سببا لأطمئنانه، بخلاف موسى فإنه ما كان له شئ من ذلك، بل كان الغالب على ظنه حسب العادة أن فرعون يقتله بدل القبطي إذا رآه، وأنه أحس بمشاورة رؤساء القبط على قتله بإخبار العدول ولم يوح إليه ما يزيل خوفه، ولما تكفل له جل شأنه من مكر فرعون ذهب إليه وقال ما قال مما تعجز عنه الأبطال، وأقام مع ذلك الكافر أربعين عاما في بلدة واحدة. أما ثامنا: فلأن سليمان ﵇ كما صرح به المرتضى في كتابه (تنزيه الأنبياء والأئمة) (١) إنما طلب ذلك الملك ليكون معجزة على نبوته، وشرط المعجزة أن لا يكون للغير قدرة عليها، ولأنه يمكن أن يكون الله تعالى قد أخبره بأن حصول ذلك الملك له يكون أصلح في الدين بكثرة الطاعات والمبرات وفعل الخيرات، وإذا كان الأمر كذلك فلا منقصة ولا محذور على سليمان ﵇، ولا مزية عليه للأمير في تطليقه الدنيا. على أن طلب على أن طلب الملك لا ينافي التطليق ألا ترى إلى الأمير كرم الله وجهه أنه طلب الخلافة بعد ذلك وسعى لها سعيها حتى وقعت حروب كثيرة بسبب ذلك لأن مثل هؤلاء الرجال إنما يطلبون المال والملك للجهاد في الدين وقتال أعدائه سبحانه وقصد استئصالهم وترويج أحكام الشريعة، فإن ترك الدنيا مطلقا ليس بمحمود في الدين المحمدي ولو كان على إطلاقه موجبا للتفضيل يلزم أن يكون الرهبان وأمثالهم أفضل من سليمان ويوسف ﵉ معاذ الله تعالى من ذلك.
وأما تاسعا فلأن تعزير الأمير للغالين في محبته لا يوجب تفضيله على عيسى ﵇ لأن المغالين في محبة الأمير كرم الله تعالى وجهه قد أظهروا الكفر والفسوق بمرأى منه ومسمع فتمكن من الانتقام منهم فعمل ما عمل به، وغلاة عيسى ﵇ الذين كانوا قائلين بالتثليث ظهروا بعد أن رفع إلى السماء ولا إشكال في قوله تعالى ﴿لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح بن مريم وقال المسيح يا بني إسرائيل اعبدوا الله ربي وربكم إنه من يشرك بالله فقد حرم الله عليه الجنة ومأواه النار وما للظالمين من أنصار﴾ لأنه ﵇ قد رد عليهم ما زعموه ووبخهم غاية التوبيخ على ما اعتقدوه، ومن أين لهم أن عيسى ﵇ يُسأل والأمير كرم الله تعالى وجهه لا يسأل وقد قال تعالى ﴿ويوم يحشرهم وما يعبدون من دون الله فيقول
_________
(١) قال فيه: «وهو أن يكون ﵇ إنما التمس أن يكون ملكه آية لنبوته ليتبين بها عن غيره ممن ليس نبيا». تنزيه الأنبياء: ص ١٤٠.
1 / 43