وما زلنا حتى اليوم كما كنا سابقا، تقف سكة الدولة عندما تصل إلى توزيع الوظائف، كل يريد تعديل الملاكات على هواه، فكل موظف كبير يريد أن يدخل محاسبيه في ملكوت الوظيفة.
فإذا عدنا إلى الوراء، أخبرنا الثقات من جدودنا أن أنصار المير يوسف تنادوا مرة، وفتحوا صناديقهم وتضامنوا؛ ليشتروا الخلعة لأميرهم من الجزار ... وكذلك كان يفعل «المناصب» أعوان المير بشير، حتى إذا قام قاموا هم معه، وتحكموا في رقاب الشعب، واستحالوا دودا علقا يمتص دمه ميكروب قديم متأصل.
كانت تقطع سرة الإقطاعي على نية الحكم، ولو على ضيعة، كما اشتهى المتنبي أخيرا ... فلا يكاد يخرج ابن البيت من ذاك الوكر حتى تراود أمه الأحلام الوظيفية التي تتمناها له؛ لكي «يتمقطع» بالشعب. وهذا الفعل «تمقطع » اشتقه اللبناني من كلمة «الإقطاعي»، الذي لم يكن يهمه إلا اقتطاع ما يستطيع من أرزاق الشعب.
وزال الحكم الإقطاعي من لبنان ولم يزل معه الصراع حول الوظائف، وجاء المتصرفون الثمانية، ولم يرض عنهم إلا نفر قليل؛ لأن الوظائف محدودة، وميزانية جبل لبنان مثل بركة اليمونة، لا تزيد ولا تنقص ... وكم من متصرف تألبوا عليه؛ لأنه فكر بزيادة ربع أو نصف قرش على مال الأعناق، أو مال الأرزاق، أو إحداث طابع بريد بقرش.
وهكذا ظل اللبنانيون فريقين: فريقا مع المتصرف، وهم الموظفون ومن يجيء على صوتهم، وفريقا - وهو الأكثرية - يتألف من الطامحين إلى الوظيفة والمحرومين.
وكان لا ينتهي صراع حتى يبدأ صراع جديد عند تسمية كل متصرف؛ فتتجاوز الوسائط تخوم لبنان، وتحوم الطيور على أبواب القنصليات والمراجع الدينية، فتطير التوصيات إلى السفارات وفي إسطمبول؛ فيزود السفراء المتصرف الجديد بأسماء أعيان الطوائف التي تؤيد نفوذ دولتهم، وتمكن لها في أرض لبنان، ويدرك المتصرف أن لبنان مرعى يدر عليه اللبن فيتهيأ للتعبئة والضب ...
يجيئنا كعصفور العابور ضعيفا هزيلا، ويغادرنا كعصفور التين ...
علمه الاختبار أن اللبنانيين لا يرضيهم أحد، فلماذا لا يرضي هو عبه؟
الخمس السنوات مضمونة، فإذا أرضى الدولة والدول السبع الضامنة بروتوكول لبنان، يعطى خمس سنوات أخر، وهناك الرزق الحلال الزلال ...
الصراع دائم بين أعيان لبنان ووجوهه، وما عليه هو إذا استفاد من هذا البلد، الذي يعبد أهله الوظيفة، ويقدمون القرابين لمن يمكنهم منها؟ ... على هذه النية كان يأتي المتصرف لبنان، بلد التوصية والواسطة؛ ولذلك جاء في كلامنا المأثور: «الدنيا واسطة، والدعوى على قد الواسطة.»
ناپیژندل شوی مخ