يفرد كل أحد بما هو لائق به، وبما هو ناهض فيه، فيولي مثلًا بيت المال خازنًا مليئًا، كافيًا شهمًا، يفرق على يده، ويجمع على يده، ثم إن هذا الملك قد يضع في هذه الخزانة شيئًا لا علم للخازن به، وقد يخرج منها شيئًا لا يقف الخازن عليه، ويكون هذا منه دليلًا على ملكه واستبدادة، وعلى تصرفه وقدرته.
إلى ها هنا كان كلام الحراني، ومثله هذا وإن كان نظيرًا للمثل الأول فإنه شاهد له، وجار معه.
وقيل أيضًا في عرض الكلام الذي كان بين أولئك المشايخ ما هو زجر عن تعاطي هذا العلم، ومانع عن التحقيق بباب الحكم: لما كان عالم النجوم، وصاحب الشغف بالأحكام، يريد أن يقف على أحداث الزمان في مستقبل الوقت، من خير وشر، وخصب وجدب، وسعادة نحس، وولاية وعزل، ومقام وسفر، وغم وفرح، وفقر ويسار، ومحبة وبغض، وجدة وعدم، وعافية وسقم، وألفة وشتات، وكساد ونفاق، وإصابة وإخفاق، وراحة ومشقة، وقسوة ورقة، وتيسير وتعسير، وتمام وانقطاع، والتئام وانصداع، وافتراق واجتماع، واتصال وإنبتات، وحياة وممات، وهو إنسان ناقص في الأصل، زائد في الفرع، وزيادته في الفرع لا ترفع نقصانه في الأصل، لأن نقصانه بالطبع، وكماله بالعرض، وهو بهذه الحال المحطوطة بالسنخ، المزوقة بالطين، قد بارى باريه، وجاري مجربه، ونازع ربه، وتتبع غيبه، وتوغل علمه، وتخلل حكمه، وعارض مالكه، حرمه الله فائدة هذا العلم، وقصر قوته عن الانتفاع به، والاستثمار من شجرته، وأضافه إلى من لا يحيط بشيء منه، ولا تجلى بشيء في باب القسر والقهر، وجعل غاية سعيه فيه الخيبة، ونهاية علمه منه الحيرة، وسلط عليه في صناعته الظن والحدس، والحيلة والزرق، والكذب والختل.
1 / 133