مختصر تفسیر ابن کثیر
مختصر تفسير ابن كثير
خپرندوی
دار القرآن الكريم
د ایډیشن شمېره
السابعة
د چاپ کال
۱۴۰۲ ه.ق
د خپرونکي ځای
بيروت
ژانرونه
تفسیر
- ١٧٧ - لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُواْ وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُواْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ
اشْتَمَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ عَلَى جمل عظيمة، وقواعد عميقة وعقيدة مستقيمة، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا أَمَرَ الْمُؤْمِنِينَ أَوَّلًا بالتوجُّه إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ، ثُمَّ حَوَّلَهُمْ إِلَى الْكَعْبَةِ، شقَّ ذَلِكَ عَلَى نُفُوسِ طَائِفَةٍ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَبَعْضِ الْمُسْلِمِينَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى بَيَانَ حِكْمَتِهِ فِي ذَلِكَ، وَهُوَ أَنَّ الْمُرَادَ إِنَّمَا هُوَ طَاعَةُ اللَّهِ ﷿، وَامْتِثَالُ أَوَامِرِهِ، وَالتَّوَجُّهُ حَيْثُمَا وجَّه، وَاتِّبَاعُ مَا شَرَعَ، فَهَذَا هُوَ الْبِرُّ وَالتَّقْوَى وَالْإِيمَانُ الْكَامِلُ، وَلَيْسَ في لزوم التوجه إلى جهة المشرق أو الْمَغْرِبِ برٌّ وَلَا طَاعَةٌ، إِنْ لَمْ يَكُنْ عن أمر الله وشرعه، ولهذا قال: ﴿وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ﴾، كَمَا قَالَ فِي الْأَضَاحِيِّ وَالْهَدَايَا: ﴿لَن يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلاَ دِمَآؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى منكم﴾ وقال ابْنِ عَبَّاسٍ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: لَيْسَ الْبَرَّ أن تصلُّوا ولا تعلموا، فأمر الله بالفرائض والعمل بها، وَقَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ: كَانَتِ الْيَهُودُ تُقْبل قِبَلَ الْمَغْرِبِ، وَكَانَتِ النَّصَارَى تُقبل قِبَلَ الْمَشْرِقِ، فَقَالَ الله تعالى ﴿ليس البر أن تولو وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ﴾ يَقُولُ: هَذَا كَلَامُ الإيمان وحقيقته العمل، وَقَالَ مُجَاهِدٌ: وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَا ثَبَتَ فِي القلوب من طاعة الله ﷿، ﴿وَالْكِتَابِ﴾ وَهُوَ اسْمُ جِنْسٍ يَشْمَلُ الْكُتُبَ الْمُنَزَّلَةَ من السامء عَلَى الْأَنْبِيَاءِ، حَتَّى خُتِمَتْ بِأَشْرَفِهَا وَهُوَ الْقُرْآنُ الْمُهَيْمِنُ عَلَى مَا قَبْلَهُ مِنَ الْكُتُبِ، الذِي انْتَهَى إِلَيْهِ كُلُّ خَيْرٍ، وَاشْتَمَلَ عَلَى كُلِّ سعادة في الدنيا والآخرة، ونسخ بِهِ كُلَّ مَا سِوَاهُ مِنَ الْكُتُبِ قَبْلَهُ وَآمَنَ بِأَنْبِيَاءِ اللَّهِ كُلِّهِمْ مِنْ أَوَّلِهِمْ إِلَى خَاتَمِهِمْ مُحَمَّدٍ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ وَعَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ، وقوله تعالى: ﴿وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ﴾ أَيْ أَخْرَجَهُ وَهُوَ محبٌ له راغب فيه، كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا: «أَفْضَلُ الصَّدَقَةِ أَنْ تصدَّق وَأَنْتَ صَحِيحٌ شَحِيحٌ تأمل الغنى وتخشى الفقر»، وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «﴿وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ﴾ أَنْ تُعْطِيَهُ وَأَنْتَ صحيح شحيح تأمل العيش وتخشى الفقر» (رواه الحاكم عن ابن مسعود مرفوعًا وقال: صحيح على شرط الشيخين) ⦗١٥٤⦘
وَقَالَ تَعَالَى: ﴿وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا* إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لاَ نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَآءً وَلاَ شُكُورًا﴾ وَقَالَ تَعَالَى: ﴿لَن تَنَالُواْ الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ﴾، وَقَوْلُهُ: ﴿وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ﴾ نمط آخر أرفع من هَذَا وَهُوَ أَنَّهُمْ آثَرُوا بِمَا هُمْ مُضْطَرُّونَ إِلَيْهِ، وَهَؤُلَاءِ أَعْطَوْا وَأَطْعَمُوا مَا هُمْ مُحِبُّونَ له.
وقوله تعالى: ﴿ذَوِي الْقُرْبَى﴾ وَهُمْ قَرَابَاتُ الرَّجُلِ، وَهُمْ أَوْلَى مَنْ أَعْطَى مِنَ الصَّدَقَةِ كَمَا ثَبَتَ فِي الحديث: والصدقة عَلَى الْمَسَاكِينِ صَدَقَةٌ وَعَلَى ذَوِي الرَّحِمِ ثِنْتَانِ: صَدَقَةٌ وَصِلَةٌ، فَهُمْ أَوْلَى النَّاسِ بِكَ وبِبرَّك وَإِعْطَائِكَ" وَقَدْ أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِالْإِحْسَانِ إِلَيْهِمْ في غير مَوْضِعٍ مِنْ كِتَابِهِ الْعَزِيزِ ﴿وَالْيَتَامَى﴾ هُمُ الَّذِينَ لَا كَاسِبَ لَهُمْ وَقَدْ مَاتَ آبَاؤُهُمْ وَهُمْ ضُعَفَاءُ صِغَارٌ دُونَ الْبُلُوغِ، وَالْقُدْرَةِ عَلَى التَّكَسُّبِ، وَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «لَا يُتْمَ بَعْدَ حُلُمٍ»، ﴿وَالْمَسَاكِينَ﴾ وَهُمُ الَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ مَا يَكْفِيهِمْ فِي قُوتِهِمْ وَكِسْوَتِهِمْ سكناهم، فيُعْطون مَا تُسَدُّ بِهِ حَاجَتُهُمْ وَخَلَّتُهُمْ، وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ: «لَيْسَ الْمِسْكِينُ بهذ الطواف الذي ترده التمرة والتمرتان واللقمة واللقمتان، وَلَكِنَّ الْمِسْكِينَ الَّذِي لَا يَجِدُ غِنًى يُغْنِيهِ وَلَا يُفْطَنُ لَهُ فَيُتَصَدَّقُ عَلَيْهِ»، ﴿وَابْنَ السَّبِيلِ﴾ وَهُوَ الْمُسَافِرُ الْمُجْتَازُ الذِي قَدْ فَرَغَتْ نَفَقَتُهُ مَا يُوصِلُهُ إِلَى بَلَدِهِ، وَكَذَا الذِي يُرِيدُ سَفَرًا فِي طَاعَةٍ فَيُعْطَى مَا يَكْفِيهِ فِي ذهابه وغيابه، ويدخل في ذلك الضيف كما قال ابن عباس ﴿ابن السبيل﴾: هو الضيف الذي ينزل، ﴿وَالسَّائِلِينَ﴾ وَهُمُ الَّذِينَ يَتَعَرَّضُونَ لِلطَّلَبِ فَيُعْطَوْنَ مِنَ الزكوات والصدقات، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «لِلسَّائِلِ حَقٌّ وَإِنْ جَاءَ عَلَى فَرَسٍ» (رَوَاهُ أحمد وأبو دَاوُدَ) ﴿وَفِي الرِّقَابِ﴾ وَهُمُ الْمُكَاتَبُونَ الَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ ما يؤدونه في كتابتهم، عَنْ فَاطِمَةَ بِنْتِ قَيْسٍ قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «فِي الْمَالِ حق سوى الزكاة»، ثم قرأ: ﴿لَّيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ والمغرب - إلى قوله - وَفِي الرقاب﴾ (رواه ابن ماجة والترمذي)
وقوله تعالى: ﴿أقام الصلاة﴾ أَيْ وَأَتَمَّ أَفْعَالَ الصَّلَاةِ فِي أَوْقَاتِهَا بِرُكُوعِهَا وَسُجُودِهَا وَطُمَأْنِينَتِهَا وَخُشُوعِهَا، عَلَى الْوَجْهِ الشَّرْعِيِّ الْمَرْضِيِّ، وقوله: ﴿وَآتَى الزكاة﴾ كقوله: ﴿وَوَيْلٌ لِّلْمُشْرِكِينَ الذين لاَ يُؤْتُونَ الزكاة﴾ والمراد زَكَاةَ الْمَالِ كَمَا قَالَهُ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَمُقَاتِلُ بْنُ حَيَّانَ، وَيَكُونُ الْمَذْكُورُ مِنْ إِعْطَاءِ هَذِهِ الْجِهَاتِ وَالْأَصْنَافِ الْمَذْكُورِينَ، إِنَّمَا هُوَ التَّطَوُّعُ وَالْبِرُّ وَالصِّلَةُ، وَلِهَذَا تَقَدَّمَ فِي الْحَدِيثِ عَنْ فَاطِمَةَ بِنْتِ قَيْسٍ أَنَّ فِي الْمَالِ حَقًّا سوى الزكاة، والله أعلم.
وقوله تعالى: ﴿والموفون بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُواْ﴾ كقوله: ﴿الذين يفون بِعَهْدِ الله وَلاَ ينقضون الميثاق﴾ وَعَكْسُ هَذِهِ الصِّفَةِ النِّفَاقُ كَمَا صَحَّ فِي الحديث: «آية حدَّث كَذَبَ، وَإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ، وَإِذَا ائْتُمِنَ خان» (رواه الشيخان) وفي الحديث الآخر: «وإذا حَدَّثَ كَذَبَ وَإِذَا عَاهَدَ غَدَرَ وَإِذَا خَاصَمَ فجر» وقوله تعالى: ﴿وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ﴾ أَيْ فِي حَالِ الْفَقْرِ وَهُوَ الْبَأْسَاءُ، وَفِي حَالِ الْمَرَضِ وَالْأَسْقَامِ وَهُوَ ⦗١٥٥⦘ الضَّرَّاءُ، ﴿وَحِينَ الْبَأْسِ﴾ أَيْ فِي حَالِ الْقِتَالِ وَالْتِقَاءِ الْأَعْدَاءِ قَالَهُ ابْنُ مسعود وابن عباس. وإنما نصب ﴿الصابرين﴾ عَلَى الْمَدْحِ وَالْحَثِّ عَلَى الصَّبْرِ فِي هَذِهِ الأحوال لشدته وصعوبته، والله أعلم. وَقَوْلُهُ: ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُواْ﴾ أَيْ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ اتَّصَفُوا بِهَذِهِ الصِّفَاتِ هُمُ الَّذِينَ صَدَقُوا فِي إِيمَانِهِمْ، لِأَنَّهُمْ حَقَّقُوا الْإِيمَانَ الْقَلْبِيَّ بِالْأَقْوَالِ وَالْأَفْعَالِ، فَهَؤُلَاءِ هُمُ الَّذِينَ صَدَقُوا ﴿وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ﴾ لِأَنَّهُمُ اتَّقَوُا الْمَحَارِمَ وَفَعَلُوا الطَّاعَاتِ.
1 / 153