زفاف من نوع جديد
حين تلاشى أخف صوت لوقع الأقدام، عاد جيمي للاستقرار في موضعه على الصخرة، وشد عليه أغطيته، وحول وجهه صوب البحر، الوجه الذي كان قد ضمته يدان قويتان مندفعتان لامرأة، الوجه الذي كان قد أمطرته قبلات منزهة تماما تعبيرا فقط عن التحرر من عبودية العار. لقد كوفئ بأكثر العملات التي يرومها الرجال في عالم النساء، ومن ثم تجزل النساء في عطائها في أغلب الأحيان.
بحث جيمي بين ملابسه ووجد منديلا. فأخرجه ومسح وجهه بحرص. لم يكن هناك في القبلات المبللة المالحة التي تلقاها ما أراد الاحتفاظ به، ولا حتى ذكراها؛ لأن الفتاة التي منحته إياها لم تقصد بها شخصه. فقد منحت قبلاتها الحقيقية لشخص آخر. أما هذه القبلات فما هي إلا التعبير الأول المتاح عن الامتنان على الحرية؛ حرية أن ترفع رأسها، حرية أن تواجه العالم، حرية أن تمضي في حياتها من دون أن يوجه إليها «إصبع الاحتقار» الجاهز دائما.
ابتسم جيمي ابتسامة متجهمة وهو يدعك وجهه.
ثم قال للأمواج المتكسرة تحته: «أرجو ألا تظن أنها قد خدعتني البتة بتلك القبلات. لا بأس. هنيئا لها اسمي. هنيئا لها الخاتم - ما دامت ستشتريه بنفسها - وهنيئا لها عقد الزواج. لم أرها جيدا، لكنها لم تبد امرأة لعوبا مما رأيته.
سوف أقول لها ذلك. كما أنها لم تتصرف كمن اعتاد على الاستعانة بالناس لتلقي على كاهلهم الكثير من أعبائها. من المؤكد أنها لم تكن خائفة على جسدها، وإلا ما كانت ستأتي إلى هذه الصخرة قرب منتصف الليل في هذه العاصفة، غير خائفة خوفا ماديا؛ لكن أعتقد أن الضغط النفسي هو ما يصل بالناس إلى الحضيض. أعتقد أنه الخوف المعنوي أو الضغط العصبي، أو سمه ما شئت، هو ما ظل يضنيني طوال العامين الماضيين. وليس خوفي من الموت جسديا. وحده الله يعلم أنني رأيته كثيرا لدرجة أنني قد أخضع له كما رأيت آلاف الصبيان يخضعون له! إنما حيث إنني على قيد الحياة، وحيث إنني أتنفس، وحيث إن هناك شبح احتمال أنه قد يصبح لي حظ قليل في النجاة، فإنني أكره أن أقف ساكنا وأشاهد حياتي وهي تذوي شيئا فشيئا. وإن سبب كراهتي للرحيل هو أنني لم أعش قط، لم أحصل قط على الأشياء التي تمثل الحياة الحقيقية للرجال، وإنني أريد أن أتذوق طعم الحياة! أعرف عن السماء والبحر والأرض ما يكفي ليجعلني راغبا في بدء عمل العناية بالأشجار وأنقل خبرتي به كما كان هدفي دائما.»
وبعد ذلك، ظل جيمي جالسا، بعض الوقت، متجاوزا الوقت المحدد بكثير، وشاهد السماء وهي تصفو، والبحر وهو يعود إلى سكونه تدريجيا. وما لبث أن استطاع أن يرى النجوم مرة أخرى، وطالما ارتبطت رؤية النجوم في ذهن جيمي ببصيص من الأمل. منذ أن قرأ خطبة كتبها أحد أكبر ملحدي زمانه حيث قال عند قبر شقيقه الحبيب، حين واجه الاختبار الأكبر بنفسه: «في ليل اليأس، يرى الأمل نجما وعند الإصغاء يستطيع الحب أن يسمع حفيف الريح»، وقد اعتقد جيمي أنه ربما لم تنطق شفتا إنسان كلمات أكثر جمالا من تلك. ربما كان هذا «ليل اليأس» بالنسبة إلى الفتاة المسكينة التي ضمها بين ذراعيه بضع دقائق وجيزة. وبالنسبة إليه فقد ظل كل ليل يمر عليه هو ليل يأس لزمن طويل. كان آسفا، آسفا حتى أعماق قلبه على الحزن الذي عصف بفتاة لطيفة وقوية تفوح منها رائحة الغابات، ومريمية الجبال والخزامى وزهور الشواطئ الذهبية مثل البخور، فمزقها، ودفعها للجنون. كان هذا ما يدعو للشفقة في الأمر. كيف حاق العار بفتاة من الغابات؟ أيقن جيمي أنه ما دام حيا فسيظل في أنفه العبير الذي غشيه أول الأمر، حين حملته إليه رياح العاصفة، كما سيظل شاعرا بخصلات الشعر الحرير التي تعلقت به كأنها لم تنزع عنه. لا بد أن لديها شعرا كثيفا طويلا رائعا. وحينئذ تساءل كيف أنه كان بلا رباط. ثم تذكر شيئا آخر، وميض البرق الكاشف الذي جعله يرى الفتاة بوضوح. لم يفكر في الأمر حينذاك، لكنه تذكره الآن. كشف ذلك الوميض عن قدمين حافيتين ولون أبيض فوقهما. «يا إلهي!» خاطب جيمي بصوت خفيض روح البحر الذي راح يقترب منه بشدة في تلك الساعة. «يا إلهي! لقد كانت ترتدي ثوب نوم وفوقه أحد تلك الأثواب الفضفاضة الخفيفة. أتذكر ذلك من ملمسها ومن قدميها الحافيتين. لقد استسمحتني الانتظار بضع دقائق قبل أن أمضي. هذا معناه أنها كانت قد ذهبت للفراش ثم سيطرت عليها رغبة ملحة فقررت أن تبيت في قاع البحر، فارتدت ثوبا خفيفا وجاءت كما هي إلى هذا الموقع الذي تعرف السبيل إليه جيدا . فما كان من الممكن أن تصعد هذه الصخور في سكون مثل سكون الأفكار، وما كانت ستقدر أن تهبطها بسرعة وسلاسة كما فعلت إن لم تكن على معرفة جيدة بها، وما كانت ستبتعد خلال دقائق قليلة عبر رمال هذا الشاطئ الغارق. هذا معناه أنها جاءت من مكان قريب جدا من هنا.»
وهنا، كما لو أن شخصا تخيليا يتحدث معه، أردف جيمي: «لعلك تتذكر ما قلته لها، أيها الرجل الطيب، لقد وعدتها وعد شرف ألا تحاول البحث عنها.»
فأجاب جيمي وقال: «لكن كيف سأحافظ على ذلك الوعد؟ كيف سأتزوج فتاة بذلك الوجه النبيل، والشعر الحرير، ويدين تعطيان شعورا بالغا بالأمان؛ كيف سأقف وأتعهد بأن أحبها وأرعاها ما دمنا حيين، ثم لا أعمل من أجلها، ولا أتساءل أين هي وماذا سيحدث لها، وما إذا لم يكن بإمكاني أن أفعل لها شيئا غير إعطائها اسمي من أجل تفريج كربها؟»
وعندئذ، للمرة الثانية في تلك الليلة، فكر جيمي في مغامرته الكبرى، وقال للبحر وللشخصية التخيلية التي بدأت معه الحديث: «لست متأكدا فربما ما أسميته مازحا مغامرة كبرى بهدف استنهاض عزيمتي فحسب يتمخض عن مغامرة أعظم شأنا مما توقعت.»
ناپیژندل شوی مخ