مشکلات سره غریبانو: د اخلاق فلسفې په اړه یوه مطالعه
مشكلات مع الغرباء: دراسة في فلسفة الأخلاق
ژانرونه
إن عدم الغموض الكلي للرب نقطة يفهمها ليفيناس جيدا، والذي يرى أن مبلغنا إلى السمو هو وجه الآخر الكبير. أما دريدا - في المقابل - فيبالغ في الصراع بين النظامين الواقعي والرمزي، بين الرب والجار، بين الإيمان الديني والأخلاق الاجتماعية، لدرجة الوصول لطريق مسدود غير معقول. والمغزى من قصة النبي إبراهيم هي أن يهوه يتجلى فعلا في الحب البشري، غير أننا لا ينبغي لنا استغلال هذه الحقيقة بأن نعتبره على نحو وثني صورة مكبرة من أنفسنا؛ فذلك يعني رؤيته بعين النظام الخيالي؛ أي اختزال اللا رب هذا في «أنا» بديلة مواسية، قد نتلاعب بعد ذلك باسمها المحظور لأغراضنا الخاصة. هذا التلاعب، الذي يحول الإيمان إلى أيديولوجيا، يعرف بتاريخ الدين. لذا، فإن الاختلاف المطلق ليهوه يجب التأكيد عليه مع تجليه؛ مع لا وجوده وتساميه على الخبث البشري، مع الطريقة التي يتفادى بها تصوراتنا وأفعالنا المادية باعتباره ناقدا قاسيا لها من خلال ما لديه من حب هائل وغير مشروط. فالرب ليس كائنا أخلاقيا في ذاته وإن كان هو مصدر الأخلاق في الآخرين، فهو ليس شخصا ساميا منزها يمكن استمداد الصفات الأخلاقية منه، وهو لا يمكن أن يكون أساسا لعقيدة عقلانية صرفة مثل فلسفة كانط بكل معقوليتها المدنية المنمقة. كل هذا يدركه دريدا على وجهه الصحيح. لكن يهوه لا يمكن فصله عن الأخلاق الإنسانية في نوبة من التسليم الإيماني أو استراتيجية ما بعد بنيوية تلعب على وتر ما هو جنوني وعنيف وسخيف ولا عقلاني وغير مبرر ومستحيل. إن السياسة في نظر دريدا في نفس الوقت مجال «القرار» ومنطقة الإدارة؛ وهو ما يعني أنه يبالغ في تعظيمها ويحقرها في الوقت نفسه. إن كانت قرارية الفيلسوف النازي كارل شميت تنبع من نوبة من العقلانية التنويرية، فإن نظيرتها عند دريدا وأتباعه عرض لأزمة تاريخية لاحقة؛ فهي تنتمي لعصر يبدو أنه لا يوجد فيه أي أساس عقلي لسياسة راديكالية.
إن المعتقد الديني عند كيركجارد يقابله صورة سامية من الأخلاق عند ليفيناس ودريدا. فإن كان الفيلسوف الدنماركي يدعم الدين على حساب الأخلاق، فإن نظيريه الفرنسيين يبجلان أخلاق النظام الواقعي أكثر من أخلاق النظام الرمزي. فالآخر الكبير أصبح الآن آخر آثار السمو في عالم دنس. لكن من الخطأ اعتبار قصة النبي إبراهيم نموذجا للحياة الأخلاقية. هذه بدرجة كبيرة هي نظرة هؤلاء الذين يريدون لنظرياتهم الأخلاقية أن تكون أرقى روحيا من الحملات على المراكز التجارية مثلا، وأن تكون صدى للامعقول والمستحيل والمفارقات واللانهايات أكثر من النضال في سبيل الإبقاء على إحدى دور الحضانة. إن قصة العهد القديم هذه في واقع الأمر تتعلق بلا معقولية الإيمان في أعين المنظرين والفلاسفة؛ لكن الإيمان محل النقاش هو الإيمان بيهوه الذي يقدم للجوعى كل ما هو طيب ويرد الأغنياء خالي الوفاض. فالقضية إذا ليست الإيمان مقابل الأخلاق، ولا الدين في مقابل الفضيلة، بل القضية هي أن النبي إبراهيم - رغم كل الدلائل الملموسة - يتمسك برب الأخلاق والسياسة؛ نصير المعدمين ومعين المهاجرين ومحرر المستعبدين، الرب اللاديني الذي يبغض قرابين اليهود المحروقة ويبطش بالمتجبرين على الفقراء. قد تبدو أخلاق دريدا للوهلة الأولى متفقة مع وصية العهد الجديد بجعل ما لقيصر لقيصر، وما للرب للرب. فمطالب الدائرتين، الرمزية والواقعية، يجب أن تجاب؛ لكن سيبدو أن هناك عداء أكثر من الاتفاق بين الاثنتين؛ فالسياسة والدين لا يجتمعان. لكن من غير المرجح على نحو كبير أن هذا ما سيفهمه أحد اليهود المتدينين الأول من وصية المسيح؛ إذ من بين الأشياء التي هي للرب العدل والرحمة والصلاح، وهو ما تجسد في العهد القديم في حماية الضعفاء والترحيب بالمنبوذين؛ فأوجه التمييز الحديث بين السياسة والدين غير مناسبة هنا.
عادة ما يعد النبي إبراهيم صورة أخرى من المسيح المصلوب، الذي هو رمز آخر ظل مخلصا في خضم عذابه وحيرته لرب يبدو أنه تخلى عنه. لكن هذين الرمزين المذكورين في الكتاب المقدس يتشابهان من وجه آخر أيضا؛ فكلاهما ناقد لاذع للنظام الرمزي في ضوء القرابة؛ إبراهيم لأنه مستعد لقتل فلذة كبده والمسيح لأن سلوكه تجاه أسرته في أغلب الأمر سلوك رافض، فثمة صورة جديدة من النظام الرمزي أو الحركة الجماعية على وشك أن تتشكل، صورة ستتعارض بشدة مع دوائر السيادة وروابط الدم والولاءات الراسخة؛ فتفرق بين الأب وأبنائه وتفصل في عنف بين الجيران وتنزع جيلا من أيدي جيل آخر.
إن الصراع عند دريدا بين الفردية المطلقة والمسئولية العمومية - وهو صراع ينبغي في نظره ألا يقبل حلا - هو نموذج من التوتر عند ليفيناس بين الأخلاق والسياسة، لكنه في الغالب معضلة زائفة. ففكرة أنني بإطعامي قطتي (مثال دريدا المبالغ في السخف في عمله «هبة الموت») أتجاهل على نحو حتمي كل القطط الجائعة في العالم ليست مسألة تستحق اللوم كما يظن دريدا؛ ولا يسعني أن أشعر بالذنب بصورة معقولة إلا عن الأفعال أو حالات التفريط التي أستحق أن ألام عليها؛ إذ لا يمكنني أن أطعم كل القطط على وجه الأرض، وإن امتلكت أقوى إرادة في العالم وأسطولا من الشاحنات مليئا بلحم الكبد المفروم. والمسئولية بهذا المعنى متناهية، ومن المبالغة العديمة الجدوى الزعم بأنها لا متناهية. ثمة مواقف حقيقية كافية للشعور بالندم في العالم دون الحاجة لأن يختلق المفكرون الباريسيون بعض المواقف المتخيلة. ويلاحظ ليفيناس - بنفس القدر من اللاعقلانية الطنانة وعلى طريقة نجم روك مرتبك - أننا عندما نشرب القهوة كل صباح، فإننا «نقتل» إثيوبيا ليس لديه قهوة ليشربها. وهذا كما قد نظن فيض من المبالغة الميلودرامية المميزة لتيار من الفلسفة الفرنسية الحديثة، بمفرداته المبالغة عن «الجنون» و«الوحشية» و«العنف» و«الاستحالة» و«الاختلاف المحض» و«الفردية المطلقة» وما شابهها. إن الحقيقة العاقلة المنمقة هي أنني في لحظة الكتابة لست مرتكبا لظلم بحق طفل لا أعرفه يعاني في السودان، كما أنني باختياري الإقامة في مدينة جالواي لا أهين بأي شكل مدينة ناشفيل أو مدينة نيوكاسل. إن الحل الحقيقي للصراع بين الفردية والعمومية حل عرضناه من قبل. فعلى المرء أن يولي اهتمامه الكامل للغريب الذي يتصادف في اللحظة الحالية أنه يشغل موقع الجار، مع القيام بالأمر نفسه مع الرجل التالي الذي يتصادف وجوده في الجوار، أيا كان من هو. فالعمومية تعني المسئولية عن أي إنسان، وليس المسئولية المستحيلة عن الجميع في نفس الوقت، فافتراض أنها بالمعنى المستحيل - حتى مع الإصرار على استحالته - يكشف عن غطرسة معينة للامتناهي، مهما بدت نبرتها اعتذارية ولوامة للذات.
إن ليفيناس محق بالتأكيد في اعتقاده أن المسئولية لا متناهية، على الأقل بمعنى أن علي أن أكون مستعدا للموت من أجل الآخر الكبير. وهذا حتى إن كان غريبا أو عدوا، وهو حال الآخر الكبير دائما من وجه ما. في الحقيقة إن كان الآخرون أعداء فهذا يرجع جزئيا إلى أننا قد يطلب منا دائما أن نقدم حياتنا فداء لهم. ولا يسع الإنسان إلا أن يأمل من كل قلبه ألا يواجه هذا الواجب غير الملائم إطلاقا في طريقه، حتى وإن كان يواجهه مقاتلو حروب العصابات طوال الوقت. وطالما يجب على المرء أن يكون على استعداد للموت لأجل أي شخص دون تفريق، فإن المساواة والعمومية - في ظل الظروف المناسبة - ملازمتان للحب أو الأخلاق؛ فهما ليستا محدودتين بمجال السياسة، كما يتصور ليفيناس على ما يبدو، مثلما أن الحب لا يقتصر على الدائرة الشخصية. (آلان باديو فيلسوف آخر يقع في هذا الخطأ الفرنسي الطابع عن الحب؛ إذ يعرفه بصورة كبيرة في إطار شهواني ويزعم أن الحب يبدأ حيث تنتهي السياسة.) لكن لا يمكن للمرء على أي حال أن يموت من أجل كل شخص. ولا ينبغي للمرء أن يفرط في الحرص على إعفاء الآخرين من مسئوليتهم عن أنفسهم. فالمسئولية عن الآخرين شأنها شأن غيرها من الفضائل الإنسانية يجب أن تكون في حدود التعقل والواقعية؛ إذ يوجد نوع ملائم من التهور يكمن مثلا في الموت من أجل غريب، ونوع غير ملائم يكمن - لنقل - في إلقاء المرء بنفسه أمام شاحنة لكي يتمكن غريب من عبور الشارع دون أن يسقط من يده الآيس كريم الذي يمسكه بيده.
إذا يتسم الحديث عن اللاتناهي هنا ببعض المنطقية اليائسة؛ إذ ليس صحيحا - كما قد يتصور ليفيناس أحيانا - أن مسئوليتي تجاه الآخر الكبير لا متناهية، بينما واجباتي تجاه المواطنين المجهولين لي في النظام الرمزي منظمة تنظيما صارما. فمن ناحية، يجب أن أكون مستعدا في أشد الظروف لأن أقدم حياتي فداء لمن لا أعرفهم، وليس فقط لمن هم على مقربة روحية مني. ومن ناحية أخرى، فحتى عندما يشغل مواطن سابق مجهول لي موقع الآخر الكبير؛ فإن علاقتي به ينبغي أن تستمر في الخضوع لمتطلبات التعقل والعدل. فالعدل ليس مجرد علاقة بين مواطنين يجهل بعضهم بعضا. بل هو مرتبط بعلاقتنا بالآخر الكبير أيضا. وهذا من بين أسباب عديدة تجعل التمييز الواضح بين الأخلاق والسياسة غير ممكن، وهو موضوع سنعود لمناقشته في الخاتمة.
تمثل الغيرية عند دريدا وكذلك عند ليفيناس مسألة متعلقة بالفردية المطلقة، التي تتسم بأنها «مستغلقة ومنعزلة ومتسامية ولا متجسدة ...»
26
إنها تتسم بالانعزال لأنه بينما تختص الأخلاق بالعلاقات السليمة بين الفرد والآخرين، فهي ليست في منظور الواقعيين قضية مشاركة حياة الفرد معهم. ومن هذا المنطلق، فإن الواقعية الأخلاقية لا اجتماعية بقدر فلسفة كانط التي يظل الجزء الأكبر منها متفوقا عليها. فهذه الأخلاق ترتبط، بأسلوب واجباتي جيد عتيق الطراز، بالتزاماتنا تجاه الآخرين، لا استمتاعنا بهم؛ فالغيرية هنا ليست في الأساس محورا للصداقة والألفة؛ بل تتجسد في حالة مطلقة يصير فيها الأصدقاء والأقارب مستغلقين بنفس روعة استغلاق النظرة الشيطانية ليهوه. فالخوف من أن يسعى الآخرون ليجعلونا مثلهم - العصاب الرهيب لما بعد الحداثة - قد بلغ الآن في حدته مبلغا يرخص للااختراقية المتبادلة. وهنا عند اللاكانيين بداية الأخلاق بالضرورة؛ إذ علينا أن نصيغ وجودا مع الآخرين ينبني على هذه الغرابة المشتركة. أما عند ليفيناس ودريدا، فإن الاعتراف بهذه العتامة المخيفة يكفي غالبا ليكون منتهى الأخلاق. •••
في كتابات آلان باديو، الذي يعد ربما أكثر الفلاسفة الفرنسيين المعاصرين تأثيرا، يتحول النظام الواقعي إلى «الحدث»؛ هذه المعجزة التي تنبع من موقف تاريخي لا تنتمي إليه في الوقت نفسه. فالأحداث عند باديو ليست حقائق تاريخية مجردة، بل نقاط إيمانية. إنها وقائع أصيلة بالكامل تقوم بذاتها تماما، ومنعطفات وبدايات خالصة ليست مرتبطة ب «موقعها» في التاريخ، وتتجاوز سياقاتها وتنبع عشوائيا ومن لا شيء (إن صح التعبير) من إيمان راسخ لا سبيل لديه للتنبؤ بها. إنها أفعال اعتباطية محضة، لا يمكن التنبؤ بها مثلما لا يمكن التنبؤ بالفضل أو استراتيجيات قصيدة لمالارميه.
ناپیژندل شوی مخ