مشکلات سره غریبانو: د اخلاق فلسفې په اړه یوه مطالعه
مشكلات مع الغرباء: دراسة في فلسفة الأخلاق
ژانرونه
إلا أن وجود الطرف الثالث في مواضع أخرى عند ليفيناس يوجه العلاقة مع الآخر الكبير من البداية. وعندما يكون هذا هو الحال فإن تجلي الوجه يفتح أمامي باب الإنسانية المعوزة بالكامل بجانب خطاب العقل والعدالة العام. إن وجه الآخر الكبير نفسه يضع الفرد في علاقة مع الطرف الثالث، الذي يفتح بدوره مجال القانون والدولة والمؤسسات السياسية. وفي صياغة بديلة، يعلن هذا الوجه وجود «الآخر الكبير للآخر الكبير»؛ أي علاقة أخرى غير متماثلة بين الآخر الكبير وآخره الكبير، بما يوحي بأن المجتمع لم يعد سوى تجمع من النفوس المفردة؛ فالآخر الكبير قد صار الآن وجها لا ينسى بين مجموعة كاملة من الوجوه التي لا تنسى. إلا أن العلاقة المباشرة وجها لوجه تظل أولية، ليس فقط بمعنى أنها - إذ هي سابقة على الحرية والاستقلال واتخاذ القرار وغير ذلك - تسبق زمنيا كل قضايا السياسة والعدالة، بل كذلك لأنها الموضع الذي نتحول لأول مرة إلى النظام الرمزي، عندما نصبح على وعي بوجود شبكة المسئوليات التي تمتد لما وراء الآخر الكبير الذي لا بديل له. فمن خلال وجود الطرف الثالث تبرز العدالة والمعرفة الموضوعية والمساواة والاستقرار الأنطولوجي والتبادلية وباقي هذه المثل الرمزية.
من هذا المنطلق فإن الطريق من الأخلاق إلى السياسة يكمن فيما يمكن أن نسميه المشهد الأولي، وإن كان هذا المشهد يمثل نقدا دائما للبعد السياسي. إن الآخر الكبير في كتاب «الكلية واللاتناهي» هو تجل للمساواة (في صورة الطرف الثالث) بقدر ما هو تجل لعدم التماثل. فالآخر الكبير الفريد يتضمن إمكانية وجود آخرين، يمكنهم أيضا دائما أن يصبحوا آخرين كبارا؛ فالآخرون الكبار إذن يمكن أن يكونوا محل اهتمام للنفس دون أن يدخلوا في علاقة معها؛ وهي حالة تنتمي لما يسميه ليفيناس «التجسد الخارجي للنفس» الذي يعد - من بين عدة أشياء أخرى - مصطلحه الفريد للنظام الرمزي. إن العلاقة المتميزة مع الآخر الكبير الفريد يجب أن «تتوازن» بحيث يتسنى للقانون والعدالة والمساواة والضمير الاجتماعي أن يظهروا؛ فحب المرء لجاره يتضمن بالفعل العدالة؛ حيث إنه يجب أن يكون في إطار علاقات هذا الجار مع الأطراف الثالثة؛ إذ يجب علي ألا أنظر لعلاقتي مع الآخر الكبير وحدها، بل إلى علاقتي مع العلاقات بين الآخرين. فالعدالة إلى هذا الحد «ضرورية»؛ وهو مصطلح قد نظن أنه ينقل بالكاد التعطش اليهودي التقليدي نحو العدالة.
إذا ثمة مسالك تنقلنا من الأخلاق إلى السياسة، ومع ذلك فقضايا العدالة والتحرر والمساواة وغيرها تستمد من المواجهة الأولية مع الآخر الكبير (وهي مواجهة ممنوعة على المعرفة الخارجية) ويجب أن تعود إليها كما يجب على المسافر في الصحراء أن يعود إلى نبع الماء من أجل إعادة التزود الدوري بالماء. فالأخلاق هي الأساس الفينومينولوجي للسياسة، والنبي هو الرمز المسبب للقلق الذي يأخذنا من تنازلات الأخيرة البالية إلى الصفاء القلبي للأولى. يقول ليفيناس في هذا الشأن: «العدالة مستحيلة من دون أن يجد الشخص الذي يبديها أنه قريب لي.»
10
وهذا لا يعني أننا يجب أن نعرف شخصيا من نعدل في تعاملنا معهم، بل يعني أن المسئولية المطلقة تجاه من هو قريب يجب أن تكون المصدر الذي تنبع منه تعاملاتنا الأخلاقية مع الأشخاص الأقل قربا. إلا أن العلاقة بين هاتين الدائرتين تظل محيرة؛ فالأخلاق تحكم السلوك التقليدي لكنها لا يمكن أن تختزل فيه؛ فهي بوصفها التزاما لا متناه تجاه الآخر الكبير تمثل مصدرا للفضيلة العادية في الحياة اليومية، لكنها كذلك تبدو مجالا مختلفا عنها تماما؛ فالعالم الأخلاقي يجب ألا يخلط بينه وبين العالم التقليدي للقواعد والقوانين والالتزامات والأعراف والوصايا المحددة. إلا أن القواعد العامة والمؤسسات (السياسة) يجب بصورة ما أن تستمد من علاقة مفردة لا تقبل الاختزال (الأخلاق)، فما لا يمكن قياسه يجب أن يتمخض عنه ما يمكن قياسه.
لقد رأينا مع ذلك أن ليفيناس شديد التشكك فيما هو نوعي وكلي ومعياري وعرفي وقابل للقياس ومتبادل وما شابه، وهو ما يبدو أنه يخاطر بتقويض عين الأساس الأخلاقي ذاته الذي من المفترض أن تقوم عليه كل هذه المفاهيم؛ فالبعد الأخلاقي في خطر دائم أن يقوضه نظام للقوانين الكلية الذي يحتاجه رغم ذلك؛ فهو يقاوم الفكر المميز للمدينة الذي يعتمد عليه رغم ذلك. فالحاجة للعدالة تنشأ في الدائرة الأخلاقية، لكنها أيضا تنكر، بل وتخذل من قبل طبيعة هذه الدائرة اللاتبادلية. فتنشأ فجوة بين مملكة الأخلاق النزيهة وعالم المصالح الأخلاقية الدنيوية الأقل بريقا بكثير. وينتاب ليفيناس بطريقته الرجعية المعارضة للتنوير الخوف مما يسميه في كتابه «الكلية واللاتناهي» ب «طغيان الكلي واللاشخصي»؛ لكنه يجب أن يعترف مع ذلك بأن «المقارنة بين ما لا يمكن مقارنته» ضرورية إن كان للعدالة أن تزدهر. وهذا يتطلب بدوره، كما يقر، شكلا من أشكال الفكر يقوم على التوليف والتوفيق، وهما عمليتان نظن أن حماسه لهما ضعيف بقدر حماسه للقومية العربية مثلا. ولن يكون من المبالغة القول إن النظام الرمزي هو العدو اللدود لأهم قيم ليفيناس، وإن كان عليه - باعتباره فيلسوفا أخلاقيا - أن يتناوله بالطبع.
إن الأخلاق عند ليفيناس هي علاقة بين الفردية المطلقة لشخص مع تلك الخاصة بشخص آخر؛ أي حب الغريب للغريب، وإن كان الاثنان صديقين حميمين، والذي يكون خارج نطاق المجتمع السياسي كله. فإن كانت الأخلاق تعرف بأنها اللااختزالية المطلقة للآخر في المثيل (وهي أطروحة تثير جدلا شديدا بالتأكيد)، فهي إذن تبتعد عن مقارنات المجال العام. فالإنسان الأخلاقي يختلف عن المواطن، وإن كانا (مثلما هو حال العالمين الظاهري والحقيقي عند كانط) يشغلان نفس الجسد. ورغم أن من الواجب إثبات هاتين الدائرتين، يبدو أن ثمة حالة من الصراع الدائم بينهما؛ فالعالم الأخلاقي «يعيق» عالم السياسة؛ وهو وضع يعني ضمنا أن الاختلاف والغيرية وحس اللاتناهي يجب أن يستجلبوا إلى عالم السياسة من الخارج. وسيبدو أن السياسة ليست قادرة ذاتيا على توليد مثل هذه القيم، برغم الانتشار الغريب للتعددية الثقافية وثقافات الاحترام وعقائد الاختلاف الاجتماعي وغيرها التي تحيط بنا من جميع الجهات. فالأخلاق إذن تقتحم الساحة السياسية، لكنها لا تغيرها بالأساس؛ فعالم السياسة يميل بطبيعته إلى ما هو موحد ومنحط، ويبدو أن ما في وسع معظم النظم الأخلاقية أن تفعله هو أن تهز دعائمه من وقت لآخر. وقد نفرق بين هذا وبين الأخلاق الاشتراكية أو النسوية التي يمثل التغيير السياسي فيها أساس العلاقات الأخلاقية بين الأفراد. إن هذا النوع من السياسة يتضمن تحولا في معنى المجال السياسي نفسه. وليست الأخلاق في إطار هذه النظرة إضافة زائدة للصور القائمة للوجود السياسي؛ فهي - إذ هي أبعد من أن تكون تدخلا خارجيا في نظام المدينة - وسيلة محددة لوصفه.
يصور ليفيناس في أقل أفكاره إلهاما المجتمع السياسي في صورة مجتمع تمزقه حالة حرب دائمة، صراع هوبزي على السلطة بين ذئاب متنافسة؛ فنظام المدينة في أفضل الحالات يصور في شكل دائرة محايدة بدرجة كبيرة، مجال من الأعراف والتبادلات لا غنى عنه لكنه غير تهذيبي. وبينما يتمتع العالم الأخلاقي بالعاطفة المتقلبة لمسرحية بها أحداث درامية مثيرة، فإن عالم السياسة يشبه فيلما وثائقيا رديئا، فالنظرة التي ترى المدينة باعتبارها مكان اغتراب تعكس نظرة اغترابية تجاه السياسة. يتحدث ليفيناس في أحد اللقاءات عن «النظام الاجتماعي السياسي الساعي لتنظيم وتحسين استمرار البشرية»، وهو تعبير بلغة بيروقراطية لا يكاد يمثل وصفا مناسبا للسياسة عند روسو أو بيرك أو ماركس. فإن بدا أن السياسة قد أفرغت من قدر كبير من قيمتها واختزلت في دائرة من القرارات الاعتباطية والآليات الإدارية، فسيمكننا عندها أن نفهم السبب الذي يجعل الأخلاق في حاجة لأن تدخل مجموعة من القيم القائمة بذاتها من فضاء خارجي روحي ما. إذا فكيفية مزج العالمين ستكون مسألة معقدة. لكن ليس من اللازم أن يكون هذا هو الحال إن انطلقنا من نظرة للمستوى السياسي أقل استهجانا. يذكرنا هذا بالماركسيين الكانطيين الجدد في أواخر القرن التاسع عشر الذين اتجهوا إلى نظرية كانط الأخلاقية من أجل إضفاء بعض القيمة على تاريخ جردوه - بمذهبهم الجبري الخاص - من كل غاية أخلاقية. فالمجتمع السياسي من دون أن تعارضه الأخلاق وتقومه وتجدده لا يمكن أن تكون له قيمة راسخة في ذاته؛ فالأخلاق ضرورية لأسباب من بينها أن السياسة مفلسة من الناحية الروحية. أما فكرة أن السياسة قد تشكل بدورها تحديا للأخلاق؛ أي أن صورة ما من التعامل مع الآخرين مثلا قد تتغير بسبب تغيير مؤسسي، فتمر دون أن تسترعي أي انتباه.
ينطبق نفس الأمر - كما سنرى بعد قليل - مع جاك دريدا؛ ففي أعقاب أحداث عام 1968 العنيفة، وفي ظل تعزيز الرأسمالية الغربية لقبضتها واستفاقة قطاعات كاملة من اليسار السياسي من غفلتها بالتبعية، تعرض مفهوم السياسة بصورة متزايدة لنيران الفلسفة، وخاصة في فرنسا التي كانت تنزلق بسرعة نخبتها الفكرية إلى ردود الفعل الحادة. قليل من تلك الأرواح الثائرة تطلعت إلى عهد سابق متحرر من الوهم السياسي؛ تجربة الفاشية والستالينية المريرة التي بدا في ضوئها أن مصير كل المشروعات الجمعية أو المثالية أن تتمخض عن أنظمة استبدادية وحشية. إن ما يدين به جاك دريدا لإيمانويل ليفيناس - وهو رجل قضى بعض الوقت في معسكر عمل نازي - هو ذلك المزيج بين لحظتين تاريخيتين مختلفتين.
ثمة فرق عند ليفيناس بين نطاق الآخر الكبير ومجال السياسة وهو أن العلاقات في إطار الأول غير متماثلة، أما في الثاني فهي متعلقة بالمساواة أو التبادلية. لكن هذا الفارق يحتاج لدراسة، صحيح - كما رأينا - أن الحالة التي يعتبرها ليفيناس نموذجه الأخلاقي الأولي تتضمن لا تماثلا وبغضا؛ حيث إن الآخر الكبير أكثر دناءة وعوزا مني؛ ومن ثم فهو - في حوليات الحكمة اليهودية - أعلى مني أيضا، لكن هذا في الواقع ليس النموذج الأولي للحب البشري، الذي بالمعنى التام له لا يمكن أن يوجد دون مساواة وتبادل. صحيح أن العهد الجديد يأمر بالحب أحادي الجانب للأعداء، مثلما هو صحيح أننا يمكن أن نكن حبا أصيلا لمخلوقات كالأطفال الرضع، فضلا عن الأرانب، التي تعجز عن مبادلتنا عاطفتنا بصورة كاملة. لكن رغم أن الحب أحادي الجانب - الحب الذي يتضمن البذل الذاتي الطائش الذي لا طائل منه، والذي يصمد في وجه المكر والسخرية - أكثر قيمة أخلاقيا من الحب المتبادل؛ لأسباب ليس أقلها أنه لا يضاهى في تكلفته، فهو من ناحية معينة أقل كمالا. فهو أقل كمالا لأنه في هذه الحالة لا يزدهر أحد الطرفين بازدهار الآخر (أو الآخرين) على عكس ما يتضمنه الحب بمعناه الأكمل. إن عدم وجود الحب بمعناه الأكثر تماما إلا بين من هم سواسية، هو السبب - في العقيدة المسيحية - في أن الآب يحب مخلوقاته في صورة، ومن خلال بشرية أخيهم الأكبر الذي هو الابن، الذي من خلاله يسمون من مجرد كونهم مخلوقات إلى الصداقة والتساوي معه. وإلا فإن الرب لا يمكن أن يحبنا إلا كما نحب نحن حيواناتنا الأليفة أو سياراتنا مثلا. وعدم إدراك أن الحب والمساواة متداخلان بهذه الصورة يعني تعزيز الحدود الفاصلة بين الأخلاق والسياسة، أو الحب والعدالة. كما يعني أيضا - كما سنرى لاحقا - إغفال مفهوم الحب السياسي الذي ينهي على نحو مماثل الحواجز التي توجد بين المجالين.
ناپیژندل شوی مخ