الديمقراطية
استعرض ما شئت من فصول التاريخ الطبيعي تجد بين الحيوان والحيوان مصارعة مطردة، وبين النبات والنبات مقاتلة سرية أو علنية بلا تباطؤ ولا مهادنة. ومثلها في تاريخ علم طبقات الأرض؛ فهنا الصخور والمعادن تتزايد وتتناقص، وهناك تراجعت الأمواج في محيطها فاستحالت أرض غارت تحت تقلب الأواذي مدينة آهلة. ومثلها في تاريخ الفلك حيث تتكون عوالم وتزول عوالم. وليس التاريخ البشري ليختلف عن تلك التواريخ. غير أن الإنسان يمتاز على سائر الكائنات بالعقل والغريزة الاجتماعية؛ فهو يطبع كل ما يقتحم من خطر، ويشهر من حرب، ويركب من هول بطابع هاتين الميزتين. ولما كان تنازع القوى الطبيعية ينتهي دواما بصعود الغالب وهبوط المغلوب كانت نظم الإنسان ومبادئه وأحزابه أبدا في ارتفاع وانخفاض.
لم يهتد زعماء الإصلاح إلى أنظمة سياسية غير الثلاثة التي ذكرها أرسطو، وهي: الملكية أو حكومة الفرد، والأرستقراطية أو حكومة الأماثل، والديمقراطية أو حكومة الشعب. ولئن دانت المدنية المتأخرة بالديمقراطية فإن جل المدنيات المتقدمة - إن لم يكن كلها - نما وترعرع ثم توارى في حضن الملكية. ألأن الشعب الرازح تحت أثقال العبودية كان في غيابات جهله مدفونا؟ ألأن تلك المدنيات شرقية، وشعوب المنطقة الحارة أقرب إلى الملكية لميلهم إلى عدم التفكر وتثاقلهم عن حمل المسئولية - كما يزعم المؤرخون؟ ألأن الأمة في دورها الابتدائي تحتاج إلى سيد احتياج الطفل والقاصر إلى معلم ومرشد؟ ليس البت بالأمر الميسور، وإنما ما يتحتم البت فيه - بعد نظرة سريعة في المدنيات البعيدة - هو أن الشعوب لم تكن عقيمة في ظل الملكية بل أنتجت ما لا نزال نستفيد منه حتى في هذه العصور - عصور الإبداع المتواصل.
فمدنية مصر العظيمة تكونت في عهد ست وعشرين أسرة مالكة يوم كان فرعون سيدا مطلقا يسن القوانين وينفذها، ويسهر على الراحة والأمن، ويسعى في تنظيم البلاد وتجميلها، وإليه مرجع الأمور الدينية والمدنية جميعا؛ فأسفرت تلك الحضارة السحيقة عما ما زلنا نعجب به ونستوحيه من بدائع هندسية، وفنون إدارية، وفلسفة روحانية.
أما الحضارة الكلدانية الآشورية، فكانت عظيمة في هندستها عظمتها في علمها؛ لأنها - مع تلك الأسوار الضخمة، والأبنية الفخمة، والحدائق المعلقة المحسوبة من العجائب السبع في القدم - جاءت بفنون الحرب وما يتبعها من تدريب الجيوش، وحفر الخنادق، وخد الأراضي، واختراع مركبات الهجوم والدفاع، وأساليب التدمير النظامي، وإعدام الأسرى، ونقل المعدات والأسلحة؛ هذا من جهة، وكانت عاكفة من جهة أخرى على التمرين العقلي، والبحث الفكري، فوضعت القواعد لعلوم الحساب والفلك، وأوجدت المكاييل والمقاييس والموازين الأولى، وميزت بين السيارات والثوابت، وأحصت كسوفات الشمس وخسوفات القمر، وعينت دائرة البروج مسمية كلا من علاماتها باسمها، ووقتت أجزاء السنة، واخترعت الساعة الشمسية، وهي التي وضعت أصول التنجيم، وكشف طوالع السعد والنحس، وتركيب التعازيم والتعاويذ والطلاسم والتمائم والحمائل وعقاقير الغرام.
أما اليهود فمعروف مجدهم الحربي في عهد داود ومجدهم التجاري في عهد سليمان، فضلا عن أنهم حبوا العالم بكتاب التوراة الجليل.
وأحدث الفينيقيون فن سلك الأبحر وما يجر إليه من استعمار، وتجارة دولية، وصناعة تمد تلك التجارة؛ فأنشئوا المصارف في الأنحاء المختلفة، وأذاعوا مع مدنيتهم مدنية كل بلاد يرودونها، ونشروا مع مصنوعاتهم الأبجدية التي اختزلوها من الهيروغليفية، وأساليب المعاملة المالية والاقتصادية، وعلم مسك الدفاتر.
ولما قام الفرس يبسطون شوكتهم على العالم الشرقي ويخضعون الشعوب المغلوبة لصولجان ملكهم، اقتبسوا عن الأقوام زبدة حضاراتهم فجمعوا بين الإدارة المصرية، والهندسية الآشورية، والعلوم الكلدانية، والبحرية الفينيقية متوسعين في التصرف والتكييف ليطبعوا تلك المدنية المختلطة بطابع فارسي. وقد بدأ بهم تأثير الآريين - وهم من أصل آري - في التاريخ المعروف، وأخص ما جاءوا به حكمة زرادشت القائلة بحرب بين عنصر الخير أرمزد، وعنصر الشر أريهمان؛ حرب تبقى إلى منتهى الزمن حيث يتغلب عنصر الخير فيعم النور والحقيقة.
كذلك في الشرق الأقصى كالصين مثلا حيث شيد السور الأكبر قبل المسيح بأربعة قرون، وحفرت الترعة الكبرى في القرن التالي مما يدل على تقدم الهندسة. وقد عرف أبناء مملكة «ابن السماء» علوما وفنونا جمة كالكتابة ومبادئ علم الهيئة، واخترعوا الحك (البوصلة) والمطبعة والبارود، وتعالت جدران معابدهم في الفضاء، وكست الحرائر النفيسة الرجال منهم والنساء، وشربوا الشاي في فناجين الصيني الثمين أيام كان الغرب في همجية قصوى. وإذا أخذنا ببعض ما وصل إلينا من كتاب كنفوشيوس المدعو «تشو-كنج» علمنا أن مبادئهم الأخلاقية من عبادة الآلهة وحب العائلة واحترام الموتى ... إلخ، لا تقل جمالا عن أسمى المبادئ المعروفة لدينا.
وقد تأثرت اليابان في القرن الرابع ق.م بمدنيتي الصين والهند، كما تأثرت أوروبا فيما بعد بمدنية اليونان واللاتين. وبعد كفاح عنيف بين المولى والأشراف، يشبه كفاح الأرستقراطية والملكية في القرون الوسطى، اعتنق ذلك الشعب الشرقي المتوقد مدنية الغرب الحديثة بأكملها، وصار - وهو القزم في عالم القياس - يخطو خطوات جبار في عالم التقدم والرقي.
ناپیژندل شوی مخ