الاقتصاد دولاب تدور به آلة الحياة الاجتماعية بفروعها ومظاهرها المختلفة. وليس الاقتصاد هنا ليعني التوفير، ولكنهم يريدون به - حسب الاصطلاح الحديث - طريقة الإنتاج والتبادل. ينتج المرء ما يستطيع إنتاجه ليبدله بما يحتاج إليه من ضروري ويصبو إليه من كمالي؛ فيتمكن بعدئذ من الاستمرار على الإنتاج في نوع العمل الذي يجيده. ولقد كان التبادل يحصل مباشرة بلا وسيط في الجمعيات الأولى، غير أن تقدم الحضارة جعل المال من الأهمية بحيث أصبح واسطة التبادل الوحيدة التي يستحيل بدونها الحصول حتى على أهم الضروريات، وتفنن الناس في حشده لا سيما عن طريق الصناعة التي ارتقت آلاتها ارتقاء عظيما، واستولى أهل رأس المال على منابع الإنتاج فصاروا لا هم لهم سوى سرعة الإنتاج والإنتاج بأبخس الأثمان لتزداد الثروة بالأرباح السريعة؛ وهذان الشرطان متوفران في استخدام الآلات؛ فغدا العامل بذلك مرغما على قبول أحد اثنين: فإما الموت جوعا لضيق اليد، وإما العمل بأقسى الشروط ليعيش عيشة كلها كد وحرمان وظلام. •••
لقد مرت الأمم والجماهير في قرون العبودية فلم يبق منها على الأرض غير آثار الملكية والأرستقراطية، حتى هب الشعب في الثورة الفرنساوية يطالب بالمساواة مفاجئا المستأثرين بالسيف والنار، وانبرى نابليون الديكتاتور يلقي بذور الثورة أينما حل ويوسع من دوائر الحرية ما يسر انبساط شوكته. قبله لم يكن يحارب إلا الأشراف، ولم يكن يدخل البلاط إلا الأشراف، ولم يكن يرشح للمناصب الرفيعة إلا الأشراف؛ فرفع الصغار من ذوي الكفاءة إلى أعلى الدرجات، وجعل من ذوي البسالة والمهارة الحربية مارشالية وقوادا عظاما، وخلق ألقاب الشرف للممتازين بمواهبهم الطبيعية؛ فشعرت الأمة - بما فيها طبقة العمال - بأن الحرية السياسية التي اعترف لها بها سنة 1789 متحققة.
بيد أن النظام الديمقراطي قصر على تعريف المساواة بين الطبقات والأفراد في الحقوق وأمام القضاء، ونادى بالحرية النظرية التي تحرم الاستعباد النظامي على ما كانت تجوزه القوانين في الماضي، ولكنه فاته أن هناك عبودية اقتصادية أشد هولا من أية عبودية سياسية. وماذا عسى تنفع الحرية السياسية من ليس لديه ما يؤهله للتمتع بها؟ عبودية الأمس ضمنت له الغذاء والسكن والكساء، أما حرية اليوم فسلبته هذا الضمان ولم تنله ما يحتاج إليه. وما كانت قيمة المرء الاجتماعية والسياسية إلا لتوازي قيمته الاقتصادية؛ أي ما يملكه من مصادر الثروة؛ لأن الذي لا شيء عنده عبد لمن عنده شيء، وهو يواصل العمل ساعات طويلة، ويفني قواه في الكد والإجهاد، فلماذا يبقى عبدا؟!
يبقى عبدا لأن الحكومة اهتمت إلى اليوم بالإنتاج وأهملت التوزيع، وليس النقص في قلة الإنتاج فهو موفور، إلا أن سوء التوزيع يمنح قوما فيصبحون موالي، ويحرم قوما فيمسون عبيدا؛ أولئك يتنعمون ولا يعملون، وهؤلاء يبذلون حياتهم في العمل بلا أمل ولا عزاء؛ لذلك أشهر الاشتراكيون الحرب على جميع القوانين السارية لينيلوا الذين حررتهم السياسة في ثورة الأمس الحرية الاقتصادية في ثورة اليوم، وذلك بالتوزيع على الجميع سواء بسواء؛ فالتوزيع إذن قلب قلب النظام الاشتراكي، وغاية غايته. ولما كان توزيع نتاج العمل ذاته غير مفيد لمنتجه في كل الأحوال، فقد جعلوا التبادل على قاعدة ما سماه ماركس «الوقت الاجتماعي»؛ أي عدد الساعات المستهلكة لإنجاز العمل، وحذفوا المال واسطة الاحتكار والاستغلال وعامل الطغيان الأكبر - على ما يرون - وقضوا على الثورات الفردية وما لها من مصارف، وشركات مالية ، وصناديق توفير، وبورصات ... إلخ، ليوحدوا الثروة في يد الحكومة أو المجتمع، وشعارهم هو هذا «لكل ما يخصه ولكل نتيجة عمله»، ولكنهم علموا أن مثل هذه المساعي لا تنجح في بلد واحد سوى نجاح وقتي، وأنه لا تلبث الحكومات الأخرى أن تزاحم الحكومة الاشتراكية في أسواق التجارة وتتألب عليها فتقضي على أنظمتها وتطارد مؤيديها حتى الهلاك؛ ولهذا قرروا نشر دعوتها في جميع أنحاء المعمور لتتم بها تلك الثورة الدولية الكبرى والانقلاب العام العظيم الذي تنبأ عنه كروبتكن الروسي منذ أكثر من ثلاثين عاما، فقاموا ينادون باستقلال الشعوب وحريتها في تقرير مصيرها، وما هذا الاعتراف إلا تمهيد للاتحاد العالمي الشامل تحت راية الشيوعية المطلقة. •••
أما الواسطة لبلوغ هذه الغاية فهي القوة؛ لأنهم يرون أن النظام الحاضر يحول دون الإصلاح المنشود بمحافظته على الحقوق الفردية وتأييده امتيازات أصحاب المال والعقار الذين يملئون خزائنه بالضرائب، والأنانية الحيوية تحمل هؤلاء وذاك على استخدام كل وسيلة ممكنة للاحتفاظ بممتلكاتهم؛ فالقوة وحدها تتغلب عليهم، ولتنظيم هذه القوة أنشئت شركات التضامن ونقابات التعاون، وغرضها الدفاع عن حقوق العمال حتى إذا آن الأوان قاموا بالحركات الثوروية المطلوبة. وقد استحسن ماركس الديكتاتورية لتخويل هذا الانقلاب الواسع ما يحتاج إليه من الشدة والإتقان، بل رأى أنه يتحتم حصر الأمر والنهي في يد زعيم مطلق. ولا شك أن ماركس استنبط المنصب الديكتاتوري لموافقته لفطرته ومكانته؛ هو الذي كان ديكتاتور الاشتراكيين يوم أسس الإنترناسيونال
1
الأولى، وإنما انفض الأشياع يومئذ من حوله لمغالاته في الاستئثار والطغيان.
بين الناس اليوم شعور قوي بأن اليهود هم الذين ابتدعوا الاشتراكية وما والاها؛ انتقاما من الشعوب والأجناس والأديان التي حملت عليهم واضطهدتهم عشرين قرنا لم يكن لهم فيها حرية ولا وطن ولا كيان، وسعيا لنشر سلطانهم على العالم، فعملوا في تأسيس الإنترناسيونال التي سميت المؤتمر الدولي الأحمر، وأقاموا إزاءها في فيينا تحالف الممولين الذي دعي المؤتمر الدولي الذهبي - ذلك ليقبضوا على ناصيتي القوة في المعمور: وفرة العدد ورأس المال. ويستشهد الناس على صدق شعورهم بأن كبار زعماء البلشفية من اليهود، كما أن كبار الممولين في العالم يهود يمدون البلشفية بالمساعدة السرية رغبة في نشرها وبقصد ابتزاز المال أيضا؛ لأن الثورة العامة مضاربة مالية وسياسية فيحاء تروج سوقها الصحافة العالمية بلهجات متناقضة - وزعماء الصحافة يهود كذلك.
فيدافع اليهود عن نفوسهم قائلين إن رئيس الشركة الصحافية الكبرى المستر أستون ليس يهوديا، وأن «شركة الأنباء البرقية الأمريكية» ليست إسرائيلية، وأن مستر هرست صاحب سلسلة الصحف والمجلات ليس يهوديا، وأن اللورد نورثكليف قطب أقطاب الصحافة البريطانية ليس يهوديا، ومثله صاحبا «الشيكاغو تريبيون» وغيرهما كثيرون. وإذا كان هناك ممولون من اليهود فلماذا لا يذكر حيالهم روكفلر ومورغن وريان ودوبون وهنري فورد وويرهاوز، و15 ألفا سواهم من الأمريكان أصحاب الملايين الذين ليسوا يهودا؟ وإذا كان بعض زعماء البلشفية يهودا، فألوف من صغار تجار اليهود فقدوا أموالهم ولاقوا حتفهم في الثورة الروسية بعدما ذاقوا في عصر القيصرية من الإهانة والعذاب والتجرد من الحقوق السياسية والقضائية؛ فإن هم ثاروا فإنما فعلوا كمرتبة اجتماعية وليس كطائفة دينية، وإذا كان تروتسكي وسڤرولوف وغيرهما من البلشفيين يهودا، فليس في لنين وتشيتشرين وكراسين وكلينين قطرة دم إسرائيلي. وأكثر قادة المنشفيك - أعداء البلشفيك الألداء - يهود، ومثلهم زعماء الديمقراطية الدستورية المنافسة حكومة السوفييت. وإن البلشفيين يكرهون اليهود لأنهم ينظرون إليهم كمحافظين على النظام الرأسمالي، وأن اليهود محبون للقانون وهم في البلاد اللاتينية - حيث تراعى الحرية الدينية - أقرب الناس إلى حفظ النظام وأشدهم تعلقا بالعائلة والفردية والملكية.
ذكرت هذا الاتهام والدفاع لأنه نقطة ذات أهمية خاصة في هذا الاضطراب الشامل، ليس استجلاؤها بالممكن في الحاضر ولن يكشف أسرارها إلا المستقبل. •••
ناپیژندل شوی مخ