راغب، ونضح عن عرض، وحسم مادة من طمع، وقلب حال عن حال حتى تضم بها أمور منتشرة، وتندمل بها صدور منفطرة، وتتسق بها أحوال متعاندة، وتستدرك بها حسرات فائته، وتخمد نيران ملتهبة.
وكالصناعات كلها: كالهندسة في شرفها، والهيئة في علو رتبتها. وحدود هذه العلوم بعيدة، وفوائدها جمة. وليس هذا القدر آتيًا على حقائقها، ولكنه مشير إلى موضع، المسألة والبحث عنها. فقد وضح لكل ذي حس مقيد، وعقل متأيد، ورأي صحيح، وذكاء صريح، أن هذه العلوم كثيرة المنافع، عامة المصالح، حاضرة المرافق. وأن الناس لو خلوا منها، وعروا عنها، لتبدد نظامهم، وانقطع قوامهم، وكانوا نهبًا لكل يد، وحيارى طول الأبد.
وليس علم النجوم كذلك! فإن صاحبه وإن استقصى، وبلغ الحد الأقصى، في معرفة الكواكب وتحصيل مسيرها، واقترانها ورجوعها، ومقابلتها وتربيعها، وتثليثها وتسديسها، وضروب مزاجها في مواضعها من بروجها وأشكالها، ومقاطعها ومطالعها، ومشارقها ومغاربها، مذاهبها، حتى إذا حكم أصاب، وإذا أصاب حقق، وإذا حقق جزم، وإذا جزم حتم، فإنه لا يستطيع البتة قلب عين شيء، ولا صرف أمر إلى أمر، لا تنفير حال قد دنت، ولا نفي ملمة قد كتبت، ولا دفع سعادة قد أجمعت وأظلت. أعني أنه لا يقدر على أن يجعل الإقامة سفرًا، ولا الهزيمة ظفرًا، ولا العقد حلا، ولا الإبرام نقضًا، ولا الإياس رجاء، ولا الإخفاق دركًا، ولا العدو صديقًا، ولا الولي عدوًا، ولا البعيد قريبًا، ولا القريب بعيدًا.
وهذا باب طويل، والحديث فيه ذو شجون، وكأن العالم به، الحاذق فيه، المتناهي في حقائقه، بعد هذا التعب والنصب، وبعد هذا الكد والدأب، وبعد هذه الكلفة الشديدة، والمؤنة الغليظة، مستسلم للمقدار، ومستجد
1 / 122