110

مشکلات سره غریبانو: د اخلاق فلسفې په اړه یوه مطالعه

مشكلات مع الغرباء: دراسة في فلسفة الأخلاق

ژانرونه

وبنفس الطريقة غير المتحيزة تريدنا الرواية أن نرى أن الثقافة ليست كل شيء، أن الوجود الإنساني يتسم بشيء من المادية ثبت أنه يتعارض معه. إلا أنه يراد منا أيضا أن نقر بأن الثقافة ليست على الإطلاق قشرة سطحية، وأن سخط أمثال هيثكليف عليها واعتبارهم أنها جافة لا مبالية، ما هو إلا حكم متحيز. وفيما يتعلق بالغموض، يكون من الصعب على القارئ تحديد طبيعة الحدث الذي أمامه، فهل هو عبارة عن قصة بطولة مأساوية أم قصة خصوم متنازعة؟ هل تكمن الحقيقة - في النهاية - عند نيلي دين المتواضعة الحال وغير المبالية؟ لقد انكشف أن الرغبة قوة مدمرة في جوهرها لا تبالي على نحو خطير بالفروق الاجتماعية، إلا أنه ليس كل أشكال الرغبة يجب تحقيقها ودعمها، وليس كل التقاليد الاجتماعية زائفة؛ فالنظام الرمزي يوفر الحماية كما يفرض القمع، مثلما أن النظام الواقعي تحويلي وصادم. •••

بعد أربع سنوات من ظهور رواية إميلي برونتي، ظهرت أسطورة أكثر روعة للنظام الواقعي في ساحة الأدب، فالحوت الأبيض الذي تطارده الشخصية الشريرة آهاب في رواية «موبي ديك» حتى موتها، «مبهم» عصي على المعرفة، بقدر مفهوم كانط «الحقيقة الأساسية أو الماهية الجوهرية»، فكما يقول الراوي إسماعيل عنه: «فكلما أخذته بالتحليل والتشريح، لم أتجاوز في العمق سمك بشرته، فأنا أجهله وسأظل أجهله أبدا.» فلون موبي ديك الأبيض علامة على قدسيته، على شيء «جميل وشريف وسام»؛ لكن «ثمة شيئا مراوغا في جوهر فكرة لونه يفزع الروح أكثر من اللون الأحمر الذي يعني الدم.» فالأبيض لون النقاء، لكنه لون النفي الخالص، وموبي ديك - مثل سمو الرب وقوة النظام الواقعي - مريع مثلما هو آسر، ملعون مثلما هو مقدس، عدم غريب أجوف لا يسع من ينظر إليه سوى أن يخاطر بالإصابة بالعمى. فالحوت - كما النظام الواقعي - سلب خالص وقوة إيجابية معا؛ شفرة تستعصي على الإدراك، لكن قوة تدمير عارمة يقع آهاب - الذي استحوذ عليه الموت - في حبها الكارثي. إن الغموض الرهيب لموبي ديك ولا محدوديته التي تبطل كل التصنيفات الحيوانية يذكر الراوي بالفناء، و«ما في الكون من خلاء ساكن لا ينبض، ومن انفساح لا يحد.» فغياب وجود الأرض، كما يشير إسماعيل، أمر غامض مثل الرب.

إن كان الحوت يضرب استقرار عالم الحيوان، فهو يربك كذلك البطل التراجيدي للرواية الذي يرى فيه تجسيدا حيا ل «كل ما يسلب العقل ويستفز العذاب؛ كل ما يعكر صفو الأشياء؛ كل حقيقة يستكن فيها الحقد؛ كل ما يفتت القوى العضلية ويضرب العقول؛ كل ضروب الشيطنة الماكرة التي تعشش في الحياة والفكر؛ كل الشر ...»؛ إذ يمثل موبي ديك لآهاب التائه طبيعة النظام الواقعي المتعرجة غير المنتظمة، والعيب الخفي في منظومة الطبيعة. وكما يقهر النظام الواقعي الدال بهناكيته أو الوحشية والمراوغة في نفس الوقت، فإن حتى أكبر المباهج على الأرض - كما يشير آهاب «تتسم بتفاهة معينة لا دلالة لها تكمن فيها.» فهو يرى في «الصفحة البيضاء» للحوت الشر الخالص لدافع الموت، جلبة اللامعنى الشيطاني التي تتردد عبر الكون. إلا أن هذا يرجع إلى أن رؤية القبطان لموبي ديك تمثل رؤية إبليس للرب؛ أي رؤية الرب باعتباره ظالما، باعتباره حكما ورقيبا وليس صديقا ومحبا. فموبي ديك في نظر آهاب «شيء ملعون» وإن كان يلمع ببريق سام عندما ينظر إليه بعين أقل شرا. يمكنك - كما تخبرنا الرواية - أن ترى الحوت شيطانا أو ملاكا مقربا، بحسب حالتك المزاجية.

إن هذا الوحش شأنه شأن كل الأشياء المقدسة مبارك وملعون معا، ورغبة آهاب المصابة بالهوس الأحادي تجاهه تمثل حبا وعدوانا قاتلا معا، مزيجا من العشق والموت. فآهاب مثل أي شخص شيطاني، لا يمكنه أن يحصل حيوية اصطناعية إلا من الألم الذي تتيحه له كراهيته الممزقة لذاتها نحو الحوت. إنها تلك الحالة من العذاب الذاتي التي ينظر إليها عادة باعتبارها الجحيم، والقبطان واحد من السلالة الأدبية المهيبة من الشياطين المتعدية للحدود؛ إذ ينتمي إلى النخبة الشيطانية؛ فهو كما يقول عن نفسه: «وهبت الإدراك العالي ... وملعون على نحو خبيث وماكر!» وحده الشيطان - الملاك الساقط - هو من يتقبل حقيقة خالقه، فيقدر الدمار لذاته كما يخلق الرب من أجل الخلق ذاته. لقد تجاوز آهاب حدود البشرية إلى أرض لا يصلها إنسان، فيها يتحول - كما يقول على غرار شيطان ميلتون - «كل جمال إلى مصدر شقاء لي.» فهو واحد من الموتى الأحياء، ويتحول وجوده المدمر للذات إلى وجود يتعصب للموت. فحتى ساقه الصناعية العاجية - التي تصدر مع خطواته على متن السفينة صوتا يشبه الدق على تابوت - هي قطعة من شيء ميت مدمج مع لحمه ودمه. فقد فعل القبطان ما طلب من أنطونيو في مسرحية «تاجر البندقية»: لقد ضحى بجزء من جسده من أجل الآخر الكبير، إلا أنه لا يزال لم يتلق أي تقدير من الشبح العملاق الذي يطارده بلا طائل. وكما هو الحال مع هذه الرغبات عسيرة المراس، يختزل الواقع اليومي في مجرد واجهة مبهرجة مفرغة من أي مضمون وجودي: «فكل الأشياء المرئية» كما يقول آهاب «ليست سوى أقنعة كرتونية»، فكل أتباع النظام الواقعي أفلاطونيون بطبيعتهم.

يقول إسماعيل، متأملا حالة قبطانه البائسة: «لقد خلقت أفكارك مخلوقا بداخلك.» إنه وتد النظام الواقعي الدخيل الموجود بداخل آهاب الذي يمزق ذاته، فيدفعه نحو السعي لشيء مستحيل؛ لكنه كذلك هو تلك الرغبة المسعورة المحددة التي تتمثل فيها عظمته؛ إذ يستحوذ عليه - شأنه شأن كل أبطال النظام الواقعي - تطلع شغوف للانهاية فيقول: «الحقيقة لا تعرف القيود.» فهو على استعداد للمخاطرة بحياته في سبيل السعي نحو رغبته. ومن هذا المنطلق يدفع إلى حد مأساوي العمل الروتيني لبحارته، الذين يحصلون الحياة من الموت باستخراج قوتهم من المحيط، فهم أيضا تجسيد للفارماكوس مثله، وهم مطرودون من الإنسانية، تتميز تجارتهم ب «انعدام الطهارة»؛ لكن، ورغم أن العالم يقصي هؤلاء المهربين إلى نطاق اللاإنساني، فهو يجلهم كبروميثيوس سارق النار، باعتبارهم موفرين للزيت من أجل إضاءة المصابيح التي في البيوت والأعمال. فالحضارة الإنسانية نفسها قائمة على استخراج الحياة من الموت؛ إذ تجبر الطبيعة صعبة المراس على خدمة الثقافة؛ وهكذا تعكس ازدواجية آهاب عرفا متحضرا وليس انحرافا غير اجتماعي. إن الإنسانية - إذ يصنعها البعد الواقعي اليانوسي المستحيل لرغبتها - هي التجسيد الحقيقي للفارماكوس؛ حيث تقدر على الفداء واللعن بدرجة تتجاوز أعظم مخلوقات البحر. إن كان آهاب تشوها في وجه الأرض فذلك لأنه يتمادى في منطق الإنسان إلى حد لا يتصور، حد تكشف الإنسانية عنده عن نفسها باعتبارها لا إنسانية بقدر ما هي إنسانية في أصدق صورة. هذا هو نطاق النظام الواقعي الذي - لحسن الحظ وسوءه أيضا - لا يقدر مناصرو النظام الخيالي ولا المدافعون عن النظام الرمزي على الدخول إليه.

وفي رواية أقل تألقا من رواية ميلفيل، تتضمن رواية «حكاية الزوجات العجائز» لأرنولد بينيت لحظة استثنائية، يتحول فيها هارولد بوفي - وهو تاجر أقمشة عسير الوصف من نورث ميدلاند يتسم بعادات خاصة بالبرجوازية الصغيرة - من خلال حكم الإعدام الظالم لابن عمه إلى شخص غريب على نحو مخيف. يترك هارولد الذي أنهكه الالتهاب الرئوي فراشه بصعوبة لزيارة قريبه المدان في السجن، ثم يذهب إلى كاهن البلدة ليتشاور معه بخصوص عمل مظاهرة سياسية معارضة للحكم. وتكون نتيجة ما بذله من جهد خارق في سبيل قضية العدالة ميتتين وليس ميتة واحدة؛ حيث يموت بوفي بسبب تسمم الدم. ويعلق الكاتب عليه قائلا: «لقد افتقر للفردية، فقد كان ضئيل الحجم ... لكنني أحببته واحترمته ... لطالما أسعدني أن أفكر أن القدر في نهاية حياته قد تولى أمره وبين - لمن يرى - عرق العظمة الذي يجري في كل روح دون استثناء، فقد تبنى قضية وخسرها ومات بسببها.» ويكتب لاكان: «إن الطريق لتحول كل منا لبطل مرسوم بداخلنا، فقط علينا أن نكمله حتى نهايته.»

23 •••

وفي ختام مسرحية آرثر ميلر «مشهد من الجسر» يدخل المحامي ألفيري ليلقي كلمة خالدة في تأبين بطل المسرحية الذي رحل؛ إيدي كاربون:

إننا نرضى في معظم الأوقات بأنصاف الحلول، وهذا يناسبني. لكن الحقيقة مقدسة، ومع أني أعلم كيف كان (إيدي) مخطئا، وكيف كان موته بلا فائدة فإنني أرتجف؛ لأنني أعترف أن ثمة شيئا نقيا يناديني من ذكراه، ليس شيئا جيدا خالصا؛ لكنه شيء منه هو وحده؛ إذ عرف بنفسه تماما، ولهذا سأحبه أكثر من كل عملائي المتعقلين. ومع ذلك فالأفضل الرضا بأنصاف الأشياء؛ حتما. وبهذا أرثيه، علي أن أعترف، ببعض ... الحذر.

لا تختلف نغمة ما سبق عن رثاء رواية «حكاية الزوجات العجائز» لهارولد بوفي المقهور لكن العنيد؛ إذ يعكس رد فعل ألفيري المتحير تجاه كاربون ازدواجية خاصة بالنظام الواقعي. فبطل المسرحية يندفع في إصرار نحو موته باسم سمعته التي تلطخت؛ وتبدى المسرحية إعجابا بالإصرار في تمسكه برغبته، وإن كانت تظهره بمظهر المغرور إلى حد المأساة. نفس الأمر ينطبق على نظرة مسرحية «موت بائع متجول» لبطلها ويلي لومان، وهو شخصية تموت غارقة في مستنقع الوعي الزائف، لكن عظمته المأساوية تكمن في أنه يعجز عن تجاهل مشكلة هويته. يمكننا القول إن هذا النموذج الأولى للبطل المعاصر يحافظ على «الموضع الأصلي لمتعته حتى وإن كان فارغا» كما يقول لاكان في سياق آخر.

ناپیژندل شوی مخ