منقذ
المنقذ: قراءة لقلب أفلاطون (مع النص الكامل للرسالة السابعة)
ژانرونه
ولعله لم يكن ليكتب كبرى محاوراته وواسطة عقدها «الجمهورية» لو لم تقم على ظروف فعلية، ولو لم يقصد فيها أن تشكل الحياة الفعلية أو تؤثر فيها على الأقل. ولعل الرسالة السابعة أيضا أن تكون أوضح دليل على محاولاته المستميتة لتطبيق أفكاره على الواقع العملي. ويكفي أن يطلع عليها القارئ في هذا الكتاب ليشهد ملحمة الصراع والأخطار التي ألقى بنفسه فيها وخرج منها في النهاية مثخنا بجراح لم يتوقف نزيفها قط. ولا بد أنه اقتنع في النهاية بأن «أحوال الدول الحاضرة كلها تدعو للرثاء، وأن الفلسفة الحقة هي وحدها السبيل إلى معرفة العدل والصواب الذي تصلح به الدولة والحياة الخاصة ...» (326ب)؛ ولهذا عكف بعد النجاة من مغامراته الأخيرة على بناء نظام فكري وتعليمي من شأنه أن يضمن الخير والعدل للدولة إذا قدر أن يجد السلطة الحاكمة التي تفرضه.
لا بد أن أفلاطون كان يضع في حسابه سخرية الرأي العام من هذه الفكرة الأساسية التي توحد بين الفلسفة الحقة والسياسة الحقة. ولا بد أنه كان يلتمس الفلسفة ومفهوم السياسة، ولم يصادفهم - في حياتهم أو حياة أجدادهم - من يجمع في شخصه بين الحاكم والحكيم، ولكنه لم يتخل عن إصراره على فكرته التي علق عليها كل أمله في إنقاذ بلاده وإنقاذ البشرية، ولم يتراجع لحظة أمام الموجة التي يمكن أن تطغى عليه: «ولكنني سأقول كلمتي ولو أغرقتني الموجة في السخرية والاحتقار» (الجمهورية، 473).
لعل هذا هو الذي جعله يحرص - في كثير من محاوراته - على تحديد مفهومه عن «السياسي»، والتأكيد بأنه وإن يكن مفهوما مثاليا فليس وهميا، وإن يكن متعذر التحقيق فليس بالمستحيل، ها هو ذا يقدم تعريفات مرفوضة: «السياسي هو راعي القطيع البشري» (السياسي، 275)، وأخرى غير كافية: «إذا مارس رجل الدولة العنف أسميناه طاغية، أما إذا قدم للرعية عناية صحيحة تتقبلها عن رضى، فتلك هي السياسة» (السياسي، 271)، حتى يستقر على هذا التعريف: «السياسي هو حائك خيوط إنسانية» (السياسي، 287)، ويكمله في النهاية على هذه الصورة الدقيقة العميقة: «السياسي أو الحاكم الحق هو القانون الحي» (القوانين، 694-698)، والأول يجعل من السياسي الحائك المثالي الذي جمع خيوط الشعب المختلفة وربط بينها بالوفاق والمحبة فضم الشعب كله، وضمن له السعادة التي يمكن لمجتمع بشري أن يتمتع بها (السياسي، 311)، وهو تعريف ينبثق من مفهومه للوجود البشري الواقعي «كجدلية» تناقض بين الواقع المحسوس والمثال المعقول، وللوجود البشري الممكن والمأمول، كجدلية مشاركة في مثال العدالة، ومنه يستخلص صفات الحاكم: العلم، والإخلاص ، والشجاعة، والمسئولية.
7
أما عن التعريف الثاني: «السياسة الحق هو القانون الحي»، فهو يتوج به في «القوانين» رحلة بحثه المضيئة عن معنى السياسة وهدفها. إنه يكرر أن هدف السياسة الوحيد هو تحقيق العدالة كشرط أولي لتحقيق المعرفة والحرية والمجتمع الواحد. فعلى أساس العدالة لا على أساس الإثراء يجب أن تقوم السياسة الحقة ... فتوزع العدالة الممتلكات توزيعا يجعل الجميع راضين (القوانين، 731-732). وفي ظل العدالة يمكن أن تحقق القوانين المثالية المبدأ القائل: كل شيء يجب أن يكون مشتركا، فإذا تحققت الاشتراكية الكاملة (في النساء والبنين والأشياء)، وزالت الملكية الخاصة وأضحى كل شيء مشتركا «حتى العيون والأذان والأيدي، فبات الجميع يرون ويسمعون ويلمسون الشيء الواحد»، فلا أحد يعود يرغب أن يعيش في غير هذا المجتمع (القوانين، 739).
لا شك أن مفهومنا اليوم عن الاشتراكية يختلف اختلافا بينا عن مفهوم أفلاطون الذي يمكن أن نصفه «بالمشاركة الجماعية» سواء في صورتها البدائية الناشئة عن عجز الفرد عن سد حاجاته وافتقاره إلى معونة الآخرين (وقد عرضها بشكل أسطوري في بروتاجوراس 321-323)، أو في صورتها الواعية المتطورة التي تقوم على العدالة وتوزيع الأعمال والخيرات حسب القدرة والموهبة (وقد توسع فيها في الجمهورية 369). وليس هنا مجال الخوض في أمر هذا الاختلاف؛ إذ المهم في هذا كله أنه يصدر عن فكرة العدالة التي يدور حولها كل كفاحه النظري والعملي في سبيل الإنقاذ، فقوام العدالة - كما قدمنا - هو تحقيق الفرد العادل في المجتمع العادل؛ إذ لا يمكنه أن يحقق ذاته الفردية إلا بتحقيق ذاته الاجتماعية والعكس بالعكس. والعدالة - كما قدمنا أيضا - هي الشرط الضروري لتحقيق المعرفة والحرية والمجتمع الموحد، وإصلاح الفضيلة والحب والجمال واللذة والفن والشعر وسائر القيم التي رأى ديدان الفساد تنخر فيها أمام عينيه؛ ولهذا فهو لا يكف عن المطالبة بالمشاركة في مثال العدالة وغيره من المثل حتى ترتفع على سلم الجدل إلى مثال المثل جميعا وهو الخير.
كما أن نظرية المثل والمشاركة - التي أسهبنا في عرضها في الفصل الثاني من هذا الكتاب - هي ركن الإصلاح والإنقاذ في السياسة والاجتماع والأخلاق والفن والقيم. لقد انبثقت عن نظريته في الوجود الإنساني المتناقض المركب من طبيعة حسية ونزوع مثالي، ومن «الدوار» (الرسالة السابعة، 325)، الذي أصابه وهو يلاحظ الفساد يستشري في النظريات الفلسفية والنظم السياسية والقيم السائدة في عصره. وإذا كان هذا الفساد لم يستطع أن يحوله عن مثاليته، فإنه لم يغرقه في الأوهام ولم يجعل منه ذلك الفيلسوف الزاهد المتشائم ولا الهارب الحالم الذي يحلو للكثيرين أن يخلعوا عليه صورته. لقد ألح على المشاركة في المثل وجعلها محور فلسفته، ولكنه لم ينس أن الإنسان يعيش في عالم المحسوس لا في عالم المثل وأنه يعمل في هذا العالم لا خارجه (فيليبوس، 20-30)، وطالب بالسياسي والحاكم الحق الذي يكون في نفس الوقت الفيلسوف والحكيم الحقيقي. ولكنه - كما سبق القول - لم يغفل عن صعوبة وجوده، بل عرف تمام المعرفة أن وجوده أصبح مستحيلا بعد أن فسدت النظم والضمائر، فالشعب لا يصدق بوجود هذا الحاكم المثالي الذي «يحكم بالعلم والفضيلة، وينشر العدالة والمساواة بغير محاباة وبغير أن يظلم ويقتل وينتقم كيف ومتى شاءت أهواؤه» (السياسي، 30)، فالتسلط يفسد عقله وإرادته وعواطفه، ومهما كان صالحا في بداية حكمه، فإن التسلط يحوله إلى طاغية ينكر الحقيقة والحرية (القوانين، 694-698). بل إنه لينظر حوله فيجد العدالة مفقودة في الشرق والغرب جميعا؛ ففي الشرق تطرف في الطغيان والعنف والاستبداد، وفي الغرب تطرف في الحرية. لذلك بادت المدنيات الشرقية الطاغية، وستبيد المدنية الأثينية التي أصبحت تعد الفوضى حرية وسعادة. هل معنى هذا أن يستسلم أو ييأس؟ نخطئ أكبر الخطأ لو صورناه في هذه الصورة القاتمة الظالمة، أن سياسته مثالية، لكنه يرفض أن تكون وهمية. والوعي لا يفارقه بأن وجود السياسي المنشود أمر عسير، لكنه لا يعده من قبيل المستحيل: «فلا تطلب مني تحقيق النظرية تحقيقا كاملا؛ لأن تحقيق المثال غير ممكن، يكفينا أن نحقق هذه السياسة المثالية بقدر المستطاع لكي نسلم بإمكان تحقيقها» (الجمهورية، 473، و«أفلاطون»، لجيروم غيث، ص159).
من أشد الأخطاء إذا أن نصور أفلاطون في صورة المفكر الحالم أو الزاهد المتشائم والصوفي الهارب من عالمنا الواقعي إلى عالم مثالي «آخر» وراء هذا العالم «كما ظلمه نيتشه! فهذه الصور التي تراكمت ظلالها عليه منذ شراح الأفلاطونية المحدثة إلى مختلف الشراح والمفسرين في عصرنا الحاضر قد أضفت عليه مسوح الفيلسوف الإلهي تارة وترصدت عيوبه ومتناقضاته تارة أخرى» كما فعل بعض المفسرين منذ أرسطو والأفلاطونيين المحدثين وآباء الكنيسة حتى نيتشه - عدوه الأكبر - وجورج سارتون وبوبر
8
وفؤاد زكريا!» وبين الصورة التي تحوطه بهالة التقديس والإجلال، والصورة التي تحمله مسئولية كل طغيان وشمولية مطلقة جاءت بعده وتتهمه بخيانة الأرض والواقع البشري الحي؛ بين الصورتين ضاع صوت المصلح الثوري والمنقذ الذي لا يزال يهيب بكل من يسمعه أن ينقذ نفسه بنفسه ...
ناپیژندل شوی مخ