنني حقا أتعاطف معها. لقد أصبحنا كلنا من محبي الآنسة ريكو، ونشجعها كلما نلقاها بالقول كوني قوية ، كوني قوية . مع أنه مريض لن يشفى مهما شجعناها. يا ليت المعجزة تحدث فعلا!
إن دموعي تنهمر بمجرد رؤية منظرها من الخلف، عندما تخرج صدفة إلى الممر مثلا عند النافذة وتفكر في أمر ما بعمق. وأنا في مثل هذا الوقت، حدث مرة أن تعمدت أن أفاجئها من الخلف، وأقول كلمة تخويف مثل أوه! فضحكت حقا وهي تلتفت للخلف، ولكن كانت عيناها ممتلئتين بالدموع.
قلت لها: اسمعي؛ تبدو كلمة قاسية ولكن الحي أبقى من الميت. يجب أن تهتمي بنفسك أكثر من ذلك.
أجابت الآنسة ريكو قائلة: «أجل، شكرا لك.» ومنذ ذلك الوقت باتت علاقتنا جيدة.
إن تمريضها مفرط في الحماس، حتى عندما يأتي أهل المريض لزيارته، تبدو كأنها تبعدهم عنه؛ لأن والدي المريض يبدوان باردي المشاعر نوعا ما، كانا لا يقتربان من المريض كثيرا بسبب ما تفعله الآنسة ريكو، مما يجعلنا نحن في غاية الغضب.]
أرجو منك يا دكتور شيومي أن تخمن دهشتي عندما سمعت هذا الكلام. لم أعد أفهم شيئا مطلقا. ولكن على كل حال ما دمت قد أتيت إلى هنا، فلن أفهم شيئا إلا بعد أن أتأكد بنفسي من الواقع، فقررت أن أطلب من الممرضة، أن تجعلني ألقي نظرة على غرفة المريض؛ وإن كنت غريبا عن العائلة. كان باب غرفة المريض - والذي وضع عليه لافتة «ممنوع الزيارة» - مفتوحا فتحة ضيقة، واستطعت من خلالها التلصص على ما داخل الغرفة.
كانت الغرفة معتمة بسبب غلق ستائر النافذة، وفي وسطها ينظر وجه المريض اليرقان من فوق وسادته نحو السقف بعينين مفتوحتين. كان وجها غريبا ونحيفا وجادا، وجافا جفافا مرعبا، كان يبتعد ابتعادا كبيرا عن الصورة التي رسمتها له مما سمعته من ريكو عن قريبها الذي يعشق اللعب دائما. وكانت ريكو في شدة الإرهاق. تجلس على الكرسي الصغير المجاور للسرير، ولم أستطع أن أرى وجهها؛ لأنها كانت تبدو في غفوة وتغطي وجهها بغطاء، ولكنها كانت هي ريكو التي أعرفها جيدا بشعرها وكتفها.
كنت أقاوم باستماتة رغبتي في أن أندفع إلى هناك وأهز كتفها لأوقظها. لا شك أنها كانت تعيش في كابوس بالتأكيد. لا شك أن تمريضها المتحمس ذلك نوع من أنواع الحركة أثناء النوم. بسبب عدم تصديقي للوضع أصبحت أتوهم أن ما أراه أنا الآن حلم.
إضاءة رمادية تسقطها ستائر نافذة متواضعة من قماش التيلة ... وجه مريض ببشرة مصفرة بلون الطين، وعيناه المفتوحتان ... شعر امرأة متموج، ووجهها مغطى بغطاء النوم الأبيض ... بدا لي ذلك المشهد الذي لا يتغير كأنه قد تحجر في صورة صعبة الانتهاك؛ مثل أيقونة مقدسة. لم يكن أمامي إلا أن أتراجع برهبة من أمام فتحة الباب الضيقة.
تسأل ماذا حدث بعد ذلك؟
بعد ذلك طلبت مني الممرضة المواعدة، ودرنا على مراقص مدينة قوفو المملة طوال الليل نرقص ونشرب الخمر.
ماذا يجب علي أن أفعل يا دكتور شيومي؟»
16
بعد مرور عشرة أيام من ذلك اللقاء، جاءت رسالة من ريكو في صباح يوم اقترب من أيام أعياد الميلاد.
عندما أمسكت بيدي تلك الرسالة البالغة السمك، كنت تقريبا قد فقدت فضولي لفتحها وقراءتها. كان الانشغال الكثير في العمل قد ألهاني، وذبل تدريجيا فضولي تجاه ريكو. كانت رسالة وصلت بعد أن بلغ ذلك الذبول منتهاه.
ولكن بعد أن بدأت في قراءتها، سلب قلبي على الفور مرة أخرى بسبب محتواها غير المتوقع.
كانت الرسالة كما يلي: ... ... ... «عزيزي الدكتور شيومي
أعتقد أنك سمعت عن وضعي هنا بالتفصيل من السيد إغامي. لم أقابل السيد إغامي هنا حتى النهاية، ولكنني سمعت فيما بعد من الممرضة كل ما يخص حركاته وتلصصه وتحقيقاته البوليسية المريبة.
لقد مات خطيبي أمس.
أعتقد أنه إنسان تعيس حقا أن يموت بالسرطان قبل أن يكمل الثلاثين عاما.
أنت بالفعل تعرف يا دكتور أنني أتيت مسرعة بدون صبر إلى خطيبي هذا الذي كنت أكرهه كراهية شديدة، عندما قال وهو على فراش الموت إنه يريد أن يراني ولو نظرة واحدة. وعلى الأرجح كما انتبهت يا دكتور، لقد مللت مللا شديدا من جسد السيد ريوئتشي المبالغ في قوته البدنية وصحته. لقد شعرت أن عرض منكبيه الواسعين، وصدره السميك وذراعيه المفتولين . كل ذلك يوجه النقد تجاه المرض الذي داخل قلبي. كنت أحس بالغم والهم أن كل ذلك وغيره يحتوي نقدا غير مباشر لي. لقد كنت حقا أهيم عشقا بالمرض والمرضى، وبالنسبة لي كان خبر احتضار خطيبي فرصة لا تعوض. لقد كان سبب حبي لعيادتك يا دكتور، هو أنني أشم رائحة المرض عندما أزورها. ما من رائحة تجعلني أهدأ نفسيا الآن مثل رائحة الدواء والمطهرات.
عندما عدت إلى مسقط رأسي، وذهبت مباشرة إلى المستشفى لاستطلاع الأمر، كان خطيبي على شفا الموت بالفعل. كان بطنه منتفخا بالماء، كان وعيه كاملا وهو يعاني من اختناق الصدر، وتسبب له عملية البزل، لسحب الماء، آلاما رهيبة؛ لذا كان يقول لا داعي لسحبها من الأصل ما دامت المياه ستتراكم مرة أخرى كلما سحبت.
عندما رأيت منظر المريض البائس هذا، ذابت الكتلة المتكلسة السوداء التي كانت داخلي حتى الآن، وتحولت إلى ماء في لحظة واحدة. وفي نفس تلك اللحظة قررت على الفور أن أغفر كل ما فعله ذلك الشخص، وأن أظل بجواره من الآن فصاعدا حتى الموت، أريد أن أغفر له وأسامحه ببطء وعلى مهل، ولأتذوق أنا نفسي مذاق تلك المغفرة بتأن.
نطق المريض اسمي بصوت يخنقه البلغم قائلا: [ريكو ...]
ومد يديه الضعيفتين نحوي وعيناه تملؤهما الفرحة.
يا لهما من يدين! اليدان اللتان كانتا قويتين في الماضي، أصبحتا الآن مثل أعواد البامبو، بل كانت بلون السخام المصفر، وكانت نحافة الرسغين بدرجة مرعبة، وبدت فقط الأصابع كما لو أن كل أصبع قد استطال على حدة بفظاعة.
قلت له بنبرة قوية يعتمد عليها: [لقد أتيت، فلا تقلق. سأبذل كل جهدي لكي أشفيك من المرض.]
ثم اقتربت منه وأمسكت يديه الممدودتين تجاهي. لقد شعرت أنني أمسك ورك دجاجة نافقة وليس يد إنسان. وفي تلك اللحظة عبرت رعدة خفيفة داخل جسدي، واندهشت عندما عرفت أن تلك الرعدة لم تكن رعدة استياء.
بدأت منذ ذلك اليوم تمريضه دون نوم ودون راحة.
ومع أن عودتي إلى بلدتي تلك كانت بعد غياب عدة سنوات إلا أنني لم أقترب من بيتنا، ظل والداي ينظران إلي أنا التي لزمت فراش مرض خطيبي الذي أكرهه بشدة، وهما في ذهول. ولكنني عرفت بالطبع أنهما فسرا ذلك على أنه تأنيب ضمير مني، وفرحا به باعتباره بادرة على أن أنوثتي عادت لي.
وكنت أشعر بالرائحة المريبة التي تفوح من مريض السرطان في مرحلة متأخرة، وكأنها عطر سحري إلهي رائع، ظل خطيبي يشكرني؛ لأنني أعمل بسرور ما يكره الآخرون عمله، لدرجة أن يذرف الدموع قائلا: [أنا آسف يا ريكو، أنا آسف.]
فقلت متعمدة الوقاحة: [بعد أن تشفى قل لي كلمات الشكر مجمعة. أنت مزعج وأنت تشكرني على كل فعل صغير أفعله لك على حدة.]
ولقد عرفت أن صورتي بدأت - مع مرور الأيام يوما بعد يوم - تتحول في عيني المريض إلى صورة قديسة. ذلك الرجل الذي اعتدى علي بكل عنفوان في الماضي، الآن قد تبدلت الأحوال، لم يكن بإمكانه إلا أن يكون طوع بناني في كل أمر، وذلك جعله محبوبا بشدة في عيني. عندما أفكر أنني الآن أستطيع أن أسيطر عليه بقوتي بل إني أستطيع كسر ذراعيه بمنتهى السهولة، بدا خطيبي فجأة كأنه طفل رضيع له وجود ساحر وجذاب مع أن ملامح الموت المنفرة الصفراء الجافة تطل من وجهه. والأمر الغريب، أنه كان حتى هذه اللحظة لطيفا وظريفا بالنسبة لي، وأصبحت مستعدة لفعل أي شيء له لو كان ذلك يبعد عنه الموت الذي يقترب منه مع كل لحظة تمر. لقد حزنت حزنا حقيقيا من قلبي؛ إذ إن مرضه ميئوس من شفائه. وألعن ذلك المصير الظالم تجاه مثل هذا الشاب في عمر الزهور، بل لدرجة أنني بدأت أتمنى أن أصبح بديلة عنه لو أن ذلك في استطاعتي. ما ذلك الشعور؟ لقد كدت فعلا أن أصبح قديسة.
في اليوم الثالث لمرافقتي له، في غرفة المريض، التي كانت صدفة خالية من الزوار، فجأة بدأ المريض يناديني بصوت معاناة: [ريكو! ريكو!]
وعندما قربت منه وجهي سائلة ماذا؟ كان بالضرورة تظهر في عينيه السكينة والتبجيل والخشوع . وقال بصعوبة : [إني أتألم ... هات يدك أمسكها.]
فعلى الفور أمسكت بإحكام يده تلك البالغة الذبول. كانت يده ترتعش بين راحة يدي ارتعاشا خفيفا.
بالضبط في ذلك الوقت. ما الذي حدث لي يا دكتور؟ لقد سمعت [الموسيقى] فجأة. تلك الموسيقى التي كنت أشتاق إليها لتلك الدرجة، تغلغلت في كل جسدي. ولم تتوقف الموسيقى في الحال، بل تدفقت مثل سلسال نبع، وروت داخلي الذي كان قد بلغ منتهاه في الجفاف. ليس من خلال أذني، بل من خلال جسدي ... هل يمكن يا دكتور حدوث مثل هذا الأمر الذي لا يصدق؟ لقد سمعت تلك [الموسيقى] بإحساس السعادة التي لا يمكن وصفها بالكلمات، سمعتها بجسدي ...»
17
أحيت رسالة ريكو تلك، مرة أخرى، اهتمامي الذي كان على وشك أن يبرد بالفعل، وجعلت قلبي مجددا أسيرا لتلك المريضة التي تسمى ريكو.
ولكن أكثر ما أثار حنقي وعصبيتي، هو سمعها لتلك «الموسيقى» التي كانت تشتاق إليها لتلك الدرجة بمفردها وفي ظروف لم أتوقعها مطلقا، وليس لي بها أية علاقة بتاتا. يمكنكم أن تتعرفوا إلى ذلك الشعور إن تخيلتم وجود مريض لم يأت معه الدواء - والذي كتبه له طبيبه - بنتيجة، ثم شفي المريض من مرضه تماما عندما جمع أوراق عشبة الهندباء النابتة على جانبي الطريق وطحنها وأعد منها شايا. يمكنكم إلى حد ما تخمين مشاعر الطبيب، وخاصة أنه كان متفرغا تماما بكل ذهنه لذلك المريض.
ربما كان ما يرضي كبريائي قليلا هو أنني أثناء مراحل التحليل النفسي لريكو - وقبل حدوث ما حدث - جاءني حدس بضرورة إلقاء الضوء على ذلك الشاب قريبها؛ أي «الخطيب الذي يجب كرهه»؛ إنه «الشخص الذي سلب براءتها عنوة». ولكن ولكي أكون صادقا؛ حتى ذلك أيضا كان وقتها أمرا غامضا، فلم أكن لأتوقع أن قريبها مريض بمرض مميت، وأيضا لم يخطر ببالي، ولا في الأحلام، أن تستطيع ريكو سماع «الموسيقى» فجأة في مثل هذه الظروف؛ أي إنني بعد أن كنت على وشك الانتصار هزمت هزيمة نكراء.
هذا الكلام، مع افتراض أن كل ما حكته ريكو في رسالتها أعلاه، حق وصدق، ولكن إن كان كذبا، فستكون المشكلة مختلفة. كم مرة عانيت من كذبها حتى الآن؟ فلا يمكن من مكاني هذا، أن أتأكد بأي حال مما شعرت به بمفردها في غرفة بمستشفى في مدينة قوفو البعيدة، وليس بوسعي إلا اعتبار أنها تقول الحقيقة، ثم التقدم للأمام. كلا، سواء أكان ذلك صدقا أم كذبا، فالحقيقة الواضحة الماثلة هي أنها كتبت لي رسالة خصيصا، وأخبرتني بها أنها «سمعت الموسيقى أخيرا»، تلك الحقيقة، وهذا هو ما في قلبها.
لا داعي للقول إن التحليل النفسي هو خطوات للوصول إلى الحقيقة. وفي مراحله المختلفة أحيانا ما يجب أن يوظف الكذب والصدق بنفس القيمة. فعلى الأرجح أن الشخص الكذوب دائما، لا يعرف هو نفسه هل ما يقوله كذب أم صدق!
ومع ذلك، فمن الصدق القول إن الأمر كله بالنسبة لي، يجعلني أشعر بحكة في مكان لا تصل إليه يدي. يفترض أنني أتعامل مع روح المريض، إلا أنه لم يحدث أن شعرت بقرب جسد ريكو الطاغي، كما جعلتني تلك الرسالة التي وصلت إلي من مكان بعيد. فمهما كانت في درجة عالية من الجمال، إلا أنها كانت أثناء فترة شكواها من البرود الجنسي لم تكن روحها إلا مجرد عقدة متشابكة من الصوف. ولكن الآن قد أعطتني ريكو انطباعا جسديا عارما مثل نبتة يانعة بعد هطول الأمطار، وهي تتألق بعد أن ارتوت بمياه المتعة لمجرد أنها أمسكت يدا صفراء الجلد ذابلة لمريض يحتضر. حتى في وظيفة المحلل النفسي تلك التي لا تتعامل إلا مع شيء لا يرى بالعين ولا يلمس باليد - تكمن داخل النفس مشاعر الرغبة في الإمساك ببرهان مؤكد وواضح تراه عيناي. إنني، بما يمكن أن نصفه بأمل نصفه مهني ونصفه الآخر غير مهني، كنت أحلم بأنني سأستطيع في الجلسة القادمة رؤية بحيرة حياة ريكو تبعث فجأة أمام عيني أثناء التحليل النفسي.
أنا أومن أن لحظة الرغبة في الحصول على برهان جسدي مثل هذا، هي لحظة لا تقتصر علي أنا فقط بل هي تزور جميع أطباء التحليل النفسي، بسبب الإرهاق التام من التعامل مع عالم الروح، ذلك العالم الذي بلا برهان يمكن إثباته في النهاية. وربما كان ذلك مجرد وساوس شيطان. لقد بدأت أشعر تدريجيا دون أن أدري بمشاعر ريوئتشي إغامي التي تراكمت في غضب وعصبية في الرغبة في الحصول على دليل مؤكد من جسدها.
كنت أحيانا ما أحدث نفسي بأريحية قائلا لها: «ولكن، حتى وإن كانت قد شفيت من المرض حقا، فمن المتوقع ألا يستمر ذلك طويلا، وأنها في النهاية ستفشل مجددا وتعود إلى عيادتي مرة ثانية.» ... كانت مثل هذه الأفكار تصل على الفور إلى أكيمي التي تعاشرني معاشرة الأزواج حتى ولو لم نكن نقيم معا تحت سقف بيت واحد. لم تكن أكيمي، في المعتاد، يمكن وصفها بالممرضة البارعة مطلقا، ولكنها كانت من أبرع أطباء التحليل النفسي فيما يتعلق بشأني فقط.
ولكنها لم تنطق على لسانها بأي حال قائلة: «أنت تفكر مرة أخرى في تلك المرأة، أليس كذلك؟» ولكن طريقة استخدامها لعينيها وكل حركة من حركاتها كانت تبوح بهذا كله بالتفصيل. ثم كانت تخاف مني حينا، وتشفق علي حينا.
لقد جعلتها تقرأ رسالة ريكو تلك؛ لأنها طلبت مني ذلك بإلحاح، ولأنه أمر لا يصل لدرجة الحرص على إخفائه، ولكن كانت ملامح وجهها المعقدة بعد انتهائها من القراءة، منظرا يستحق المشاهدة حقا. وبالطبع أول كلمة خرجت من فمها كانت: «إنها تكذب مجددا.» ولكن أكيمي كتمت تلك الكلمة على لسانها بسرعة؛ لأنها إن فكرت أن ذلك كذب، فإنها تكون معترفة ومقرة بمرض البرود الجنسي الفاخر؛ ولذا فالاعتقاد بصدق الرسالة هو الأريح بالنسبة لها. فقالت أكيمي: «ما هذا؟! يا للملل! إنها - كما توقعت - امرأة معتادة.»
فقلت لها معترضا مع علمي أن ذلك سيشعل جدالا مزعجا معها: «ماذا تعني بامرأة معتادة؟ أليس هذا وضعا شاذا وغريبا؟» «حقا؟ تفكير مشوق. في حالة تلك المريضة؛ فلقد جاءت إلى عيادتنا قائلة إن الهدف هو العلاج من مرض البرود الجنسي، أليس كذلك؟ فلا علاقة لنا إن عولج البرود الجنسي هذا هنا، أو عولج في ركن من أركان حي غينزا، أو عولج فوق سرير بأحد الفنادق الرخيصة، أو حتى عولج فجأة في ساحة حرب تتبادل فيها طلقات الرصاص، أليس كذلك؟ ومهما كانت الظروف المحيطة غير طبيعية، فإن هذا لا ينفي أن المرأة المعتادة امرأة معتادة، أليس كذلك؟ فما من سبب لمعاملة تلك المريضة معاملة خاصة أو متميزة.»
إن ذلك المنطق هو بالتأكيد منطق النساء، فهو منطق في منتهى الغباء، ولا تهتم النساء مطلقا بطريقة الهجوم ذاتها عندما تهاجم في مثل هذا الموقف. وعندما نطقت بلساني بلا وعي: «ماذا تعني بامرأة معتادة؟ أليس هذا وضعا شاذا وغريبا؟» لم تر أكيمي فيما قلت اعتراض عالم متخصص، ولكنها رأت فقط اعتراضا شخصيا مني أبديته على الفور لحماية الصورة الخاصة والمتميزة التي أحملها أنا تجاه ريكو من الانهيار عبر كلمات أكيمي. إن كان الأمر كذلك فما على أكيمي إلا أن تواصل الاعتراض بملاحقة نقاط ضعفي حتى ولو كانت أمورا شخصية. يمكن القول إنه في الوقت الذي تتخذ المرأة وضع الهجوم، لا يفيد الرجل مطلقا المنطق ولا غيره. «فهمت، فهمت.» «الهروب بكلمة: «فهمت، فهمت» جبن. من الذي قال إن التحليل النفسي يجب أن يكون في منتهى الحياد والموضوعية والعدالة؟ ومثلما حذرتني من البداية، كان من الأفضل ألا تقترب من تلك المريضة إن لم يكن لديك ثقة في نفسك أن تكون عادلا.»
عندما يصل الأمر إلى أن يقال لي ذلك، بدأت أشعر أن من الأفضل فصل تلك الممرضة التي ظلت تساعدني لسنوات طويلة؟ كانت تلك أول مرة تطرأ فيها مثل هذه الفكرة على ذهني، ولكن هذه المرأة التي تدعمني - وهي متفهمة لحياتي العزباء - لا تدرك إلى أي مدى كنت ممتنا وشاكرا لها في داخلي.
وخلافا لسير الأحداث تقرر أن أبيت تلك الليلة مع أكيمي التي كنت مبتعدا عنها لفترة، في الفندق الذي اعتدنا الذهاب إليه. بعد خطوة من دخولنا ذلك الفندق وإرشادنا لغرفتنا، بدأت أكيمي في ذات تلك اللحظة ما يعرف «بلعبة الأمومة». تبذل جهدها في العناية المفرطة بي دون أن تضطر إلى القلق من عيون الآخرين، إن خلعت السترة تسرع بتعليقها على المشجب، وإن وضعت السيجارة في فمي تشعلها لي على الفور، تحرص على التأكد من درجة حرارة حوض الاستحمام قبل أن أدخله، تصبح ربة بيت متفانية في خدمتي بكفاءة تامة. المرأة التي تصبح في تلك الحالة ربة بيت متفانية؛ عندما تصبح حقا زوجة ولها بيت، تتحول، في أغلب الحالات على الفور رأسا على عقب، إلى امرأة كسول متكبرة.
وحتى أكيمي نفسها وهي تلجأ إلى «ذكوريتي» عندما نصبح وحيدين في غرفة الفندق، تدرك تماما أن من مصلحتها أن تصبح امرأة طازجة متلونة وغير معتادة. ومع إدراكها هذا يجب عليها أيضا أن تشبع رغبتها الداخلية في ممارسة غريزة «الأمومة». ومع كل ذلك فإنها تكره حقا «الزواج الحقيقي».
كنا نفعل مثل هذه الأفعال الحميمية بعد فترة غياب طويلة حقا، ولكن عندما بدأت مداعبتها بدأ صدر أكيمي، على الفور، في الخفقان عاليا بصدق، وتتلاحق أنفاسها سريعا، كأنها آلة تصل بسهولة لحدها الأقصى، وعندما أقارن ذلك بعراكها العنيد منذ قليل، فإنني - على عكس المتوقع - أشعر بالانجذاب إليها أكثر من الحنق.
نادت أكيمي على اسمي وكررت ذلك مرات عديدة بما يوضح مدى حبها لي. بدأ جسمها يستثار تدريجيا، وأضيفت إلى حركته رعشات غير منتظمة، وكنت دائما أصاب بالذهول من كثرة تتبع الإثارة الجنسية لأعراض الهيستيريا المختلفة. إن الهيستيريا ربما كانت خطة انتقامية تحاول بنقاء استنبات الوضع الجسماني لمثل هذه الإثارة الجنسية الصحية. ليس من خلال «المتعة»، ولكن من خلال «اللامتعة».
في الغالب تكون اللحظة التي تتبدل فيها الابتسامة التي كانت تملأ وجه المرأة حتى الآن فتتحول - في النهاية مع زيادة حدة البهجة - إلى ملامح صارمة وعنيفة، هي لحظة رائعة بالنسبة للرجل؛ حتى وإن كان ذلك مع امرأة فقد اهتمامه بها. ولكنني اكتشفت هذه الليلة فجأة - وأنا أتأمل، تحت الأضواء الخافتة لمصباح الفندق بالتفصيل، نشوة أكيمي تلك - وجه ريكو الذي لا يمكن أن يشبه وجه أكيمي بأي حال.
يفترض أنني حر في رسم أي تخيل لوجه ريكو في نشوتها؛ حيث إنني لم أشاهدها في تلك النشوة ولا مرة واحدة، ولكن أن أرى ذلك فوق وجه أكيمي!
بعد أن فكرت في ذلك فيما بعد، ومما جعلني لا أستطيع منع إحساسي بالرعب، هو السؤال الآتي: هل الأمر في النهاية مجرد وهم مني، أم أن أكيمي قد حشدت كل قوى اللاوعي لديها لتظهر لي في ذلك الوقت وجه ريكو وهي غارقة في النشوة؟ لا يجب الاندفاع كثيرا وراء عملية تشبيه الهيستيريا بالإثارة الجنسية، ولكن مثلما لا يمكن تفسير ظهور آثار الصلب في أقدام وأيادي مرضى الهيستيريا الدينية، وكذلك النزيف من تشكل البثور في المناطق الحساسة، ونزيف خلايا تحت الجلد، ونزيف في الشعيرات الدموية بين أنواع متلازمة الهيستيريا العصبية؛ فلربما قام جسد أكيمي بلا وعي منها بتمثيل وجه ريكو بذلك الكمال.
كان وجهها يشبه وجه القديسات؛ مثل القديسة تيريزا، فتغطي هالة من النور مؤخرة رأسها، وتغمض عينيها قليلا، وترفع وجهها لأعلى، وتفتح شفتيها الرائعتي الجمال فتحة خفيفة، وتجعل أرنبة الأنف جيدة الشكل. ترتعش ... ويفوح منها شيء لا يمكن معرفة أهي ابتسامة أم تألم! وتقبض يدها تلك بحزم على يد المريض المحتضر، والتي على الأرجح يد صفراء نحيفة ذابلة.
أصبحت ريكو هنا قديسة بلا أي مجال للشك. لقد تخطت كل شيء، حقائق وأكاذيب حياتها اليومية، معاناتها الضئيلة، علاقتها المرتبكة مع حبيبها. لقد سمعت حقا «الموسيقى» وهي في منطقة فوق السماء تفوح منها الغيوم المشعة.
18
مات خطيبها بعد مدة وجيزة، وشاركت ريكو في الجنازة وقد ذبلت من الحزن.
ولكن أثناء قضاء كل وقتها في ذلك الحزن الذي لا سبيل إلى شفائه، كان يجب عليها أن تدرك بوضوح، وهو الأمر الطبيعي تماما؛ أنه لا والداها ولا أحد من أقربائها مطلقا يفهم حزنها ذلك.
مواساة تخطئ هدفها، نظرات تعاطف بلهاء ... تحمل كل ذلك جعل حزنها يتضاعف، وأفقدها مكان وجودها.
قال لها والدها وهو يعلم أنه تذمر: «ليس هذا سببا لعدم الحديث؛ حتى وإن قالت ابنتي أكره ذلك، أكره ذلك، فهذا القرار الأرعن، لا أدري أين يمكن تغييره بعكسه؛ ففي مجتمع الديمقراطية الحالي، أصبح كل شيء فيه يحترم؛ حتى إرادة الأطفال، وحتى وإن وصل الشخص لسن الرشد، فإنه في العشرينيات من العمر يكون أعمى تجاه البشر وتجاه الحياة. وأن يشير عليه الكبار بحزم، يجعله في النهاية سعيدا. في الماضي تزوجت الكثيرات من الفتيات دون أن ترى وجه عريسها، ومع ذلك تحابوا واستطاعوا أن يعيشوا سعداء. والآن الأنثى من ناحيتها هي التي تضع انتقادات تافهة ويوافقها والداها، وفي النهاية تفلت السعادة من أيدي البنت.
والسبب في أنني، حتى النهاية، لم أوافق على فسخ خطوبة ريكو، أنني كنت أنتظر اليوم الذي تستيقظ فيه عينا ريكو، ولكن للعجب أن تتفتح عيناها بهذا المصير المحزن. إن كان الأمر كذلك فليس أمامي إلا الندم لأنني لم أرجع ريكو عنوة من طوكيو، وأجعلهما يعيشان معا.
ولكن حتى إن قلت ذلك الآن فلن يعيد ذلك شيئا، إن تمريض ريكو له بذلك الحماس حتى وفاته في النهاية، من المؤكد أنه جعل المريض نفسه مات راضيا تماما، وليس أمامنا إلا الاعتقاد بذلك. وعلى الأرجح أن ريكو أيضا قد كفرت عن ذنبها بهذا الشكل.»
ومن جهة أخرى، فقد كان من أقربائها من يواسيها بطريقة أخرى: «ريكو! إنني أفهم مشاعرك لدرجة مفرطة في الفهم، لقد كان شون أيضا مخطئا. أنا أعتقد أنه إن كان يحبك حقا، فكان يجب عليه إظهار ذلك الحماس لدرجة أن يذهب إلى طوكيو مهما كلفه الأمر ويأتي بك. لقد كان مترددا لتلك الدرجة ويحمل تفكيرا منطويا، ولم يفهم قلب الأنثى الذي يبتعد متعمدا مع عدم كرهه للشخص. وأنا أعتقد أنه يستحق الشفقة بعد أن أصيب بمرض كبير لا شفاء منه، وبقوة ذلك المرض، استطاع أخيرا أن يستعيدك. ولكن يجب الاعتقاد أنها سعادة ما بعدها سعادة أن استطاع المحبان مجرد العيش معا قبل الموت؛ وذلك بعد أن تخليا عن المظاهر وعن العناد.»
بالطبع كانت نية الوالد بعد أن صار ما صار، أن يحتفظ بريكو بجواره، ولكنه عندما رأى حزنها العنيف جدا، رجع مرة أخرى إلى أصله؛ الأب المتساهل، وأصبح ينحاز تدريجيا إلى ما تفضل ريكو.
ومع أنها كانت على الأغلب ترغب - بعد أن مات خطيبها - في لبس الحداد والانعزال في الجبال مثلا لمدة عام كامل، إلا أن الجميع لم يسمحوا بأن يتركوها في حالها، وكانت تلك المواساة التي أخطأت هدفها، تجرح قلب ريكو أكثر وأكثر، فكان من المنطقي أن تشعر ريكو بالرغبة في البعد عن بلدتها في أسرع وقت ممكن.
وكان أول مكان زارته بعد أن تحدت معارضة الجميع، وهربت من مدينة قوفو، هو عيادتي أنا وليس بيت حبيبها إغامي.
كان يوما يشبه أيام الربيع في دفئه، إلا أن المكيف المركزي عديم الشعور في المبنى، لا يتوقف عن التدفئة. فكنت أجعلهم يفتحون النوافذ من حين لآخر؛ لأن درجة الحرارة المرتفعة داخل الغرفة تجعل أعصاب المرضى يرتفع توترها أكثر وأكثر. ولكن فتح النوافذ كان يؤدي إلى دخول ضوضاء السيارات بلا رحمة، وهبوب الرياح وتراكم الأتربة البيضاء فوق سطح المنضدة البلاستيكي. وذلك كان فصلا يسبب لي العصبية والغضب إلى حد ما.
في فترات الراحة بين جلسات المرضى، كنت أخرج إلى غرفة الانتظار، وأفتح النافذة لأعرض وجهي متعمدا لذلك الغبار وتلك الضوضاء وكأنني أتحداهما. وبينما كنت أتأمل ازدحام الطريق تحت النافذة، لمحت عيناي امرأة تنظر إلى لوحة إعلانات دار السينما المواجهة للعيادة. كانت تحمل في يدها حقيبة سفر نسائية بلون سماوي ومعطفا بنفس اللون، ولكن كل ملابسها الغربية كانت سوداء. ربما بدا عليها أنها تنتظر شخصا ما، ولكن لم يكن الأمر كذلك. كانت تتأمل مبنى العيادة ومبنى دار السينما بالتبادل بنظرات سريعة، ثم تعود لتنظر عاليا تجاه لوحة إعلان الفيلم. لم يكن ذلك التأمل نابعا من الاهتمام، فهي لوحة إعلانية لمشهد حرب كئيب، مثل ذلك المشهد الذي تهجم فيه الدبابات بسرعة، ويهرب جنود الخنادق في جميع الاتجاهات. لوحة إعلانات عنيفة لا يمكن أن تعجب الفتيات.
وأخيرا عرفت لأول مرة أن الفتاة هي ريكو؛ عندما أدركت من نافذة الطابق الرابع أنها تصارع نفسها لإجبارها أن تأتي إلى هذا المبنى . ولكن إن كانت مترددة في المجيء إلى هنا فكان الطبيعي أن تعطي اهتماما خاصا وتنظر إلى نافذة عيادتي. لا توجد علامة مميزة لهذه النافذة، ولكن يفترض أنها تعلم جيدا وجود نافذة في غرفة الانتظار تنظر مباشرة إلى دار السينما تلك، إلا أن ريكو لم ترفع عينيها تجاه نافذتي ولو مرة واحدة، وبذلك فشلت محاولتي في التلويح لها بيدي.
وأعتقد أن ريكو كانت تخاف من النظر إلى نافذة العيادة. كانت هذه النافذة هي تربة أسرارها الوحيدة حقا وسط مدينة طوكيو الواسعة. ربما كانت خائفة من أن تتخيل أسرارها (أثناء غيابها) وكأنها زهور داخل صوبة تدفئة، تتسرب إليها أشعة شمس الربيع عبر زجاج النافذة، فتنشأ وتتربى لتكون باقة زهور عملاقة غير متوقعة.
ولأن ريكو عبرت طريق السيارات ودخلت هذا المبنى فيبدو أنها اتخذت قرارها أخيرا. شعرت وأنا أنتظر طرقها على باب العيادة أن مرور الوقت بطيء جدا كأنها استغرقت ساعات طوالا.
دخلت ريكو العيادة وفرحت بقدرتي على استقبالها استقبالا طبيعيا. ولكنني اندهشت عندما وجدتها بوجه نحيل شاحب ودون أحمر شفاه وقد فقدت تماما مساحيق وجهها ونحفت جدا. وملابسها أيضا؛ أي نعم كانت تضع حليا من الزيركون أو ما شابه، إلا أن الملابس السوداء بأكمام طويلة كانت تشبه ملابس الجنازات وهي تغطي عنقها. من تلك الملابس، يطل فقط وجهها الأبيض متبلد المشاعر وتنظر تجاهي بعينين دامعتين كبيرتين تعانيان بقسوة. كانت تعبر تعبيرا كاملا عن «امرأة الحداد» وعن «امرأة الحزن». إن قلت قولا بلا دليل؛ فقد كانت تتنكر في هيئة «القديسة» تلك لكي تظل مخلصة تجاه «الموسيقى» التي سمعتها بنفسها مرة واحدة فقط، ولكي تقسم على الإخلاص لتلك المتعة التي لا يمكن نسيانها.
كانت الملابس أيضا نوعا من أنواع السلوك الدلالي. تخفي الرغبات الكامنة، وفي نفس الوقت تظهرها. فأنا لم أر في ذلك الوجه العديم الزينة وملابس الحداد تلك إلا تعبيرا عن فرحتها.
قلت لها: «لنعرض عن جلسة العلاج اليوم. فأنا أفهم جيدا وضعك الحالي، وسأسمع منك بصفتي صديقا لك. ولكن لا يوجد مكان هادئ هنا مطلقا، وليس أمامنا إلا دخول غرفة التحليل النفسي.»
قالت ريكو: «أجل أرجو أن نتكلم داخلها. لقد جئت إلى طوكيو خصيصا بسبب رغبتي في دخول تلك الغرفة، ولذلك أتيت إلى هنا مباشرة.»
وسبب عدم قولها: «بسبب رغبتي في رؤيتك يا دكتور.» هو إما الخجل، وإما المشاكسة، لا يتضح ذلك تماما، ولكنها عندما سمعت كلمة غرفة التحليل النفسي، ظهرت الفرحة في عينيها كأنها طفلة وعدت بإعطائها حلوى، مما أعطاني قوة.
وفي تلك اللحظة ظهرت أكيمي في ملابس التمريض البيضاء، وقالت بدون حتى أن تبتسم: «أهلا، لقد غبت كثيرا. أرجو أن تدفعي أجرة العلاج عن الأيام التي تغيبت فيها.»
فقلت لها: «يمكن فعل ذلك فيما بعد.» «كلا؛ لأن دفع أجرة الجلسات بانتظام هو جزء من العلاج.»
قالت أكيمي ذلك في عناد وتصميم، ثم أخذت منها الأجرة، وتركتها أنا تفعل ما يحلو لها؛ لأنه بدا أن أكيمي سترتاح إن هي أخذت منها أجرة العلاج. ... دخلت ريكو غرفة التحليل النفسي وجلست على الكرسي، ثم دارت ببصرها حول الغرفة التي ليس بها أية زينة على الإطلاق، وقالت مع تنهيدة عميقة: «يعم السلام هنا دائما. ما من مكان آخر ترتاح فيه نفسي هذا الارتياح.» «أليس الجو حارا أكثر مما يجب؟ هل أفتح النافذة؟» «بلى، ليس حارا. الحال أفضل هكذا، كما هو.»
ثم تمطت بجسمها في راحة. وعندها؛ ويا للعجب! فقد انطباع الجسد الذي كان موجودا في غيابها، وأصبح الذي أمامي حاليا لا يزيد على كونه حزمة أعصاب متوترة مجددا، ونفسا متشابكة ومعقدة؛ مثل كرة من الصوف المعقد. «لقد فهمت جيدا ما حدث لك من خلال رسالتك. هل ثمة شيء لم تستطيعي كتابته في الرسالة؟» «سواء كتبت أو لم أكتب فأنت يا دكتور على علم بكل شيء؛ ولذا فالأمر سيان. لقد شعرت أن قضائي كل يوم بنفس تلك المشاعر سيجعل المرض يعود ليظهر ثانية ...» «هل ظهرت بوادر لأعراض مرضية؟»
أجابت بصوت متغير فجأة: «كلا، لا شيء البتة. أشعر أنني لم يسبق لي أن كنت بهذه الحالة من الصحة الجيدة التي أنا عليها منذ مرافقتي لخطيبي شون في مرضه حتى الآن.»
وافقتها على ذلك موافقة غامضة قائلا: «هذا أمر جيد جدا.» «ولكن يا دكتور، بالنسبة لي شعرت بشعور غريب من حالة الحداد اليومية. وأعتقد أنك تفهم سبب ذلك؛ فلقد مرضت خطيبي بجدية تامة، وأنا أدعو من كل قلبي أن يشفى بأي طريقة، وعندما مات - ومع أنني غرقت في حزن لا مثيل له - فإن جزءا من قلبي كان في حالة من السعادة ملأت حياتي كل يوم، لدرجة أنني لم أعرف كيف أتعامل معها. لا داعي لذكر أن كل مشاعري تنطلق من حقيقة إدراكي جيدا أنه لن ينجو من الموت. من المؤكد أنني استمت في تمريضه وفي الدعاء له، وفي الحزن عليه؛ وأنا أعتمد على ذلك الشعور بالأمان والاطمئنان.
إن سبب إصابتي بالذهول عندما مات، أنني أحسست بألم قاس؛ لأن وداعه يعني أن أودع السعادة التي عشتها لفترة قصيرة الوقت. وعندها لم أستطع أن أفرق مطلقا بين مشاعر الأنانية والحزن النقي البريء بسبب فراق الحبيب الذي مات. ولأنني - ودون أن أنتبه - جعلت خطيبي الذي كنت أكرهه بشدة يتحد مع شعوري المبهم بالسعادة.
سأقول لك شيئا يصعب جدا قوله.
عندما مات وتجمع الأهل والأقرباء في غرفته، كنت منهارة أبكي وأنا أمسح وجهي في يديه؛ كنت أقاوم إبعادهم لي عنه بشراسة، والسبب أنني كنت أشعر بمشاعر متعة لدرجة أنني كنت على وشك الإغماء من النشوة. كان وجهه بعد موته - بأي طريقة ينظر إليه - وجها قبيحا كهيكل عظمي، إلا أنني شعرت برغبة في أن يضعوني معه في التابوت كما أنا بنفس مشاعر المتعة تلك.
كنت أسمع [الموسيقى] في كل مكان. فاضت الموسيقى وملأت السماء والأرض، وطافت برقة وعذوبة داخل جسدي وخارجه. ربما كانت الموسيقى التي كنت أتوق إليها، هي موسيقى الألحان الجنائزية. أعتقد أنني حقا امرأة مرعبة، عظيمة الذنوب.»
قلت لها: «إن تأنيب الضمير، وتفسير مشاعرك الجميلة على أنها شر محض من علامات المرض. ما رأيك في التفكير كما يلي : حتى الآن كنت تكبتين مشاعرك، ولكنك هذه المرة تخليت عن نفسك تماما، واستطعت أن تقدمي خدمة للآخرين بتفان مطلق، فتحرر جسدك وقلبك، وفاضت نضارتك وأنوثتك الحقيقية. إن التحليل النفسي ليس الهدف منه تعقيد ما يمكن تفسيره ببساطة. إن فكرنا بهذه الطريقة، فمشاعر الحزن عن خطيبك الراحل هي مشاعر طبيعية جدا، وما من ضرورة للإحساس المريب أنها ذنب كبير.»
قالت ريكو بنبرة محتارة: «أشكرك على قولك هذا. بسماع ذلك بدأت أشعر أن ذلك هو ما حدث.» - «لا بأس من الاستمرار بهذه المشاعر بتلقائية وبساطة. من المؤكد - بفعل ذلك - أن كل شيء سيسير على ما يرام.» - «ولكن هذا مستحيل يا دكتور.» هذه المرة اعترضت بثقة على كلامي فجأة «من أجل أن أستمر إذن بتلك المشاعر، من الذي يجب أن يموت مرة أخرى؟ من الذي يمرض مجددا بمرض لا أمل في شفائه ويعاني حتى الموت؟
أنا لا أعتقد إلا أنني امرأة مشئومة مرعبة تجعل من الناس واحدا بعد الآخر ضحايا من أجل متعتها فقط.» - «كلا، الأمر يختلف. فأولا قول التضحية من أجلك أنت يخالف الحقيقة الواقعة، أليس كذلك؟ لقد تصادف أن مرض خطيبك مرضا مميتا، وذهبت أنت لتمريضه دون أن يطلب أحد منك ذلك، أليس هذا ما حدث؟» - «ولذلك ... ولذلك، أنا مثل نسر أصلع. إنني غراب الشؤم الذي يشم رائحة الموت، فيهرع طائرا إلى هناك.»
عندما سمعت ذلك كانت ريكو التي غطتها الملابس السوداء تماما، والتي لا تضع ولو أحمر الشفاه، تعطي انطباعا بأنها غراب أسود. - «لا داعي للتفكير في الأمور بتلك المأساوية.» - «كلا، لقد فهمت الأمر هذه المرة. إنني لن أستطيع سماع الموسيقى ما لم ألاحق الأمور وأمعن النظر فيها وأحولها إلى أمور مأساوية.» - «إن كان الأمر كذلك، ففكري كما تشائين. ولكن إن تحدثت بصراحة، فأنا أرى أن مشاعر استمتاعك بتمريض خطيبك تخفي الانتقام بوضوح. ولكن مهما كان الدافع، فلا بأس ما دام السلوك الذي نتج عنه سلوكا راقيا جميلا. ربما من الأفضل التفكير كم في المائة من السلوكيات الجميلة للمجتمع هي سلوكيات فاضلة ، وكم في المائة منها سلوكيات جنسية، ولكن ذلك فقط لن يقلل من قيمة ذلك السلوك.» - «إنك حقا إنسان ساخر يا دكتور.» برزت على وجه ريكو لأول مرة ابتسامة إرهاق «ولكن أنا أشعر الآن بالخوف. خائفة خوفا شديدا. ولا أعرف السبب ...» - «مم تخافين؟»
نظرت إلى عينيها بحنان. ووقتها، جرت في خدها للحظة رجفة سريعة بعد غياب طويل.
تلك الرعشة التي تشبه صاعقة صغيرة، بدت كأنها عصفور غرائبي لا يمكنني رؤيته. كان ذلك العصفور يلاحقها مقتفيا أثرها دون أن يبتعد عنها، ومع أنه رحل أخيرا إلى مكان بعيد لبعض الوقت، إلا أنه عاد مجددا ليظهر في عشه الأصلي، يدخل مع وميض أجنحته، ليختبئ في ذلك الوكر المظلم الدافئ في قلبها المريض مرة أخرى.
إنها حالة ذهنية لا تلائم طبيبا مطلقا، ولكن لا يمكن أن أنكر أن بوادر ظهور فشل العلاج تلك أعطت لي ما يشبه فرحة النصر أكثر من كونها تثبيطا لهمتي؛ لأن ذلك علامة أدل من أية علامة أخرى على أن ريكو التي ظننت أنها رحلت إلى الأبد إلى مكان بعيد جدا، عادت إلى أحضاني مجددا.
ولكن على ما يبدو أن ريكو نفسها لم تنتبه إلى تلك الرجفة. - «ما أخافه ... يا دكتور، أن دوام الحال هكذا، يعني أنني بالتأكيد، في طريقي لأن أكون امرأة لا تستطيع سماع [الموسيقى] إلا في ذلك الوضع الشاذ، وهي تودع مريضا يحتضر. ولذلك يبدو أنني أتمنى فناء البشر من أجل مصلحتي فقط. وإن وصل الأمر إلى أن أجعل ريوئتشي يلاقي هذا المصير، فإنني حينها مهما ندمت حقا فلن ينفعني الندم. وأعتقد أنني ربما أنتحر من شدة الإحساس بوضاعتي.» - «لا تمزحي. فهل يعقل أن يصاب الشباب عن بكرة أبيهم هكذا بالسرطان؟ إن السيد ريوئتشي كما ترين رجل ضخم الجسم متين الصحة لن يموت حتى لو حاولت قتله.» - «لا أدري. فأنا لم أقابل ريوئتشي بعد ما حدث. وأعتقد أنه غاضب مني، ولكن ما باليد حيلة في ذلك. وعندما أقابله ... ربما عندما أقابله مرة ثانية ... أخاف؛ لأنني أشعر أنني سأتمنى موته.» - «ما هذا الغباء؟!» - «ما من وجود لكلمة «الغباء» داخل غرفة التحليل النفسي هذه يا دكتور. فهنا يمكن أن يحدث أي شيء؛ لأنني أعشق ذلك الرجل عشقا شديدا؛ لذلك بالذات أشعر أنني لا أستطيع أن أقابله. هل ثمة امرأة تذهب للقاء حبيبها وهي تتمنى أن يصاب بمرض مميت؟ إنني أكره ذلك مهما كان. أكره ذلك مهما حدث. أكره ذلك من أجل حبيبي.»
احتدت ريكو أثناء قول ذلك ووصلت الدموع إلى خدودها البيضاء فأسرعت بإخراج منديل ومسحتها. - «أي أنك تقولين إنك لا تقدرين على لقائه بسبب شدة حبك له.»
أومأت ريكو في صمت. - «إذن ماذا ستفعلين؟ هل ستعودين إلى بلدتك هكذا كما أنت؟»
هزت ريكو عنقها البض الرقيق يمينا ويسارا مثل الأطفال. - «هل ستعيشين إذن في طوكيو بمفردك؟» - «كلا.» - «ماذا؟! ...» - «إنني أعتقد يا دكتور أنه من الأفضل لي الآن أن أظل وحيدة في سكون إلى أن تخف ذكريات خطيبي. ولكنني أيضا أخاف من ذلك. في الليل مثلا يظهر وجه خطيبي الميت وسط الظلام ويدعوني بيده، أخاف أن أختطف. وعلاوة على ذلك أعتقد أنني أريد الذهاب في رحلة إلى مكان ليس له علاقة بأهلي ولا بأقاربي بديلا عن العيش في طوكيو المزدحمة هذه.» - «هذا أمر جيد بالتأكيد. ولكن في هذه الحالة من الأفضل حقا الذهاب في رحلة مع صديق تثقين فيه.» - «لا أملك مثل هذا الصديق.»
ظلت ريكو مطأطئة الرأس تفكر طويلا. وأخيرا رفعت عينيها الصافيتين وقالت ما لم أتوقعه. «ألا ترغب يا دكتور في الذهاب في رحلة معي؟»
19
لم أستطع على الفور تخمين مشاعر ريكو، ولم عرضت علي السفر معها، ولكن ارتعش قلبي فرحا للحظة.
ولكن ليس من اللائق أن أسمع أنا «الموسيقى». استعدت هدوئي الوظيفي بسرعة أسرع من لمح البصر، ولكن كانت تلك اللحظة مثل قوس قزح ظهر في لحظة عابرة في حقلي الوظيفي الرمادي اللون. حتى وإن كان كل ما تقوله ريكو كذبا، ولكن يجب علي أنا أيضا كإنسان أن أهتم بمثل هذه الفرحة. - «بالتأكيد تلك هي الطريقة المثالية» قلت لها ذلك بقليل من المزاح «أي بالنسبة لوضعك الحالي، السفر في رحلة بصحبة طبيبك المعالج.» - «كلا، لم أقل ذلك بتلك النية.» - «هل معنى ذلك إذن أن تذهبي مع [صديق يمكنك الثقة به]؟»
بعد أن تسرعت في قول ذلك، ومع أننا لسنا في جلسة تحليل نفسي، إلا أنني أنا نفسي فكرت في أن موقفي هذا موقف شخصي كريه. - «لك الحرية في أن تشعر بأي شيء. ولكنني فقط جربت أن أعرض عليك السفر بلا سبب محدد. ولا مانع من الرفض إن كان ذلك مستحيلا.»
قالت ذلك بنبرة في منتهى السكينة والحيادية، فكنت مضطرا إلى العودة سريعا إلى نبرة حديث مهنية. «كلا، أنا أيضا لدي رغبة عارمة في الذهاب معك، ولكن هذا محال مع كثرة هذا العمل هنا. فلو تركت العمل يوما واحدا، تتوقف وظائف العيادة كلها.» - «هذا مؤسف يا دكتور.» - «ولكن على هذا الحال، فأنت مريضتي، ولذا ثمة ضرورة أن تعلميني بموعد السفر ومكانه واسم الفندق وموعد العودة إلى طوكيو؛ لأن اختفاءك المفاجئ مثل المرة السابقة إزعاج للجميع.» - «لا تقلق هذه المرة. إن لم تأت معي يا دكتور، فمن الأفضل أن أذهب كما أنا الآن حاملة حقيبة السفر هذه وأتوجه إلى محطة طوكيو. فلقد قررت بالفعل المكان الذي أذهب إليه.»
أخرجت ريكو من جيب المعطف السماوي اللون حقيبة صغيرة، ومن داخلها أخرجت حافظة أصغر. راقبت باهتمام بالغ حركاتها الدقيقة تلك، وتخيلت أنها ستخرج من تلك الحافظة الصغيرة حافظة أصغر، ثم تخرج منها واحدة أصغر، ثم أصغر وأصغر. ربما يمكن القول إنني كنت أستخدم صدفة رمزية فرويد.
ونتيجة لذلك ظهر في النهاية تذكرتا قطار؛ إحداهما تذكرة الركوب والأخرى تذكرة حجز المقعد في القطار السريع. كان موعد القطار في الثانية عشرة واثنتين وخمسين دقيقة؛ أي أنه سينطلق بعد خمسين دقيقة تقريبا.
شرحت الفتاة الأمر قائلة: «حجزتها لي شركة سياحية في مدينة قوفو.»
بلا وعي مني شعرت بغضب. مع مشاعر انفعال وغضب تقول «يا لها من مخادعة!» داخل قلبي بصفتي رجلا ، أحسست أنه من أجل تخطي تلك العقبة الحالية التي يرثى لها، لا سبيل آخر إلا ارتداء القناع الوظيفي بصفتي طبيبا.
إنه قطار سريع يصل مباشرة إلى مدينة «س» في أقصى جنوب إيزو، ويفترض أنه لا ينطلق إلا مرة واحدة أو مرتين فقط في اليوم، ومن الصعب الحصول على تلك التذكرة. ولهذا السبب بالذات من المؤكد أن ريكو حصلت مبكرا على التذكرة من خلال شركة السياحة المحلية في بلدتها. فقد قررت من الأصل طريق الرحلة منذ مغادرتها بلدتها؛ أي أن تذهب إلى بلدة «س» من أجل النقاهة، فوصلت اليوم صباحا إلى محطة شينجوكو بطوكيو، ومن أجل قتل الوقت الذي توفر لديها، قررت زيارتي. حتى وإن كانت زيارتها لي سببا هاما من أسباب رحلتها تلك، إلا أنها عندما نظرت إلى وجهي قالت: «ألا ترغب يا دكتور في الذهاب في رحلة معي؟»
لا أعتقد أن دعوتها لي - وعلى وجهها ما يعني أن فكرة السفر خطرت على بالها الآن فجأة - مجرد نزوة فقط، بل أعتقد أن دافعه الخفي هو محاولة السخرية مني ومشاهدة رد فعلي إزاء ذلك. حتى وإن وافقت على مقترحها، فما من احتمال لأن أستطيع شراء تذكرة في نفس القطار، ومكان الرحلة قد تقرر بالفعل حتى وإن كنت أرغب أنا في الذهاب إلى مكان مختلف. وإنها، على الأغلب، حجزت الفندق كذلك. وبينما أنا أفكر هكذا، أضافت ريكو بلا مبالاة: «الفندق هو فندق «س» السياحي، والإقامة به أربعة أو خمسة أيام. يكفي هذا، أليس كذلك؟»
هكذا أخبرتني؛ لأنني طلبت منها معلومات عن موعد السفر ومكان الرحلة واسم الفندق، فلا لوم عليها كمريضة.
جعلتني تلك الحيلة البسيطة التي تحيكها بمهارة دائما، أحمل مجددا «مشاعر» خاصة تجاه تلك المريضة المزعجة.
ثم قلت لها تحية الوداع المعتادة: «حقا؟ إذن اذهبي واحترسي لنفسك. إن شعرت بأي قلق عصبي أو نفسي - وأدعو ألا يحدث ذلك - اتصلي بي في أي وقت بلا تردد. وعلى أي حال أعتقد أن أفضل شيء بالنسبة لك حاليا هو إراحة جسمك وعقلك بروية وتأن وسط مناظر طبيعية خلابة وهواء نقي.»
أحنت ريكو رأسها بانصياع وقالت: «شكرا جزيلا.»
20
بعد أن خرجت ريكو من العيادة، شعرت بدافع يريد اللحاق بها في الحال، ولكنني عندما فكرت في أكيمي لم أستطع فعل ذلك. وشعرت وقتها بألم أن أكيمي قيد حقيقي علي. لقد كنت أظن أنني شبه مستغل لأكيمي؛ لأنها امرأة تناسب حالتي، ولكن في الواقع كنت أنا - تحت خداع وهم الحرية - من قيدت يداه وقدماه بواسطة أكيمي.
وكما توقعت؛ في نفس اللحظة التي رحلت فيها ريكو، ظهرت أكيمي وقالت عنها أقذع السباب: «ماذا حدث لتلك المريضة؟ تحمل حقيبة سفر وتتبختر بها.» - «تقول إنها جاءت لإلقاء التحية؛ لأنها ذاهبة بمفردها إلى منتجع للنقاهة.» - «بمفردها؟ لا تمزح معي! من المؤكد أن رجلا ينتظرها في محطة القطار. بل ومن المؤكد أنه جندي أمريكي أسود أو ما شابه، ولذلك لم تكن ترغب أن يراه طبيبها.»
لقد أطلقت تلك الكلمات شرارة لشيء ما داخل قلبي. لقد كشفت كلمات أكيمي أن هذه الشكوك كانت كامنة داخلي عندما حاولت ملاحقة ريكو لدى خروجها من الباب أمام عيني. كانت أكيمي كأنها صوت عقلي الباطن، انتبهت إلى ما في قلبي من أسرار أسرع مني أنا.
في تلك اللحظة دقت عبر النافذة دقات الساعة تعلن الثانية عشرة.
فقالت: «إنها راحة الظهيرة. ألا نذهب لنتناول وجبة الغداء في مكان ما؟»
من المعتاد أن نذهب أنا وأكيمي عدة مرات في الأسبوع للطابق أسفل الأرض في هذا المبنى، ونتناول معا وجبة بسيطة في مطعم للأكل الصيني أو مطعم للأطباق المفضلة أو مطعم سوشي، ولكن في الوقت الذي أريد الانهماك في البحث، أطلب وجبة خفيفة من خدمة توصيل الوجبات، وأنهي غدائي هنا في العيادة، أو تذهب أكيمي للخارج مع المساعد كوداما، أو أخرج أنا لتناول الغداء بمفردي، وتختلف الحالة حسب الظروف. ولم أفلت تلك الفرصة الجيدة. فقلت وأنا أجتهد في صناعة ملامح الجدية والتجهم على وجهي: «كلا، لا داعي؛ لأنني سأذهب اليوم لتناول الغداء بمفردي.»
كان سلوكي هذا المتشبث بالعزلة هو السلوك الطبيعي بعد قول أكيمي التهكمي. ... بعد الخروج من المبنى - وخوفا من عين تراقب مسيري من نافذة الطابق الرابع - درت خلف المبنى وبحثت عن تاكسي. ولم أعد أستطيع التفرقة بين دناءة سلوكي كفرد وغريزة البحث العلمي كطبيب بعد أن اختلطا معا. وفي الأصل لا يمكن التستر على هذا السلوك بحجة تدعي أنه بحث علمي يخص المريضة.
من السهل القول إن مشاعري اشتعلت غضبا من الغيرة والسخط. ولكن على العكس كان طعم الهزيمة هنا أكثر مرارة، ومن الأصدق القول إنني تحركت بدافع إيذاء نفسي أكثر وأكثر بجعلها ترى تعاستي وبؤسي رأي العين.
عندما نزلت من التاكسي عند بوابة «يائسو» لمحطة طوكيو المركزية، كان الوقت ما زال الثانية عشرة والنصف. إن كانت ريكو ستسافر بمفردها، فإعداد هدية وداع بسيطة ستكون حجة مناسبة، عثرت على مكتبة لبيع الكتب ضمن محلات المحطة، واشتريت نسخة جيب من كتاب «المرأة والتحليل النفسي» أصدره مؤخرا أحد أصدقائي من المحللين النفسيين وهو كتاب موجه للعامة بشرح في غاية البساطة. وهذا الكتاب من بين كتب شرح التحليل النفسي التي صدرت مؤخرا؛ ويستحق المدح والثناء (مع اعتراضي فقط على رسوم المانغا الداخلية التي تستخدم في الشرح) فهو يشرح شرحا سهلا جدا، ويعرف بطريقة ماهرة جدا أحدث النظريات العملية.
كنت قد نقشت داخل ذاكرتي بوضوح رقم عربة القطار الرابعة ورقم المقعد
A9 . من هذا الرجل الذي تواعدت معه في المحطة واتفقا على الذهاب معا إلى مدينة «س»؟ إن كان الشاب ريوئتشي فما من ضرورة لإخفاء الأمر عني؛ ولذا من المؤكد أنه رجل جديد. أي رجل هو ذلك الرجل الجديد؟ هل هو الحبيب الجديد الذي حصلت عليه في مدينة إقليمية صغيرة قبل أن تمر أيام معدودة على موت خطيبها؟ ما وظيفته، وكم عمره؟ ... وإن عكسنا التفكير، فربما كانت عملية إرباكها لي هي أن تخفي عني عمدا أن رفيقها في السفر هو الشاب ريوئتشي؛ لكي تظهر فقط أن الوضع أكثر تعقيدا، ولن أجد عندما أذهب إلا أن من يجلس بجوارها بهدوء هو الشاب ريوئتشي؛ أليس هذا هو الأمر؟
اشتريت تذكرة دخول للمحطة وأنا أفكر في هذا وذاك، وبدأت السير وسط الزحام متوجها إلى بوابات الدخول. لو وجدت رجلا غريبا يجلس بجوارها بلا مبالاة، ما الذي يجب علي قوله؟ ما السلوك الذي يجب علي فعله؟ إنني لدي ثقة كبيرة في عقلانيتي، ولكنني شعرت بالاستياء من نفسي عندما أفكر أنه لا بديل عن الابتسام؛ ابتسامة ساخرة فقط، وتوديعها في النهاية وأنا أغفر لها.
عندما تخطيت بوابات دخول المحطة صعدت إلى الرصيف الذي ينطلق منه القطار السريع إلى مدينة «س». كان القطار وصل للرصيف بالفعل، وبسبب أنه باق على التحرك عشر دقائق، فقد كانت أغلب المقاعد مشغولة. وعندما ركبت العربة الرابعة وبحثت عن مقعد رقم
A9 ، فوجئت بصوت مرح يقول: «دكتور! ماذا حدث؟»
كانت ريكو تجلس على ذلك المقعد بالفعل، وتجلس على المقعد المجاور لها امرأة متوسطة العمر، تضع على عينيها نظارة لا تبدي اهتماما؛ أي أن ريكو كانت تسافر بمفردها تماما! وقتها من المؤكد أنها هي أيضا قد رأت فرحة متألقة وغير معتادة في ابتسامتي عندما نظرت لها بعد أن نادت علي. - «لقد أتيت حتى مكان قريب لتناول وجبة الغداء، وفجأة خطر على بالي، فجئت لوداعك. تفضلي هذه.» علي أن أعترف بالخجل من أن يدي ارتعشت قليلا وهي تعطيها الكتاب. «أرجو أن تقرئيه في القطار من أجل الاستذكار.» «ماذا؟ واجب منزلي؟»
هزت ريكو كتفيها بفتنة ودلال، وكانت تلك الحركة تحمل براءة طالبات المدارس لدرجة أنني اعتقدت أن صورة ريكو؛ والتي أتخيلها، عادة، معقدة وصعبة الفهم، ربما هي من بنات أفكاري أنا.
وأنا أقضي الدقائق المتبقية حتى موعد تحرك القطار في دردشة لا تلفت الأنظار، كان قلبي ما زال عميق الشك، ويتساءل ألا يكون ثمة رجل يرافق ريكو ولكنه يجلس في مقعد مختلف؟ فأدرت بصري في المكان دون أن ألفت الانتباه. وعند التفكير في الأمر كان ذلك شكا غير منطقي. فلا أعتقد أن ريكو وضعت في حسابها أنني سآتي لوداعها، وليس هناك أدنى ضرورة لأن تضع اعتبارا لعيون الناس في طوكيو . أضف إلى ذلك أن كل المقاعد كانت عبارة عن أزواج من الجنسين وعائلات فقط، ولم يكن ثمة رجل تنطبق عليه تلك المواصفات.
أعلنت الإذاعة الداخلية للقطار: «بعد دق الجرس سيتحرك القطار على الفور نرجو من السادة المودعين سرعة النزول من القطار.»
ثم دق ذلك الجرس. - «أشكرك شكرا جزيلا. للطفك معي إلى هذه الدرجة.»
قالتها ريكو تحية بذلك الأسلوب المهذب.
قلت لها: «احترسي لنفسك. وإن استطعت كتابة رسائل فأرجو أن تكتبي وترسليها لي.»
رفعت المرأة ذات النظارة عينيها لأعلى تحملق في بدهشة.
نزلت إلى الرصيف. فبدأ القطار في التحرك. وابتعد وجه ريكو الأبيض المبتسم عن مجال رؤيتي، وجه بلا مساحيق ويعطي انطباعا بالذبول، والذي أصبح كأنه ظل يشبه منديلا بحواف دانتيلا وضع في ذلك الوقت بالضبط على زجاج النافذة.
21
وأخيرا استعدت أنا هدوئي (على الأرجح أنني اطمأننت بعد أن تأكدت من أن ريكو تسافر بمفردها)، فلو واصلت الشك فلن أنتهي، ولذا عدت سريعا إلى العيادة بعد الواحدة بقليل. وبعد أن اعتذرت إلى المريض الذي لديه حجز الساعة الواحدة؛ لأنني جعلته ينتظر، شرعت في جلسة التحليل النفسي دون أية عقبات.
كان ذلك المريض مصابا بمرض رهاب الخجل المنتشر كثيرا، ولكنه كان قد اقترب من التعافي، فكانت الجلسة مريحة بالنسبة لي. مرت عدة أيام وأنا في انشغال عن أمر ريكو رغم قلقي عليها، فمر الأمر دون أن أظهر بمظهر سيئ كطبيب نفسي يتصل خصيصا بالفندق. وبدأ صبري ينفد أخيرا بعد مرور أسبوع. وعندها وصل إلي بريد مستعجل من ريكو يحتوي على خطاب ضخم. وكانت تحكي فيه تطورا جديدا لم يخطر على بالي. ... ... ... «دكتور شيومي
إنني أحيانا أشعر بحالة من الرعب الشديد وأنا أتساءل: إلى أي مدى سيغفر لي الدكتور أنانيتي؟ أو متى سيأتي الوقت الذي يتخلى فيه عني؟ ولكن على الأقل ليس أمامي طريقة لكي تدرك إخلاصي إلا من خلال كتابة تقرير تفصيلي أوضح فيه تقلباتي الشعورية، وإبلاغك بالأحداث التي تجري لي دون مسئولية مني.
في اليوم الأول لإقامتي بفندق «س » السياحي، استمتعت بعد غياب طويل بالوحدة التي لا يزعجني فيها أحد، وقرأت الكتاب الذي أهديتني إياه، وبدأت أفكر بغرور أنني ربما أستطيع أن أكتب لك رسالة يغلب عليها التحليل النفسي الذاتي وتختلف قليلا عما سبق من رسائل.
يقع هذا الفندق فوق جرف صخري عال يطل على البحر في الطرف الجنوبي لشبه جزيرة «إيزو». كان المنظر بدرجة جمال نادرة جدا؛ عيبه الوحيد هو شدة رياح الربيع الغربية، ولكنني كنت لا أمل من النظر من نافذة الغرفة إلى الخليج ولسانه العميق والموج الأبيض الذي يضرب الصخور الواقعة في مكان جيد جدا داخل الخليج، والمراكب التي تبحر في عرض البحر. في اللحظة التي أتيت فيها إلى هنا، زادت شهيتي زيادة مدهشة لدرجة أن الأموال النقدية التي معي صرخت من الشكوى، واستطعت الدخول إلى أماكن الألعاب الصاخبة التي تكتظ بالعائلات الذين يلهون بوضع العملات المعدنية واحدة بعد الأخرى في صندوق الجوق الموسيقي، وبآلات اللعب الأمريكية الصنع الأخرى؛ بدون الشعور بأنني غريبة. ولكنني أيضا شعرت بالقلق قليلا؛ لأنني مهما نظرت حولي كنت أنا المرأة الوحيدة التي جاءت بمفردها. ولكن في المساء شاهدت في بهو الفندق شابا يبدو كئيبا ووحيدا، يرتدي سترة سوداء (وإن قلت شابا فهو ما زال في حدود العشرين من عمره)، وعلى ما يبدو أن ذلك الشاب أيضا أتى وحيدا، ولكنني لم أره بعد ذلك.
في اليوم التالي، تناولت وجبة الإفطار، ثم خرجت للتنزه في حديقة الفندق. كانت الحديقة تمتد في اتجاه الجنوب والغرب، وعند النزول من درجات السلالم الطويلة في اتجاه الجنوب، وفي منتصف منحدر مائل ثمة أحواض حجرية لزراعة الفراولة، ويمكن رؤية ثمار الفراولة الناضجة جدا هنا وهناك تحت الغطاء البلاستيكي. انتعش جسدي لمجرد النظر إليها فقط، لدرجة أنني أحسست بطعم الفراولة المنعشة الحامض يأتي في فمي.
هل ينتقدني أحد يا دكتور لأنني أصبحت كالأرملة، فأشعر بالاعتذار تجاه خطيبي الذي مات وبقيت أنا بكامل صحتي؟ كنت غارقة في حالة من الحزن لموت خطيبي، لدرجة أنني عندما أنظر إلى السماء الزرقاء المتألقة ، أرى فيها صورة لعلامة حداد عملاقة، ولكنني في نفس الوقت كنت أفكر؛ أليست تلك الحالة الغريبة من انتعاش المشاعر، هي السعادة الحقة؟ فبعد أن سمعت الموسيقى التي كنت أتلهف إلى سماعها، تلك المتعة الجنسية التي كان ريوئتشي يطاردها بعصبية، على العكس شعرت أن السعادة ذاتها من البداية شيء فارغ بلا معني، لو زارتني سعادة الإيمان النقية هذه التي لا تحتاج شيئا. ولكن على أي حال، أحمل الآن مشاعر شكر وامتنان تجاه ذلك الخطيب الذي كنت أكرهه كراهية شديدة. وكانت تلك مشاعر لم أشعر بمثلها من قبل تجاه أي رجل. آه، أعتذر لك، بالطبع باستثنائك أنت يا دكتور شيومي!
مع أن الجو ما زال به رياح غربية تجعل البشرة تقشعر من البرودة، إلا أنه ثمة مسبح يمتلئ عن آخره بماء نظيف أسفل الدرجات الحجرية. كنت مخطئة في حساباتي أنني إذا نزلت إلى المسبح سأستطيع الانفراد بنفسي وأكون وحيدة؛ خاصة أننا لسنا في فصل الصيف، فعندما نزلت وجدت حول المسبح صخبا وضوضاء. عروسان حديثا الزواج يتبادلان التقاط الصور، وعائلات تصور أطفالها، وهؤلاء الأطفال لا يهدأ لهم بال، فيجرون حول المسبح بنشاط. وبينهم زوجان وزوجتان شباب، معهم أطفال، وبدا لي أن الرجلين يتحدثان معا بوجه جاد في شيء ما، ولكنهما كانا يلعبان النرد فوق الأرض الخرسانية. وعندها قال أحدهما: «اللعنة! لقد هزمت.»
ثم خلع ملابسه بسلاسة، وكان يلبس تحتها زي السباحة، وقفز بكل طاقته في حمام السباحة البارد جدا، مما جعلني أصعق من الدهشة. وقفز من كان بجانبه ليتجنبوا رذاذ الماء المتطاير وهم يضحكون. أما أنا فكنت أشعر بالغيرة من هؤلاء البسطاء الذين لا علاقة لهم بالتحليل النفسي إلى الأبد. ثم من جهة أخرى، بدأت أشعر داخلي بمشاعر احتقار لا يمكن وصفها تجاه الزوجين والزوجتين الذين جاءوا إلى هذا المكان للهو مع أطفالهم في منتهى السعادة.
تجنبت هؤلاء الناس وخرجت من باب خيزران في طرف حمام السباحة يؤدي إلى طريق يهبط إلى البحر. ومع وصفي له بطريق إلا أنه كان مجرد امتداد يظهر ثم يختفي بين الحشائش والأشجار لسكة جانبية متعرجة شديدة الخطورة، ومائلة ميلا شديدا، وربما تنزلق فوقها الأقدام لو كنا في فصل المطر. ولحسن حظي لم يأت أحد ورائي، ففكرت في الذهاب حتى البحر للاستمتاع بالوحدة، ثم تأملت البحر بعد أن نزلت إلى منتصف المسافة.
كان ذلك خليجا يمتد بعمق جهة الغرب، وكانت الرياح الغربية تقلب الأمواج وتعيدها، لتنهار كل الجهود التي تبذلها الأمواج في محاولتها الاقتراب بعمق من الخليج. وأشعة شمس الظهيرة تتألق براقة على كامل سطح الماء.
وعندها شاهدت طائرا يشبه طائر غاق أسود فوق طرف صخرة كبيرة تبرز من الخليج. كان طائرا بالغ الضخامة، شديد السواد، أحسست بالنفور؛ لأنه لا يطير مطلقا. وأخيرا انتبهت إلى أن عيني خدعتا من أشعة الشمس التي تنعكس براقة من سطح البحر، وأنه بدون أي شك إنسان جاثم. وعندما فكرت في ذلك كان بالفعل إنسانا يلبس بنطالا أسود وسترة سوداء، وياقة القميص البيضاء عبارة عن خط واحد، فقط، أبيض يحيط بعنقه ... وتذكرت ذلك الفتى الوحيد الذي رأيته ليلة أمس في بهو الفندق، وعرفت أنه هو ذلك الشخص بلا شك. ثم أحسست نوعا ما أنني أرى في مظهره هذا انعكاسا لنفسي، فانعدمت رغبة الذهاب إلى ذلك المكان، وأسرعت بالرجوع من حيث أتيت، واخترقت الضوضاء المستمرة حول المسبح بلا تغير، وعدت إلى غرفتي في الفندق.
وطوال ذلك اليوم لم تفارق قلبي صورة ذلك الشاب الرابض على طرف الصخرة مهما فعلت. من المحال أن يكون الإنسان الذي يتأمل البحر في ذلك المكان هكذا سعيدا. ومع أن المكان كان بعيدا وتصعب رؤيته جيدا ولكن لا جدال في أنها صخرة سهلة الانزلاق وخطرة، ولا شك أنه يكمن في قلب الشخص الذي يرتكب هذا الفعل الخطير متعمدا، ما يجعله يفعل ذلك.
ما ذلك الشيء؟! لقد أسر قلبي تماما ذلك التساؤل، وطرد السلام النفسي الذي كان معي أمس. لم أعرف لماذا يلقي قلب إنسان - لا أعرفه - بظله هكذا على قلبي، ولكن مهما طردته، ومهما أبعدته، بقي منظر السترة السوداء الرابضة فوق الصخرة ، مثل طائر مشئوم.
ولسبب مجهول، لم أر ذلك الرجل طوال اليوم مع وجودنا في نفس الفندق. بدأت تدريجيا أصاب بالقلق عليه لدرجة أنني فكرت في سؤال مكتب استقبال الفندق عنه. ولكن سؤال الفندق عن نزيل آخر أمر غير مستحب. وربما كان الأمر عكس توقعاتي، ربما هو كاتب مسلسلات تلفزيونية يجلس أمام البحر ليقدح زناد خياله، قد يكون صغيرا في العمر جدا ليكون كذلك، ولكن لو كان صاحب موهبة عبقرية فلن يكون مستغربا.
كانت نيتي أن أطمئن نفسي بهذه الفكرة، ولكن عندما حان وقت نومي، اشتعل ذهني بالتفكير. وفي النهاية اعتمدت في تلك الليلة على المنومات. وأنا أتأرجح بين سعادتي؛ لأنني أحضرت معي الأدوية المنومة حتى هنا، وبين لعن الظروف التي جعلتني أحتاج إليها.
بعد موت خطيبي شون، بدأت أشك في أن حاسة شمي لتعاسة الآخرين باتت أكثر حدة من الشخص المعتاد. وأنني بمجرد أن تتولد لدي مشاعر السعادة صدفة، أريد أن أدمرها بنفسي على الفور. أو أبحث عما يدمرها. وفي الحلم ظهر ذلك المقص الخليع المألوف لدي مرة أخرى. قطع المقص سعادتي إربا، إربا، ثم قطع ردائي المقدس طولا، وحاول أن يعريني. وعندما حاولت أن أحمي نفسي من هجوم ذلك المقص باستماتة صرخت بأعلى صوتي، فاستيقظت من النوم.»
22
كانت رسالة ريكو طويلة جدا، ومليئة بالتفاصيل الدقيقة؛ ولذلك من الأفضل أن أوجز أنا النصف الأخير منها.
في اليوم التالي كانت ريكو على وشك الذهاب والنزول ناحية البحر، ولكن أعاقها مرة أخرى عن ذلك هيئة طائر الغاق الأسود فوق الصخور؛ أي هيئة الشاب الذي يرتدي السترة السوداء. ولكن هذه المرة استجمعت شجاعتها واقتربت بنفسها تجاه الشاب.
ويمكننا هنا أن نكتشف عندها مقياسا جديدا للسلوك. إنه غريزة الحماية. كانت تلك الغريزة مفيدة في حثها على التوجه نحو الهدف، وهي تعطيها الحجة أنها تسلك سلوكا أخلاقيا بمشاعر المسئولية. وكما تقول هي بنفسها، كانت قد أصبحت حساسة حساسية غير طبيعية تجاه الموت والمرض.
ولا داعي لذكر أن ذلك الشاب كان يخفي رغبته في الانتحار. وتبادلت هي وذلك الشاب الحديث التالي فوق الصخور. - «لقد كنت خائفة حقا وأنا أصعد حتى هذا المكان. يا لك من شجاع حتى تأتي إلى هنا لمشاهدة البحر.» - «دعيني وشأني.» - «لقد رأيتك أمس أيضا.» - «من الأفضل أن تتركيني في هدوء.» - «الأمر يدعو للفضول.» - «... ... ...» - «أنت تقيمين في الفندق أليس كذلك؟» - «بلى.» - «إلى متى؟» - «... لا أدري إلى متى!» - «أنا كذلك.» - «... ... ...» - «أعتذر لك عن التطفل، ولكن، ألا تفكر في الانتحار؟»
توجيه ذلك السؤال الوقح بتلك الصراحة ينم عن طريقة ريكو، ولكن الشاب الذي أجاب على ذلك، لم تعتره الدهشة مطلقا بل بقي على نفس ابتسامته الفاترة كما هي: - «بلى، هو كذلك. وماذا يعنيك؟» - «إنني أدرك ذلك بطريقة ما. ولكن لا تقلق لم آت لمنعك.» - «لن أطلب منك رعايتي.»
بعد ذلك الحوار المتقطع، نزلت ريكو من فوق الصخرة بمشاعر مبتهجة بلا سبب، ولكن الشاب الذي كان حتى ذلك الوقت يودعها في برود نزل فجأة من فوق الصخرة ولاحقها، ثم قال لها ما يلي: «لا تخبري أحدا في الفندق؛ لأن ذلك سيزعج الجميع. أضيفي إلى ذلك أن قولي إنني سأنتحر لمجرد إرضاء فضولك فقط؛ مجرد مزاح لا معنى له. إذن ألا تعديني بأنك لن تخبري أحدا؟»
عندها تمكنت ريكو من تفحص وجه الشاب بإمعان. كان وجها أبيض متناسق الملامح، وعيناه صافيتين، ولكن تنعدم فيهما روح الحياة. إن العذاب النفسي، على الأرجح، الذي جعله يحاول الانتحار، هو الذي سبب انعدام روح الحياة، ولكن في الأصل تنبعث من إحساس بشرته، ومن ملامح وجهه صفات النبات. بأي حال، من البداية، كان حدس ريكو يشعر أنه كائن حي غير خطير؛ ولذا استطاعت الاقتراب منه بجراءة إلى تلك الدرجة.
ومنذ ذلك الوقت بدأ استجواب ريكو بلا استحياء. وبعد العودة للفندق، طوال عصر ذلك اليوم إلى ليله، حاولت ريكو عبر التحجج بأمور أخرى، البحث تدريجيا عن الدافع إلى الانتحار. ولكنه كان يتلاعب بالكلمات يمينا ويسارا ولا يبوح بها بسهولة. كان ذلك الاستجواب قد أصبح في ذلك الوقت أهم عمل في حياة ريكو، وباتت الأسئلة والإجابات الغامضة لعبة بين الاثنين لا نهاية لها، وبدا أن الشاب بدأ يستمتع بذلك.
ثم أخيرا في الليلة الثالثة، دعا الشاب ريكو إلى غرفته، وبعد أن سكر بالخمر سكرا شديدا، بدأ يقول لها ما يلي: «إنني أعرف سبب اهتمامك بي إلى تلك الدرجة. فأنت مريضة بأحد أنواع الهيستيريا أو الانهيار العصبي، أليس كذلك؟ ربما أنا أيضا مريض بأحد أنواع الانهيار العصبي. بمعنى أنك تريدين شخصا تنسجمين معه في الحوار تماما، أليس كذلك؟ والأرجح أنك حاولت الانتحار وفشلت.» - «لا تمزح. إنني ليس فقط لم أحاول الانتحار، بل إنني لا أفكر فيه مطلقا.» - «على رسلك. إن لم ترغبي في القول فلا مانع من عدم القول. إنني أكره جدا الموت بعد البوح بعاري، ولكن لسبب مجهول أشعر أنني أستطيع أن أبوح لك أنت فقط بذلك. إنني وحش. لست بشرا عاديا.» - «حقا؟ ومع ذلك الوجه اللطيف؟!» - «لا تخلطي الأمور!»
بعد ذلك أخذ الشاب يشرح مستخدما تشبيهات متعددة من البلاغة الأدبية التي يبرع فيها مثل أنه «دلاة جليدية»، أو أنه «قطعة مكسورة من حفرية ماموث»، أو أنه «وحش آلي شفاف يملك فقط وعيه الذاتي» أو أنه «الرجل الأخير في البشرية»، وبالتأكيد لم تفهم ريكو ما يعنيه ذلك.
فضحكت أخيرا وقالت: «إن كنت أنت الرجل الأخير في البشرية، فأنا أيضا المرأة الأخيرة في البشرية.»
ومن مجرد النظر فقط إلى استطاعته الإقامة في هذا الفندق كل تلك الليالي يجعلنا نعتقد أن ذلك الشاب من الأغنياء، والساعة التي يلبسها أيضا ساعة فاخرة وغالية الثمن، والغرفة التي يقيم فيها كانت أكبر حجما من غرفة ريكو.
فكرت ريكو أن تضغط لمرة ثانية من جانبها فتسأله آخر سؤال وقح، ولكنها صبرت وانتظرت أن يعترف الشاب من نفسه. وفي وقت متأخر من تلك الليلة، وفي نهاية هذيان كثير من الكلام، اعترف الشاب أنه عنين وأنه جاء إلى هذا المكان لكي ينتحر، ثم بكى بحرقة ودفن وجهه في السرير. ... ... ...
عندما واصلت القراءة حتى هنا، شعرت في الواقع بمشاعر استياء لا توصف. الرسالة بأكملها بارعة في تكوينها من البداية الرومانسية إلى النهاية الكوميدية، ولكن لقاء امرأة مصابة بالبرود الجنسي مع رجل عنين كان أمرا يثير الغضب الشديد من تعاملها معي على أنني غبي.
لا شك أن تلك الرسالة عبارة عن أوهام رسمها خيال امرأة في رحلة بمفردها. وحتى إن افترضنا أن محاولتها العابثة ذاتها لخداعي بالكذب علي، ليست شريرة بدرجة كبيرة، ولكنني في الواقع شعرت بخباثة منفرة في احتقار المرأة الباردة جنسيا والرجل العنين وتصويرهما في مشهد كاريكاتوري هزلي بلا داع. إنها تجعل من البشر دمى تلعب بها. ثم إذا حدث وكانت تلك الوقائع التي من المستحيل حدوثها قد حدثت بالفعل، فإن إلحاحها بالسؤال من أجل أن تفضح عنة ذلك الشاب عبر تذرعها ببرودها الجنسي، يظهر سلوكا لا إنسانيا تجاه البشر. أين القديسة التي كانت داخلها حتى وقت قريب؟
إن كان ثمة حقيقة في تلك الحكاية، فهي في تلك اللحظة الأولى التي نزلت فيها إلى البحر من الطريق الجبلي الخطر الذي بجانب حمام السباحة ورأت فيها ظل الرجل الذي يشبه هيئة طائر الغاق فوق قمة الصخور على شاطئ البحر. وربما أنها اعتقدت في البداية أنها ترى شبحها هي في ملابس الحداد. ثم في اللحظة التالية وبقوة حدس لا تصل إليها حيل الآخرين، أدركت أن ظل البشري الذي يشبه طائر الغاق الأسود هذا، رجل عنين.
والباقي كله مجرد تمثيلية رديئة وغبية، واعترافات الشاب السكران هو مشهد مستحيل أن يحدث. إن الشاب في مثل تلك الحالة كلما سكر زاد ذهنه اتقادا ووعيا، ولا ريب أنه يذهب إلى مكان بعيد عن الاعتراف بالحقيقة بعدا لا نهائيا.
ولكن أنا الذي أومن بحدسها فقط، أفكر أنه داخل هذا الخطاب الطويل، لم يحدث حقا إلا المنظر في الجزء الذي أشرت إليه فقط. فهو لقاء حتمي أكثر منه صدفة. الشيء الوحيد فقط المؤكد وسط منظر البحر وصوت ضحكات الناس الصاخبة، والأمواج الخضراء المتفاقمة، هو أن التعاسة تتعرف إلى التعاسة والنقص يميز النقص. بل إن البشر يتعرفون دائما بعضهم على بعض بتلك الطريقة.
23
تولد داخلي - دون أن أدري - حذر عميق الجذور تجاه كذب ريكو. وكسلت عن تقديم الرد الذي يجب تقديمه طبيعيا بصفتي طبيبها المعالج، وأهملت حالتها؛ وذلك لخوفي من أن تعم الفوضى في حياتي النفسية أنا شخصيا بسببها.
وسبب آخر؛ أنه لم يأت اتصال من ريوئتشي إغامي، واستمرت أيام الربيع الجميلة في تلك اللحظة واكتملت بذلك الشروط المناسبة جدا من أجل أن أبعد حالة ريكو عن تفكيري. ومع أنني لم أفكر في ذلك مطلقا من قبل إلا أنني فكرت أن أصحب أكيمي وأذهب في رحلة إلى الينابيع الساخنة من أجل الراحة والترفيه الجسدي والمعنوي.
وأثناء تفكيري هذا، جاءت إلى عيادتي رسالة غريبة من مجهول. «إن علم التحليل النفسي يدمر الثقافة التقليدية لليابان. إن الافتراضات السلبية مثل الإحباط من عدم إشباع الرغبات تدنس الحياة النفسية لليابانيين الأخيار البسطاء. ومع أن ثقافة اليابان المتحفظة تجنبت حتى الآن التدخل المفرط في قلوب الآخرين، إلا أن العقل الأكثر حقارة وسقوطا في الفكر الغربي ولد عقيدة وضيعة وقذرة تبحث عن سبب جنسي لكل سلوك بشري، وتدعي أنه من خلال ذلك يتحرر المرء من الضغط النفسي المترتب على ذلك. وأنت بصفة خاصة، صرت أسيرا وخادما تافها للفكر اليهودي، مثل ذبابة نتنة تضع بيضها القذر في الإنسانية الطاهرة الراقية. اذهب عليك اللعنة!»
عندما قرأت أكيمي تلك الرسالة ارتعشت من الرعب، وقررت من نفسها أنها رسالة تهديد من اليمين المتطرف، وكانت على وشك الاتصال بالشرطة، ولكنني وبختها قائلا: «كفي عن ذلك. فأولا هذه الرسالة ليس بها أي جملة تهديد محددة. وهي رسالة منطقية وعقلانية وموجزة بالنسبة لمريض بالفصام، فربما تكون رسالة كتبها طبيب من نفس التخصص حقدا وحسدا على نجاح عيادتنا. وشيء آخر هو أنه لو ذهبنا بتلك الرسالة التجريدية إلى أنها رسالة تهديد فمن المتوقع أن ينتهي الأمر بأن تهزأ بنا الشرطة وتسخر منا فقط.»
كانت أكيمي كأنها تتعرف إلى رجولتي التي يعتمد عليها، والتي لا تراها في المعتاد. بينما مشاعري شخصيا على العكس؛ إنني كنت أفضل أن تكون تلك الرسالة رسالة تهديد من اليمين المتطرف.
فإن حدث ذلك، فأولا سيدغدغ ذلك غروري الذي يقول إن تلك هي أول مرة ينتقد فيها عملي من خلال أيديولوجية سياسية. وثانيا لأنها ستكون وثيقة مشوقة تتنبأ لنا بنمو الفاشية اليابانية على الطريقة الأمريكية.
يشير عالم الاجتماع روينتال - والذي لوحق من النازية وهاجر إلى أمريكا، في كتابه «المتنبئ المغرور» - إلى هجوم اليمين الأمريكي المتطرف على علم النفس التحليلي بما يلي: «إن كل رمز للتوعية الليبرالية هدف لهجماته (المحرض)، فهو يمسك بتلابيب علم النفس، وبصفة خاصة علم التحليل النفسي ويهاجمه بعنف وقسوة.»
والسبب في ذلك أنه يهز يقين «الأمريكيين البسطاء». وإن حدث في اليابان أن أصبح التحليل النفسي هدفا لهجوم القوى الرجعية كما حدث في أمريكا؛ فهذا يعني الاعتراف بالأهمية الاجتماعية لعلم التحليل النفسي.
ولكن أحلام اليقظة تلك التي حلمت بها لم تثمر شيئا، ومع مرور الأيام اتضح بما لا يدع مجالا للشك أن تلك الرسالة ليست تهديدا من اليمين المتطرف. بمعنى أنه بعد تلك الرسالة انهالت على العيادة الرسائل والبطاقات البريدية الغريبة بنفس الخط كل يوم بل ومرتين في اليوم أحيانا.
كان هناك أقوال مبالغة في الإثارة مثل: «يا مدمر الحياة الشخصية للأفراد. يا آكل أسرار الناس الشخصية. انتحر اعتذارا عن ذنبك ذلك.»
وأقوال أخرى بها نبرة إقناع مثل: «يجب أن تترك هذا العمل الشائن بأسرع وقت ممكن. ألا تنتبه إلى الجراح التي تسببها بيدك شخصيا إلى الكرامة الإنسانية؟»
وكذلك أقوال تنم عن ضعف أخرق مثل: «أنت تستهين بأنك تعيش على أسرار الناس الهامة. بسببك اضطررت إلى اختيار الموت بدون رأفة ولا رحمة.»
وثمة بطاقات بريدية ليس بها إلا ما يشبه رسوم الكاريكاتير فقط. وحش يشبه كلاب البولدوغ المرعبة؛ وضع في طوق عنقه لافتة باسم شيومي، يضع بيديه إنسانا ضعيفا في فمه ليلتهمه. تلك الرسوم التي تشبه طراز الرسام «غويا»، جعلتني أشعر أن الكاتب متعلم تعليما رفيع المستوى.
ومع مرور الأيام أصبحت أستمتع بتلك التحولات والتغيرات التي لا حصر لها، والجمل التي تطابق المنطق تطابقا مفرطا بالنسبة لمريض فصام، أصبحت أدرك أنها تخرج في النهاية من منبع غضب واحد، وتحمل هدفا مختفيا واحدا. بدأت أحمل تأكيدا واحدا تجاه كاتب تلك الرسائل حتى وإن كنت لا أملك موهبة كبيرة في البحث والتحري.
وأثناء ذلك أصبحت الرسائل تطلب مقابلتي، وبعد ذلك تغيرت تماما، وأصبح أسلوبها بريئا. ولا أعرف ما الشيء المختفي وراء ذلك، ولكن بدأ غضب الكاتب يخف تدريجيا بدون أية مساعدة مني، ليس هذا فقط؛ بل ظهرت حتى نبرة تصفني بالصديق بسبب الرغبة في التحدث بزهو وتفاخر. وأنا مع شكي من تلك النبرة المختلفة، بدأت أفكر أنه حان الوقت لكي يظهر ذلك الكاتب المجهول.
اعتذرت الرسائل عن وقاحتها السابقة، واستهلك الكاتب العديد من الجمل والكلمات في الدفاع عن نفسه دون أن يلمس، ولو قليلا، صلب الموضوع، فتحدث عن أنه ليس فقط شخصا غير خطير، بل ويقول إنه يحمل تجاهي تبجيلا سابقا، وهذا الذي جعله يسلك سلوكا عكسيا، وإنني سأفهم ذلك عندما أقابله. وتبع ذلك بتحديد مكان وموعد المقابلة من تلقاء نفسه، ولكنني بالطبع لم أذهب. وعندها أرسل شكوى من الانتظار فقط؛ قائلا: «ولأنني أعتقد أنك أخطأت يا دكتور في التعرف إلي؛ لذا أرسل لك صورة لي مع الرسالة.» وعندما رأيت تلك الصورة لم أشعر إلا بمشاعر الرضا عن النفس لصدق توقعي بمهارة. كانت بلا أي مجال للشك صورة شاب «بوجه أبيض، متناسق الملامح، وعيناه صافيتان، ولكن تنعدم فيهما روح الحياة.» يرتدي سترة سوداء. من ناحيتي كتبت له ردا هذه المرة أنني يسعدني أن أستقبله في عيادتي بعد أن أحدد أنا له موعدا إن كان ينوي أن يدفع تكلفة التشخيص وتكلفة العلاج. وعلى الأرجح فإن الشاب سيأتي حتى وإن اضطر لدفع تلك المبالغ. فأنا لم أنس سطرا في خطاب ريكو يقول إن الشاب يلبس ساعة غالية الثمن جدا.
24
زادت أمراض الشباب النفسية مع تلاحق الأيام في الأيام الأخيرة؛ حتى الشباب الذين يبدو أنهم في منتهى الصحة، أصبحوا يزورون عيادتي ببساطة وبدون تكلف. ومن وجهة نظري الشخصية، يبدو أنه حدثت زيادة في المرضى النفسيين - من ذوي البنيان الجسدي الرياضي الذين لا يمكن تخيل ذلك من مظهرهم الخارجي - أكثر من النوع الشاحب الضعيف الذي توحي به كلمة الوهن النفسي في الماضي. إن المثل المشهور الذي يقول «العقل السليم في الجسد السليم»، هو ترجمة خاطئة؛ فجملة الشاعر الروماني يوفيناليوس
5
الأصلية هي جملة تحتوي على أمنية؛ أي إن معناها: «يا ليت الجسم السليم يحمل عقلا سليما.» وهو ما يجب أن نقول عنه إنه يحمل مغزى عميقا حقا.
ومع أنه مرض نفسي أيضا، إلا أن المرأة المصابة بهيستيريا تعاني معاناة جسدية، ولكن الرجل المصاب بمرض الوسواس القهري (Compulsive Neurosis)
مثلا تكون أغلب الأعراض هي معاناة فكرية وتجريدية. ومن سخرية القدر أنه في الوقت الذي أصبح فيه الجميع في هذا المجتمع لا يقرءون الكتب، نجد الشباب بصفة خاصة - وهم الأبرز في كراهية القراءة - يعانون معاناة فكرية لأول مرة بفضل المرض النفسي. وحتى دون انتظار لمعرفة رأي فرويد، فمن المؤكد أن سبب مرضهم النفسي هو الجنس؛ لأن الغريزة الجنسية للرجل هي في أصلها غريزة فكرية، وعندما تبدأ الغريزة الجنسية الفكرية في التسامي، تظهر علانية فجاجة الفكر التجريدي، وتصير هي نواة المعاناة الفكرية. ومن الاكتشافات المشوقة بالنسبة لي، أن أغلب شباب هذا العصر في اليابان؛ رغم الظن أن الحرية الجنسية تحققت بالكامل، وأيضا مع حياتهم في اليابان الحالية - والتي تختلف عن الدول الغربية في عدم وجود ضغط ديني - ما زالوا يعانون أنواعا مختلفة من الكبت الجنسي.
نعود للشاب «ذي السترة السوداء»، فقد ظهر في عيادتي في الموعد الذي حددته باليوم والساعة. ومقارنة بالاتجاهات الحالية التي ذكرتها عاليه، فقد كان ينتمي بشكل كبير إلى نوع «الوهن النفسي» التقليدي. بالتأكيد كانت عيناه صافيتين، ووجهه وسيما أبيض رقيقا كأنه نحت من العاج، ويعطي إحساسا بأنه يشبه قليلا «أمير تشانغ آن»،
6
ولكن من الخسارة المحزنة أنه كان كأنه بلا روح حية. ولكن أعتقد أن ذلك أيضا حكم مسبق مني نشأ بسبب رسالة ريكو، لم يأت اليوم مرتديا السترة السوداء رمز العزلة، بل بدلة أنيقة فاتحة اللون، ويمكن بسهولة من خلال ملابسه تلك تخيل أنه ابن عائلة غنية.
وأخذت عنه انطباعا جيدا جدا لمجيئه في موعده. وعندما طلبت منه أكيمي أجرة الكشف الأول، دفعها ببساطة، ثم أطاعني ودخل غرفة التحليل النفسي.
بعد أن أدار بصره بقلق على حوائط غرفة التحليل النفسي التي ليس بها شيء سأل: «هل هذه الغرفة هي التي تأتيها الآنسة ريكو يوميكاوا دائما؟»
لم يكن سؤالا غير متوقع مطلقا بالنسبة لي. - «كلا، إنها مختلفة. إن لدينا ثلاث غرف متشابهة للتحليل النفسي. والغرفة التي استخدمتها في التحليل النفسي للآنسة يوميكاوا هي الغرفة المجاورة؛ لأنني فكرت أنه من الأفضل تغيير الغرفة.» - «ما معنى ذلك؟» - «ليس هناك معنى بدرجة هامة.»
قال الشاب: «هكذا من البداية! لهذا أنا أمقت التحليل النفسي!»
ولكن عندما رأى أن تلك الكلمة الوقحة - التي من الواضح تماما أنه قالها متعمدا لإغضابي - لم تأت بنتيجة مؤثرة، التزم الصمت التام في قلق. أما أنا فقد انبهرت أن اسم ذلك الشاب «هاناي»
7
ينطبق تماما عليه.
وعلى ما أعتقد أن هاناي كان في حالة رعب مما يمكن أن أفعله به في هذه الغرفة المعتمة المحكمة الغلق. من السهل هنا البحث عن بوادر عقدة الاضطهاد، ولكن لا يجب تضخيم قلق المريض من الكشف أول مرة لتلك الدرجة.
ولأنني لم أقل شيئا بعد أن انتظر لفترة، توجه هاناي نحوي فجأة ببطء ثم قال: «هل قرأت يا دكتور رواية «أرمانس» لستندال؟»
أعترف، مع خجلي، أنني تنقصني الثقافة الأدبية. ما أعرفه من أعمال ستندال هو روايتي «الأحمر والأسود»، و«دير بارم» فقط، ولم أسمع حتى باسم رواية «أرمانس» تلك. - «كلا، لم أقرأها.» - «وهل تعرف محتواها؟» - «كلا، مطلقا.» - «ألا تتظاهر بعدم المعرفة؟» - «لا أتظاهر. فمن المميزات التي يمكنني الفخر بها أنني لا أتظاهر بالعلم مطلقا.» - «أنت إذن لا تعرف حقا.» - «أجل.»
ضحك هاناي عاوجا شفتيه الخفيفتين وهو يقول: «يا لك من كسول في الدراسة! مع أنني كنت أريد أن أسألك يا دكتور عن رأيك في انتحار أوكتاف بطل الرواية في نهايتها؛ أهو سلوك منطقي أم لا؟»
قرأت رواية «أرمانس» فيما بعد، وعرفت أنها تحكي أن أوكتاف بطل الرواية هذا عنين وأنه ينتحر في نهايتها انتحارا بطوليا، ولو كنت أعرف ذلك مسبقا لاستطعت أن أدخل إلى قلب هاناي بسهولة من خلال تلميحه هذا، وشعرت بالألم بمعرفة إلى أي درجة أن الأدب في غاية الأهمية بالنسبة لطبيب التحليل النفسي.
إن افترضنا أن هاناي مريض، فيمكننا القول إنه مثال نموذجي للمريض الذي يقاوم طبيبه؛ مرتديا من البداية درعا يحمي به نفسه؛ أي أكثر المرضى بعدا عن التعاون مع طريقة العلاج بالتحليل النفسي. وهو يشبه في تلك النقطة ريكو وقت البداية، ولكنه كان أكثر هجومية من ريكو. كنت صامتا فبدأ هو الهجوم علي. كانت نبرة ذلك الجدال في منتهى الحدة كأن عجزه الجسدي جعله يركز كل قواه في قدراته العقلية. «إذن، سأسألك سؤالا يا دكتور، ما معنى كلمة «يعالج»؟ ماذا يعني «شفاء» المريض بإزالة الضغط العصبي منه بقوة التحليل النفسي؟ هل يمكن التفكير في أن ذلك يعني استعادة تكيفه الاجتماعي؟» - «بالتأكيد هو كذلك.» - «إنني أفهم جيدا سبب استخدام التحليل النفسي بكثرة في أمريكا. بمعنى أن سبب انتشاره هو أنه يتملق رغبات العامة من أجل إدخالهم قفص التماثل، باستعادة الخراف الضالة واحدا بعد الآخر، وتقييد إنسانيتهم الغنية والمتنوعة. الإنسان الذي عولج بفضل التحليل النفسي، يذهب، على الأرجح، كل أحد إلى الكنيسة، ويذهب مطيعا إلى حفلات كوكتيل مملة يقيمها الجيران إلى ثالث جار على الجانبين، وعلى الأرجح يذهب في سعادة إلى التبضع في السوبر ماركت تلبية لطلبات زوجته. ثم يقول له جاره الذي مر عليه في الطريق ويربت على كتفه: [رائع أنك شفيت. لقد بت الآن عضوا حقيقيا في مجتمعنا.]
أحيانا ما أفكر في أن أطباء التحليل النفسي في أمريكا يتلقون أموالا من الحكومة الأمريكية. فأي إنسان، مهما كان، لديه قدر من الكبرياء يجعله يعترض إن قيل له [سوف أجعلك أعمى] ويقاوم ذلك، ولكنه مع كراهيته للدعاية التلفزيونية فإنه لا يملك درجة كبرياء تجعله لا يقلق إذا قيل له [سوف أجعلك بصيرا]، لهذا السبب يرحب بالتحليل النفسي.»
قلت له وأنا مذهول: «نقد ساخر جدا.» - «أجل؛ لذا فأنا ليس لدي رغبة، ولو ضئيلة، يا دكتور في أن تشفيني؛ مع أنني سأدفع أجرة العلاج بسرور.» - «ولماذا تدفع؟» - «من أجل أن تسمع حديثي أنا.» - «أي حديث؟» - «حديث ريكو يوميكاوا التي تعرفها.»
تعمدت ملاحقته بالسؤال متظاهرا بالجهل: - «أنا أسألك عن حديثك أنت. ما النقاط الهامة لمشكلتك؟»
ظل هاناي جالسا مفرود الظهر على الكرسي إياه الذي يمكن أن يصبح أريكة للنوم، يتأمل الحائط لبعض الوقت، ثم تلفظ بصوت جعلني أشعر بأن شفتيه في غاية الجفاف، فقال ما يلي تدريجيا بنبرة قلقة: «كما توقعت، أنت حقا إنسان مشاكس.» - «كلا، لا أقصد المشاكسة.» - «أنت تريد أن تجعلني أقول ذلك بلساني، أليس كذلك؟ لا مانع إذن؛ لأنني أعلم أن ريكو أبلغتك يا دكتور بكل ما يخص عاري ... إنني ... عنين.»
قال هاناي ذلك بصوت كأن حنجرته قد سدت بشيء ما.
25
كانت الحكاية التي حكاها لي هاناي في غرفة التحليل النفسي باختصار، برهانا على صدق ما حكته لي ريكو في رسالتها.
سأحذف التفاصيل التي تتسم بالثرثرة، وأقدم تعريفا بالنقاط الهامة فقط. ... منذ البداية انتبه هاناي إلى أنه لا يمكن وصف موقف ريكو التي تلح في التقرب منه على أنه فضول يدل على الحب والإعجاب بل شيء يكمن داخله ظلام أسود. ولكن وقت انهياره في تلك الليلة التي سكر فيها سكرا بينا، واعترافه بذلك الاعتراف المؤلم وهو يبكي، كان منهمكا بشدة في مشكلته الخاصة به، فلم يكتشف الأصل الذي ينبع منه إلحاح ريكو.
أحس هاناي بيد ريكو تداعب برفق شعره بعد أن انهار باكيا فوق السرير.
ثم أحس بأن اللحظة التي يقرر فيها بنفسه الموت تقترب أمام عينيه. وعندما فكرت جيدا وجدت أن ذلك الحديث متناقض. فيفترض أنه بدأ يفكر في الانتحار لدفن سره المخزي دون أن يعرفه أحد، إلا أنه بعد بوحه بسره أخيرا إلى امرأة لا علاقة لها به ولا معرفة، شعر على العكس أنه يستطيع أن يموت مطمئنا. وكان تلفظ هاناي بكلمة «عنين» تلك بلسانه بمثابة ثورة بالنسبة له. فهي أقل خزيا من المعرفة الفسيولوجية بجسده وحتى وإن كانت نفس المعرفة. والسبب أن الكلمة لا تبرهن على شيء. وإن مات الآن سيتبقى لموته الغموض السحري ذاته، بل وعلى الأقل عرفت امرأة واحدة فقط معاناته الفكرية.
وهو يحس بيد المرأة تداعب شعر رأسه، فكر في أنه يجب عليه بأي حال أن يموت قبل الفجر الذي يقترب منه حثيثا بعد ساعات قليلة. فمعه السم اللازم لذلك، وأضيفت متعة تناوله بطريقة يخدع بها ريكو لكيلا تراه.
توقفت حركة يد ريكو فجأة. وسمعها هاناي تهمس بشيء لم يكن يتخيله أو يتوقعه. «اطمئن. فأنا أيضا مثلك.» - «ماذا؟»
فكر هاناي - الذي لم يستطع فهم معنى كلامها على الفور - في أن ريكو تقول مزاحا فظيعا لا يحتمل.
بعد ذلك بنبرة حديث هادئة وبطيئة حكت معاناتها، وأنها تتردد على عيادتي، دون شفاء. ولذلك عندما شاهدت منظره فوق صخرة شاطئ البحر مثل طائر الغاق، عرفت على الفور أن ذلك المنظر لشخص يعاني نفس التعاسة التي تعانيها هي.
فطبقا لما قالته ريكو، فإنه يمكن رؤية تلك التعاسة الجسدية بوضوح تام، كلؤلؤة في قاع كوب زجاجي.
قالت له كأنها تغني: «لؤلؤة سوداء داخل جسمك، ولؤلؤة بيضاء داخل جسمي.»
تلقى هاناي إلهاما عجيبا من وجود تلك المرأة، وتأثر تأثرا شديدا بشخصيتها القوية التي تحول حتى التعاسة إلى فخر لها، وأثناء سماعه لحديثها بدأ الموت يصير تدريجيا أمرا في غاية الحماقة. ... ثم تصل الحكاية في تلك اللحظة إلى تغيير غريب، عندما تنتهي ريكو من حكي تجربتها، نهضت واقفة بسرعة كأنها ممرضة، ثم وعدته باللقاء مرة ثانية في اليوم التالي، وقالت له تصبح على خير، وغادرت الغرفة. بعد أن ترك بمفرده فجأة، اختفت داخله أية رغبة في الانتحار. ثم تولدت لديه شكوك أخرى، ففكر في أن اعترافات ريكو تلك مجرد أكاذيب لمنعه من الانتحار. وهنا تولدت داخله فكرة جديدة ؛ ألا وهي ؛ إن كان الأمر كذلك فلينتحر فقط من أجل أن يخيب ظنها. ولكن ما من ضرورة للاستعجال في هذا الأمر، ولا مانع من تأجيله لما بعد لقائها مرة ثانية والتأكد على مهل من حقيقة مشاعرها.
26
قابل هاناي ريكو في مطعم الفندق أثناء وجبة الغداء في اليوم التالي. جلسا معا على مائدة واحدة، ثم على الفور أسمعته قولا صادما. «لقد أرسلت توا رسالة إلى الدكتور شيومي؛ رسالة طويلة جدا جدا استغرقت في كتابتها طوال وقت الصباح كله. كانت الحروف غير مرتبة مطلقا ولكن لا يهم فالدكتور معتاد على خطي.» - «أية رسالة؟!» - «كتبت حكايتك كلها وأرسلتها له.» - «ماذا؟!»
أصيب هاناي بالذهول قبل أن يشعر بالغضب. اعترافه بأنه مهووس بالانتحار أبلغ على الفور بعد ليلة واحدة إلى طبيب لا يعرفه ولم يره من قبل، ولم يعد سره العميق سرا على الإطلاق. على العكس أحس بالغضب من أجل أن فرصة الانتحار سلبت منه بسبب تعاملها ذلك الذي يفتقر لمراعاة مشاعره. - «ما الذي جعلك تفعلين ذلك؟» - «لأنه التزام علي.» - «التزام؟!» - «يجب علي أن أبلغه بكل ما يحدث لي بالتفصيل.» - «حتى شئون الآخرين؟» - «بالتأكيد؛ حتى شئون الآخرين ما دام لها علاقة بي.» - «ما تلك العلاقة؟»
قالت ريكو بمرح وهي تأكل الأومليت الإسباني بمهارة: «اللؤلؤة السوداء واللؤلؤة البيضاء.»
كانت تضع على كتفها سترة بيضاء من الصوف، وجمالها يلفت عيون جميع من في المطعم. وفكر هاناي أنها لو كان ما حكته ليلة الأمس ليس كذبا، فهما معا كزهرتين صناعيتين من البلاستيك العجيب. ثم رفض عرضها بالتنزه بعد الغداء، وكتب على الفور أول خطاب تهديدا لي على طريقة اليمين المتطرف.
ولكن استمرت علاقتهما - غير الواضحة إن كانت صداقة أم استئناسا - تتقدم للأمام متتبعة مسارا عجيبا، ومشاعر هاناي تتبدل بين الطمأنينة التي يكتشفها لأول مرة، وشعور الخزي المستمر حتى الآن. ينعزل الاثنان ليلا داخل غرفة الفندق وحيدين. وتلح ريكو عليه لكي يحكي لها حكاية فقدانه لثقته في جسده. وعندما بدأ يحكي تلك الحكاية بصدق وصراحة دون أن يخفي شيئا ، شعر أن عينيها تلمعان فجأة، ثم تنطفئ مرة أخرى كأنها مصباح إضاءة، ثم تلمعان مجددا بعد لحظات. ... عاد الاثنان معا إلى طوكيو بعد يومين، ولكن حتى ذلك الحين لم تنشأ بينهما علاقة جسدية باستثناء بعض القبلات العابثة فقط، وكان هاناي يحاول إلهاء مشاعر الاكتئاب المتراكمة داخله من خلال رسائله لي بإمضاء مجهول. ولكن لم تكن هي من دله على عنواني. ولكنه نقش اسمي وعنوان عيادتي في ذاكرته عندما رأى إعلان العيادة على صفحات الجرائد قبل لقائه بها. أي أنه كان سيزور غرفة التحليل النفسي في عيادتي إن آجلا أم عاجلا.
عندما عادا معا إلى طوكيو قررا حجز غرفة واحدة في فندق بطوكيو للإقامة فيها معا.
اختار هاناي أحد الفنادق في منطقة كوجيماتشي المشهور بالفضائح. كان ذلك الفندق على أي حال لا يقل عن فنادق الدرجة الأولى، ومع ذلك لا تنقطع عنه الشائعات من كل نوع، فيقال عنه إن الفنانين يتسللون إليه مع عشيقاتهم، وإن الأجنبي الذي تخلف شريكته الموعد معه ينزل إلى بهو الفندق فيعثر على شريكة جديدة فورا. كان هذا الفندق مكانا ضروريا للحصول على لقب الرجل اللعوب في عالم أصدقاء هاناي الذين عاشوا حياتهم بالمظاهر فقط. ولذا - بسبب معاناته من العنة - كان حلم هاناي المستحيل الذي ظل يتمنى تحقيقه، هو مرافقة امرأة إلى هذا الفندق أكثر من أي مكان آخر. وتحقق له ذلك الحلم الآن بصورة غير طبيعية.
ويجب هنا الحديث عن البيئة التي تربى فيها هاناي وظروفه العائلية. والده يملك شركة شهيرة لصناعة الأدوية الطبية، وربى ابنه على الحرية الكاملة تماما دون أي تدخل من جانبه، ولكن من حسن الحظ أنه كان متفوقا في الدراسة ولم يتسبب في معاناة لوالديه عند اختيار الجامعة، ولم يكن يعترض على بياته عددا من الليالي خارج البيت. أما والدته فكانت منهمكة في الأعمال الخيرية وهواية تنسيق الزهور، فكان تقريبا لا يراها في البيت؛ لذا لم تنتبه إلى المأساة النفسية التي يعانيها ابنها.
بدأت من ذلك اليوم معيشة الاثنين معا في غرفة الفندق، ولكن كان هاناي يعود لبيته مرة كل ثلاثة أيام تقريبا، ليلهي والديه بأي طريقة. ولكن ما محتوى تلك المعيشة المشتركة معا؟ وهنا أدهشتني مجددا غرابة طموح ريكو التجريبي.
كان موقفها الأساسي الذي أخذته هو موقف الممرضة؛ كموقفها مع خطيبها الراحل. تظاهرت بالتأكيد بالبرود المطلق. واكتشفت هنا الموقف النفسي العجيب لريكو الذي يجب وصفه «قرار البرود الجنسي». وبأي حال فقد كان انطباعي عنها منذ البداية أن البرود الجنسي هو اختيار اختارته هي بنفسها.
عندما نام الاثنان معا في فراش واحد لأول مرة، قالت ريكو: «لننم معا كأخ وأخت.» ثم بعد ذلك بدأت تصب اللعنات طويلا على الرجال ذوي القوة الجنسية. يمكننا تخيل إلى أي مدى أحس هاناي بالاطمئنان عندما سمع أن رغبات الرجل الجسدية العنيفة، ونظراته البراقة، وسلوكه البليد أو المفرط البراعة ... كل ذلك وغيره يجعل قلب ريكو يبرد ويزيد من بروده الجنسي.
ولكن هاناي لم يستطع محو خزيه المستمر لسنوات طويلة؛ ولذا لم يكن ذلك الاطمئنان ليحل التعقيدات التي في قلبه فجأة. فحاول أن يزيل ذلك العار من خلال رسائله اليومية لي.
في اليوم التالي نام الاثنان معا وهما في عري تام. حتى هاناي نفسه عجز عن وصف تلك الليلة العجيبة. فقد بدأت ريكو تداعب برفق وحنان جسد هاناي الذي لا يرغبها أو لا يحاول أن يرغبها. «إن مثلك هو الرجل الحقيقي. لم لا يملك كل الرجال رقيا وهيبة مثلك؟ إن الشهوة تحول أي رجل رائع إلى مسخرة هزلية.»
اندهش هاناي جدا من وصف عيبه «بالرقي والهيبة»، ولكن تأججت تدريجيا شهوته تجاه ريكو. ومن خلال قولها ذلك له، انحبست كل شهوة مهما كان شكلها، وشعر أنه سجن في قفص أضيق مما لو كان وحيدا.
كانت ريكو كأنها مياهه. وكان ثمة أوقات تبدو ريكو في عيني هاناي تتظاهر عنوة بهذا البرود الحديدي الراسخ. وعرف جيدا أنها تستمتع بذلك التظاهر. فلم تسمح ريكو ليد هاناي أن تلمسها مطلقا. بل حسبه أن ذلك الجسد العاري الجميل الغني؛ الذي كأنه صنع من مواد سهلة الاشتعال ، راقد بجواره.
ومع الوقت أصبحت عنة هاناي تتحول إلى عنة مشتعلة. ولأنه رأى بوضوح البرهان الذي لا شك فيه لحدود سعادته؛ السعادة التي تناسب طريقته، فكر في أنها حبيبة ثمينة لا يقدر على فقدانها، وأنها الوحيدة في العالم التي «خلقت من أجله».
ولدي فضول شديد لمعرفة شعور ريكو وقتها. طبقا لما حكاه هاناي؛ فإن قلب ريكو كاد يذوب من الرقة والطيبة، ولكن كان جسدها باردا مثل الثلج. ولكن إن سمح لي بالتعليق، فتلك كانت حالتها من قبل مع ريوئتشي إغامي، والشيء الوحيد المختلف أنها هذه المرة لم تكن تشعر بأي قلق أو عصبية، بل تزرع الاضطراب المستحيل داخل هاناي.
وأتخيل أنها صنعت متعمدة ذلك الموقف المثالي من نفسها. كانت تتقن، بلا وعي، مهارة وضع قلبها الحار وجسدها البارد كلا على حدة في درج خاص به.
ولكن من الواضح أنها الآن سقطت في تلك الحالة بعمق. ومع أن الحالة النفسية الداخلية تبدو أنها هي نفسها القديسة التي كانت تجاه خطيبها، إلا أنها تحولت إلى عاهرة منحطة. بل في هذه المرة، مع هاناي، انعدمت نية التفاني الشكلي فقط في علاجه من المرض، وتكاسلت بوضع نفسها في طريق مسدود بطريقة غير طبيعية.
ومع ذلك لو سألنا ألم تكن تحب هاناي؟ لن نستطيع القطع بذلك. ربما رأت ريكو في ذلك الحب الجسدي - والذي يفصله عنها المستحيل - الشكل الأعظم للحب العذري، وربما رأت الرجل المثالي، وربما رأت الرمز الخالص للرجل النقي النظيف. لقد قرأت رسائل الحب التي بين «أبيلار وإلواز» بعد أن عرفني هاناي بها. وأعتقد أن الحب الروحي الذي زاد، على العكس، بين الاثنين في النصف الثاني من قصتهما بعد أن أخصي أبيلار، هو الشكل الأنقى من الحسية.
من المؤكد أن ريكو كانت تراهن على شيء ما. ... ... ... - «وهكذا ظلت ريكو ترفض أن تلمس جسدها أليس كذلك؟» - «أجل.» - «ألم يحدث أن اخترقت ذلك منتهزا فرصة ما؟» - «حدث.» - «في أي وقت حدث ذلك تقريبا؟» - «في مساء اليوم الخامس بعد أن أصبحنا نعيش معا في غرفة واحدة في فندق بطوكيو. كنت أشعر أنني سأغرق كما أنا بحالتي تلك وسط سعادة كالحلم. ويبدو أنني نمت نوما عميقا هادئا كالأطفال. وعندما استيقظت فجأة، بدا أن ريكو نائمة كذلك. احترت أيجب أن أوقظها أم لا؟ فقد كانت ساخنة وحرارتها أعلى بكثير منها وهي يقظة، كان وجهها النائم كأنه خشخاش منثور أحمر مشتعل في الليل.» - «وهل كانت مضطربة الأنفاس أثناء النوم؟» - «كلا، إنها لم تكن نائمة. فتحت عينيها فجأة وقبضت على يدي وجعلتها تلمس ثديها لأول مرة. كان ثديها يخفي نبضا عاليا كأنه ينبع من عين ماء في أعماقها. لمستها فقط براحة يدي برفق وعلى استحياء كما علمتني. ثم بقيت ثابتا على ذلك الوضع.
ثم صرخت ريكو فجأة صرخة خافتة وفتحت عينيها على وسعيهما. أصابتني الدهشة من المفاجأة معتقدا أنها تتألم. ولكنني فهمت على الفور. لم تكن تلك نوبة ألم بل كانت عكس ذلك.
التوى جسدها وعضت بأسنانها راحة يدي برفق. تأملت ذلك مذهولا وشعرت أن ذلك جمال مهول وجرفتني أيضا مشاعر غضب.
إن تلك المرأة كذابة ... كذابة كذابة، أين البرود الجنسي الذي تدعيه ... الآن! خلعت ريكو القناع الذي كانت تضعه حتى ذلك الحين وألقته بعيدا، ثم ارتعشت مثل مؤشر جهاز قياس الضغط الجوي في يوم عاصف.»
27
في النهاية قال الشاب هاناي فقط ما يريد قوله ثم رحل، وتركني وحيدا في حالة من الذهول.
في الواقع لم أكن أملك خبرة فعلية في علاج حالات العنة، وليس السبب مطلقا أنني كطبيب أظهر اهتماما متحيزا لمرضاي من النساء أكثر من مرضاي من الرجال، ولكن لأن علم التحليل النفسي يهتم اهتماما أقل بعنة الرجال من البرود الجنسي للنساء.
وسبب آخر أن عنة الرجال المطلقة أو التشريحية نادرة جدا، ويعود أغلبها إلى أسباب نفسية. ولكنها تختلف عن البرود الجنسي للنساء، في أن دافعها ومراحلها تعود إلى صراع نفسي واع في الأغلب الأعم. وحتى حالة الخوف النفسية من المرأة التي تسبب تلك العنة، يمكن، بسهولة، إرجاعها إلى عقدة أوديب أو إلى جرح نفسي في مرحلة الطفولة بدون جلسات تحليل نفسي. وتكون مراحل تشكل العنة واضحة جدا في وعي المريض نفسه، حيث يزيد الوعي الذاتي من العنة أكثر وأكثر فيدور المريض في حلقة مفرغة؛ ولذا ففي علاج عنة الرجال يكون إبعاد تلك الأسباب عن الوعي واستعادة وظائف الانعكاس العصبي الطبيعي أكثر أهمية وأكثر فاعلية من إخراج ما في اللاوعي إلى الوعي. وأنا نفسي أؤيد ذلك الأمر وأوافق عليه، لو حكمت على الأمر بصفتي رجلا.
وهنا فكرت على العكس أن أقترح على الشاب هاناي ممارسة الرياضة حتى ولو بدرجة عنيفة. ولكنه ليس فقط لم يستمع إلى كلامي بل قال ما يريد قوله ثم رحل مسرعا مثل الريح. ... وعلى العكس كنت أنا من أصيب بمشاعر معقدة حينما تركت وحيدا بعد رحيله.
كان ثمة وقت حتى مجيء موعد المريض التالي؛ ولذا بقيت في غرفة التحليل النفسي أتأمل في ذهول الوضع خارج النافذة.
انتهى الربيع، ولكن السماء الملبدة بالغيوم بدت باردة قليلا، وأكثر المارة في الطريق يرتدون ملابس تميل للسواد. وتغيرت لوحة الإعلانات في دار السينما عما كانت عليه لما زارتني ريكو فجأة وعرضت علي السفر معها، فزينت الواجهة بوجه عملاق لامرأة تصرخ فزعا ورعبا من قاتل، وخلفها ناطحة سحاب مائلة، وزهور ورد حمراء كبيرة ربما تصل إلى مساحة تزيد على خمسة أمتار مربعة. غرقت في أفكار بلهاء تتخيل أنه بعد مرور مئات السنين من الآن على الأرجح سيسجل التاريخ عن هذه الحقبة أن الجنس البشري وقتها لم يكن يحمل اهتماما إلا تجاه قصص القتل.
في ركن من مبنى دار العرض السينمائية، ثمة محل زهور صغير؛ كانت زهور هذا الفصل الناضرة المتنوعة هي فقط الرطبة الندية في ذلك المكان. وعندها انتبهت إلى أن الشاب الذي يقف أمام محل الزهور هو بلا أدنى مجال للشك هاناي الذي غادر هذه الغرفة منذ قليل.
اشترى هاناي باقة زهور صغيرة جميلة التنسيق بمبلغ مائة «ين»، ثم بدأ المشي مبتعدا عن المحل خطوتين أو ثلاث خطوات، ثم قرب باقة الزهور من أنفه. «إنه رومانسي على غير المتوقع.»
لم أستطع أن أكتم مشاعر السخرية من قلبي. ولكن في اللحظة التالية قام هاناي بحركة لا يمكن تخيلها؛ إذ مزق غلاف باقة الزهور المصنوعة من السلوفان، وألقى بالزهور تحت عجلات سيارة نقل كانت تمر صدفة بجواره في تلك اللحظة.
بعد أن ابتعدت سيارة النقل، تولدت على سطح الطريق بقعة غريبة الشكل. كانت تبدو كأنها آثار تقيؤ امرأة جميلة، وأثناء انشغالي في تلك الألوان الهمجية المعكرة، كان الشاب قد اختفى عن الأنظار ...
جاءني انطباع بالحيرة والاضطراب وكأنني رأيت كابوسا، أو كأن ما رأته عيناي مجرد وهم من صنع خيالي. وبقي ذلك الشعور المنفر المقزز يجر أذياله إلى ما لا نهاية. ليس أنا من يدهش الآن، وبعد كل تلك الخبرة من سلوك غريب يفعله مريض نفسي. ولكن تلك الحادثة الصغيرة توضح النية الشريرة للرجل العنين تجاه العالم. بمعنى أن النية الشريرة تلك بدت كأنها لوحة تجريدية منفرة رسمت لحظيا فوق الطريق العام في وسط العاصمة طوكيو.
وعندها اجتاحني فجأة شعور عارم بالضعف. فبدلا من أن أشعر بالشفقة تجاه ذلك الشاب العنين الذي رحل قبل قليل فإني، على العكس، شعرت أنني تلقيت هزيمة نكراء بضربة واحدة من منافس هو أبعد ما يكون عن ضرورة الخوف منه. بل لدرجة أنني فقدت ثقتي بنفسي بصفتي طبيبا. وإذ أفكر أن ما أعطى ريكو المتعة هو شيء بعيد كل البعد عن قوة الرجولة، حتى أنا نفسي أحس أن ثقتي المعتادة بنفسي كرجل قد اقتلعت من جذورها تماما.
ولكن عندما أفكر في الأمر أجد أن غضب الشاب هاناي له أسبابه المنطقية.
فربما شعر أنه تلقى إهانة شديدة أكثر بكثير من مجرد الإهانة المعتادة تجاه العنة. فالمرأة التي صدق أنها باردة جنسيا حتى أشعرته داخليا بالسلام والسكينة، يراها فجأة وقد بعثت كامرأة من جديد؛ لأنها ليست هذه إهانة تأتيه وهو في حالة طبيعية، بل هي تعبير فاضح عن «الحب تجاه المعاق».
28
مر شهران بلا جدوى منذ رحيل هاناي من العيادة. ولم يأت أثناء ذلك أي اتصال سواء من هاناي أو من ريكو.
ومن العجيب أنني بدأت تدريجيا أشعر بالتعاطف مع هاناي. إلى أين ستتجه حياته بعد أن خاض في شبابه - أو بالأحرى بسبب شبابه - تجربة مرعبة بالكامل لانهيارات وتناقضات الجنس؟ فهو مع أن مظهره ابن عائلة غنية موسرة، إلا أن الحياة أعطته تعاسة غريبة لا يعرفها حتى الفقراء. الجنس بالنسبة للشباب هو مفتاح هام جدا من أجل معرفة الحياة. ولذا عندما يحاول هاناي - بعد أن خاض تلك التجربة - فتح حياته ذات فتحة المفتاح المعتادة باستخدام ذلك المفتاح المشوه، فسوف يفشل فشلا ذريعا؛ ولكنه لا شك سيعثر في وقت ما على فتحة مشوهة تناسب مفتاحه المشوه. أي نعم سيفتح الباب. ولكن سيجد خلفه واديا عميق القاع.
بالتأكيد لم تتعمد ريكو أن تصدر تلك الموسيقى الصاخبة أمام رجل عنين؛ ولكنها خيانة جسدية نادرة، تختلف عن صدمة الخيانة النفسية المعتادة لشاب من فتاة.
جاء موسم المطر، وبعد شهر مايو الذي استمرت فيه الأيام المشمسة بأشعة شمس قوية كأنه ذروة الصيف، وارتفعت الرطوبة يوميا واستمر طقس غير واضح المعالم. وتختلس الشمس النظر من بين الغيوم، ثم تتوارى بلون أرجواني.
جاءني اتصال هاتفي من ريوئتشي إغامي، كم شهر مر من آخر لقاء معه! سمعت ذلك الصوت العميق وأحسست أنه يتظاهر برباطة جأش، وكان مؤدبا تأدبا غير طبيعي، وعرفت على الفور أن السبب محاولة ذلك الشاب النشيط إخفاء خجله. - «أنا إغامي. ريوئتشي إغامي. هل تتذكرني؟ إنني زرتك مرة من أجل موضوع ريكو يوميكاوا.» - «أجل، أتذكرك بالتأكيد.»
فيما يتعلق بأسماء المرضى، لست من أصحاب الذاكرة الحديدية، ولكنني في موضوع ريكو يوميكاوا فقط أحفظ كل الأسماء جيدا. ولذا ما من ضرورة لكي يشرح كل ذلك الشرح.
بدأ ريوئتشي الحديث بغمغمة قائلا: «إنني كنت أفضل أن أزورك وأتحدث إليك مباشرة. ولكنني سأقول لك ملخص الموضوع فقط على وجه السرعة. إن ريكو يوميكاوا في حالة سيئة جدا. فهل نطمع أن تكشف عليها كشفا مستعجلا؟»
غمغمت أنا أيضا وقلت: «ماذا حدث؟ ... قل لي ما الذي حدث؟» - «إنه أمر يصعب قوله في الهاتف. ولكنني سأتجرأ وأتحدث بقدر الإمكان. ألا تمانع أن تطول المكالمة؟»
قلت له: «لا مانع.» وأنا أفكر متعجبا من موقفه الرزين هذا، مقارنة بأول مرة جاء فيها صارخا بغضب. - «حقا لقد شعرت بالغضب والتوتر في المرة الأولى التي عادت فيها ريكو إلى قوفو فجأة، وظللت مدة متأزما أشعر بالغضب من أي شيء أراه. واستمرت حياتي في حالة فوضى عارمة، فأقمت علاقات عديدة مع فتيات هنا وهناك على سبيل الاعتراض والمقاومة. وهكذا كانت حالتي النفسية تهدأ عندما أكون فيها مع إحدى النساء فقط، ولكن عندما أتذكر ريكو أشعر في كل مرة كأن كرامتي سحقت بمكواة حديدية، فأفقد مجددا ثقتي بنفسي التي استعادتها. وإن قيل لي إن ذلك دليل عشقي لها، فلا مانع من ذلك، ولكن الحقيقة أنني حاولت خلال تلك الستة الأشهر أن أنساها. لم يأت أي اتصال منها ولا أعرف أهي في قوفو أم في طوكيو؟ فكرت أنني لو سألتك يا دكتور ربما أمسك بطرف الخيط، إلا أنني لم أستطع إرغام نفسي على الاتصال بك.
ولكن ألا يدعو ذلك للعجب! أمس ذهبت بعد العمل مع إحدى الفتيات إلى صالة رقص، وبعد أن أوصلت الفتاة لبيتها في وقت متأخر من الليل، ثم عدت إلى بيتي، وجدت ريكو أمام عمارة سكني واقفة ممسكة بحقيبتها.
فكرت أن أتجاهلها ولكن كان ذلك حرودا لا يليق بالرجال؛ لذا تحدثت إليها بلا مبالاة قائلا: «أهلا، ماذا حدث؟»]
كان وجهها تحت عمود الإضاءة بلون شديد الزرقة، وشاحبا لدرجة مرعبة. ليس هذا فقط، بل كانت الرجفة الخطرة تسري في خديها، وكنت أنتظر بصبر وأناة ردها، فلم تنطق بكلمة واحدة، وبدلا من الرد فاضت الدموع من عينيها فجأة.
سألتها مرة أخرى بدون أن أشعر بالغضب لدهشتي: «ماذا حدث؟!»
وعندها قالت ما لم أتوقعه: «أرجوك احمني عندك! فأنا أطارد.»
ولأنك يا دكتور قد عرفت بالفعل أنني إنسان أرعن فلن أخفي ذلك. فمجرد أن لجأت إلي بتلك الحالة التي تثير الشفقة، أخذتها صامتا إلى شقتي مع أنني كنت قد كرهتها بشدة. كانت تبدو على وشك السقوط على الأرض، فاحتضنتها وجعلتها تصعد درجات السلالم، وبدا أن وزنها قد نقص كثيرا.
حتى بعد أن جلسنا في الشقة، لم تهدأ بل ظلت تدور بعينيها في المكان في رعب.
وعندما رأيتها أمامي بهذه الحالة لم أستطع أن أوجه لها كلمة عتاب أو لوم بسهولة. أضف إلى ذلك ما كنت أشك في البداية أنه تمارض منها لكي تحمي نفسها من أن أنتقدها. وتحول الآن وجهها إلى المزيد من الشحوب والزرقة وارتعش جسمها تدريجيا وفي النهاية ضغطت على صدرها وصرخت: «إنني أختنق! لا أستطيع التنفس!»
عندما سمعت ذلك لم أستطع أن أتركها وشأنها.» - «كان ذلك ليلة أمس، أليس كذلك؟ كيف حالها اليوم؟» - «اعتنيت بها حتى الصباح دون نوم تقريبا، ثم تركتها وحيدة في الشقة وذهبت إلى عملي ...»
فكرت في أن الشاب ريوئتشي إنسان طيب القلب حقا بما لا يتناسب مع مظهره الخارجي المتظاهر بالقوة. - «أنا أسأل عن حالتها هذا الصباح؟» - «عندما ذهبت إلى عملي كانت في غفوة قصيرة، وعندما سألتها ليلة أمس قالت في البداية إنها أصبحت تشعر بضغط على عينيها وأن رأسها ثقيل وأذنيها تطنان وتحس بدوار وأنها ستفقد الوعي وتنهار، وأن عنقها كأنه يعصر وتشعر بالاختناق.»
حتى دون أن أكشف عليها عرفت أنها مقدمات شديدة الوطء لأعراض حالة هيستيريا تقليدية، بل إن مجمل تلك الأعراض التقليدية لم أر منها إلا الرجفة الخفيفة في السابق. - «هل نشأ في رقبتها ما يشبه الورم أو الانتفاخ؟» - «أجل، لقد نسيت قول ذلك. إنها هي نفسها قلقت أن يكون ذلك سرطان الحنجرة ...» - «لا قلق من هذا.»
نفيت ذلك بكلمة واحدة. فمن المؤكد أن ذلك أحد أعراض الهيستيريا.
وعلى ما يبدو أن الشاب ريوئتشي قد ازداد ثقة بي عندما نطقت بتلك الكلمة القاطعة. - «ماذا أفعل يا دكتور؟» - «أولا وقبل أي شيء لا يجب أن تسألها عن سبب مرضها. بل لا يجب أن تسألها عن أي شيء مطلقا. وثانيا عندما تنتهي من عملك اليوم تعال معها إلى العيادة على الفور . فأنا أعتقد أن الكشف عند طبيب باطنة أو طبيب أمراض نساء وتوليد لن يفيد في حالتها. سأظل في العمل اليوم بعد انتهاء وقت العمل المحدد مخصوصا من أجلها. وسأقوم بعلاجها كما ينبغي.» - «أشكرك شكرا جزيلا. لقد أرحتني كثيرا. سنأتي إليك في المساء.»
أغلق الشاب ريوئتشي الهاتف بعد أن قال ذلك بصوت بدا عليه السرور.
29
في ذلك اليوم، لم يكن لدى أكيمي متسع لكي ترد علي بكلمات مزعجة بعد أن سمعت نبرتي المهيبة المقنعة. قلت لها: «ستأتي مريضة الليلة بعد الساعة السادسة، وسيكون ذلك خارج نطاق مواعيد العمل المقررة، فإن كان لديك نية للعمل بعد أوقات العمل المحددة، فسأعطي لك أجر العمل الزائد، وإن رغبت في العودة يمكنك مغادرة العيادة في موعد العودة المحدد في السادسة، وبالمناسبة فإن اسم المريضة: ريكو يوميكاوا.»
عندما تكلمت مع أكيمي بوضوح بتلك الطريقة، تصرفت بتعقل على غير عادتها، ويبدو أنها على الأقل رغبت في تأمين إشباع فضولها مع الحصول على أجرة العمل الإضافي، فقبلت البقاء وهي تقول للتأكيد: «إذن ستستخدم غرفة التحليل النفسي رقم واحد، أليس كذلك؟»
المعتاد أنه لا يمكنها أن تعرف الغرفة التي استخدمها المريض في جلسة العلاج السابق بدون النظر إلى ملفه في العيادة، ومع ذلك كانت أكيمي تحفظ ذلك وقالته على الفور في لحظة، وهذا يؤكد على اهتمامها غير المعتاد بريكو.
عندما جاءت الساعة السادسة بعد الظهر جعلت مساعدي كوداما يعود لبيته، وجلسنا أنا وأكيمي متقابلين نتناول وجبة العشاء المكونة من الأرز وسمك الثعابين المشوي. عندما أصبحنا وحيدين في الليل تغلغل هدوء المبنى في أجسادنا. - «أنا لن أقول شيئا.»
قالت أكيمي ذلك وهي تحدق في وجهي طويلا، وقد أعادت في غفلة من الزمن طلاء أحمر الشفاه بعد أن خف رونقه أثناء العمل فكانت شفتاها تلمعان بزيت سمك الثعابين. ثم أكملت: «لأنك على ما يبدو الليلة قررت قرارا حاسما؛ أنا أعرف ذلك.»
عندما يقال لي ذلك فمن صفاتي أن أتحدث بصدق. - «حقا هو كذلك. فأنا أعتقد أن اليوم هو اليوم الحاسم أخيرا ، وفرصة للمواجهة بيني وبينها. إن نقطة ضعف التحليل النفسي أنه إذا فقد المريض الرغبة الذاتية في العلاج، فلا يمكن مطاردته وإجباره عليه، وتلك هي النقطة التي اتضحت لي تماما من مكالمة إغامي اليوم.
إنه أمر يرثى له ولكن إغامي حاليا يستغل بواسطة ريكو يوميكاوا. إنه يعتقد - بسبب غرور الرجولة الذي لا يستطيع تفاديه - أنها لجأت إليه في النهاية لإنقاذها بعد أن كسر سيفها ونفدت سهامها. ولكنني شعرت أنني أسمعها تصرخ خلف صوته أثناء المكالمة؛ كأنها تصرخ من خلال صوته بما يلي: «أريد العودة إلى عيادة الدكتور! أريد العودة مرة ثانية إلى غرفة التحليل النفسي. إنها هي حقا موطني الأصلي.»
إن جاز التعبير، فلقد استخدمته جسرا لكي تعود إلى هنا. إنها لم تكن تستطيع، مهما فعلت، أن تعود إلى هنا بمفردها. وثمة ضرورة في أن يؤدي الشاب إغامي دور إحضارها إلى هنا.» - «ولكنه أمر غريب. لقد استطاعت أن تسمع الموسيقى عددا من المرات حتى وإن كان ذلك في وضع غير طبيعي، أليس كذلك؟ ولكن لم ظهرت أعراض الهيستيريا أشد وأعنف عما قبل؟» - «لا بد من سماع ذلك على لسانها هي شخصيا. ولكن لدي توقع عن ذلك. وهو أنه ربما يكون ذلك جزءا من «الجسر». بالتأكيد أنها تعاني وتقاسي تلك الأعراض، ولكن أليست هذه الأعراض وسيلة مؤقتة اخترعها عقلها الباطن من أجل العودة إلى هذه العيادة أو إلى غرفة التحليل النفسي التي تمثل لها الملاذ الآمن الوحيد؟ إن الهيستيريا مرض يثير العجب. يعرف مرض الهيستيريا بأنه مرض يستطيع تقليد أعراض مرض آخر، بل لدرجة أن الهيستيريا تستطيع أن تقلد أعراض الهيستيريا نفسها. فضلا على أن ريكو لديها معلومات متنوعة عن علم التحليل النفسي.» ... أثناء حوارنا نحن الاثنين معا، جرى بينا شعور تشاركي لم أشعر به من قبل؛ يشبه الشعور المتبادل بين فردي الحراسة الليلية في مكان المراقبة على شاطئ بحر في وقت صدور إنذار مجيء الإعصار وهما يسمعان هزيم الريح خارج الأبواب بقوة تدريجية. يحيط بهما ليل المبنى العملاق الذي تبقى فيه فقط صخب المطاعم في الطابق الأول تحت الأرض بعد أن أطفئت الأنوار في جميع المكاتب، وعاد الموظفون جميعا إلى بيوتهم. ربما تكون إضاءة هذه الغرفة فقط هي الوحيدة المتبقية دون أن يبتلعها الظلام في هذا المبنى الذي يفتح فمه باتساع كأنه سن ذهبية.
الساعة السابعة ليلا.
طرق باب العيادة، ثم دخلت ريكو إلى غرفة الانتظار وهي تترنح مرتدية معطف مطر وريوئتشي يسند كتفها. اندهشت من زرقة وشحوب وجهها مع معرفتي به من خلال اتصال ريوئتشي. ليس هذا فقط بل حتى بعد جلوسها على الأريكة لم تنظر ريكو إلى وجهي مباشرة ولم تلق تحية اللقاء بعد غياب طويل، وكانت مطأطئة الرأس ترتعش مثل المذنبين. لم تكن درجة حرارة الجو باردة تلك الليلة بل على العكس من ذلك كانت مرتفعة مع رطوبة أعلى من المعتاد، لدرجة أنني شغلت مكيف الغرفة البارد.
قال ريوئتشي: «معذرة ولكن هل يمكن إطفاء المكيف؟»
ذهبت لإطفاء المكيف ثم عدت ووضعت يدي على جبهة ريكو. لم تكن بها حمى.
ولقد اندهشت من نفسي جدا أنني استطعت لمسها تلك اللمسة الطبيعية بطريقة وظيفية جدا بصفتي طبيبا، بدون أية درجة من التأثر. عندما ذهبت لإطفاء مكيف النافذة كنت، على الأرجح، أحسب حساب حركتي التالية، حقا إن لمس تلك الجبهة البيضاء بعد غياب طويل، يشبه الحلم. ولكن عندما فعلت ذلك لم يكن إلا مجرد سلوك يومي معتاد، وكانت ريكو كذلك على نفس حالها مطأطئة الرأس بعناد. - «الآنسة ريكو فقط هي التي تدخل بمفردها غرفة التحليل النفسي، يمكنك يا سيد إغامي الانتظار هنا، ولكن سيستغرق الأمر وقتا طويلا؛ لذا فمن الأفضل أن تذهب لمشاهدة فيلم في دار السينما.» - «أجل، سأفعل ما يروق لي.»
قال الشاب إغامي ذلك بلا وعي وهو يستمع إلى أنفاس ريكو المهتاجة.
لم أبد قلقا عليها أو أسألها هل تتألمين؟ وعندما حاول ريوئتشي أن يسندها حتى غرفة التحليل النفسي منعته من ذلك بنظرة من عيني. ثم بدا ذلك من النظرة الأولى فعلا قاسيا، ولكنني لاحقت ريكو وهي تنهض من جلستها بقوتها الذاتية بصعوبة بالغة، وضغطت على صدرها بيد واحدة تأخذ نفسها المكتوم، ثم استندت بيدها اليمنى من حائط إلى حائط لتصل في النهاية إلى باب غرفة التحليل النفسي.
وبجانبي أكيمي بمعطف التمريض الأبيض تحملق في ظل ريكو الخلفي بفضول كبير كأنها تفخر بالنصر عليها.
30
الاستعجال في غرفة التحليل النفسي من المحرمات، وكذلك السلوك الاستبدادي، والفرض من طرف واحد، من المحرمات أيضا، ولكن ليس، بالضرورة، تكرار العلاج الملتزم بالقواعد نفسها تكرارا آليا، هو الطريقة المثلى التي لا تعلوها طريقة.
ويشبه هذا العلاقة الطبيعية بين البشر؛ يحدث أحيانا ركود بدون تقدم للأمام، وأحيانا أخرى يحدث تقدم مفاجئ وسريع يؤدي إلى نهاية درامية. والآن ليس أمامي إلا أن أفكر في أن ثمة حتمية قوية في مجيء ريكو هكذا.
استلقت ريكو على الكرسي المريح، تركتها كما هي في حالتها تلك لبعض الوقت وسط إضاءة خافتة للغاية.
هذه هي المرة الأولى التي أكون فيها مع ريكو ليلا في غرفة بمفردنا. بجواري مباشرة أنفاسها الهائجة ووجهها المغمض العينين في ألم، ولكنني تعمدت ألا أنظر إليها. وكنت راضيا، بل في منتهى الرضا.
استمر الصمت لمدة خمس أو ست دقائق، ثم بدأت ريكو في التكلم أخيرا. - «هل أغلقت الغرفة بالقفل يا دكتور؟» - «أجل. كما هي العادة دائما.» - «لن يدخل إلى هنا كائن من كان، أليس كذلك؟» - «لا تقلقي، فلن يدخل أحد.» - «أنا سعيدة. لكم اشتقت وتمنيت العودة إلى هذا المكان!» - «ولكنك لم تعودي رغم مرور كل هذا الوقت، أليس كذلك؟» - «أنا امرأة مذنبة! امرأة مجرمة! ولا أعرف كيف أعتذر لك يا دكتور. امرأة أنانية أوقفت العلاج وفعلت ما يحلو لي ... كل ذلك بسبب أنني امرأة مذنبة. أليس كذلك؟ قل لي يا دكتور، أليس كذلك؟» - «عدم المجيء إلى هنا ليس ذنبا! ليس ذنبا وليس جريمة. إن لك مطلق الحرية في فعل أي شيء.» - «ماذا تقول؟ ماذا تقول يا دكتور؟ هل تمنحني حريتي؟ أنت إذن المخطئ يا دكتور لمنحك الحرية لي. ولهذا فقد أصبحت هكذا ...» - «هكذا؟ ماذا تعنين بكلمة هكذا؟»
ثم أدرت نظري أتفحص جسد ريكو. لم يعد ذلك الجسد يرتعش ولم تعد الأنفاس مضطربة. فقط الصدر اللين المتضخم يعلو ويهبط، وبفضل الإضاءة المعتمة بدت متألقة بدرجة مدهشة. - «إنه أمر عجيب. بمجرد دخولي هذه الغرفة، ارتاح إلى حد ما صدري الذي كان يعاني آلاما جمة، وأشعر أن العقدة التي كانت معقودة داخل جسمي قد انحلت وتحررت فجأة.»
إنني أحرص على عدم الاستماع إلى شكاوى المرضى في مثل هذه الحالة. وإن سئلت عن السبب؛ فلأن سماعهم والتلطف معهم في حالات الشكوى من أمر سيئ يجعلها أحيانا تزداد، أما في حالات الادعاء بالتحسن فجأة مثل الآن، فإظهار السرور يسبب رد فعل مشاكس وتعود حالته السيئة مجددا.
لذا أجبت بلا مبالاة: «عظيم جدا. هذا يعني أنك مستعدة للإجابة عن العديد من الأسئلة.» ولم أنتظر أن يستعد قلبها فسألتها ما يلي فجأة: «لقد ذهبت للاحتماء عند السيد إغامي وأنت تقولين إنك مطاردة، فمن الذي يطاردك؟»
لحظيا بدا نوع من التردد في عيني ريكو. ولم أغفل عن تلك الحركة. - «المقص.» - «ها؟» - «المقص هو الذي يلاحقني. لقد سبق لي أن ذكرت ذلك من قبل في جلسة تداعي الأفكار الحر، أليس كذلك؟» - «بلى، أنا أتذكر ذلك المقص بالتأكيد. ولكن، الآن، الأمر مجرد مجاز؛ أليس كذلك؟» - «ليس مجازا يا دكتور. سأقول لك. لقد كنت على وشك أن أقتل حقا بمقص.» - «ماذا؟!»
ثمة رائحة مريبة حقا تفوح من كلامها، ولكنني فكرت هذه المرة ألا أدعها تحكي القصة بتتابع أحداثها زمنيا، بل أن أكون كالصقر الذي يسقط فجأة من السماء بالتفاف وانحناء مستهدفا أرنبا يجري بعيدا جدا في البراري، بأن أوجه لها أسئلة متتالية لتجيب عنها. - «لنستمع للأسباب التفصيلية فيما بعد، ولكن المقص ... لم المقص خاصة؟!» - «كان هناك مقص عن طريق الصدفة.» - «أي نوع من المقصات؟» - «مقص لقطع الزهور.» - «أين كان؟» - «ما من غرابة في الأمر يا دكتور. فقد كنت أقيم مختبئة عند أستاذة تعلم فن تنسيق الزهور للأجانب، ويقع بيتها في حي روبونغي.» - «مختبئة؟! يعنى ذلك أنك في حالة خطر من قبل؟» - «لم تكن الحالة بتلك الدرجة من الخطورة، فجأة كرهت ذلك الشاب ذا السترة السوداء الذي كتبت لك عنه في رسالة سابقة. لذلك هربت سرا، في أحد الأيام، من فندق كوجيماتشي الذي كنا نقيم فيه معا وانتقلت للسكن هناك.» - «ثم بحث الشاب ذو السترة السوداء عن ذلك المكان وطاردك حتى هناك، أليس كذلك؟ حالة تحدث كثيرا.» - «أجل حالة تحدث كثيرا.»
ثم لشدة العجب تنهدت ريكو تنهيدة مبهرة؛ تنهيدة تختفي داخلها معان عديدة، كبرياء يتظاهر بالكراهية، انفعال يتظاهر بالملل؛ تنهيدة يتنهد مثلها فجأة طفل عاد إلى بيته ورأى وجه أمه بعد أن ظل يجري متجاوزا عاصفة عاتية بخدين فاقعي الحمرة. - «كنت أقيم عند أستاذة تنسيق الزهور بدون أن أتعلم، وبدون أن أساعدها، بل لمجرد أن أتأمل حركات يديها الجميلتين، وأقول يا لهما من يدين جميلتين ... وقتها دق جرس الباب، وعندما فتحته وجدته أمام الباب. كنت قد ذهبت لفتح باب المدخل وأنا ألعب بمقص قطع الزهور في يدي اليسرى.» - «في الماضي كان مقص خياطة غربيا، والآن مقص قطع زهور ...» - «ماذا تقول يا دكتور؟!» - «لا شيء، بل كنت فقط أحاول أن أرتب ذاكرتي. أرجوك استمري في الحديث.»
بعد أن قطعت حديثها حركت حاجبيها قليلا وهي مستاءة، ولكنني تعمدت فعل ذلك. ربما كانت في ذلك الوقت تحمل حقا في يدها مقص قطع زهور، ولكن من خلال قطع حديثها هكذا، كنت أمنعها من تحويل الأمر إلى قصة مأساوية، ومن جهة أخرى، كنت أريد أيضا أن ألفت نظرها إلى تغير رمزية المقص لها شخصيا. «... عندما رأيت الشاب بالسترة السوداء، واسمه هاناي عند مدخل البيت، كاد قلبي يتوقف من الخوف. ما دام استطاع أن يقتفي أثري ويصل إلي حتى هنا فلا يمكن توقع ما يفعله شخص بصفاته الشخصية تلك من أفعال متهورة.» - «ثم ... هل فعل شيئا متهورا؟» - «كلا. لقد عاد في ذلك اليوم في هدوء. طلب بإلحاح وكآبة أن أعود إليه، وهددني قائلا: إن فقدتك فسوف أموت حقا هذه المرة، فأنت فقط الوحيدة التي أحبها في هذا العالم. ومع أنني قلت هددني، إلا أنه قال ذلك بنبرة كئيبة وابتسامة موحشة.» - «ولم يحدث وقتها شيء يشكل خطورة، أليس كذلك؟» - «بلى ... لم يحدث شيء ...» - «ومقص قطع الزهور؟» - «ها؟» - «ماذا حدث لمقص قطع الزهور؟ ألم تقولي إنك كدت أن تقتلي به؟» - «آه، قلت ذلك، ماذا حدث لي؟ إنني أتذكر أنني خرجت فعلا حتى باب البيت وفي يدي اليسرى مقص الزهور. ولكن من شدة صدمتي بمجيئه لا أتذكر مطلقا أين وضعت المقص بعد ذلك ... ماذا أفعل؟ إن الذاكرة غريبة حقا. تستمر حتى نقطة زمنية معينة بوضوح تام كأنها مشهد فيلم سينمائي بالألوان الطبيعية، ثم فجأة ينقطع الفيلم. مراعاة لمعلمة تنسيق الزهور مالكة البيت، خرجت مع هاناي للتحدث ونحن نتنزه في الخارج.» - «ووقتها لم يكن المقص في يدك، أليس كذلك؟» - «لا أعرف ذلك مهما حاولت التذكر.» - «حاولي تجربة ملاحقة الذاكرة بنفسك. لقد قلت بنفسك إنك كنت على وشك أن تقتلي بمقص الزهور.» - «أجل ... ولكن كان ذلك زلة لسان. أعتقد أنني أخفيت المقص بمهارة شديدة بمجرد رؤيتي لوجه هاناي. من المؤكد أن رعب المفاجأة وقتها جعلني أعتقد أن هاناي سيقتلني بمقص الزهور.» - «ولكن الشخص الطبيعي لا يفكر في قتل شخص بمقص. فالمقص يستخدم في القطع والاستئصال أكثر من استخدامه في الطعن. مثل سرطان البحر في حكايات الأطفال، الذي يهدد بالقول: أسرعي يا بذرة بإخراج النبتة ثم أسرعي بإنماء تلك النبتة وإن لم تفعلي سأستأصلك، هو المقص. لقد كان لديك خوف من أن يقطع هاناي شيئا ما منك باستخدام المقص. ما يقطع من المرأة في المعتاد هو الشعر، ولكن في حالتك لم يكن خوفك من ذلك.
إن شرح فرويد بشأن عقدة الإخصاء لا يمكن القول إنه مقنع إقناعا كافيا، ولكن خوفك، على الأرجح، ليس تجاه حادثة واقعية حقيقية. في طفولتك أنزل بنطالك الداخلي وسخر منك بالقول: [الطفل المهزوم، قطع عضوه من قبل.]
اشتعلت داخلك فجأة نفس الإهانة تجاه هاناي، والعجيب أن ذلك تحول من غضب إلى خوف. من خلال ذاكرة الطفولة ، وكنت تخافين الإخصاء بواسطة المقص، ومن المؤكد أنه أحد أسباب كراهيتك للرجال. ولذلك من العجيب أن شعورك تجاه هاناي هو نفس شعور الكراهية والخوف؛ أي تجاه «ما يملكه الرجل ولا تملكينه» ... أجل؛ لأن هاناي عنين، أليس كذلك؟»
مرة أخرى كانت إجابة ريكو تجاه هذا السؤال أن حكت مشهدا مرعبا يمثل احتقارا للبشر. - «كلا، فأثناء علاقتي به، شفي ذلك الرجل من العنة. وفي نفس اللحظة أصبحت أكرهه كراهية شديدة، لدرجة الرغبة في التقيؤ عند رؤيته.»
31
الأمر هكذا مفهوم، شفي هاناي من العنة؛ ولذا فإن مطاردته لريكو على أنها امرأة لا غنى له عنها، هو أمر متوقع جدا، ولكن، في نفس الوقت أمر متوقع بنفس الدرجة، أن تصبح ريكو لا ضرورة لها بالنسبة لهاناي الذي شفي بالفعل، ويمكنه التخلي عنها والانطلاق في مغامرات جنسية حرة.
ولكن حذري من تصديق كل ما تحكيه ريكو على أنه حقيقة مطلقة جعل لدي عادة أن أطابق ما تقوله على قوانين الواقع وأميل ناحية الأمر الذي احتمالية حدوثه أكبر وأوقع.
فشفاء عنة هاناي؛ على سبيل المثال، أمر احتمالية حدوثه كبيرة جدا، ولكن لا يمكنني الجزم بصحة ما عدا ذلك.
كان حدسي الأقوى هو أن أوهام ريكو جاءت من تخلي هاناي عنها وتركه إياها. إن انهيار كبرياء امرأة مثلها يؤدي إلى نتائج مخيفة. أعتقد أن صورة المقص الذي ظهر هنا مرة ثانية بإلحاح يخبرنا بذلك بوضوح.
قررت ألا أخفف من ملاحقتها، فظللت أطلق عليها سهام الأسئلة بلا تأثر مع التظاهر سطحيا باللامبالاة وعدم التعمد. - «وماذا كان انطباعك عندما شفي هاناي من العنة؟» - «لذلك ... قلت إنني شعرت بالنفور والكراهية.» - «ماذا كان انطباعك المباشر في ذات اللحظة؟»
على غير المتوقع كانت إجابة ريكو تلقائية. - «هل يمكن القول، إذن؛ إنه إحساس بالخيانة؟» - «بمعنى؟» - «لقد شعر بالغيرة تجاهي أنا ... تجاه «الموسيقى» التي بدأت أسمعها، فحقد علي وكرهني. ولكنني كنت أومن أنه مخلص لي على الدوام.» - «ماذا تعني كلمة «مخلص» تلك؟» - «تعني أن يستمر عنينا تجاهي.» - «فهمت؛ ولذلك شعرت بالخيانة، أليس كذلك؟» - «بلى . وأضف إلى ذلك ...»
ولأنها بدأت تتلعثم في كلامها، شعرت بضرورة أن أسألها عن الوضع بدقة. ونتيجة لذلك فهمت منها ما يلي:
وقع بين الاثنين مشادة لفظية عاصفة في ليلة كان هاناي قد أكثر فيها من شرب الخمر. تلفظت ريكو تجاهه بسباب جارح، فهاج هاناي ولطم وجهها لأول مرة؛ ثم على العكس انهار هاناي بعد ذلك باكيا، واستلقى الاثنان معا فوق السرير بملابسهما، وداعبت ريكو، التي هدأت مشاعرها، بيدها شعر هاناي، الذي لم يتوقف عن البكاء.
فغرقت ريكو في نشوة فارغة بائسة حزينة وفي نفس الوقت معسولة لا يمكن وصفها. وفي تلك اللحظة ظهرت الرجولة فجأة في هاناي.
وعندما انتبهت ريكو لذلك شعرت بالكراهية الشديدة، وقالت إن الأمر جرى كأنه اغتصاب، ولكنني أشك في ذلك. أعتقد أنها، على العكس، استخدمت ذلك الوصف لكي تعبر عن مدى إحساس الكراهية لديها. إن الحقيقة، بالتأكيد، التي وقعت بالفعل، هي أن مشاعرها كانت تتأرجح بلا توقف بين الكراهية والرغبة، وطبقا لذلك، وكما مر علينا حتى الآن، تميل ريكو إلى إحداث تعديلات من تلقاء نفسها على الواقع الذي حدث.
كانت المشكلة هي الفرحة العارمة التي أظهرها هاناي بعد انتهاء الأمر بلا مراعاة ولا تحفظ. كانت تلك الفرحة شديدة الأنانية والذاتية وبدا كأن ريكو غير موجودة في مخيلته. تلك الفرحة تتناقض مع حكايتها عن مطاردته لها فيما بعد على أنها المرأة الوحيدة بالنسبة له. ولكن أثناء سماعي لها مرات عديدة كنت أتعرف على صفات ريكو الشخصية الشيطانية وإن كنت كارها لذلك.
32 ... سأكتب ما حدث بعد أن عوضت بنفسي الأجزاء المبهمة في أقوال ريكو. بالطبع كتبتها بناء على سماعي منها، ولكن يصعب تصديق أن تلك الأحداث حدثت في الواقع. ... ... ...
في اللحظة التي أظهر فيها هاناي قدراته الرجولية للمرة الأولى في حياته، ذاقت ريكو أحد أنواع المصاعب النفسية. وما أشارت إليه هي بكلمة «الكراهية» كان هو ذلك الأمر، ولكنه أمر معقد لا يمكن التعبير عنه بكلمة الكراهية فقط.
تذكرت ريكو على الفور ريوئتشي إغامي، وتذكرت ملاحقته الجسدية اللحوح التي تهاجمها وتلومها: ألم تسمعي «الموسيقى» بعد؟ ألا تسمعين؟ أما في حالة هاناي فقد سمعت ريكو الموسيقى بالفعل، فالظاهر من النظرة الأولى أنه لا قلق من ذلك، ولكن الأمر الذي فهمته بوضوح تام وقتها، أنها لن تسمع الموسيقى مرة ثانية بعد أن استعاد هاناي قدراته الجنسية. وبالتالي من المحتمل جدا أن يقوم هاناي فيما بعد بدور مشابه لريوئتشي إغامي.
ولكن كان القلق الآخر هو أن هاناي بعد أن يظن أنه نجح في غزو قلب ريكو، يبدأ في صنع تاريخه العاطفي مغترا من برهان استعادته لقدراته الجنسية، وفي التو والحال ينتقل قلبه سريعا إلى المرأة التالية فالتي تليها إلخ.
بمعنى أن ريكو لم تعد ترغب في استمرارها في علاقة «طبيعية» مع هاناي أكثر من ذلك. وفي نفس الوقت، لا تسمح له بالسعي وراء امرأة أخرى. وهذا الأمر في أساسه يعني أنها كانت تريد أن يبقى هاناي بجوارها عنينا كما هو إلى الأبد. كانت تريد - إن استطاعت - أن يكون مصيره الموت على أي حال مثل خطيبها الراحل، ولكن المؤكد أن هاناي الذي استعاد قدرته لن يحاول الانتحار مرة أخرى.
ريكو التي توقعت تلك المصاعب في اللحظة التي رأت فيها فرحة هاناي، غيرت من سلوكها فجأة وتظاهرت بأنها تعطيه الحرية الكاملة. - «يجب أن تظهر امتنانك لي. ففي النهاية أنا من جعلك تشفى من المرض الذي لم ينجح أحد غيري في شفائه.» - «أنا شاكر وممتن جدا، ولكنه شكر وامتنان تجاه مشاكستك التي لا يمكن تخيلها.» - «ولكن من الأفضل لك ألا تفرط في النشوة والفرح.» - «لم؟» - «ستفهم السبب فيما بعد.»
في ذلك الوقت ظهر التجهم على وجهه، ولكن لم تقل ريكو شيئا، إلا أن هاناي لاحظ أنه وقع بمهارة أسيرا في قيد لعنتها. والسبب أنه ثمة إشارة إلى أن شفاء هاناي لم يكن إلا شفاء تجاهها هي فقط، وأنه ما زال عنينا كما هو تجاه النساء الأخريات.
ويمكن معرفة إلى أي مدى يخاف هاناي من تلك الإشارة بمجرد النظر نظرة خاطفة على عينيه فقط . وأيضا كان داخل نطاق حسابات ريكو بوضوح أن هاناي بسبب تلك الإشارة سيبدي مقاومة شديدة ويحاول، على العكس، السعي إلى امرأة أخرى.
ثم حدث ما كان متوقعا سلفا. سلك هاناي سلوك الزوج المسيطر فجأة، وبدأ يظهر سلوكا متغطرسا أن الخيانة حقه الطبيعي، وغازل امرأة أخرى قابلها صدفة، فحدث أن تكلل مسعاه بالخزي والعار مثلما كان الأمر في الماضي. وهذا هو الجزاء الطبيعي للمرء الذي يتعامل باستخفاف مع فترة نقاهة أعراض المرض العصبي المصاحب للعنة. وهو أمر لا يدعو لأي قدر من الدهشة.
ولا داعي للقول كيف استقبلت ريكو هاناي الذي عاد محبطا. استمرت في رفضه ببرود، ثم في النهاية اختفت من أمامه. ... ... ...
وبناء على ذلك ليس أمامنا إلا القول إن ريكو هي من صنعت ذلك الوضع الخطير كله، وحتى لو وقعت من هاناي حادثة اعتداء بآلة حادة فيجب التعاطف معه.
إن كان الأمر كذلك، فلم صنعت ريكو مثل ذلك الوضع التعيس المأساوي؟
33
أدركت أن الوقت قد حان لكي أعود إلى الاعتماد على طريقة تداعي الأفكار الحر معها مرة ثانية.
جعلتها تستلقي على الكرسي المريح، وفتحت مفكرة الكتابة في موضع لا تصل إليه عيناها، وانتظرت أن تبدأ التحدث بحرية كما يحلو لها وسط تلك العتمة التي تملأ المكان.
لطالما انتظرت تلك اللحظة! وها قد جاءت لي أخيرا الفرصة التي انتظرتها طويلا للإمساك بذيل الثعلب الأبيض الجميل وسط العتمة. وليس أمامي إلا الاعتراف - أنني وأنا أفكر - أن وضع ريكو الحالي هو الأكثر أصالة فيها والأكثر طبيعية وسط أوضاعها المتعددة، وأنه كان يكمن داخل قلبي حلم عنيف وحاد؛ انحرف عن وضع طبيب التحليل النفسي.
أصبحت هذه الغرفة موطن قلب ريكو الأصلي والحقيقي كأنها موطن السلام النفسي لها، وربما كان وجودنا معا هكذا في غرفة مغلقة علينا، تحقيقا واقعيا للوطن المثالي النادر الوجود، حتى بالنسبة لي أنا الذي عانيت كثيرا معها؛ إنها حالة تلاقي قلب وقلب مباشر، بعد أن حجب عنا كل شيء يخص العالم الخارجي، وابتعدنا عن كل ما يتعلق بضوضاء العالم الإنساني المتنوعة؛ صخب ليل المدينة، وكلمات المحبين وعراكهم، وإضاءات النيون الإعلانية، وركوب موجات الرقص المجنونة، وعاهرات الطريق وغمزهن الخاطف للعيون، وجيوب فقيرة لشباب لا يملك مالا، ونظارات الشمس التي تلبس في الليل، والعرض الأخير لفيلم في دار السينما، ونوافذ عرض محل مجوهرات أغلق أبوابه مبكرا؛ تتراص فيها علب قطيفة فارغة، وصرير خفيف لعجلات سيارة تسرع في الليل، وضجيج إنشاءات سكك حديد الأنفاق ... إلخ.
كنت أثق بنفسي ثقة الخاسر السيئ. وأحتقر جميع الرجال، بالقول إنني أعرف ريكو جيدا أكثر من أي رجل آخر يعرف أعماق جسدها. لا يستطيع هؤلاء الرجال لمس شعوريها العميقين داخلها؛ فرحتها ورعدتها من الخوف، مثلي أنا؛ إنه المكان العميق الحقيقي داخلها، مهما تذوقوا كل جزء من بشرتها الجميلة، ومهما دخلوا في تجاعيد جسدها بالتفصيل. الدليل أفضل من التنظير؛ لننظر إلى الشاب إغامي، لننظر إلى الخطيب الراحل. وأخيرا لننظر إلى الشاب هاناي.
إن جسد ريكو يشبه المدن الكبرى في نقاط عديدة. وبصفة خاصة يشبه مدينة كبيرة تتألق في الليل تحت الأضواء، في كل مرة أذهب إلى أمريكا وأعود لمطار هانيدا في الليل؛ حتى طوكيو - تلك المدينة الكبرى الدميمة - عندما أنظر إليها ليلا من الطائرة أعرف أنها ليست إلا امرأة مستلقية على جنبها بكآبة؛ وقطرات العرق تلمع على جميع أنحاء جسدها ...
لا أستطيع مهما فعلت إلا رؤية منظر ريكو التي ترقد أمام عيني ... هكذا. تختفي داخلها كل أنواع الفضائل وكل أنواع الموبقات. وعلى الأرجح فإن كل رجل، على حدة، يستطيع أن يسبر أغوار جزء منها فقط. ولكنه في النهاية لن يستطيع أن يعرف سرها الحقيقي ولا يعرف هيئتها الكاملة. وفي هذه النقطة يمكنني بالتأكيد القول إنني في موضع يشبه القائد العام للشرطة الذي تتجمع لديه الوثائق الخاصة بتلك المدينة الكبيرة. - «جربي أن تقولي ما تريدين قوله أيا كان.»
هكذا حثثتها على الكلام، ثم وضعت على الورق سن القلم الرصاص المسنون.
34 «إنه المقص مرة أخرى ... يظهر لي المقص مهما فعلت.
أشعر كأنني كنت أبحث دائما عما يسمى «مقص يعزف موسيقى»، ولكن أين هو ؟
أحس نوعا ما كأن له علاقة بالموت، وأحيانا ما أفكر أن المقص إنما هو منجل ملاك الموت متنكرا.
لم أخبرك بذلك من قبل، لقد حدث في طفولتي أن استحممت مع أبي وترك عضوه الذكري لدي انطباعا قويا، ولكن من المؤكد أن ذلك كان قبل حادثة تهديد أقاربي لي بالمقص ونحن أطفال. لقد كان ضخما وناضجا وبالغ السواد، فشعرت بنفور لا يمكن وصفه بالكلمات، وشغل بالي بعنف، واندهشت كيف يخفي أبي ذلك الشيء عندما يرتدي ملابسه؛ فجسد المرأة ليس به مثل هذا الشيء الذي يصعب إخفاؤه.
أجل. لقد تذكرت. لم نسيت هذا الأمر حتى الآن؟
ثم بعد ذلك عندما رأيت مقص الخياطة الغربي فكرت في أنه، على الأرجح، أنثى. والسبب أنني مهما أبعدت حدي المقص عن بعضهما لا أعثر بينهما على شيء. ولكنني لم أخبر الكبار باكتشافي ذلك؛ لأنني اعتقدت أنهم سيوبخونني على ذلك. كنت أزين ذراع المقص بشريط وردي وكنت أناديه في سري [مقصي]. [هل أنت بخير اليوم يا مقصي؟
ماذا قصصت اليوم؟ ماذا قطعت اليوم؟ ورق الطي الملون؟
ورقا أزرق؟ ورقا أبيض؟ ورقا بنفسجيا؟ ورقا أصفر؟ أم ورقا أخضر؟
وهل أطاع الورق ما يقال له، وقطع في هدوء دون مقاومة؟
أنت جميل. عندما تضع شريطا ورديا يا مقصي وتبتسم ابتسامة عريضة، يطيعك الجميع، ويجعلونك تقطع مسرورا.]
كنت أحيانا أؤلف مثل ذلك الكلام الذي يشبه قصص الأطفال وأحكيها للمقص بمفردي.
وحدث أن وبخني أبي قائلا إنه لا يجب التعامل مع المقص على أنه دمية. وفكرت وقتها في أن من المؤكد أن أبي يخاف. كنت أفكر على الدوام - وأنا خائفة - في أنني يجب علي، يوما ما، أن أقص له عضوه بمقصي، ولكن بدون أن أجرحه.
إنني أفهم الآن جيدا أن تحريم زنا المحارم تحول إلى الخوف من «القطع» و«تحريم القطع». ولكن ربما كنت أحمل مشاعر أن تحريم القطع ينطبق على عضو أبي فقط، ولا مانع من قطع عضو أي رجل آخر أحس تجاهه بحب عنيف لدرجة أن يصبح بديلا عن حب أبي.
إنني أفهم أن الرغبة الشديدة في أن يكون لي عضو ذكري، مع عقدة الإخصاء التي ظهرت بسبب اللعب مع أقاربي في فترة طفولتي، لهما نفس الجذور. لو شعر المقص بالحب حقا، فيجب عليه أن يكف عن أن يكون مقصا. والسبب أن دور المقص هو القطع، ومع ذلك فهو لا يستطيع ممارسة ذلك الدور مع أبي الذي أحبه حبا حقيقيا ... لقد عانيت في فترة طفولتي من ذلك التناقض بالتأكيد.
وفيما يتعلق بهاناي وخطيبي المحتضر، فربما كنت أحمل صورة رجل «قطع عضوه بالفعل». ولذلك لا حاجة لي أن أستأصله أنا بنفسي.
ولذلك عندما استعاد هاناي قدراته الجنسية، تولدت الكراهية داخلي هذه المرة وفكرت في أنه ليس أمامي إلا أن أستأصله أنا بنفسي. لقد كنت أتمنى أن ينتحر هاناي من أعماق قلبي. آه يا دكتور ... يا له من أمر مريع! لقد كنت أرغب في موت ذلك الإنسان.» - «مفهوم.»
أوقفتها قليلا لأراقب حالتها.
لقد حللت في السابق علاقة ريكو بأبيها بعدم وجود ملامح لعقدة إلكترا وعدم وجود تأثير عنيف لصورة الأب عند ريكو، ولكن تحليلي هذا بات خاطئا بعد سماع اعترافاتها اليوم. ولكن لم يكن ليرضيني مثل ذلك التفسير المنطقي المنسق؛ لأنها ربما أظهرت والدها أخيرا، لتعطيني طعما مغريا من وجهة نظر علم التحليل النفسي، في محاولة لإقناعي.
وعلى أي حال قررت أن أجرب الاستمرار في طريقة تداعي الأفكار الحر. - «تفضلي، أكملي حديثك ...» - «أجل، ربما يكون القول إن هاناي حاول قتلي بمقص الزهور، وهما تخيلته عقابا لنفسي على آثام قلبي. لقد جاء حقا إلى بيت معلمة تنسيق الزهور، ولكنه في الأصل شخص عديم الشجاعة.»
كنت أثناء سماعي لحديث ريكو هذا - الذي ينساب في سلاسة - أعيد قراءة نتائج جلسات التحليل النفسي السابقة بلا انقطاع. ثم جعلني ذلك أتأكد بوضوح أن ذكرها والدها - الذي لم تذكره ولو مرة واحدة من قبل بذلك الشكل - هو من أجل أن تخدع عيني وتخفي الهدف الحقيقي.
وفي نهاية سماعي حديثها صامتا، سألتها السؤال الآتي في محاولة لاستخدام مبضع الجراح فجأة: «لقد قابلت أخاك المختفي مؤخرا، أليس كذلك؟»
35
لم يسبق لي أن رأيت وجه إنسان وعلى ملامحه ذلك الشكل المرعب من آثار تلقي صدمة.
رفعت ريكو وجهها كأنها ستقفز لأعلى، وقد شحب وجهها في لحظة واحدة، وفتحت عينيها على وسعهما، وجف خداها، وتشنجت شفتاها، وبدا لي أن ملامح وجهها التي كانت حتى الآن، تغيرت في التو والحال إلى وجه آخر؛ هو عبارة عن وجه امرأة مختلفة كأنها حيزبون تحتضر.
ولقد ذهلت أنا نفسي عندما رأيت أن ذلك السؤال التخميني - الذي سألته بناء على حدسي فقط - قد أحدث مثل هذه الفاعلية المهولة. - «لماذا؟ لماذا عرفت ذلك يا دكتور؟» - «لماذا؟ لأنني أعرف وفقط. لم أخفيت ذلك عني؟» - «لأنه ... لأنه ... لقد كنت في منتهى الرعب.» - «ما من أحد هنا ليسمعك. وأنا حافظ كتوم على الأسرار. ما الذي تخافينه لتلك الدرجة؟» - «لأن ... هذا ... يا دكتور ... هذا مستحيل. مهما حاولت أن تجعلني أنطق ذلك بلساني، ذلك الأمر المرعب.» - «جربي أن تنطقي به. إن ذلك هو أساس أمراضك كلها. وإن لم يحل فلن نصل إلى أية نتيجة جيدة. لسنا في قسم شرطة. فحتى لو ارتكبت جريمة يعاقب عليها القانون، سأحميك وأحفظ سرك. ألم تقولي أنت بلسانك من قبل إن كل شيء بدأ من هنا، وإن شقيقك هو بداية كل المشاكل؟ يجب إنهاء تلك المشاكل بأية طريقة كانت. هل تسمعين؟ يجب أن تهدئي وتحكي لي كل شيء.»
ضغطت عليها مرة واحدة بكل طاقتي حقا. - «هيا، جربي أن تتحدثي. إن حكاية شفاء هاناي من العنة، كلها أكاذيب، أليس كذلك؟»
طأطأت ريكو رأسها وأجابت بصوت يصعب سماعه. - «آسفة. لقد كذبت عليك.» - «وكل المشاكل المتعلقة بهذا الأمر قصص مختلقة، أليس كذلك؟» - «بلى.»
وبالتالي انتفى على الفور تناقض أن هاناي لم يأت لزيارتي؛ ولو مرة واحدة للسؤال عن ريكو مع علمه باختفائها وهروبها منه. بل على العكس؛ فإنه من المنطقي أن هاناي هو الذي اختفى وهرب بعد أن زارني عندما رأي ريكو وهي تسمع «الموسيقى» مما سبب له جرحا عميقا في قلبه. لماذا لم أنتبه أنا إلى ذلك من البداية؟ - «قصة أن هاناي يطاردك ويهددك كذب أيضا، أليس كذلك؟» - «بلى.» - «وأيضا قولك إنك ذهبت إلى بيت ريوئتشي بعد أن هددك هاناي؟» - «أجل.» - «إن أخاك الأكبر هو الذي يطاردك، أليس كذلك؟»
رفعت ريكو عينيها الممتلئتين بالدموع علامة على الرد بالإيجاب.
36
مع هذا النصر الكبير لحدسي هناك شيء واحد فقط أخطأت فيه.
وهو أن لقاء ريكو مع شقيقها لم يحدث مؤخرا. فإنها قابلت شقيقها المختفي قبل أن تتعرف إلى ريوئتشي.
من هنا ستظهر حقائق أكثر شناعة ومأساوية في هذه الحكاية، فعندما كانت ريكو تعيش في سكن الطالبات الخاص بجامعة «س» للبنات، جاء رجل لزيارتها، وعندما ذهبت لمقابلته اندهشت دهشة عظيمة عندما وجدت أنه شقيقها المختفي.
ومن خلال النظر إليه كان مظهر شقيقها كأنه عضو في عصابات الياكوزا، ويختلف تماما عن الذي تعرفه في الماضي، من نظرة عينيه المتعالية وابتسامته التي بلا روح.
قالت ريكو: «أهلا أخي، يا لها من مفاجأة!»
ثم لم تستطع النطق لفترة بعدها.
تحدث شقيقها بجمل متقطعة، وحذرها من إخبار العائلة بلقائه بها؛ لأنه يعيش في طوكيو معيشة لا يريد أن يعرف أحد بها، ثم قال إنه جاء لزيارتها من شدة حنينه لها بعد أن سمع أنها جاءت إلى طوكيو للدراسة في جامعة للبنات. وعدته ريكو باللقاء في مكان ما من طوكيو بعد عدة أيام من زيارته، ولكن بدا أن شقيقها في حالة اقتصادية سيئة فأعطته بعض المال قبل أن ينصرف.
ترك ذلك اللقاء تأثيرا عميقا في قلب ريكو، فغطت المشاعر العاطفية على كل شيء، وقررت أن تحافظ على كلمتها له بعدم إخبار العائلة بذلك اللقاء. ولم تستطع ريكو النوم في تلك الليلة من شدة التأثر.
وفي اللقاء الموعود بينهما بعد عدة أيام في حي غينزا، شاهدا فيلما في دار السينما وتناولا الطعام معا، وكانت ريكو هي التي تتولى الإنفاق. كانت سعادتها لا توصف عندما اكتشفت صورة شقيقها السابقة مختبئة داخل ملابسه الرثة وطريقة حديثه السوقية. وعندما عرض عليها أن تزوره في البيت الذي يسكنه مؤقتا. في ذلك الوقت استجابت بفرح لدعوته تلك.
كان مسكنا صغيرا للإيجار في منطقة هياكونين بحي شينجوكو، وعندما دخلت البيت وجدته غرفة واحدة فقط، بها سرير ومشغل أسطوانات بالكهرباء، ورف صغير للمشروبات الكحولية الغربية، مما يدل على أنه يعيش حياة أنيقة في حدود إمكاناته. كان شقيقها محبا للنظافة والترتيب منذ صغره، وعندما دخل غرفته خلع سترته وألقى بها على السرير مما أثار التراب، على العكس، في الغرفة فغضب قائلا: «اللعنة. إنها تتظاهر فقط ولكنها لا تنظف الغرفة كما يجب.»
عرفت على الفور أن المرأة هي صاحبة الغرفة، ولكن تصرف شقيقها المبالغ فيه هذا، جعلها تشعر بخجله من هذه الغرفة.
كان شقيقها حليق اللحية، منسق الشعر، ولكن نوعا ما ينبعث منه شيء قذر وغير مريح. ولم تشعر ريكو بالارتياح من ابتسامته الشكلية التي بلا روح تجاهها. كانت على استعداد لتقبل تغيرات شقيقها تلك لديها بدفء، ولكن على العكس أحست أن شقيقها يضع سياجا يمنعها من الاقتراب منه.
فكرت ريكو: «ما معنى هذا؟ مع أنه مهما أصبح إنسانا ساقطا فهو يظل بالنسبة لي شقيقي الأكبر الذي أحن إليه.»
وعدم تحرك غريزة النقد الأخلاقي لدى ريكو تقريبا تجاه طريقة حياة شقيقها تلك، يستحق الاهتمام. فالحقيقة أنها كانت تستمتع بذلك الوضع الذي يشبه الأفلام والروايات؛ أن يصحبها رجل يشبه رجال مافيا الياكوزا إلى شقته الحقيرة؛ ولكن الحقيقة أنها استطاعت أن تستمتع بهذا الوضع فقط؛ لأن الرجل كان شقيقها الأكبر.
وأثناء وجودهما معا عادت فتاته فجأة فتغير الوضع تماما.
كانت فتاة مسرفة في مظهرها؛ تضع مساحيق تجميل فاقعة وثقيلة، وعرفت من نظرة واحدة أنها فتاة ليل، وعندما عرفها شقيقها على ريكو قائلا إنها شقيقته الصغرى، تطور الوضع إلى ما لم يكن متوقعا.
كانت الفتاة ثملة وشاحبة الوجه، فضحكت ضحكة باردة من تعريف الشقيق لشقيقته، وأبدت من البداية عدم تصديقها، وانتقدت بسخرية خفيفة جلبه لامرأة إلى شقتها أثناء غيابها، ثم ارتفع صوتها تدريجيا، ثم بدأت تقول: «من الوقاحة وقلة الذوق أن تقول إنها شقيقتك.»
ثم بدأ بين الفتاة وبين شقيق ريكو عراك بكلمات نابية لا يمكن تحمل سماعها، فحاولت ريكو التي لم تطق البقاء أن ترحل، ولكن الفتاة لم تسمح لها بالرحيل مهما حاولت. ثم أخرجت خمرا ودعتها للشرب بالقوة، وشرب شقيقها أيضا وهو في حالة من اليأس، فصار مجلس خمر ينظر الجميع شزرا بعضهم إلى بعض. - «لا مانع أن تكون شقيقتك ما دمت تصر على ذلك. وبذلك فأنتما على علاقة طيبة معا، أليس كذلك؟ إن كنت تصر على أنها شقيقتك فلنبق محاصرين هنا معا نحن الثلاثة لعشرة أيام. وإن كانت شقيقتك فعلا فلن تأتيك رغبة في أن تلمسها، أليس كذلك؟»
أجاب الشقيق وعيناه تحتويان على غضب وتبرق منهما خطورة: «أجل، لا مانع.»
كررت المرأة قولها في إلحاح: «إن كانت شقيقتك فلن تشعر بشيء، أليس كذلك؟ ولذلك سوف أجعلها ترحل بعد أن أتأكد أنك لا تشعر بشيء. ولكن هذا الأمر يستغرق وقتا طويلا جدا.»
كان عراكهما يزداد عنفا مع سكرهما وظلت ريكو تسمع تبادلهما نفس الموضوع بلا نهاية. «إن كانت شقيقتك فلن تشعر تجاهها بشهوة، أليس كذلك؟ لو مر الأمر بالادعاء أنها شقيقتك بدون برهان فالحياة سهلة. إن كانت هذه الفتاة شقيقتك فأين البرهان؟ بغض النظر طبعا لو معك نسخة من وثيقة السجل المدني تحملها معك أينما كنت.» - «ليس هناك وسيلة لإثبات ذلك. ولكنها شقيقتي فلا حيلة في الإنكار.» - «إذا كان لا وسيلة للإثبات فكيف تجعلني أتأكد أنها شقيقتك؟ أليس هذا مستحيلا؟ إن كنت تقول إنها ليست شقيقتك، فإثبات ذلك سهل جدا بأن تنام معها أمامي.» - «حقا؟ إن نمنا معا فهذا دليل على أنها ليست شقيقتي؟» - «أليس هذا هو الطبيعي؟ فلستما حيوانين.» - «كيف تعرفين من ذلك أنها ليست شقيقتي؟ فحتى لو نمنا معا فهي شقيقتي.» - «حقا؟ أنت تقول شيئا مشوقا. إن كان الأمر كذلك فسينتفي سبب غضبي. إنني غاضبة؛ لأنكما تكذبان علي كذبا مفضوحا، وإن كان الأمر كذلك، فأنتما صادقان وأصبح أنا التي غضبت في منتهى الغباء. حقا ! حتى لو نمتما معا فهي شقيقتك؟ إن علاقتكما ببعضكما بعضا سهلة.» - «إنني فقط أقول إننا أشقاء؛ لأننا شقيق وشقيقة. وليس لذلك شأن بأن علاقة بعضنا ببعض سهلة أو مستحيلة. أنت فقط تريدين أن تعتقدي أن شقيقتي ليست شقيقتي وأنها عشيقتي مهما كان الأمر، أليس كذلك؟ إن كنت تعتقدين ذلك فلك ما شئت. ولكن مهما كان اعتقادك، فشقيقتي هي شقيقتي. وما من دليل على ذلك.»
كان عراكهما سلبيا وسكرهما مظلما يغرق إلى الحضيض تدريجيا. وكان عدم رفع شقيقها يده على المرأة، أمرا غير متوقع لريكو. ولكن أثناء سماعها لهما بدأت تعتقد أن الاثنين يتجادلان في أكثر القضايا الإنسانية جذرية وأصالة. فالمرأة تسخر من عدم وجود شيء آخر يبرهن على أنهما أخوان أشقاء؛ إلا بمجرد وجود ورقة من السجل المدني للبلدية. وكان ذلك الأمر الأكثر مدعاة للسخرية، وفي نفس الوقت على ما يبدو أن المرأة تهاجم بعناد؛ هو ضعف العلاقة الجسدية بينها وبين شقيق ريكو، وأنها تريد أن تثق أكثر في العلاقة الجسدية بين البشر، بدلا من التحجج الكاذب بأنهما شقيقان. ويبدو أنها كلما تعمقت غيرتها؛ تريد الاتجاه إلى منافسة متكافئة. فليس من صفات تلك المرأة أن تترك الخداع خداعا كما هو، ولكنها تريد أن تصل إلى يقين بأي طريقة. - «إن ما لا يعجبني فيك هو اعتقادك أنك تستطيع أن تخدع امرأة بالكذب وينتهي الأمر. إنني أكره أن ينتهي الأمر لمجرد أن تتظاهر بالقول إنها شقيقتي، إنها شقيقتي، فلا شبه بينكما مطلقا.»
كان الشقيق مع انتفاخ عروق جبهته الزرقاء، هادئا هدوءا مريبا فقال: «ماذا تريدين أن أفعل؟ هل تقولين إنك سترضين لو أننا نمنا معا أمامك حقا؟» - «هذا بالطبع يرضيني. فعندها ستنهار كذبة أنها شقيقتك ولا يعود لها أساس.» - «وماذا تفعلين إن لم تنهر؟» - «عندها سأتوقف عن الشكوك؛ فإنها ليس لها نهاية؟» - «إن كان الأمر كذلك، أفليس من الأفضل الكف عن تلك الشكوك المملة من البداية وتصديق أنها شقيقتي فعلا؟» - «لا ينفع. فأنا أكره الكلام المنمق.» - «انظري إذن!»
شعرت ريكو أن الحوار مع أنه يسير متباطئا في كسل، إلا أنه يثير الهياج بطريقة مريبة، ولكنها أثناء جلوسها مختبئة وراء شقيقها، في نفس اللحظة التي نطق فيها بكلمة «انظري إذن!» اندهشت من لوي شقيقها الثمل جسده ومد ذراعه فجأة. ولم تجد وقتا لتفاديه، وعندها حضنت بقوة، وقبلت قبلة طويلة لدرجة أن أنفاسها كادت تتوقف. كانت قبلة تثير الخجل والخوف حقا، ولكن ريكو كادت أن يغمى عليها لحظيا من تلك الحلاوة التي لا توصف.
قالت المرأة وهي تضحك عاوجة فمها ذا الطلاء الأحمر الفاقع: «لا يكفي. لا ينفع. هذا فقط لا يكفي. فالشقيقة والشقيق يمكنهما التقبيل على سبيل الدعابة؛ أي أنكما ما زلتما شقيقا وشقيقة. ومهما فعلت فكذبك مكشوف. من الذي يصدقك!»
والحقيقة أن السكر هو الذي تسبب في اضطراب المنطق هكذا، فتحول العراك الذي بدأ من الغيرة إلى تنافس في العناد، وفي غفلة من الزمن بدلت المرأة دورها، وأصبحت هي التي تصر على أن ريكو شقيقته حقا، وتحول الشقيق على العكس؛ إلى الدور الذي ينفي ذلك.
وأحست ريكو غير المعتادة على الخمر بألم في قاع جمجمتها، وأصبح إحساس المكان غير مؤكد لديها، فشعرت أنها تقف فوق خشبة مسرح صغير تتركز عليها الإضاءة الشديدة التي تجعلها في منتهى التوتر، لتلك الدرجة أصبح كل شيء غير واقعي. - «أكثر. أكثر. فهذه الدرجة ما زالت في نطاق شقيقتك يا كاذب!»
قالت المرأة ذلك بسخرية وهي تدق المائدة بقعر كوب الخمر.
شعرت ريكو كأنها في حلم؛ إن يد شقيقها تعري صدرها، ثم شعرت أن أسنانه تعض ثديها برقة. وسمعت من بعيد صوت المرأة تصرخ: «أكثر. أكثر» وصعد جسد شقيقها السكران كأنه فحم مشتعل فوق جسد ريكو المستلقية.
37 ... عندما سمعت حتى هنا، أعتقد أنني يجب علي الاعتراف أنه تولدت في هذه اللحظة داخلي خيبة أمل أنانية.
خيبة الأمل من أن نيتي كانت سبر أغوار العقل الباطن، ومع ذلك تعرضت فجأة لحالة واقعية تنقصها الروحانية والروعة. بل من النظرة الأولى هو مجرد سلوك حيواني فقط أثاره السكر واليأس، بدون وجود لأي تفسير نفسي ولا روحاني.
بالتأكيد لا يمكن مطلقا القول إنه كان سلوكا مندفعا عفو اللحظة. فالإنسان في أي وضع كان، لا يمكن أن يغتصب شقيقته بسهولة شديدة أمام شخص آخر مهما كانت الدوافع. وإذا حاولنا التعمق قليلا في نفسية شقيق ريكو، فأنا أعتقد أن هذا الشقيق يحمل مشاعر حب مازوخية منحرفة تجاه شقيقته، فبعد أن حرص على أن ترى حياته البائسة التي وصلت للحضيض، حدث تحول تام؛ فبدأ في الهجوم عليها. وربما نستطيع القول إنه سلوك انتقامي موجه إلى ذاته شخصيا.
تذكرت مرة أخرى نظرية «التحليل النفسي الوجودي» (Daseinsanalyse)
التي أنشأها العالم الألماني لوفيد بنسوانغر في علم نفس الأمراض (Psychopathology) ، ومع قولنا إنها نظرية علمية استوحت نظرية الوجود بناء على المذهب الوجودي لمارتن هايدجر وكارل ياسبرز، ولكن أساس النظرية هو جهد علمي جبار يحاول العودة مرة أخرى للنظر للإنسان ببراءة وتلقائية، وإلى عمق تجارب الحب التي نعرفها نحن البشر، على أنها رد فعل لغرق علم التحليل النفسي في التحيزات العلمية وتناقضه الشديد مع خبراتنا الإنسانية حتى الآن في الحب. فمهما قال القائلون نحن نعرف الحب ونراه نورا يضيء قلب الإنسان، وسماء ليل زرقاء تسحره.
عند النظر والتفكير هكذا، يمكننا أن نفهم أن السلوك الحيواني لشقيقها لا يمكن مطلقا القول عنه إنه سلوك حب معتاد في المجتمع الإنساني. ولكن لا يخلو الأمر من أن ترى ريكو في وسط تلك التجربة المرعبة المخزية - وهم «اتحاد ذاتها مع علاقة عالمية». ولأن الطريقة كانت مخزية وهازئة؛ لأنها كذلك، وربما أحست ريكو - في الوعي واللاوعي - أنها لن تستطيع أن تحقق حلمها البعيد وحبها لشقيقها إن هي أفلتت تلك الفرصة.
وأريد من القارئ أن يتذكر مرة أخرى الأمر الذي رجوته أن يضعه في اعتباره في بداية هذا التقرير؛ أي القاعدة الأساسية التي تقول: «في عالم الجنس ما من سعادة واحدة تصلح لجميع البشر.»
أنا لا أحاول القول إن ريكو اكتشفت المتعة الأكثر حلاوة في مثل ذلك الرعب والخزي. فلم ألمح فيها بعد ذلك أية بوادر ولو قليلة لمازوخية متأصلة . ولكن في أعماق ذلك السلوك الشاذ ليس من العجيب أن تشعر بحنان شقيقها المخلص. فقد كان قلبها مهيأ في سرية تامة، منذ أن تعلمت في طفولتها تلك المتعة من خلال يد شقيقها لذلك السلوك الفاحش الذي لا يمكن الوصول إليه بدون اختراق شرائع العالم البشري. ولأنه منذ البداية سلوك منحرف عن الطريق القويم، فلا يمكن تحقيقه إلا في حالة منحرفة عن الطريق القويم. ولأنه في الأصل كابوس، فلا يمكن أن يظهر إلا أثناء المعاناة من الحمى.
كانا يعرفان استحالة ذلك الحب. لا يمكن أن يحققه إلا الموت أو لهو في منتهى البشاعة. ويمكن ملاحظة أن لاوعي ريكو قد جهز بالفعل واستعدت نفسيا لتجاوز وسوسة الفتيات الجنسية، لكيلا تمانع من أي خزي أو عار في سبيل الوصول إلى ذلك الحب مهما تكلف الأمر.
عند النظر نظرة أحادية، فقد يبدو ذلك السلوك في منتهى الإباحية، ولكنه بسبب ذلك قد تخطى الإباحية، وأصبح كأنه أحد الطقوس المقدسة. ولا شك أن ريكو وقتها أحست من خلال ذلك الفعل الحيواني بجوهر مقدس غير قابل للانتهاك يتوارى داخل الفعل الجنسي وداخل حنان الحب. ... عند هذا الحد، تبتعد المسألة عن التحليل النفسي ابتعادا لا نهائيا، ولكن في اللحظة التي عرفت فيها أن أسباب البرود الجنسي والهيستيريا تكمن هنا، شعرت أن أي كذب مهما كان عابثا، يخفي وراءه مشكلة إنسانية مرعبة. ويمكن القطع بالقول إن أي شخص يمر بنفس تجربتها نتوقع أن يسير في نفس مسار حياتها.
إن القداسة والإباحية المغرقة في إباحيتها، يتشابهان في أنهما «لا يمكن لمسهما باليد». وكما سيرى القراء فيما بعد، تحول ما شعرت ريكو به وقتها من خزي وعار ليس لهما نظير، إلى ذاكرة مقدسة. ... ... ...
لا تتذكر ريكو تقريبا كيف هربت من شقة شقيقها وصاحبته.
كانت الغرف في مسكن الطالبات في جامعة «س» للبنات مرفهة؛ لكل بنتين غرفة. عادت قبل موعد إغلاق البوابة بقليل وهي على وشك السقوط والانهيار، ووجهها أزرق شاحب، وعندما حاولت زميلتها في الغرفة مد يدها بحنان لمساعدتها ، دفعت ريكو يدها بعيدا بعنف، فانتقمت البنت منها انتقاما نسائيا وقالت لها: «لقد سمعت اليوم خبرا غريبا. يبدو أن مديرة المسكن تضع عينها عليك. وعندما سمعت تلك الشائعة فاض بي الغضب حقا. إن تلك العانس يبدو أنها أخذت تعوي وتقول إن شقيقك الذي جاء لزيارتك ليس شقيقك حقا، وإنه بالتأكيد عشيق يعمل في المافيا. وأن ذلك مشكلة كبرى من الناحية التعليمية، وبالنسبة لجامعة «س» للبنات المؤتمنة على بنات شريفات، لا تستطيع أن تتغاضى عن ذلك. إنها عودة إلى عصر ما قبل الحرب!»
ولا داعي للقول إلى أي مدى جرحت تلك الكلمة ريكو وقتها.
اعتقدت ريكو أنها لن تستطيع النوم في تلك الليلة، ولكن، على العكس، نامت على الفور نوما ضحلا، وهي تعاني كوابيس مرعبة بين اليقظة والنوم. وفي صباح اليوم التالي آلمها صداع عنيف، ولم تكن تريد الذهاب إلى الجامعة مهما حدث، ولكن نومها في المسكن سيجعل المديرة تشك فيها أكثر، وكذلك كانت تخاف من أن يأتي شقيقها للاعتذار عما حدث ليلة أمس، فضغطت على نفسها وذهبت للجامعة وسمعت المحاضرات التي لم تكن تتخطى أذنها.
وفي ذلك الوقت كانت اختبارات التخرج تقترب، وريكو تستذكر دروسها كل يوم وهي بين الخوف من أن يأتي شقيقها لزيارتها في سكن الطالبات وأملها الضئيل ألا يحدث ذلك. وفي أحد الأيام، تشجعت وذهبت معتمدة على ذاكرتها إلى تلك الشقة، فعلمت أن شقيقها وامرأته قد رحلا عنها.
وتولد لديها تساؤل محير: لماذا لم يأت شقيقها لزيارتها؟ وبعد أن أصبحت مجددا لا تستطيع معرفة مكانه، تولدت، للعجب، مشاعر شوق متيم إليه!
بدأت ذكريات تلك الليلة المأساوية تتغير تدريجيا؛ فمع محاولة ريكو الدائمة ألا تتذكرها مهما حدث، فإنها كانت - من أجل أن تنقذ نفسها - ترجع دائما بتفكيرها إلى تلك الذكريات وتحاول تنقيتها وتجميلها ولو قليلا. قررت التفكير في أن ما حدث كان وهما وتخيلا منها. فلو فكرت أنه كان وهما، فلا يجب أن يكون وهما شريرا بأنه في نهاية مشادة أثناء سكر بين مع فتاة ليل بذيئة يغتصب الشقيق الذي يعمل في المافيا شقيقته، بل يجب أن يتحول إلى وهم مقدس ورمزي.
وهنا تتحول فتاة الليل؛ عشيقة الشقيق، تلك الفتاة ذات الصوت المجلجل البذيء، إلى الشاهد الأوحد، لترمز إلى كل محرمات المجتمع وانتقاداته وتحدياته. ويكون الشقيق هو الكاهن وريكو هي فتاة المعبد العذراء الطاهرة (وإنها لم تكن عذراء كما ذكرت). وهنا لا يمكن أن يقام الطقس المقدس والمرعب أيضا، بوجود ريكو وشقيقها فقط، بل يجب، من أجل أن يكتمل، وجود شاهد صارم بأية طريقة.
فتحولت تدريجيا تلك الغرفة الضيقة، إلى غرفة في عمق معبد صغير تنصب عليها أشعة إلهية مقدسة، لتنير الأشخاص الثلاثة الذين يظهرون في المشهد.
كانت خطة الشقيق، هي أن يجعل تلك الفتاة التي تقوم على رعايته، والتي تعاني غيرة العلاقة المعتادة التافهة بين الجنسين، شاهدة ترى مجالا مقدسا للجنس من منظور مختلف، مجالا يتخطى المعارف البديهية لعامة الناس. وريكو كذلك، والتي ترفض وتعترض شكليا فقط، تدرك داخل عقلها الباطن، خطة شقيقها السكران، وتوافق عليها. وعندما لمست يد الشقيق تنورة ريكو، وأغمضت عينيها بصرامة، شمت رائحة جسد شقيقها الشاب الذي ظلت تشعر بقربه دائما رغم ابتعاده عنها كل ذلك الوقت.
تحمل الشاهدة عبء القيام بدور المجتمع، فتراقب المشهد بعينين ممتلئتين حقدا، ولكن في اللحظة التي كان الشقيق على وشك اغتصاب شقيقته - ومع أنها كانت على وشك التأكد من انتصارها - انهار كل شيء؛ فتولد داخلها حدس: [إن الاثنين اللذين على وشك ممارسة الحب أمام عيني الآن هما شقيقان حقا]؛ لدرجة أن تلك الفتاة العاهرة ارتعد جسدها من الرعب. وهنا مدت يدها على عجلة وحاولت أن توقفهما. ولكن كان العالم الخارجي قد اضمحل بالفعل في عيون ريكو وشقيقها، وتركا الشاهدة الوحيدة بمفردها في ذلك العالم البعيد، وذهبا ليغرقا في قاع أعماق شديدة لا نهاية لها. نظرت الشاهدة إلى ذلك القاع، فداخت عيناها، ووقفت في ذهول. وأحست أنه - حتى إن حاولت إيقافهما - قد تأخر الوقت.
كانت تلك معجزة لا تحدث إلا داخل معبد مقدس إضاءته معتمة. إن رجعت الشاهدة الوحيدة إلى المجتمع وأخبرت عن هذا الحدث فلن يصدقها أحد. كانت الشاهدة تقف وحيدة في عزلة بين المعجزة والمجتمع. ولكن كان دورها في منتهى الأهمية، فالمعجزة تحتاج إلى شاهد؛ أيا كان، حتى إن لم يصدقه أحد من الناس، بل حتى إن لم يصدق هو شخصيا ما يراه بعينيه. ... بعد ذلك ضجرت ريكو من العالم بكل ما فيه. وعند التفكير بالمنطق كان اختفاء الشقيق عن الأنظار بسبب الخجل العميق الذي شعر به إزاء فعلته التي فعلها، إلا أن ريكو لم تستطع الرحيل عن طوكيو التي يقيم فيها شقيقها. فهي إن عادت إلى بلدتها وتزوجت فمن المؤكد أنها ستفقد إلى الأبد فرصة لقائه. فمجرد وجودها في طوكيو، ربما يحدث في وقت ما أن يظهر مثل إله، مغيرا هيئته القذرة تلك إلى هيئة مبهجة.
38
لقد ذكرت فيما سبق تفاصيل توظف ريكو بعد تخرجها في شركة كبرى للاستيراد والتصدير رغم معارضة والديها، وتعرفها هناك على الشاب ريوئتشي إغامي.
كانت إحدى المعضلات التي أواجهها هو رمزية المقص الذي يظهر كثيرا أثناء تحليلها النفسي؛ ولذا لم أخفف من قبضة الضغط عليها بالأسئلة.
ومن الواضح أن المقص - وهو عدة الخياطة - يعد في علم الأعراق (الأنثروبولوجيا) رمزا عاما للمرأة طبقا لما قرأته في أحد كتب ذلك العلم. وفي معبد أراهاباكي بقلعة تاغا بالقرب من مدينة شيوكاما اليابانية يحتفل برمز العضو الذكري في معبد الرجال، ويقدم المقص الحديدي قربانا في معبد النساء.
ولقد فهمت أخيرا معنى إظهارها ذلك الرمز من حين لآخر، فقد كانت تريد على الدوام أن تجعلني أفطن إلى تلك الحقيقة الأخيرة من خلال ذلك الرمز. ويمكن القول إن الأمر الذي يجب أن ينال الاهتمام أكثر من غيره، أن ذلك الإيحاء لم يكن من تأثير صرف من اللاوعي، وبالطبع لم يكن من خلال خطة محكمة من الوعي، بل ربما يكون - خاصة في حالة ريكو - اكتشافا جديدا في علم التحليل النفسي.
بمعنى أن من صفات الهيستيريا الشديدة، أنها تستخدم بإيجابية الرمز تحت عتبة اللاوعي، ولا تقتصر فقط على التأثر والتحرك سلبيا بالوعي الكامن في الباطن فقط. ومثل الأبكم الذي يستخدم المنديل للإشارة بطلب النجدة. وكانت ريكو منذ بداية البداية تواصل إرسال إشارات
SOS
ولكنني لم أستطع قراءة تلك الإشارات بسهولة بسبب بلادة مشاعري.
ماذا يعني المقص؟
إن الكلمات التي ذكرتها ريكو في هذا المجال، تحكي عن مقص في صورة خالصة تفوق المعنى الرمزي الذي يعطيه له علماء التحليل النفسي؛ مقص مستقل عن المجتمع الإنساني، فلم يعد أداة تستخدم في الحياة اليومية، ومقابل ذلك تحكي عن عالم «الأشياء» المريبة والمنفرة. «... أجل. إنني أشعر أنني أستطيع أخيرا التحدث بتلقائية عن أمر المقص.
عندما صار الوضع هكذا مع شقيقي، بات قلبي واقعا في فوضى تقترب من الجنون، كان وضعا لا أستطيع أن أفهمه مطلقا، أيفضل أن أطلق عليه اسم الحزن؟ أم أن أدعوه الخزي؟ أم من الأفضل أن أقول إنني شعرت بالحنين إلى قوة ذراعي شقيقي وهما يحضناني بقوة وعنف؟ عند التفكير، أجد أن تلك هي المشاعر التي ظل قلبي يتوق إليها على مدى وقت طويل منذ أن رأيت خيانة عمتي معه، وأنها فقط زادت سريعا، ولا أتذكر أنني شعرت تجاهه بمشاعر أخرى غيرها بعد ذلك، ولكن وقتها، لم يكن لدي أي مجال لمثل هذا التحليل النفسي.
وليس كذبا إن قلت إن عيني تلك الفتاة الحقودتين جعلتني في قلق ورعب ورغبة شديدة في الهروب من حضن شقيقي بأسرع ما يمكن.
وقتها، عندما كنت أحضن من الخلف وجسمي كله ملتصق به وتلتوي رأسي يمينا ويسارا، لمحت سريعا شيئا يلمع عند طرف عيني.
بجوار السرير رف صنع إضافيا له، وفي وسط الأشياء الصغيرة التي وضعت بعشوائية في الرف من كتب وخلافه، عرفت أن ما يلمع هناك هو مقص خياطة غربي. تعمدت أن ألوي رأسي تجاه ذلك المقص وجربت أن أمد يدي نحوه. عندما تحررت يدي اليمنى التي كانت مقيدة الحركة، كان نصف جسدي مقيد الحركة من خلال جسد شقيقي، وعرفت أن ذراعيه لم تعد تمسك بذراعي.
فوجدت متسعا لكي أمسك المقص بيدي، وأخفيه أسفل الوسادة فقط دون أن تراني الفتاة. كانت الغرفة معتمة، وهي في حالة سكر شديد، عيناها تحملقان في الفراغ.
مع شدة ارتباكي هذا كانت مؤخرة رأسي باردة مثل الثلج وفي هدوء شنيع، فبدأت أفكر كما يلي. [لا بأس. لأجعله الآن يفعل ما يريد. ولكن عندما ينتقل إلى الفعل الرئيس سأطعنه بهذا المقص وأقتله. إن رفعت المقص ولوحت به بكل قوتي ثم غرزته في عنقه سيموت بالتأكيد. ثم لا بأس أن أنتحر أنا أيضا بعد ذلك، وإن مات الشقيقان هكذا فمن المؤكد أن الأحلام النقية ستلتحم معا في المستقبل، وتحقق أحلامي وأحلامه.]
ولكن عندما فكرت فيما بعد، كان مثل هذا التفكير الهادئ تفكيرا ماكرا. كان تفكيرا خاطئا. إن كنت سأقتله حقا، فقد كان يجب علي فعل ذلك في اللحظة التي أمسكت فيها بالمقص في يدي.
وأنا قابضة على المقص بيدي تحت الوسادة، آه يا دكتور، أصبحت غير قادرة على استخدامه. المقص الذي يفترض أنني لو استخدمته لكنت أستطيع الذهاب إلى الجنة، ولكنني سقطت في الجحيم فقط بسبب عدم استخدامه. لماذا لم أستطع استخدامه يا دكتور؟ إنني كلما أفكر في ذلك حتى الآن أشعر أن جسمي يتجمد من الرعب. حتى وسط فظاظة العنف، فجأة تذكرت من حركة أصابعه الرقيقة ذلك الإحساس الذي شعرت به وأنا في الصف الثالث الابتدائي؛ ذلك الإحساس الذي لا يمكن أن أنساه والذي ظللت أنتظره في خجل على أحر من الجمر، وأريد منه أن يكرره مرة أخرى في وقت ما.
وكان المقص يرتعش بين أصابع يدي مصدرا صوت قصقصة وأنا أفكر: يا له من شيء حقير! وسمعت من تحت الوسادة ذلك الصوت المحبب لصياح المقص الذي خان ضميري. لقد حقدت على ذلك المقص. آه، إن ذلك المقص هو السبب! لقد قلت إن كل ما حدث بسبب ذلك المقص؛ لأنه لم يؤد وظيفته. وكان من المؤلم الاحتفاظ به بين أصابعي، وأخيرا جعلته ينزلق في الفراغ الذي بين السرير والحائط. فسقط المقص في تلك الهوة المظلمة بلا صوت.
لقد فقدت يا دكتور، في ذلك الوقت، ضميري فقدانا نهائيا، وأصبحت امرأة فاضحة. تركت نفسي للجحيم. ليس من أجل أحد بل بفضل ذلك المقص!
ومنذ ذلك الوقت ظهر المقص في أحلامي مرة بعد مرة، وارتبط مع ذكريات الطفولة الساذجة، وأصبح رمزا يهدد ضميري على الدوام. هل تفهمني؟» ... سمعت اعترافات ريكو تلك عن ماضيها بلا راحة.
إن لم تكن تلك هي حقيقة الاعترافات الإنسانية، فماذا تكون؟! إن ارتبت وقلت إنها كذب، فكأنني أنكر كل خبراتي في التعامل مع العديد من البشر في التحليل النفسي.
ابتعدت عن وعيي الوظيفي، وابتعدت عن مشاعر الحب الحزين المنحرفة، وأظهرت لها مشاعر التأثر العاطفي بالقول: «لقد فهمت. أشكرك على قول ذلك الأمر الذي يصعب قوله. لقد حلت بذلك كل الألغاز. إن كل تاريخك بعد ذلك كان عبارة عن أمنية واحدة فقط؛ هي رغبة الهروب من ذكرى تلك الليلة، الرغبة في العودة إلى أن تكوني امرأة طبيعية، الرغبة في الزحف والخروج من الجحيم. لقد فهمت جيدا.
ولكن مرض البرود الجنسي بات عقبة في سبيل تحقيق تلك الرغبة، وصراعك معه جعل أعراض الهيستيريا تتفاقم؛ أي أن البرود الجنسي هو تعبير عن سخرية اللاوعي من الوعي ومن الإرادة، وتعبير عن رغبة اللاوعي داخلك في الاحتفاظ بذكرى الموسيقى الممتعة مع شقيقك.
نعم هو كذلك. لقد سمعت موسيقى الجحيم. وكلما حاولت الابتعاد عن تلك الموسيقى - باتت أذناك لا تريد سماع أية موسيقى أخرى؛ ثم إن الموسيقى التي تبعث للحياة داخل أذنيك مرات قليلة، إما حالة متطرفة في التعاسة، وإما متطرفة في القداسة المخيفة، بمعنى أنها كانت تحدث فقط في الوقت الذي تواجهين فيه حالة ذات علاقة بالجحيم؛ وذلك وقت عنايتك بمريض على فراش الموت تنبعث منه رائحة كريهة منفرة، أو عند وجودك بجوار رجل عنين بائس ... إن حالات الجحيم تلك، هي التي تجعلك أنت نفسك مقدسة، وترتبط بتلك الذكرى في ذلك الوقت، وتجعل الموسيقى تصدح مرة ثانية في أذنيك. ومن الطبيعي جدا ألا تصل إلى أذنيك الموسيقى المرحة لهذا العالم مهما فعلت.
لقد انحلت كل العقد . لن يحدث ذلك اليوم على الفور، ولكنني أتعهد لك بأنني سأجعل أذنيك تسمع الموسيقى المرحة لهذا العالم. أرجو منك أن تثقي بي ثقة مؤكدة.»
وأنا أقول ذلك، كنت أنا شخصيا متعجبا من نفسي متسائلا كيف استطعت الجزم بذلك القول دون أن تكون لدي خطة محددة، ودون أن أملك يقينا في حدوث ذلك. «هل تسمعين؟ من الآن يجب عليك أن تعيشي بمشاعر تلقائية طبيعية تجاه كل شيء، وبدون الاعتقاد أنك شاذة أو مختلفة عن الآخرين. فلا يجب أن تجبري نفسك على فعل شيء مفاجئ بالقوة لتجنب سماع موسيقى الجحيم؛ (لأن فعل ذلك يجعل الهيستيريا تعود لتنتقم)، وكذلك يجب ألا تجرحي حياة الآخرين خصيصا من أجل سماع موسيقى الجحيم عنوة.» - «فهمت. شكرا جزيلا.»
أومأت ريكو فكانت وجنتاها مبللتين تماما بالدموع. - «لا أدري حقا كيف أعرب لك عن شكري لتعاملك الطيب الحنون هذا مع إنسانة مثلي. ولكنك يا دكتور تعرف مشاعري أليس كذلك؟ لقد قاسيت وعانيت كثيرا حتى استطعت أن أخبرك بذلك. أعتقد أن كل ما حدث منذ أن التقيتك أول مرة حتى الآن، نشأ من تعثري في جهود عديمة الجدوى، حرصا مني على عدم إبلاغك بذلك الأمر ... ولكنني الآن أعتقد أن إخبارك كان أمرا جيدا حقا. ولكن هل سأكون سعيدة حقا بعد الآن يا دكتور؟» - «لا يمكن الجزم بذلك. فما زالت بعض الخطوات الضرورية متبقية. وفي كل الأحوال لا يجب التعجل. لنعمل ببطء وتأن. وأرجو أن تتحملي أحيانا بعض العلاج القاسي.» - «وهل هناك علاج أقسى من ذلك؟» - «ربما كان كذلك. ولكنك الآن قوية قوة كافية لتحمله.»
كنت أتأملها بحب وتعاطف لا حد لهما تجاه مريض هش وضعيف. وقتها أزيل تماما كل ما يشبه مشاعر الغرام بها؛ تلك المشاعر التي كانت في وقت ما تشتعل بالحمى، أراها كلها الآن على أنها مشاعر عابثة غير جدية.
قبل أن أخرجها من غرفة التحليل النفسي، تركتها في تلك الغرفة قليلا، وذهبت للحديث مع الشاب ريوئتشي. بالطبع لم يذهب إلى مشاهدة فيلم في دار السينما بل ظل ينتظر في غرفة الانتظار بلا حركة، وعندما رآني نهض واقفا في توتر. - «وصلنا إلى طرف خيط يحل كل شيء. إنها امرأة تعيسة جدا. امرأة تعيسة بدرجة فاقت توقعي بكثير جدا. وما من أحد يستطيع أن يجعلها سعيدة إلا أنت. ومن أجل ذلك ... هل تسمعني؟! غدا سأتحدث إليك بصفة خاصة عن محتوى تحليلي النفسي لها؛ لأننا نحتاج مساعدتك الآن بالدرجة الأولى. ولكن يجب أن يظل ذلك سرا بيننا، لا تخبر ريكو عنه شيئا.
أرجو أن تعدني ألا تسألها اليوم عن أي شيء. بل ترعاها بحنان ولطف فقط، إن كنت ما زلت تحبها حتى الآن.» - «أجل.»
أجاب الشاب بنبرة حاسمة، ومن خلال هذا الرد الموجز المطمئن، زاد إعجابي به أكثر وأكثر. ... في اليوم التالي جاء إلى عيادتي في عجلة واضطراب أثناء راحة الغداء في شركته. - «أرجوك يا دكتور أن تخبرني بما وعدتني بسرعة.» - «قبل ذلك، كيف كانت حالتها ليلة أمس؟» - «لقد نامت نوما عميقا كأنها طفلة رضيعة. لم يسبق لي أن رأيت، من قبل، وجهها النائم في هدوء وسلام ورضا بتلك الدرجة.» - «رائع»!
دخلت معه غرفة التحليل النفسي وحكيت له ما حدث بالتفصيل. إن حدس المرأة شيء مرعب، فقد باتت أكيمي في منتهى الرقة وطيبة القلب، واتضح ذلك من إرشادها لريوئتشي حتى الغرفة، ومن التعامل معي منذ ليلة أمس، وكان وجهها يمتلئ بابتسامة مريحة للنفس، تلك التي كانت تتميز بها في الماضي.
سمع الشاب ريوئتشي الحكاية من البداية للنهاية، وليس فقط أنه لم يظهر اعتراضا على ماضي ريكو بل على العكس ظهر عليه التعاطف، مما جعلني أثق في كبر قلب ذلك الرجل أكثر وأكثر. - «ماذا تنوي أن تفعل بعد ذلك يا دكتور؟ إنني على أتم الاستعداد للمساعدة بكل ما أستطيع.» - «أنوي البحث عن شقيقها وترتيب مواجهة بينهما في وجودنا، أنا وأنت!» - «ماذا؟ هذا فعل خطير ...» - «ما من وسيلة غير ذلك، حتى وإن كانت خطيرة.» - «ولكنه رجل لا يعرف له عنوان ...» - «حقا! تلك هي المشكلة ...»
كيف يمكن البحث عن شقيق ريكو والعثور عليه في مدينة كبرى يسكنها عشرة ملايين نسمة؟ لم أكن أملك خطة بصفة خاصة ولكن في النهاية جاءت الفرصة التي لا يمكن توقع حدوثها من المجهول.
39
بعد التحليل النفسي الحاسم السابق ذكره، بدأ يظهر تأثير جيد على حياة ريكو المعيشية.
فبدأت ريكو تعيش حياة تليق بالمرأة العاملة - في المظهر الخارجي على الأقل - التي جاءت من الأقاليم، وتعيش حياة متحفظة استعدادا للزواج. وغيرت من حياتها المندفعة التي كانت تشبه حفلات شيطانية مستمرة. توظفت في شركة بفضل رعاية ريوئتشي، وبحثت عن مسكن للإيجار وسكنت فيه. وكان من الجيد لكليهما فيما بعد أنهما لا يعملان معا في شركة واحدة؛ ولأنه ليس من اللائق أيضا أن يعيشا في بيت واحد بدون زواج، وكان تطورا إيجابيا أن أنصحهما بضرورة أن يقررا أن يعيشا منفصلين انفصالا تاما. وبالتأكيد أستطيع أن أكون على يقين تام الآن أنني ليس لدي أي قدر من الغيرة في نصيحتي تلك.
لم تكن براعة ريكو العبقرية في الكذب والخداع، فقط تجاه العلاج بالتحليل النفسي، بل جعلت والديها في مدينة قوفو أيضا طوع بنانها بالكامل. لقد مرت أربعة أشهر حتى الآن منذ أن عادت إلى طوكيو بعد وفاة خطيبها أثناء تلك الشهور الأربعة، ومع حدوث تلك التفاصيل مع الشاب هاناي، فإنها استمرت في كتابة الرسائل وإرسالها إلى والديها بلا انقطاع.
مثل تلك المرأة تملك أصدقاء كثيرين، ولذلك استخدمت ريكو تلك الظروف بمهارة شديدة للتحجج في عدم إعلام والديها بمكان سكنها الحقيقي في طوكيو، وخدعت صديقة من مرحلة الدراسة طيبة القلب، وجعلت الأمر كأنها تقيم معها في بيت عائلتها؛ وكانت تتلقى من خلالها الرسائل والتحويلات المالية التي يرسلها أهلها بل واستمرت في ترتيب كل شيء وعمل كل ما بوسعها من أجل ألا يقلق الوالدان عليها فيأتيان إلى طوكيو لزيارتها. كان ذكاؤها هذا في تدبير الأمور يصيبني بالذهول، ولكنني فضلت ألا أخبر الشاب المستقيم ريوئتشي بوجود مثل ذلك الوجه من وجوه ريكو. لا فرق بين الذكر والأنثى في القدرة على المغالطة بمختلف الخدع والحيل من أجل تجربة جنسية يرهن عليها وجوده كله. ولكن مثل تلك الخدعة التي لها هدف خالص مثل هذا، ليست بالضرورة برهانا على عدم إخلاص ذلك الإنسان. وذلك مثل أن يكون رئيس أركان عسكري شهيرا بالخداع والمؤامرات، وهو في نفس الوقت أب فاضل وزوج رائع؛ فمثل تلك الأكاذيب التي تكذبها ريكو، لدرجة عدم وجود أي ضرر منها للشاب ريوئتشي، عمقت ثقتي بالمريضة، وفي نفس الوقت لا أستطيع إلى حد ما، أن أنفي تماما أن ذلك يمكن أن يكون مادة لنفي وإزالة شهوة مؤقتة عندي في الاحتفاظ بسر من أسرارها لا يعرفه الشاب ريوئتشي.
في الرسائل التي استمرت في كتابتها إلى والدها، كان بها دائما الجملة الآتية: «أرجو منك أن تتركني بمفردي وقتا أكثر. فإنني إن رأيت وجه أبي وأمي الآن، ستتجدد أحزاني وتستيقظ، وأخاف أن أعود إلى ما كنت عليه. إن أفراد العائلة التي أقيم معها يعاملونني بحنان ولا حاجة للقلق. وتتجه حالتي النفسية للتحسن بلا أدنى شك. يتبقى الصبر لبعض الوقت. ومن المؤكد أنني أثناء ذلك سأستطيع رؤية وجهك المشرق الحبيب، وحتى يحدث ذلك أرجو منك تركي في هدوء. وسأواصل التراسل معك. وإن حاولت أن تقابلني الآن عنوة سيحدث ما لا تحمد عقباه ولا يمكن إصلاحه ... ثم بخصوص الحوالات المالية، فالمال ضروري لأي شيء يمكن عمله من أجل الترويح والتسرية عن النفس، أرجو منك أقصى كمية يمكن إرسالها، أرجوك!»
لو كان الأبوان يعيشان في طوكيو فلا يمكن خداعهما بمثل هذه الحيلة، ولكن في الأقاليم عدد الأسر الغنية التي يقبلون مثل هذا الطلب من بناتهم ليس قليلا. وخاصة بعد موت خطيبها، فإنهم يتعاملون معها بحرص كأنهم يلمسون جرحا غائرا.
40
يجب علي أن أحكي كيف عرفت عنوان سكن شقيق ريكو الآن بعد مرور ما يقرب من ثلاث سنوات كاملة من تلك الليلة المرعبة.
لقد كنت أشك في وجود شقيقها في طوكيو من الأصل، ولكن إن كان ما زال في طوكيو - ولو فكرت بالمنطق الطبيعي - فليس من الصعب مطلقا تخمين ومعرفة المكان الذي يسكن فيه في نهاية طريقة معيشته تلك. ولكن مهما خمنت وتخيلت، فأنا مجرد طبيب تحليل نفسي، وأعتقد أنني على معرفة ببواطن النفس البشرية وأعماقها المظلمة، ولكنني جاهل تماما ببواطن المجتمع المظلمة وأماكنه السحيقة.
شفيت ريكو من أعراض الهيستيريا في المدة من فصل المطر حتى ذروة الصيف، فكانت تخرج مع ريوئتشي للسباحة في المسبح العام، واستعادت مظهرها الخارجي الصحي بالكامل. وأطاع ريوئتشي نصيحتي، واجتهد في استعادة مشاعر الحب الروحية الهادئة بينه وبينها، ولكنه كان حريصا على تفادي العلاقة الجسدية بقدر الإمكان (حتى وإن طلبت هي ذلك لنفاد صبرها). وبدا أن كل ذلك قد أدى إلى نتائج جيدة. ولكن لا داعي للقول إن ذلك لا يعني أن كل المشاكل قد حلت. فمن الجيد أن تنسى ريكو في حياة التقشف الجنسي الفكرة النمطية للبرود الجنسي. ولكن يجب أن يلي ذلك جعلها ترى حلم شفائها التام من مرض البرود الجنسي، ثم يصبح ذلك الحلم هو الفكرة الثابتة. ولكن من المتوقع أن تكون النتيجة هي إحباطا يوقظها من الوهم ويسقطها في هوة سحيقة إن أتيحت لها فرصة معرفة أن ريوئتشي في النهاية ليس هو الذي يشفي برودها الجنسي. ولذلك لم أكن متفائلا لدرجة تصديق أنها ستتجه للشفاء تلقائيا من خلال ذلك السلام النفسي الظاهري. ... وإن كان الوضع كذلك، فقد كان ضروريا أن أبدأ بالحركة من خلال وسيلة ما بأسرع ما يمكن.
وهكذا أثناء الصيف استمرت صداقتي مع ريوئتشي وريكو، وبالطبع لم تعترض أكيمي على ذلك. وأحيانا كنا نذهب نحن الأربعة معا إلى دار العرض السينمائية، وكانت تلك أول تجربة لي في عمل علاقة مع مريض من مرضاي على هذا النحو. وتوقفت أكيمي تماما عن الإساءة إلى ريكو بل لدرجة أنها كانت أحيانا ما تتحدث خصيصا لتصحح رأيها السابق عنها. - «كما توقعت؛ فالفتاة التي لا تنطق إلا كذبا، هي في الأصل ذات قلب ضعيف يستحق العطف. ولأنني لم يسبق لي الكذب قط، فربما أكون امرأة قوية جدا.»
كنت أتركها تقول ما تريد، وبدون الانتظار لعمل تحليل نفسي، فإن قول «لم يسبق لي الكذب قط.» هي أكبر كذبة من بين الكذب الذي يكذبه البشر.
وكنت أشعر أنني على وشك الاقتراب من نقطة تحول جديدة حتى في نطاق تخصصي العلمي أيضا. فمن المؤكد أن طريقة التحليل النفسي الوجودي سالفة الذكر، تتعرف بعمق على وجودية الإنسان، ويبدو أنها وصلت لخلق اتحاد وتكامل رائع بين الطريقة الإنسانية والطريقة العلمية. ولكن من جهة أخرى بها بعض الضعف عند استخدامها بفاعلية في الشفاء على أرض الواقع. بمعنى، أننا إن اعتمدنا على وجهة نظر الفلسفة الوجودية، عند البحث عن «الوصول إلى شمولية الحب»، فسنجد أن وجودية «الإنسان الطبيعي» لها نفس قيمة وجودية الإنسان غير الطبيعي. ويفترض ألا نستطيع وقتها أن نكون جشعين مثل فرويد؛ بوضع الإنسان الطبيعي مقياسا من جهة، ووضع ظاهرة الانتكاسة في العلاج الضروري من الجهة المقابلة؛ أي أن ذلك إفراط في التخلي عن سوء فهم مذهب البرهنة بالتجربة العلمية.
وعندما أعدت النظر بتفكير وتمعن في تطورات حالة ريكو، تأثرت جدا بأن ذروة تحليلي النفسي، كانت عندما شعرت بحتمية مجيء لحظة «الواقع» لتساعدني. وربما كان ذلك هزيمة من وجهة نظر العلم. ولكن يفقد مرضانا؛ كل على حدة، «واقعه» بطريقته الخاصة، ومن أجل استعادة ذلك الواقع، يجب عليهم الحصول بأي شكل من الأشكال على قوة مساعدة من الواقع «العاري» «والحي»، وهو ما يشبه العلاج بالصدمات الكهربائية. ويؤدي ذلك وظيفة تشبه المحفز الكيميائي، فيدمج الأشياء التي تفرقت وتشتتت عبر التحليل النفسي، ليساعدها في أن يكون لها وجود حي. ولا داعي للقول إن ثمة ضرورة للتحليل النفسي الصارم على قاعدة من ذلك الاندماج القاسي. ولكن المشكلة الحقيقية أننا داخل غرفة التحليل النفسي يمكننا إجراء أي نوع من التحليل، ولكن لا بد من انتظار ظهور الواقع الذي لا يعرف متى يظهر، حتى نستطيع بذل كل جهودنا الأخيرة في العلاج. ... وعلى أي حال، ففي صباح يوم حار رطب من شهر سبتمبر، جاء إلى العيادة اتصال هاتفي مفاجئ من ريكو. - «صباح الخير. أنا ريكو.» - «أهلا، كيف حالك ؟» - «بخير ... دكتور ، هل شاهدت البرنامج الوثائقي الذي عرض ليلة أمس من الساعة العاشرة وخمس دقائق على قناة (
MFK ) التلفزيونية؟» - «لا.» - «لقد كنت أريد الاتصال بك مباشرة بعد أن شاهدته، ولكني راعيت أن الوقت قد تأخر في الليل فامتنعت عن الاتصال، وها أنا أتصل بك في الصباح الباكر. عنوان البرنامج اسمه «بيئة صن يا»، ويتابع البرنامج تقريرا حول الضجة التي حدثت في منطقة «صن يا».» - «أوه، أنت تشاهدين أشياء غريبة جدا.» - «إن ذلك البرنامج الأسبوعي له سمعة جيدة؛ لأنه يعرض مواد لا يمكن رؤيتها في مكان آخر. ألا تعرفه يا دكتور؟» - «نعم، لم أكن أعرفه.» - «وبفضل هذا اكتشفت أخيرا مكان وجود شقيقي.» - «ماذا؟!» - «ظهرت صورته مكبرة للحظة على الشاشة، لحظة الحديث مع الذين هاجموا نقطة الشرطة. من المؤكد أنه هو. من المستحيل أن أخطئ في معرفته. لقد رأيته بأم عيني. الأمر لا يحتمل الخطأ مطلقا. أخيرا عثرت على مكانه يا دكتور. أنت أيضا يا دكتور كنت تبحث عنه، أليس كذلك.»
41
ولا داعي إلى أن أذكر مدى استعداداتنا المتراكمة بعد ذلك للذهاب إلى تلك المنطقة المضطربة. خططنا بحرص وحذر يتبعه حرص وحذر، ولقد سمعت أن اصطحاب امرأة معنا في منتهى الخطورة، وإن كان لا مفر من ريكو؛ لأنها الشخص الرئيس، ولكن كنت أتمنى ألا تأتي معنا أكيمي على الأقل، ولكنها كانت بالفعل تشعر بالتضامن الجماعي لنا نحن الأربعة؛ لذلك لم تتزحزح عن إصرارها في المجيء. - «لو حدث أي شيء أنا الذي سأحميك. سأجهز حقنة مخدر، وإن اقترب شخص يحاول الإضرار بنا، فسأقترب منه من الخلف فجأة وأغرزها فيه. أنت تعلم إلى أي درجة أنا ماهرة جدا في إعطاء الحقن، أليس كذلك؟» - «لا يجب التفكير في أمور مستحيلة. يكفي أن تتابعينا طائعة في هدوء.»
تناقشت مع ريوئتشي وقسمنا الأعمال وبحثنا عن وسيط، وطلبت من صحافي في مجلة أسبوعية - توثقت علاقتي به بعد أن كتب تقريرا صحفيا عن التحليل النفسي - فعرفنا على دليل يحمينا وسط القلاقل. كان ذلك الدليل له نفوذ قوي في منطقة «صن يا» ويعرف جيدا المتعهد بتوريد عمال اليومية، وقبل طلبنا بقوة قائلا: «إن كنت تبحث عن شخص فلقد طلب مني، من قبل، ذلك الأمر كثيرا، ومن المؤكد أنني سأستطيع العثور عليه.»
وهكذا شاءت الأقدار أن أذهب في رحلة استقصاء في الطبقة الدنيا من المجتمع بعيدا عن تخصصي، فأخرج من غرفة التحليل النفسي الآمنة وأقتحم أعماق العالم الإنساني الخطر. وعندما فكرت في الأمر وجدت أنه بالنسبة لنا - نحن أطباء التحليل النفسي - ربما تكون فرصة لا نحلم بها، أن نتطلع إلى الخطر القلبي الكامن في قاع اللاوعي الإنساني مقارنة بالخطر الكامن، في قاع المجتمع؛ على الشر الكامن في أعماق الإنسانية، مقارنة بالشر المتشابك في الطبقات الدنيا من المجتمع؛ على باطن القلب الإنساني وباطن قلب المجتمع سواء بسواء. وذلك لأن الأمر يشبه تماما العقل الباطن لكل فرد على حدة، فتعلن الطبقات الدنيا من تركيبة المجتمع، بغير تحفظ، عن الرغبات التي لا يمكن إخراجها والإعلان عنها مطلقا في سطح المجتمع الظاهر. ويظهر الوجه القبيح المكشوف لأحلام البشر الجامحة التي لا تتقيد بالقوانين ولا بتقاليد وأعراف المجتمع. وفي نفس الوقت تتراكم هناك أنواع عديدة من عدم التكيف مع المجتمع. وهي نفسها التي تجعل ظواهر الانتكاسات المتنوعة تعشعش داخل أحلام الإنسان المجتمعي.
في يوم من منتصف سبتمبر، تنكرنا نحن الأربعة في ملابس قذرة بقدر الإمكان، وتجمعنا في الثامنة مساء لمقابلة الدليل بمقهى في إحدى الضواحي.
في البداية ضحكنا، وانتقد كل منا المظهر الذي تنكر فيه الآخرون.
لقد لبست أنا بنطالا أزرق يرتديه العمال مع قميص مفتوح الياقة مليء بالتجاعيد أخرجته من عمق خزانة الملابس، وكانت أكيمي بلا مساحيق وجه تماما، وارتدت بنطالا سيرج واسعا أسود متواضعا وبلوزة رمادية اللون، ولقد بدونا، على الأرجح، كأننا زوج وزوجة من فناني الطبقة العليا المنهارة.
وعلى العكس من ذلك، لف ريوئتشي، عضو فريق التجديف السابق، على بطنه شاشا فوق قميص منكمشة ياقته مقفل بأزرار، ولبس بنطالا نيكابوكرز وحذاء العمال الطويل، ليبدو، بهذا الشكل، كأحد عمال الأشغال البدنية الذين يعملون باليومية، لدرجة أنني أنا شخصيا اطمأننت؛ لأنني شعرت أنني حصلت على حارس شخصي جيد.
أما ريكو التي محت تماما أي أثر لمساحيق الوجه وشدت شعرها للخلف، فقد ارتدت سترة علوية قديمة بلون أخضر من التي تلبس فوق الملابس أثناء العمل الإداري، ولبست حذاء مطاطا بدون جورب، مما جعلني أعيد اكتشاف جمالها المدهش. بدت كأنها لم تفقد أي صفة من صفات العذارى حيث فقد وجهها ملامح التجهم الدائمة فأصبح ملائكيا جدا، لدرجة الشعور أن جمال بشرتها الطبيعية تلك لا يمكن الحصول عليه بسهولة. وطبقا لطريقة التفكير، فربما يمكن القول إن تلك المرأة المصابة بالبرود الجنسي المكثف لم تتلوث، حتى النهاية، من حقائق الواقع في هذه الحياة (ومن ضمن ذلك تلك الليلة المرعبة مع شقيقها).
أخيرا جاء الدليل - وهو رجل في منتصف العمر - وألقى علينا التحية. كان هو أيضا يرتدي ملابس بالية، ولكنها بدت طبيعية وتلقائية جدا، وتختلف تماما عن هيئتنا نحن طابور المفرطين في التنكر. - «هل يمكن أن يكون شقيق مثل هذه الفتاة الجميلة موجودا في «صن يا»؟ إنه أمر لا يصدق.»
قال ذلك ثم نصحها بوضع نظارة طبية لكي تخفي جمالها الباهر هذا ولو قليلا. ولقد اندهشت عندما رأيت ريكو تخرج من جيب السترة الداخلي نظارة طبية شفافة وتضعها على عينيها عندما قيل لها ذلك.
ومع تجهيزها لتلك النظارة وإحضارها معها فإنها؛ على الأرجح، وبغريزة نسائية عجيبة ترددت في لبسها مراعاة لشعور أكيمي؛ أي إنها قلقت من أن تعتقد أكيمي التي من جنسها أنها تعتقد في نفسها أنها جميلة جمالا لا يقلل منه لبس نظارة طبية.
42
فرد الدليل خارطة للمكان وشرحه لنا. تمتد منطقة «صن يا» يمينا ويسارا في المساحة التي بين محطة أساكوسا صن يا تشو على خط الترام التابع لبلدية العاصمة، ومحطة ناميداباشي. يمتلئ الجانب الغربي الذي يبدو راقيا إلى حد ما ببائعات الهوى والقوادين، ويعد الجانب الشرقي - مقارنة به - أكثر خشونة وفظاظة، ويفتقر إلى جو الإثارة الجنسية بقدر كبير.
كانت منطقة «صن يا» في الماضي تقتصر على عمال اليومية من الرجال الذي يعملون في الأعمال البدنية، ولكنها حاليا في طور الانتقال إلى أن تكون منطقة لتجمع النساء، أو ما يمكن وصفه بوكر العاهرات غير المرخصات، وأبعد مكان تذهب إليه العاهرة للعمل هو مدينة أوميا، ولكن تسلب المرأة إرادتها الحرة من رجل يمتص عرقها بالضرورة، وإن وقعت في فخ رجل قاس، فإنها تقضي طوال اليوم تحت سماء الشتاء حتى تصبح أقدامها قرمزية اللون، وفي اليوم الذي يقل دخلها، لا تعطى إلا ثلاثة أرغفة من الخبز الغربي.
قارنا نحن الأربعة هذه المعيشة، بعالم الجنس المعقد المريب الذي اصطدم بنا، حتى الآن، فعجزنا عن أن نعرف بالفعل أيا منها هي الحياة التي تمثل المأساة للجنس البشري؟ ولا ريب أن ريكو قد شعرت، على الأرجح، بنفس شعوري هذا. على جانب مأساة حيوانية مضطربة، وعلى الجانب الآخر مأساة تشبه دانتيلا رقيقة؛ بل إن ريكو ولدت وقدرها أن تكون لها علاقة بكليهما.
ركبنا نحن الأربعة مع الدليل سيارة، وأصبحت ريكو تميل إلى الصمت وهي تفكر بالموقف المقترب منها حثيثا، وكان ريوئتشي يضع يده على كتفها بحنان ليشد من أزرها. وكانت عينا أكيمي تتألقان، من شدة فضولها، تجاه ذلك العالم الجديد عليها. أما أنا فكنت أرتعش من الأمل في مدى تأثير وفاعلية قراري هذا الحاسم على الطبقات العميقة من النفس الإنسانية.
أوقفنا السيارة في مكان يبتعد كثيرا عن منطقة «صن يا»، ودخلنا في شارع بالغ السعة في البلوك الرابع من منطقة «صن يا»، لنمشي جماعات صغيرة.
كانت ليلة غائمة متبقية فيها حرارة الصيف الرطب. ولكن كانت تلك الناحية من المنطقة قليلة المارة على عكس المتوقع. «لا داعي للعجلة، لنسر وندر في المكان بغير هدف، ولنجرب اختلاس النظر هنا وهناك دون أن يبدو ذلك متعمدا. وإن لم نعثر عليه رغم ذلك، فلنذهب لمقابلة «العم» الذي أعرفه. فذلك العم يعرف كل من يقيم هنا لمدة تزيد على الشهر؛ وحتى إن لم نعثر عليه الليلة فمن المؤكد أننا سنعثر عليه إن كررنا المجيء هنا مرتين أو ثلاث مرات.»
قال الدليل ذلك ثم مشى أمامنا متسكعا بلا هدف. كان يبدو من طريقة سيره أنه معتاد تماما هذه المنطقة؛ فلا يسرع الخطى كأن وراءه مهمة عاجلة، بل يقف حينا ويرجع بتؤدة من حيث أتى حينا آخر. وكان بالضرورة في كل ركن من الطريق نجد تجمعا من الرجال يقفون ويثرثرون معا، ولم يكن منظر سيرنا نحن الأربعة معا، أو وقوفنا أحيانا لنلقي نظرة عامة على المكان مما يلفت الانتباه، ولكن حدث عدة مرات أن ينظر الرجال إلى وجه ريكو الجانبي نظرات حادة.
مع الغيوم التي تدلت بانخفاض في السماء كانت روائح غريبة تحيط هذه المنطقة. وتتراص بيوت الدعارة التي أبرزتها مصابيحها الخارجية تحت أشجار الصفصاف، ويعلو أسماء البيوت شعار: «أسعارنا مخفضة رحمة بالزبائن»، ثم كتب على زجاج المدخل بخط أحمر: سعر المبيت لليلة، ثلاثمائة وعشرون ينا؛ غرفة فردين سعر الفرد مائة وستون ينا ... إلخ.
ومع السير على الأقدام، وصلنا إلى ركن من أركان الحي يكثر فيه المارة، ولأن أكثرهم في حالة سكر وأقدامهم تترنح، فكان يجب علينا أن نسير ونحن في قلق لا ينقطع من الاصطدام بهم. ينقسم المارة في الطريق إلى عدة أنواع. الرجال أقوياء البنية الذين تعرف من نظرة واحدة أنهم من عمال الأشغال البدنية، ورجال ضعفاء يعطونك إحساسا بأنهم في حيرة وتردد شديدين، ثم بعد ذلك، رجال لاهون بملابس أنيقة لافتة. ووسط تلك الحشود القذرة، كان وجه ريكو الجانبي يلفت الأنظار وهي تمر أمامهم حتى ولو كانت كارهة لذلك؛ كأنها شراع أبيض يخترق الطريق.
عندما نظرت إلى السلوك الحر لهؤلاء البشر، وحديثهم المتغطرس وهم وقوف (من المؤكد أنني سمعت كلمة: «لأنني قتلت شخصا ...» تخرق أذني)، ثم أيضا إلى ملابسهم المتحررة من كل قيد، مثل الشاش الأخضر الملفوف حول الخصور، والقمصان التي قطعت أنصافها ... إلخ. بدأت أعتقد أن العمل المتحضر الذي أؤديه، والذي يتعلق بأطراف الخلايا العصبية، عمل في منتهى البشاعة. سمعت في الماضي قصة محام من كبار المحامين سحب منه ترخيص العمل بالمحاماة لتبديده أموالا عامة، فقضى ما تبقى من حياته مشردا في هذه المنطقة، ولكنني وصلت لدرجة تخيل أنه ربما يكون ارتكب جريمته تلك فقط من أجل أن يصبح من سكان هذا الحي. ومع أن أغلب المرضى الذين يأتون إلى عيادتي هم من البشر الذين ليس لهم أية علاقة بمثل هذا المجتمع الحيواني، لكن عندما ظهرت ريكو وقادتني حالتها تلقائيا إلى هذا المكان، شعرت أنها عبارة عن ملاك أرسلته إلي السماء لكي ينبهني إلى تلك الثغرة في حياتي. - «إن أغلب سكان هذه المنطقة إما مستلقون في فراشهم أو يشربون على عربات الأكل في الطرقات. وغالبا لا يشاهدون التلفزيون. ولهذا يمكن أن أقابل على قارعة الطريق وجوه الكثير من معارفي.»
قال الدليل ذلك وهو يرفع يده بالتحية لرجل في منتصف العمر مر أمامنا.
لم نشعر بأي خطورة تقترب منا، ولم يبد الناس تجاهنا مبالاة كبيرة. وعلى جانبي الطريق عربات أكل تقدم وجبات مثل «السوشي والأودون»، ويجلس الناس على «دكة» ضيقة أمام العربة يشربون الخمر.
وعلى «دكة» عربة تقدم وجبات «الأودون» جلس رجل يشرب «الساكي» في كوب وهو يضع رضيعا خلف ظهره بطيش وإهمال، مما لفت انتباهنا تلقائيا. الرضيع الذي لم يبلغ خمسة أشهر كان نائما فاغرا فاه وهو يخرج جسده بالميل من حبل الربط على الظهر. يلبس قميصا قذرا وبنطالا بلون كاكي يبدو أنه من مخلفات الجيش الأمريكي. كان الفقر يبدو على قفاه ولا يبدو أنه يمكن أن يتحمل الأشغال البدنية.
همس الدليل في أذني بالشرح قائلا: «إن هذا الشخص نموذج تقليدي لمن يبيع زوجته للرجال، ومقابل ذلك يقوم برعاية الأطفال، ويقضي طوال اليوم متسكعا بلا هدف. وزوجته المسكينة تقضي طوال اليوم واقفة على قارعة الطريق في حي من الأحياء، وإن كان دخلها سيئا لا يسمح لها بحضن طفلها الذي تشتاق إليه.»
وعندما عوج الرجل رأسه لكي يعدل من وضع الحبل الذي يربط به الطفل على ظهره، لاحظت تصلب جسد ريكو مع رؤية ذلك الوجه الأزرق الشاحب.
وعندما قلت لها بصوت خفيض: «مستحيل ...»
قالت ريكو بصوت رزين: - «كلا. إنه هو بالتأكيد .»
أحجمنا عن التحدث معه على الفور، وقررنا أن نراقبه لبعض الوقت. اقترب ريوئتشي وأكيمي إلى جانبنا أنا وريكو بملامح وجه متوترة.
دفع الرجل الحساب ثم خرج من عربة الطعام، وبدأ السير بخطوات مترنحة قليلا وهو يضع يده بخفة على مؤخرة الطفل الرضيع. بدا حبل ربط الرضيع بالظهر ذو اللون الوردي الفاقع في منتهى البؤس. كان الرجل يهمس بشيء على لسانه؛ ولكنها لم تكن أغنية هدهدة للطفل، بل سمعت وكأنها تعويذة لجلب اللعنات. بدون أن نلفت الأنظار تتبعنا نحن الأربعة منفصلين خطوات ذلك الرجل المتعثرة، وظهره الذي يبدو كأنه اختصر كل فقره وكسله وشرور معيشته وكشفها للعلن، ويهتز داخل أنظارنا نحن الأربعة اهتزازات منفرة وبغيضة. أصابعه التي لفها حول مؤخرة الرضيع رفيعة وصفراء، ومع أن شعر رأسه أسود ووفير، ولكن لم يعط أي شعور بالشباب والحيوية. وثمة خرق كبير يفتح فمه واسعا عند ربلة بنطاله من الخلف. وفي النهاية انعطف الرجل إلى حارة جانبية فجأة، وفكرت في أنه سيعود إلى بيته، ولكن الدليل همس لي قائلا: «كلا، الأرجح أنه ذاهب لشراء سجائر.»
كانت تلك الحارة الجانبية تقع على الجهة الخلفية من بيوت الدعارة، والنوافذ المضيئة مغطى نصفها بألواح حجب الرؤية. وقطع جزء من ألواح حجب الرؤية تلك بمربع مساحته ربع متر في ربع متر، وبدت النافذة الزجاجية قليلا من هذا الجزء فقط. أخرج ذلك الرجل في يده قطعة عملة معدنية؛ فئة عشرة «ينات» ودفع بها إلى النافذة. وعرفت ذلك من بعيد؛ لأنه من أجل إخراج عملة العشرة «الينات» أخذ يبحث في جميع أنحاء جسمه، وكذلك أخذ يهز جسده كله كأنه كان يتأمل أن تسقط عملة معدنية عالقة في مكان ما، وبعد تلك الحركات الغامضة، نظر إلى تلك العملة فئة العشرة «الينات» التي أمسكها في قبضة يده أخيرا تحت إضاءة أعمدة الطريق، ثم أخذ يفحصها بارتياب شديد، وبعد ذلك دفع بها خلال النافذة وهو يدق بتلك العملة على الزجاج، كأنها حركات دمية من دمى خيال الظل في منتهى البطء والتكاسل ، وكل ذلك ونحن نرى جميعا ذلك المشهد بوضوح. - «هل يمكن شراء سجائر بعشرة «ينات» فقط؟»
قال الدليل: «بعشرة «ينات» يمكن شراء علبة كاملة من سجائر هيكاري ومعها سيجارتان هدية. ولكن المحتوى عبارة عن إعادة لف ما تبقى من تبغ في أعقاب السجائر المجمعة من الطريق.»
فتحت النافذة الزجاجية فتحة ضيقة، وظهرت منها يد امرأة على ما يبدو ممسكة بعلبة هيكاري وسيجارتين هدية. بعد أن أخذ الرجل السجائر، أخرج الثقاب بتباطؤ وحكه فأشعل فيه النار. برز داخل النيران طرف أنف موحشة، وراقية على غير المتوقع. ولقد ارتعد جسمي رعبا عندما اكتشفت أنها بنفس شكل أنف ريكو بلا أدنى شك. - «أخي.»
هكذا صرخت ريكو وتحركت قدامها دون أن تعطيني أية فرصة لإيقافها.
43
الشقيق الذي التفت ناحيتنا، حملق في ريكو بنظرة غضب، ولكنه عندما حاول أن يلف جسمه ويهرب أمسك دليلنا بذراعه.
صرخ الشقيق بنبرة تهديد قائلا: «ماذا تفعل؟»
ولكنه عندما شاهد وجه الدليل المبتسم انحنى برأسه على الفور. ولم يسبق لنا أن شعرنا بقوة تأثير ذلك الدليل ذي النفوذ الهادئ مثل ذلك الوقت.
قال له الدليل: «اطمئن، فلسنا هنا لنضرك، أليس كذلك؟ إن شقيقتك ترغب في لقائك فجئنا للبحث عنك فقط. وهذا الرجل هو طبيبها وما من سبب لكي تقلق.»
ولا داعي للقول إنني وقتها كنت أوجه عظيم اهتمامي إلى رد فعل ريكو أكثر من منظر شقيقها البائس.
بدت ريكو هادئة من النظرة الأولى، ولم تظهر أي قدر من المشاعر العاطفية ناهيك عن أن تدمع عيناها. ويمكن تخيل قدر الصراع النفسي غير الطبيعي الذي اعترى قلبها منذ أن اكتشفت وجه شقيقها في هيئة الرجل البائس الذي يحمل رضيعا خلف ظهره، وحتى اللحظة التي صرخت تناديه «أخي». على الأرجح كان ثمة حرص على مظهرها، وثمة تحرر من الأوهام، وثمة تعاطف، وثمة حقد وضغينة. ثم عندما استجمعت كل شجاعتها وصرخت «أخي»، يجب القول إنها خطت أول خطوة لتقرر بنفسها التوجه نحو حل مشاكلها.
ولكن ثمة شيء آخر لم أستطع الاقتناع به. فقد كانت طريقة اقترابها من شقيقها تتصف بانعدام تام للعواطف والمشاعر، وجعلني ذلك أشعر بقلق.
رفع الشقيق بإحدى يديه الطفل الرضيع الذي على ظهره مزحزحا إياه إلى أعلى، وقال لها وهو ينظر إلى حشدنا بعيون كئيبة مظلمة: «لماذا أتيت إلى مثل هذا المكان؟ بل ولم تأتين بمفردك؟!»
وهنا كان لزاما علي أن أقول شيئا: «إنني طبيب. وهذه ممرضة. يجب علينا بموجب وظيفتنا أن نرافق شقيقتك في أي مكان تذهب إليه. ثم بعد ذلك هذا ...»
قلت ذلك واحترت في كيفية تقديم ريوئتشي له.
فعرفته ريكو بحيادية: «هذا السيد إغامي؛ صديقي الحميم.»
نظر الشقيق تجاه ريوئتشي نظرة سريعة مظهرا لونا من النفور والاستياء بين حاجبيه، ثم هذه المرة توجه ناحيتي أنا بالسؤال كأنه ينتقدني: «ما مرض ريكو؟»
كذبت عليه بهدوء قائلا: «القلب. ليست بحالة تدعوك للقلق عليها، ولكنها أصرت على الذهاب للبحث عنك بدون سماع النصيحة؛ لذا كان من واجبنا المجيء لمرافقتها؛ لأن التأثر العاطفي العنيف ممنوع عليها منعا باتا، ولأن أخطر شيء هو تعريضها لصدمات أو حالات قلق وخوف تجاه أي شيء.»
هكذا حذرته بعد أن فكرت في حالة وقوع تهديد في المستقبل من هذا الرجل. - «حقا؟ وفي هذه الحالة ماذا يمكنني أن أفعل؟» - «وجه هذا السؤال لشقيقتك.» - «إنني على أي حال أريد الذهاب إلى بيت شقيقي والتحدث معه.» - «تقولين بيت! بل سمه قصرا. تعالوا جميعا معها. فما دام دليلكم هو السيد «ر» فلن أقدر على الشكوى.» ثم نظر في ذل إلى وجه الدليل وأضاف: «ولكن لا لوم علي إن لم تستطيعوا الجلوس جميعا.» •••
انطباعي الأول، من خلال وجهه الراقي الذي ذبل فامتلأ بالقذارة السوداء الموحلة، ومن خلال صوته الوضيع المبحوح، ومن خلال موقف المتلقي الضعيف الذي لا يملك قوة ولو لكي يتظاهر بالشجاعة؛ هو أن شقيق ريكو هذا رجل وضيع بأكثر مما تخيلت. كان يبدو إنسانا مختلفا عن ذلك الشقيق الذي كانت ريكو تضعه قدوة ومثالا. ولقد شعرت بأحد أنواع الاكتفاء عندما فكرت في أن طريقة مشيه غير المنتظمة، وحمله المخجل للرضيع على ظهره، ربما كان كافيا لخيانة حلمها. مشينا خلفه، وطوال الطريق الذي يمشي فيه بلا هدف، كنت أهمس في أذن ريوئتشي بتلك الانطباعات.
ولكن هذا الشاب المتفائل لم يكن يلائمه حديث الأسرار، فقال ما يلي بصوت مفرط في ارتفاعه: «إن هذا أمر مطمئن. من المؤكد أن ريكو أفاقت من أحلامها.»
ولكنني كنت أشعر أن الأمور لا تسير بتلك السهولة. من الجيد أنها واجهت حقائق الواقع، ولكن لم يتضح بعد ما الذي بدأت في التقاطه من ذلك الواقع. ... اتبع الجمع الدليل وشقيق ريكو ودخلنا نزلا مؤقتا للسكن، ولكن عند دخولنا تحدث الدليل حديثا طويلا مع مكتب الاستقبال، وهو ينظر من حين إلى آخر إلينا واستغرقت المفاوضات وقتا. إنه لو كان هذا فندق «درجة أولى»، فيمكن لأي شخص من أي مكان أن يدخل بلا خجل ما دامت ملابسه بلا عيب، ولكن ذلك تفكير أحمق يجعل مقياس الحكم الوحيد على البشر هو الملابس، ويمكن القول إن مكتب الاستقبال الذي لا يثق في إنسان بمجرد الحكم على ملابسه مثل نزل «صن يا»، أكثر منطقية ومناسبة للعقل.
وفي نهاية الأخذ والرد استطعنا أخيرا الدخول، ولكن الرجل البدين الجالس خلف مكتب الاستقبال المضاء إضاءة جيدة، فقد اهتمامه بنا ولم يلق علينا ولو نظرة واحدة. عند دخولنا كان أحد الجانبين حافة متصلة بسياج، وتتدلى مكنسة من مسمار في السياج. كان يبدو نزلا جديدا، إطاره الخشبي مشرق، ويمتاز بالنظافة في المجمل، وعلى غير المتوقع، ولكن علق على جدار الحائط العديد من صور اللصوص والقتلة الهاربين من العدالة، وصور المفقودين الذين تبحث عنهم الشرطة، فتراصت صور لوجوه مرعبة وكئيبة.
وكذلك علقت ورقة كتب عليها: «على الداخلين للاستحمام الانتهاء من ذلك قبل الساعة العاشرة وخمسين دقيقة. سيغلق الحمام في الساعة الحادية عشرة، من أجل ترشيد استهلاك المياه. مالك النزل.»
وشاهدت أيضا أغلفة مطبوعة؛ أنواعا مختلفة من الدعاية لعروض سينمائية، وعروض لفرقة موسيقى الشرطة في مركز الرعاية الاجتماعية للبلدية. - «هيا، ادخلوا من هنا.»
قال الشقيق ذلك بنبرة صوت متكاسلة، ودخل بين فراش نوم محاط بإطارين خشبيين لإحدى الغرف، ولكن لم يبد أي من الرجلين النائمين بوضع معكوس؛ كل منهما فوق إطار على حدة؛ أي اهتمام بنا على الإطلاق. صدر صوت يدل على أن الرجل الذي في السرير العلوي يستخدم طارد حشرات بالرذاذ، فهجمت تلك الرائحة النفاذة على أنوفنا.
قالت أكيمي بنبرة انتصار: «كما توقعت، هناك حشرات!»
وكانت تشعر بعدم الرضا من النزل، سواء مكوناته الداخلية أو الأغطية التي يتغطى بها الرجلان، رغم أنه يبدو نظيفا تقريبا. كان يظهر بوضوح، في صوتها الهامس المسرور، شعورها بفرحة لا يمكن وصفها بسبب اكتشافها أن ريكو تحمل «علاقة شخصية» مع مثل هذا المكان. وبهذا سامحتها أكيمي تماما.
كان الشقيق يسكن غرفة فردية في عمق تلك الغرف ذات السكن المشترك. وتوضيح «غرفة فردية»؛ هو أن مساحتها حصيرتان فقط من التاتامي.
8
وأطعنا النصيحة التي قيلت لنا: إن خلع أحذيتنا وتركها عند المدخل سيعرضها للسرقة؛ ولذا كان علينا بعد دخولنا الغرفة مباشرة، أن نرص الأحذية التي كان كل منا يدليها من يده، فوق النافذة ذات الإفريز التي في عمق الغرفة. كان من دخل الغرفة؛ باستثناء الشقيق، أربعة فقط؛ لأن الدليل دخل مكتب الاستقبال للتحدث مع الموظف هناك، كان فراش نوم قديم جدا يغطي أرضية الغرفة، فجلسنا وظهرنا للجدار وركبنا تصطدم بعضها ببعض.
علق على الجدار صورة بالألوان لولي العهد يرتدي الملابس الرسمية وزوجته ترتدي ديكولتيه أثناء استقبالهما لزعيم دولة أجنبية، وأسفل الصورة مرآة حائط ملصق بها رف صغير. وعند النظر إلى أدوات طلاء الأظافر والأمشاط النسائية، كان من الواضح أن شخصا آخر يسكن هذه الغرفة؛ هي أم الرضيع. وعلى الجدار المقابل علق فستانها؛ به تصميم كرات مائية. - «إنه ينام نوما عميقا.»
أخيرا فك الشقيق الحبال وأنزل الرضيع من على ظهره ووضعه في الفراش. كان رضيعا بوجه عابس تبدو عليه أعراض نقص التغذية، ولم أكن أنا فقط الذي قلق من ذلك بل أكيمي أيضا؛ التي مدت يدها دون وعي بصفة وظيفية، ولكن تلك اليد دفعت بغلظة. - «لا تلمسي طفلي بإصبع من أصابعك .»
وسط ذلك الجو المشحون بالتوتر، كنت على الدوام أراقب ردود أفعال ريكو. كانت منكفئة على نفسها بجوار الحائط تطيل النظر بثبات إلى الطفل الرضيع النائم في هدوء وسكينة بين الكبار.
وعندما أتذكر تلك اللحظة، فإنني حتى الآن، لا أستطيع أن أمحو انطباع الغرابة الذي شعرت به وقتها؛ حيث ذكرني بلوحات ميلاد المسيح في إسطبل الخيل. هذا المكان أيضا شبيه بإسطبلات الخيل؛ ضيقا ورائحة كريهة، إنه المكان الأكثر بشاعة ووضاعة لإقامة البشر، ناهيك عن طفل حديث الولادة! كنا كلوحة ملونة دقيقة رسمت في العصور الوسطى، أشخاصها محتشدون في مكان ضيق، نراقب الرضيع النحيف بأنظارنا، كالسيدة العذراء ويوسف الأب الذي لا يعلم شيئا، وفرسان الشرق الثلاثة والملائكة في الإسطبل الضيق. والمصباح العاري ينير أركان الغرفة الضيقة بضوء صريح بديلا عن الهالات المقدسة. لم نكن نضم أيادينا تعبدا للطفل الرضيع، ولكن كنت، أنا على الأقل، أنظر بالتبادل إلى وجه ريكو الجانبي الوضاح الخالي تماما من المساحيق، ونظراتها القوية الجميلة التي تصبها بثبات على الرضيع بعد أن خلعت النظارة الطبية بالفعل، وأقارنه بوجه الرضيع الضعيف النائم الذي يغمز بجفونه أثناء نومه، ويحدوني الأمل في قوة روحية ساحرة تقع خارج حدود العلم.
كان الجميع يعلم أن هذا المكان هو قاع العالم الإنساني. وعلى ما يبدو فإن المكان به براغيث مثل إسطبل الخيل، فكانت أكيمي تحرك أقدامها بلا توقف تحت تنورتها. ماذا اكتشفت ريكو هنا؟ تلك الأنثى التي استمرت في تدمير نفسها بنفسها بلا توقف من خلال الاهتمام الجنسي، تمتلك مقدرة عجيبة على تحويل القبيح إلى مقدس، شعرت بذلك عند موت خطيبها من قبل، ولكنني لأول مرة أكون شاهدا على فعلها ذلك على أرض الواقع.
بدأ الشقيق يتحدث بهيستيريا كأنه يقاوم الجو المريب للجلسة فقال: «ماذا تريدين أن تسألي؟ أي شيء تريدين السؤال عنه سأتحدث إليك عنه، ثم اتركيني وشأني بعد ذلك في هدوء. على الأغلب تفهمين كيف أقتات عيشي، أليس كذلك؟ أن يراعي رجل رضيعا هكذا ويقضي طوال اليوم بلا هدف ...» - «بمعنى أن شقيقة هذا الطفل هي التي تعمل، أليس كذلك؟» - «ماذا؟»
انتبهت ريكو لخطئها في القول، فتوردت وجنتاها؛ كان خجلها كأنها نطقت بأشد كلمات هذا العالم بذاءة بما لا يتناسب مع مثل هذا الخطأ البسيط في القول. ثم كررت القول الآتي بطريقة خرقاء للغاية: «بمعنى أن والدة هذا الرضيع هي التي تعمل، أليس كذلك؟»
هذا الخطأ في القول المريب جدا، جعلني أنظر لحظيا إلى وجه ريكو، ولكنني لم أفهم معناه. استمر الأخ يتحدث بلامبالاة. «بلى، تقف في الطرق صيفا وشتاء. ويفترض الآن أنها تقف على قارعة طريق في مكان بعيد جدا، ولكنني لا أستطيع أن أقول أين؟» - «آه!»
بدت الدموع في عينيها. بالطبع هي دموع التعاطف مع زوجة شقيقها، التي يجعلها بروده وتكاسله تقف على قارعة الطريق لتبيع جسدها، وكانت المرة الأولى التي أرى فيها ريكو تبكي بتلقائية تعاطفا مع الآخرين. - «آه! يا لها من بائسة! يا لها من مسكينة!»
أحنت ريكو جسدها فجأة ومسحت خدها في خد الرضيع النائم. هذه المرة لم يوقفها شقيقها، وامتلأت الغرفة الصغيرة المساحة بصوت البكاء الواهن للطفل الرضيع الذي استيقظ من الدهشة. ... فجأة أدركت معنى خطأ ريكو في القول، فخجلت من غفلتي كطبيب تحليل نفسي. فكما أكد فرويد كثيرا على ذلك في كتابه «عن علم النفس المرضي في الحياة اليومية» (
Zur Psychopathologie des Alltagslebens )، أن الخطأ في القول علنا يكشف في لحظة السبب الجوهري للضغط النفسي.
لماذا أخطأت ريكو؛ فبدلا من أن تقول «أم الرضيع» قالت «شقيقة الرضيع»؟ لقد تبدلت هنا كلمتا «أم» و«شقيقة» عمدا؛ إن غيرتها، على الأرجح، من «أم» الرضيع جعلتها تغيرها إلى «شقيقة»؛ أي ريكو نفسها. وهذا ليس إلا تعبيرا عن رغبتها القوية في أن تكون هي نفسها أم ذلك الرضيع. وعندما أتذكر الوضع الآن، فقد شعرت بالارتياب في انجذابها للطفل الرضيع منذ أن رأته شقيقها، أكثر من شقيقها نفسه، ولكن ما من شك أنها تلقت بوضوح الصدمة الكبرى لها في ذلك اليوم لرؤيتها «ابن شقيقها» الذي لم تلده هي.
وما لم يكشفه ذلك التحليل النفسي النهائي، فإن رغبة ريكو الحقيقية كانت إنجاب طفل من شقيقها. منذ ليلة ذلك الفعل المخزي، استقر في قاع قلبها بلا انقطاع أمنية تتلخص في «الرغبة في إنجاب طفل من أخي»، ثم تبادل الخوف والتمني الظهور داخلها؛ وجهان لعملة واحدة. وفي اللحظة التي انعدم فيها القلق من الاحتمال الأسوأ في الحمل، نقص الخوف وزاد التمني فقط. وهذا هو بحق سبب برودها الجنسي، أي بسبب القلق من إنجاب طفل من رجل آخر بدلا من إنجاب طفل من شقيقها. وبالتالي، كان برودا جنسيا يأخذ شكلا سطحيا هو الخوف من الحمل، ومهما فعلت لم تستطع الشفاء من ذلك القلق، خاصة عندما يكون الطرف الآخر هو ريوئتشي القوي جنسيا. ولكن عندما كان الطرف الآخر مريضا يحتضر، ثم شابا عنينا، استطاعت سماع «الموسيقى» بسهولة شديدة؛ لأنها استطاعت الهرب من احتمالية الحمل، ولأنها شعرت أنها تستطيع الاحتفاظ بالرحم داخلها للأبد من أجل شقيقها.
إن أمنية ريكو تلك؛ أي «الرغبة في إنجاب طفل من أخي»، والتي لها الدلالة على حب جنس المحارم، لها في نفس الوقت تأثير عكسي؛ أي إن المحصلة النهائية المنطقية كانت سهلة الفهم من جهة علم التحليل النفسي، وهي أنها تعني الرغبة في «ترك رحمها من أجل استقبال شقيقها نفسه داخله». وفي ذلك الوقت؛ فإن الفعل المخزي مع شقيقها حمل، بالتأكيد، معنى ذا طبيعة خاصة جدا؛ كان بالنسبة لريكو الفعل الأكثر قداسة في الذاكرة؛ لأنه الفعل الأكثر بشاعة ودناءة من وجهة نظر المجتمع.
ولكن القداسة بالنسبة لمريض الهيستيريا تخفي في أكثر الحالات فكرة الانتقام والثأر. عندما انصهر حبها تجاه شقيقها الأكبر، هكذا عنوة في ليلة واحدة من خلال ذلك الفعل الحيواني، خطط عقلها الباطن لفعل شرير مقدس انتقاما من شقيقها، حيث كان تصميمها: «لا بأس يا أخي، فلسوف أنتقم منك بإنجاب طفلك. لا بأس، ففي وقت ما سأستعيض عنك بطفل رضيع أضعه داخل رحمي.»
كان ذلك هو بحق لب أعراض ريكو المرضية، ثم قادت تلك الفكرة أفكارا كثيرة أخرى في شكل منحرف، فبدأ مرض برود ريكو الجنسي من فكرة «حمل طفل من أخي بسبب ما فعله أخي». وفي نفس الوقت أدى ذلك إلى إيمان ريكو بأن «الرحم بلا خطيئة». والسبب أن الرحم اللاعقلاني الذي يجعل الشقيقة الصغرى تلد من شقيقها الأكبر بالذات يجب أن يكون بلا خطيئة.
فلم يكن من الصدف أن يبدو وجهها في صورة السيدة العذراء منذ قليل، عندما كانت تحملق بثبات في الطفل الرضيع المحاط بالبشر.
ولكن وجنتيها توردتا بشدة بسبب خطئها في القول! احمرت جبهتها بدرجة غير طبيعية. لقد رأت ريكو وقتها المحرم الأكثر تقديسا داخلها في جوهرها الغرائبي المشبع بالوحشية.
ريكو التي رأيت فيها تلك الصفات لم تعد هي نفسها التي كانت من قبل. بعد أن أخطأت القول، عرفت ريكو المعتادة على تداعي الأفكار الحر، أن كل شيء في عقلها الباطن قد اكتشف بنظرة واحدة من عيني المركزتين عليها.
إن هذا هو بحق العلاج من خلال صدمة «الواقع» الذي كنت أتمناه. ولكن كان حدوثه مجرد ضربة حظ سعيدة، وليس لدي أية نية للفخر بهذا الإنجاز الذي تشكل الصدفة فيه نسبة 90٪.
فأولا: كنت أتمنى أمنية غامضة؛ أنها إن استطاعت المجيء إلى منطقة «صن يا» ومقابلة شقيقها، فربما يحدث الواقع الموجود هناك تأثيرا قويا عليها. ولكن المؤكد الذي أثر عليها تأثيرا شديدا ليس شقيقها نفسه، بل الطفل الرضيع المربوط بعشوائية بحبل وردي خلف ظهره. يا لها من نتيجة عجيبة!
إذن ما الذي حدث هنا؟
لقد عرفت ريكو أن «البرود الجنسي» الذي حافظت عليه فيما مضى مع تحملها الآلام الجسدية والآلام النفسية بتلك الدرجة، من أجل نقاء شقيقها ونقائها هي نفسها، كان جهدا ضائعا. كان كل ذلك تعبا بدون طائل، ويجب وصفه بأنه ستة أيام «سوسن» وعشرة أيام أقحوان.
9
والسبب أنها وجدت «ابن الشقيق» هنا، بدون حاجة لأن تلده هي، وكان طفلا أنجبته عاهرة طريق لا تعرفها. وأضف إلى ذلك أنه ما من موطئ قدم لها. لقد اكتملت حياة الشقيق. فقد شبابه الناضر الذي كان يمتاز به في الماضي، وسقط في الحضيض بلا حول ولا قوة، وأنجب طفلا من زوجته التي يجبرها على أن تعمل عاهرة طريق، بينما هو يأخذ الطفل رهينة لتعود الزوجة إليه. ولم تر ريكو في ذلك الوضع أي مجال لحلم يمكنها أن تحلم به.
وربما شعرت بالأمان بمعنى من المعاني. «لا بأس. هذا جيد. لقد أنجب أخي طفلا. ولم يعد محتما علي أن أنجب أنا طفلا له.»
ربما يعد ذلك منطقا غريبا، ولكن بالنسبة لها كان منطقا مؤكدا ودقيقا يحل كل مشاكلها.
لأول مرة تستعيد ريكو رقة قلبها، فذرفت الدموع غزيرة من أجل شقيقها، ومن أجل الطفل الرضيع، ومن أجل زوجة شقيقها التي لم تلقها بعد. ... أخيرا مسحت ريكو دموعها بمنديل، وأدخلت خفية تحت الفراش مظروف النقود الذي يبدو أنها أعدته قبل مجيئها، ووقفت بعد أن حثت الجميع على التحرك. - «أخي العزيز، أنا لن أجيء مرة ثانية. كن بخير.»
قال الشقيق وقد برزت في عينيه فرحة الحصول على النقود واضحة جلية: «انتبهي لقلبك.» - «لقد أسعدني لقاؤك واطمأن قلبي. ولا تقلق فلن أبلغ الأسرة بشيء.» - «أجل، إياك أن تخبريهم.»
قبض كل من الشقيقين على يد الآخر بقوة، ولكن خدود ريكو كانت مشرقة ولا أثر فيها للدموع.
خرجنا من النزل بدون أن نتبادل الحديث، وأخيرا ابتعدنا عن منطقة «صن يا»، وافترقنا مع الدليل الطيب.
اقتربت من ريوئتشي خفية وهمست في أذنه وأنا أمشي. «خذ ريكو وأقم معها الليلة. ولا مانع أن تختار فندق «درجة ثالثة» وأنتما بنفس هذه الملابس المتسخة. إنني أجزم بالقول وأؤكد أن ذلك سيكون نافعا. لقد شفيت ريكو اليوم. وعلى الأرجح أنها لن تنتكس مرة ثانية. يبقى فقط أن تقودها أنت برجولة خطوة بعد خطوة بحب وحنان.» - «هل هذا صحيح؟ أشكرك يا دكتور شكرا جزيلا!»
لم يكن ريوئتشي في هذا الموقف شابا يقع في حيرة أو تردد. عند محطة الترام افترقنا نحن الأربعة؛ كل اثنين معا، وألقت ريكو إلي بتحية من عينيها وأظهرت ما ينم على أنها تعلم أنني أدركت وعرفت كل شيء.
بهذا انتهى كل شيء. على الأقل أنا أؤمن بذلك. بالتأكيد يجب علي أن أتحمل مسئولية متابعة حالتها بعد ذلك، ولكن بعد التفكير من الأوجه جميعا فالعلاج وصل إلى نهايته.
مشيت غارقا في شعور بالرضا لا يمكن وصفه، وأعجبتني رقة أكيمي النادرة وهي تسير خلفي دون أن تلح علي بالطلب قائلة: «ألا نركب تاكسي؟»
44
كلما درست النفس الإنسانية وبحثت فيها وجدت أنها عجيبة ومريبة. فهي تبحث دائما عن نظام مرتب مع أنها تتكون من تباين شديد. بل ومنطقها الواضح الصريح أنها لا رغبة لديها تجاه ذلك النظام، فلا يتولد صراع أو مرض نفسي تبعا لتلك الرغبة.
من خلال حالة ريكو أعتقد أن رؤيتي للتركيبة الدراماتيكية المتناقضة للإنسان علمتني العديد من الأشياء عن البوح والحجب وعن البراءة والفجور، عن الروح والجسد. يعتقد أننا كعلماء نتعامل ونلمس ذلك كله بنية عدم التحيز، ولكن تستخدم النظرة المتحيزة في بعض الحالات أثناء العلاج بالتحليل النفسي؛ وخاصة عندما يتقدم التحليل النفسي ويبدأ المرض في الانتقال إلى الطبيب النفسي المعالج.
يبدأ الحصول على الحقيقة من خلال التضحية بكل الأحكام الموضوعية المحايدة؛ أي إن الدخول إلى عرين الأسد واصطياد الشبل، هي عملية في منتهى الخطورة، ومن خلالها يتشابه جوهرنا ويتطابق مع جوهر المريض تماما. خلال دراستي لحالة ريكو، شعرت في أوقات كثيرة أنني أتذوق بنفسي شعورا عارما بمرض البرود الجنسي مع أنني رجل.
وأعتقد أن نية عدم التوقف في المنتصف مع عدم الشعور بالإحباط مطلقا، هما الحد الأدنى من شروط التعاقد بين المحلل النفسي والمريض، وهما أيضا الرابطة الكبرى التي توثق العلاقة بينهما. وتلك العلاقة تكون أكثر تعقيدا ومعاناة من الحب نفسه.
لقد نسيت ذكر ذلك، ولكن عادت الأمور إلى مجاريها بين ريكو وريوئتشي، وبعد ستة أشهر تزوجا بعد تفكير عميق. ثم مر أسبوع من وداعي معهما في ليلة «صن يا» ولم يأتني منهما أي اتصال، فوصل قلقي تجاههما إلى حد لا يمكن وصفه. ولكن بعد فترة تبين أن سبب ذلك هو حياء ريوئتشي وحالة الخجل التي أصابت ريكو مؤخرا. لقد اعترفا لي فيما بعد أنهما كانا يخجلان من مجرد الاتصال هاتفيا وليس فقط الزيارة.
بعد أسبوع من تلك الليلة، عادت وسيلة التواصل مرة أخرى بيني وبين ريوئتشي، والتي كانت كذلك وسيلة تواصل من طرف واحد؛ ألا وهي البرقية. كان مسجلا عليها ما يلي ببساطة: «الموسيقى مزدهرة. الموسيقى لا تتوقف. ريوئتشي.»
المراجع
هيساكو كوزاوا:
1 «من أجل فهم علم التحليل النفسي.»
G. Freud :
2
Studien über Hysterie .
W. Stekel: Die Geschlechtskälte der Frau .
K. R. Rogers: Client-centered Therapy .
Medard Boss: Sinn und Gehalt der Sexuellen
.
Erich Fromm: The Art of Loving .
K. A. Menninger: A Psychiatrist’s World .
ناپیژندل شوی مخ