232
إلا أنه غر كريم في بعض الأحيان يتصور للأشياء المعقولة وجودًا خارجيًا كثيرًا ما يداعبه أحبته على الطعام الحلو فيصفونه له بالحرارة فيشتكي ألم حرارته ويظهر عليه أثر شكايته ويقيم عند صديقه الوزير العربي زروق بجبل المنار وإذا عزم على الإياب دس له الوزير المذكور من يتحدث في المجلس بوجود اللصوص وقطاع الطريق فيعدل عن عزمه ويقيم إلى أن يتأكد عنده أمن الطريق.
وقد ثقل عليه في آخر عمر ضعف بصره فكان من ذلك في تعب أخبرني الشيخ محمود قابادو أنه أرسل إليه هدية من راحة الحلقوم وكتب إليه صحبتها: [الكامل]
مولاي إن كرام إسلامبول قد ... بعثا إلي برحلة وقدومِ
ورأوا كأن الدرس أتعب مقولي ... فتداركوه براحة الحلقوم
وكان الحاضر بين يديه شيخ لا يحسن القراءة فقرأها عليه قراءة نثر فظنها الشيخ من النثر فكتب إليه مجيبًا بنثر وهو قوله: بعثوا لك يا مولاي بما يشبه في اللين دماثة أخلاقك وفي الطيب نداء صولتك وأعراقك، وفي العذوبة ما تجده النفس عند ارتشاف أذواقك، فلئن بعثوا لك راحة الحلقوم فلأنت راحة النفوس، ولا غرو أن ما فعلوا معك ذلك فلا عطر من عروس.
ومن لطائف شعره ما كتبه إلى الشيخ الإسلام متشفعًا في بعض المسجونين من العدول فقال:
أعيد أيديَ للنعماء موجبة ... أن يظهر السلب يومًا في مبانيها
وطلعةٌ قرنت باليمن مسفرةً ... أن يرهق اليأس يومًا من يعانيها
يا سيدًا منه للأيام إذ عسفت ... أسنى شفيع فلا تحفل بلاحيها
نبئت أن قد أتى نعمان واقعة ... يستوجب الزجرَ بالتعزيز آتيها
لكن له صبية باتت مروعة ... ذرف العيون بما تبكي بواكيها
فانظر لهن رعاك الله مقتصدًا ... فأنت من أنت إجلالًا تنويها
ملازمًا للتدريس إلى أن توفي في ذي القعدة الحرام سنة ١٢٦٧ سبع وستين ومائتين وألف عليه رحمة الله آمين.
٣٤
الشيخ محمد بن سلامة
هو الشيخ أبو عبد الله محمد بن الطيب بن أحمد بن علي بن الباهي بن سلامة الطرابلسي المحمودي من بني سليم قدم جده الباهي من سلامة من طرابلس إلى حاضرة وكان تونس وكان بها مؤدبًا.
ونشأة ولده الشيخ أبو الحسن علي في خدمة العلم الشريف وقرأ على فحول العلماء وتصدى لبث العلم في جامع الزيتونة فأخذ عنه علماء كثيرون منهم شيخ الإسلام البيرمي الثاني وغيره وتقدم إمامًا وخطيبًا بجامع التوفيق فزان المحراب والمنبر بعلمه وفصاحته، وتقدم لخطة قضاء باردو المعمور فقام بها أحسن قيام وأنصف في إبرام الأحكام إلى أن سار لرحمة المالك العلام وأرخ وفاته الشيخ محمد المولا الحنفي بقوله: [المتقارب]
ألا كل شيء ملاقٍ حمامهْ ... بذا الربُّ في اللوح خطَّ ارتسامهْ
فطوبى لمن كان مستعتبًا ... غدًا سالكًا لسبيل السلامهْ
كهذا الإمام الزكي منْ عليه ... قد انتشرت للقبول علامه
وقضّى الزمان بحسن قضاهُ ... وخصّ بدرس العلوم كلامه
ولبى مجيبًا لداعي الحمام ... فحلَّ القصور بدار الكرامه
فأغمره الله من فضله ... وأعطاه رب البرايا مرامه
فمن أجل ذاك أرخوا ... ببيت كسمط أجادوا انسجامه
حوى كل رفد وكل المنى ... عليُّ الإمام هو ابن سلامه
وترك ولده الشيخ أبا العباس، متحليًا من العلم بأفخر لباس، أخذ العلم عن والده وعن الشيخ صالح الكواش، وتصدى للتدريس فزان جامع الزيتونة. ولما توفي والده تقدم عوضه لإمامة جامع التوفيق وخطب على منبره كوالده ثم قدمه الأمير حمودة باشا قاضيًا ببنزت فأقام فيها مدة ثم حن إلى منبت غرسه فاستقبال من الخطة وولي عوضه فيها الشيخ حمزة الجباس سنة خمس عشرة فأقام هنالك نحو الخمسة الأشهر ثم استقال فرجع مصحوبًا بمرض لازمه إلى الوفاة.

1 / 232