67

مشکلات سره غریبانو: د اخلاق فلسفې په اړه یوه مطالعه

مشكلات مع الغرباء: دراسة في فلسفة الأخلاق

ژانرونه

لقد أدرك ما عرف لفترة قصيرة في ستينيات القرن العشرين ب «الأخلاق الموقفية» - وهي تيار من اللاعمومية الأخلاقية يفضله بعض المسيحيين ذوو الفكر المتحرر - مشكلة أنه ما من موقف إنساني يمكن تحديده بدقة، وأن كل موقف يتمتع بخصائص هي أبعد ما تكون عن أن تميزه. كذلك إن كان معنى كلمات مثل «الحب» و«العدل» لا يمكن فهمه إلا في مواقف لا يمكن مقارنة كل منها بالآخر، فإن هذه الكلمات تفرغ من التطبيق العملي كله لها تاركة إيانا تائهين في بحر من الاسمية الأخلاقية. وإن لم يكن ثمة علاقة لازمة بين فكرة العدالة ونمط سلوك ثابت عبر مختلف المواقف، فإن أي نمط سلوك - بما في ذلك قطع رأس كل من يتجاوز سن الستين مثلا - يمكن القول إنه يتفق معها. على الجانب الآخر، فإن أي نظرية أخلاقية تنحي جانبا سياقات محددة جملة واحدة لا تستحق الوصف بأنها أخلاقية. سنعود لهذه المعضلة بعد قليل، عندما نتناول رؤية شكسبير لها.

تعد الأخلاق في رؤية كانط شأنا فرديا وعاما، وبهذا فهي تشبه الأحكام الجمالية؛ فالفعل الأخلاقي هو فعل يخصني حصريا وكليا، إلا أن اللحظة التي أكون فيها نفسي بلا منازع هي نفسها اللحظة التي لا أكون فيها سوى ممثل لقانون عام. ومن المهم للفرد أن يكون حيوانا عاما، ونحن نكون في أفضل حالاتنا عندما نتصرف على هذا الأساس؛ فثمة شيء غير بشري أو غير شخصي يكمن في أعماق الذات يجعلها على ما هي عليه. ورغم أن هذه القوة السامية المستحيل فهمها عند أوجستين والأكويني هي الرب، وعند أتباع فرويد هي الرغبة، فإن كانط يسميها القانون الأخلاقي؛ فهناك إذن مسار مباشر عنده من الفردي إلى العام، رغم أنه مسار لا يمكن أن نسلكه إلا على حساب الخصوصية الملموسة.

إذا فالعمومية المجردة والخصوصية المتناهية وجهان لعملة واحدة، فالأفراد هم القوة المحركة لهذه الحضارة لكن تجردهم من كينونتهم القوى المجردة التي يصدرونها؛ فالحرية تعني عدم فرض أي مبدأ لا يشرع للنفس، إلا أن تقرير الذات ذلك في حد ذاته يهدد باختزال الفرد إلى طوطولوجيا عديمة المعنى. إن الأمر راجع للرجال والنساء ليمنحوا أنفسهم قيمة لا أن يجدوها - كما في النظام الخيالي - مقدمة من العالم أو من الآخر، فالنظام الرمزي الذي يقدمه لنا كانط قائم بذاته تماما؛ إذ لا يقوم لا على الطبيعة ولا على ما وراء الطبيعة، فحتى الأوامر الإلهية يجب أن تمر على العقل البشري ليستبعد الأخطاء المنطقية منها. يبدو الأمر وكأننا لا نرتكز الآن إلا على أنفسنا، وإن كانت هذه من سمات نضجنا الأخلاقي؛ إذ نتخلى عن اعتمادنا الخيالي الطفولي على الآخرين وعلى الكون، فهي كذلك علامة على اغترابنا عن الطبيعة التي لم يعد لها أي علاقة بشيء سام مثل القيمة بعد أن اختزلت في مجرد حقيقة أولية؛ لذا فإن المبدأ المعاصر الشهير «قيمتي أستمدها من نفسي وحدها!» لا تفصله سوى شعرة عن أنين القائل: «أشعر بوحدة شديدة في هذا العالم!»

إذا فالتصرف الأخلاقي لا يوجهه سوى العقل والواجب الذي يحدده، وليس مجموعة الدوافع المختلطة (المتعة والرغبة والسعادة والمنفعة والرفاهية وغيرها) التي نكتسبها من الآخرين أو من العالم من حولنا أو من شهواتنا الفطرية والتي لا تليق من ثم بالبشر الذين مصائرهم في أيديهم بالكامل. فالفعل الأخلاقي الحقيقي لا علاقة له بنتيجته، وهو افتراض أخلاقي غريب بالتأكيد؛ ففي طوطولوجيا متسامية، علينا أن نتحلى بالأخلاق؛ لأنه من الصحيح أخلاقيا أن نفعل هذا. إن ما يجعل الفعل أخلاقيا، شأنه شأن ما يجعل شيئا ماديا سلعة، هو شيء يجسده هذا الفعل يعلو ويتخطى أي سمة مميزة يتسم بها، وهو اتساقه المقصود مع قانون يمكن تعميمه، فالإنسانية لا سبيل لها إلى الكيانات الغيبية المشئومة مثل الخير الأسمى، وهي التي تستعصي عليها مثل الآخر اللاكاني الكبير، فلا يبقى بديل ممكن لهذا الشيء المفقود - بالنظر إلى أنه يجب أن يكون مطلقا تماما - سوى الصورة المطلقة من القانون الأخلاقي؛ فالقانون إذا يملأ فراغا - أي غياب الخير الأسمى أو جسد الأم - بفروضه الأبوية؛ ومن هذا المنطلق فإننا نتحدث عن تحول من النظام الخيالي إلى النظام الرمزي.

إن الأخلاق أو العقل العملي شأنه شأن العمل الفني مستقل وقائم بذاته، فهو يحمل الغرض منه في ذاته ويرفض كل منفعة ويزدري كل نتيجة ولا يقبل أي جدل. وكما الحال عند سبينوزا، تتدنى المصطلحات الرئيسية للمذهبين الخيري والعاطفي في القرن الثامن عشر - المتعة والعاطفة والبديهة والإحساس والإشباع والخيال والتصوير - غالبا إلى درجة اللاأخلاقية. (يمكننا أن نقول إن هذه الكلمات تنتمي كذلك إلى لغة علم الجمال.) إذا فنحن نتحدث عن نظرية أخلاقية تتجاوز مبدأ المتعة؛ فالفعل الأخلاقي لا علاقة له بتوفير صور حية للخيال، ففكرة هيوم عن أننا نحتاج لمثل تلك الصور الحية لتحفيز تصوراتنا الأخلاقية الخاملة مرفوضة دون جدال. وفي المقابل يرى كانط أن هذه «الصور والأدوات الطفولية» ليست فقط غير لائقة بالمخلوقات العاقلة مثلنا، بل يرى أيضا أنها تقلل من عظمة وسمو القانون الأخلاقي ومن ثم تضعف قوته الهائلة. من الممكن ألا توجد صورة محفورة للعقل أو الحرية الإنسانية؛ فالغموض الكلي للحرية - كما يرى كانط المتمرد في كتابه «نقد ملكة الحكم» - يجعل التصوير الإيجابي كله مستحيلا، فهي ظاهرة حدسية خالصة يكون إدراكها على المستوى العملي وحده وليس بالصور الحسية؛ فنحن نعلم أننا أحرار لأننا نرى أنفسنا نتصرف بحرية بجانب أعيننا؛ لكن هذه الحرية شأنها شأن شبح الآخر الذي يسير إلى جانبك في قصيدة تي إس إليوت «الأرض الخراب» تختفي تماما إن حاولت النظر إليها مباشرة.

يثير هذا بالتأكيد مشكلة في نظام اجتماعي قائم على طبقة وسطى تعتبر الحرية فيه محورية؛ فالقيمة الأثمن تنفلت الآن من شبكة التصوير لتصبح نوعا من الرمز الكودي الموحي أو مجرد أثر للسمو؛ فالذات - التي هي المبدأ الأساسي للقضية كلها - تتملص من تصنيفاتنا ولا تظهر ضمنها إلا مجرد شيء يشبه التجلي الصامت أو الصمت الموحي، أي حضور يصطدم دون صوت بحدود فكرنا؛ إذ لا يمكن الإحساس بها إلا باعتبارها نوعا من الزيادة الفارغة أو سمو شيء دقيق. إذا فالإنسان البرجوازي وهو في ذروة قوته يعمى عن ذاته؛ حيث إن حريته - التي هي جوهر تفرده - بطبيعتها لا يمكن تحديدها. فكل ما يمكننا زعمه عن الذاتية - ذلك الفراغ الغريب الذي يكوننا - هو أنها أيا كانت فهي ليست مثل الشيء على الإطلاق؛ ومن ثم فهي تحير الإدراك؛ فالعارف والمعروف لا يتشاركان نفس النطاق، فمشروع العلم ممكن بصفة كبيرة، لكن العالم باعتباره ذاتا لا ينتمي للمجال الذي يدرسه، فحتى الأشياء التي يدرسها العالم لا يمكنه أن يدركها إلا بصورها المشاهدة؛ لذا فإن اللاهوت السلبي للإنسان - إن جاز التعبير - هو وحده الممكن.

إذا يبدو الأمر وكأن الذات تطرد من عين النظام التي تحفظ تماسكه باعتبارها كانت أصله ومكمله يوما ما، فهي أصل النظام بكامله، وكذلك هي ثقب أسود في مركزه . فالقوة التي لا يمكن تصورها هي سلبية مطلقة في الوقت ذاته. ومحاولة رسم شكل محدد لهذا الطيف كمحاولة القفز على ظلنا؛ فالذات لا يمكنها أن تكون «جزءا» من العالم إلا بقدر ما تمثل العين جزءا من مجال الرؤية، فالذات عند كانط ليست ظاهرة بداخل الواقع بل هي نقطة فوقية مطلة عليه. وهي، عند كانط في ثورته الكوبرنيكية، ما يسعى من خلالها لإعادة العالم المادي إلينا؛ لكن الذات «في جوهرها» خلال تلك العملية تنزلق من فوق حدود المعرفة وتغرق في الكيانات المدفونة المعروفة بالحدسيات التي لا يمكن الحديث عنها. فالذات ليست بشيء يخضع للإدراك، شأنها شأن الملائكة الحارسة أو المثلثات المربعة مثلا؛ إذ تجد الطبقة البرجوازية نفسها وهي في أوج قوتها أن نفس النظام الاجتماعي الذي وضعته، قد أقصاها لتعلق بين الذات المستعصية على الاختراق من ناحية وبين الشيء غير المعلوم من الناحية الأخرى.

إن الذات البشرية؛ إذ هي محددة بصرامة من الخارج لكن حرة الاختيار من الداخل، حرة ومغلولة معا. ويرى سبينوزا أن هذين الجانبين من وجودها متلازمان؛ فالحرية تكمن في معرفتها أنها مقيدة، وهي ثمرة كفاح الإنسان المترتب عليها ليصبح حر الإرادة، فهي تعني التوقف عن اعتبار النفس كائنا معزولا واعتبارها جزءا من نظام يقوم على الضرورة. ويؤيد كانط تلك الحتمية عند سبينوزا - مجردة من أسسها الميتافيزيقية - بل يضيف إلى عليات الطبيعة الراسخة مجالا ساميا للروح. وهو بذلك يحفظ الحرية على حساب إمكانية فهمها، فهي في نظر سبينوزا أمر خيالي أو خرافي. أما في نظر كانط فهي فرضية ضرورية؛ فالحكمة في رأي الفيلسوف الهولندي تكمن في تأمل هويتنا في الطبيعة. أما نظيره الألماني فيرى أنها قضية ترسيخ استقلالنا عنها. •••

إذن فكانط - في خطوة جريئة - ينقل قضية الأخلاق بكاملها من النظام الخيالي إلى النظام الرمزي، وهذا يعني كذلك الانتقال من المضمون إلى الشكل، أو من الموضوعي إلى الإجرائي. ويتضمن هذا انتقالا من القدرة على دعم أخلاقك بشيء يتخطاها - كالرب والطبيعة والتاريخ - إلى الفوائد غير المؤكدة للتحرر الأبدي من أي أساس مماثل. ويعلن كانط في عمله «أسس ميتافيزيقا الأخلاق» أن الفلسفة الأخلاقية يجب أن تطهر من المحتوى التجريبي والأنثروبولوجي بالكامل. وبما أن أي فعل من أفعال الإرادة التي تحفزها ميول أو أشياء تجريبية هي أفعال «مرضية»، فإن فعل الخير الأسمى الوحيد هو الإرادة الخالصة للخير نفسه. وإرادة الخير ليست إرادة شيء محدد، بل أن يتصرف الإنسان بما يتفق مع القانون الأخلاقي؛ لذا فإن هذا القانون لا يقدم شيئا سوى الإعلان عن نفسه، فهو - كما كتب كافكا إلى صديقه جريشوم شولم - يتمتع «بشرعية لكن لا مدلول له». فالوسط إن جاز التعبير هو ذاته الرسالة، فتعاليم القانون الأخلاقي مطلقة لكنه لا يبين لنا ماذا نفعل، فمثل ناظر مدرسة متحرر الفكر يسعى لتعزيز المبادرة الشخصية بين تلاميذه، هو يوضح لنا السمات العامة التي ينبغي أن تميز أفعالهم لكنه لا يبين عمدا محتواها؛ فالمتنورون لا يحتاجون لأن يتم إعطاؤهم قائمة بالأوامر الأخلاقية من موضع سلطة عليهم. إن الذين يحتاجون لهذه الأوامر غير قادرين للسبب نفسه على أن يفهموا مغزاها أو ينفذوها؛ إذ إن المرء يتردد في قبول الطعام من طباخ يحتاج إلى تعليمات مفصلة عن كيفية التعرف على حبة قرنبيط مثلا.

قد يبدو القانون الكانطي في فراغه أو طوطولوجيته مختلفا عن أوامر الرب غير المشروطة التي يحل محلها، باعتباره معبودا يملي أوامره بصيغة دقيقة غير مريحة، إلا أنه من ناحية أخرى لا يكاد يختلف عنه إطلاقا؛ إذ إن ما يسمى بالوصايا العشر ما هي إلا طريقة يهوه في قول: «هكذا تكون محبتي.» فطلب الرب الأساسي ليس امتناع الإنسان عن السرقة أو الزنا بل أن ندعه يحبنا لكي نتمكن بفضل نعمته تلك من أن نبادله الحب. إذا فطوطولوجيا القانون الرمزي - «يجب أن تطيع؛ فالقانون في النهاية هو القانون والواجب هو الواجب» - هي طوطولوجيا حب عبثي وفراغ سمو مطلق، فإن كان للقانون محتوى محدد فسيمكن دائما مساومته وتملقه وتقديم الإذعان المطيع لقاء جزاء كبير. ولكن لأن شريعة موسى هي قانون الحب، فيجب على مضمونها أن يتخطى شكلها . إن ما يحبط فريسيي هذا العالم هو صمت هذه الفضاءات السرمدية.

ناپیژندل شوی مخ