مختصر في إثبات الأعراض
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله الواحد العدل الصادق وصلى الله على محمد وأهل بيته خير الخلائق ما لاح نجم أو تألق بارق.
اعلم أن الأعراض على ضربين، مدركة وغير مدركة. فالمدركة منها ما يدخل جنسه تحت مقدور العباد ومنها ما لا يدخل جنسه تحت مقدور العباد. فالذي يدخل جنسه منها تحت مقدور العباد جنسان وهما الأصوات والآلام. والذي لا يدخل جنسه منها تحت مقدور العباد خمسة أجناس وهي الألوان والطعوم والروائح والحرارة والبرودة. فهذه الأجناس السبعة المدركة لا تحتاج إلى إقامة الدليل على إثباتها فإنها معلومة بالاضطرار وطريق العلم بها هو الإدراك لها، وإنما تحتاج إلى إقامة الدليل على أنها غير الجسم، خلافا لقوم من الفلاسفة، وأنها غير متحيزة.
فالذي يدل على أن الأصوات والآلام ليست بأجسام أنها داخلة تحت مقدور القادرين بالقدرة والقادر بالقدرة لا يصح منه فعل الأجسام على ما ذلك مقرر في موضعه.
مخ ۱۳۹
والذي يدل على أن الألوان والروائح والطعوم والحرارة والبرودة معان غير الجسم هو ما ثبت من أن الأجسام b متماثلة لاشتراكها في صفة الذات وهو كونها جواهر وفي المقتضاة عنها وهو كونها متحيزة. فلو كانت هذه المعاني هي الجسم لوجب أن تكون الأجسام متماثلة مختلفة متضادة لأن السواد لو كان هو الأسود والبياض هو الأبيض والحموضة هي الحامض والحلاوة هي الحلو لوجب أن يكون الجوهر الأسود ضدا للجوهر الأبيض لاختلافهما في البياضية والسوادية مع أنهما مثلان لاشتراكهما في التحيز والجوهرية، ولوجب أن يكون الحلو ضدا للحامض مثلا له. ومن المحال أن يكون الشيئان متماثلين متضادين لأن المتماثلين ما يسد أحدهما مسد الآخر في الصفة الذاتية والمتضادين والمختلفين ما لم يسد أحدهما مسد الآخر في ذلك ومن المحال أن يكون الشيئان أحدهما يسد مسد صاحبه ولا يسد مسده، واستحالة ذلك معلومة ضرورة.
مخ ۱۴۰
والدليل على أنها ليست بمتحيزة وجهان، أحدهما أنها لو كانت متحيزة لوجب أن تكون متماثلة وأن تكون مماثلة للأجسام لأن التحيز لا يكون إلا مقتضى عن صفة الذات والاشتراك في المقتضى يوجب الاشتراك في المقتضي وهو صفة الذات. فكان يجب أن يكون السواد والبياض مثلين لاشتراكهما في التحيز متضادين لاختلافهما في الصفتين الذاتيتين وهو كون a السواد سوادا وكون البياض بياضا وكونهما متماثلين مختلفين محال كما تقدم. وكذلك الكلام في سائر الأعراض المدركة السبعة. وكذلك يجب أن تكون مماثلة للأجسام لمشاركتها لها في التحيز مخالفة لها لأنها لم تشاركها في صفاتها الذاتية نحو كون السواد سوادا وكون البياض بياضا وكون الحموضة حموضة وكون الحلاوة حلاوة وغير ذلك من صفات الأعراض الذاتية، فكان يجب أن تكون مماثلة للأجسام ومخالفة لها وذلك محال.
والوجه الثاني في الدلالة على أن هذه الأجناس المدركة ليست بمتحيزة أن الجوهر الواحد قد يكون له لون ورائحة وطعم وحرارة وبرودة فلو كانت هذه المعاني متحيزة لما صح وجودها معا في جوهر واحد. ألا ترى أن الجوهرين لما كانا متحيزين لم يصح أن يكون الجوهر الواحد جهة لهما في حالة واحدة وأن يوجدا فيه دفعة واحدة أو أحدهما، وإنما استحال ذلك لكونهما متحيزين بدليل أنهما لو لم يكونا متحيزين لصح وجودهما في جوهر واحد. فلو كانت هذه المعاني متحيزة لما صح اجتماعها في جوهر واحد ومعلوم صحة ذلك، فثبت أنها ليست بمتحيزة. فهذا هو الكلام في الأعراض المدركة.
مخ ۱۴۰
والأعراض التي ليست بمدركة b خمسة عشر جنسا. وهي الأكوان، وتشتمل على الاجتماع والافتراق والحركة والسكون. وتحرير الدليل على إثباتها هو أن هذه الصفات، وهي كون الجسم مجتمعا ومفترقا ومتحركا وساكنا، تثبت للجسم مع جواز أن لا تثبت والحال واحدة والشرط واحد. فلا بد من أمر يوجب له هذه الصفات وليس ذلك إلا وجود معان هي الاجتماع والافتراق والحركة والسكون. وتحقيق هذه الدلالة مذكور في موضعه من الدعوى الأولى.
مخ ۱۴۱
ومنها التأليفات والاعتمادات، وتحرير الدليل على إثبات التأليفات والاعتمادات على مثل ما قدمنا من الدلالة على إثبات الأكوان لا يتأتي لأنه ليس للجسم بوجودها حالة فيستدل بتجددها مع الجواز على إثباتها. وإنما يدل على إثبات التأليفات والاعتمادات والأكوان أيضا هو ما ثبت أن أحدنا فاعل بدلالة حسن الأمر والنهي والمدح والذم، فلا يخلو إما أن يكون فاعلا للجسم أو يكون فاعلا لمعنى سوى الجسم. لا يجوز أن يكون فاعلا للجسم لأنه ليس بقادر عليه فلم يبق إلا أن يكون فاعلا لمعنى سوى الجسم، وهو الذي أردناه. والذي يدل على أن التأليف a غير الاجتماع أن التأليف بين الجسمين وهو الذي تثبت معه صعوبة التفكيك بينهما والاجتماع هو مجاورة بينهما ولا يصعب معه التفكيك. والدليل على أن الاعتماد غير الحركة أن الاعتماد هو الذي يوجب تدافع الجسم كالثقل في الحجر فإنه اعتماد يوجب تدافعها إلى أسفل، فلو كان الثقل هو الحركة لوجب إذا منعها مانع من الهوى وسكنت أن تكون متحركة ساكنة دفعة واحدة وهذا محال.
مخ ۱۴۱
ومنها الاعتقادات والإرادات والكراهات والظنون والأفكار، وتحرير الدليل على إثباتها أنه قد ثبت أن الواحد منا معتقد ومريد وكاره وظان ومتفكر فلا تخلو هذه الصفات إما أن تكون تثبت له لذاته أو لما هو عليه في ذاته أو لغيره. ولا يجوز أن تثبت له لذاته ولا لما هو عليه في ذاته لأنه لو كان كذلك لوجب أن تثبت له هذه الصفات ما دامت ذاته وما هو عليه من الصفة، ومعلوم خلافه. فلم يبق إلا أن هذه الصفات تثبت له لغيره وغيره لا يخلو إما أن يكون مؤثرا على سبيل الصحة، وهو الفاعل، أو مؤثرا على سبيل الإيجاب، وهو العلة. ولا يجوز أن تثبت له لمؤثر على سبيل الصحة لأن الصفات التي بالفاعل ليست إلا الحدوث وما يتبعه لأن الذي يتعلق بالفاعل هو حالة الحدوث دون غيرها. b ألا ترى أن كون الخبر كذبا وكون الكلام أمرا وكون الضرر ظلما ونحو ذلك من الصفات التي تثبت بالفاعل لا تتعلق بالفاعل إلا حالة الحدوث فيوجده أمرا ويوجده خبرا ويوجده ظلما حالة الحدوث. ثم لو قدرنا البقاء على هذه الذوات لم يصح خروجها عن هذه الصفات فلا يصح أن يخرج الكذب عن كونه كذبا فيكون صدقا ولا الأمر عن كونه أمرا فيكون خبرا ولا الظلم عن كونه ظلما فيكون إنصافا وعدلا. وإنما وجبت هذه القضية لكون هذه الصفات مما يثبت بالفاعل بدليل أنها لو ثبتت بالعلة لم يجب فيها هذه القضية. ألا ترى أن كون الجسم مجتمعا لما لم يكن بالفاعل لم يجب فيه هذه القضية فإنه يجوز أن يثبت للذات في حال البقاء بعد أن لم يثبت لها ويجوز خروج الذات عن كونها مجتمعة في حالة البقاء. فلو كان كونه معتقدا ومريدا وكارها وظانا وناظرا بالفاعل لوجب أن تثبت هذه الصفات له حالة الحدوث وأن لا يجوز خروجه عنها في حالة البقاء، ومعلوم خلاف ذلك، فإنها تثبت له في حالة البقاء لا في حالة الحدوث ويجوز خروجه عنها في حالة البقاء، فثبت أنها لم تثبت له بالفاعل.
مخ ۱۴۲
وإذا ثبتت له بالعلة فلا يخلو إما أن تكون موجودة أو a معدومة. لا يجوز أن تكون معدومة لأن العدم لا اختصاص له بذات دون ذات فلو كانت هذه الصفات تثبت له لمعان معدومة لوجب أن تثبت هذه الصفات لكل حي. فإذا كان بعض الناس في بعض الحالات ناظرا أو ظانا أو معتقدا أو مريدا أو كارها [وجب] أن تثبت هذه الصفات في تلك الحالة لكل حي، ومعلوم خلافه، فإن بعض الأحياء يكون مريدا لما يكرهه الآخر في حالة واحدة وكذلك يكون متفكرا في حالة وغيره من الأحياء يكون ساهيا في تلك الحالة وكذلك سائر هذه الصفات. فلم يبق إلا أن تثبت له هذه الصفات لعلل موجودة هي الاعتقاد والظن والإرادة والكراهة والفكر، وهو الذي أردناه.
مخ ۱۴۲
ومنها القدرة والحياة والشهوة والنفار، وتحرير الدلالة على إثباتها أن الواحد منا حي وقادر ومشته ونافر، فلا تخلو هذه الصفات إما أن تثبت له لذاته أو لما هو عليه في ذاته أو لغيره. لا يجوز أن تثبت له لذاته ولا لما هو عليه في ذاته لأن ذلك يوجب أن تثبت له هذه الصفات ما دامت ذاته وما هو عليه من الصفة، ومعلوم خلافه. وغيره لا يخلو إما أن يكون مؤثرا على سبيل الصحة، وهو الفاعل، أو مؤثرا b على سبيل الإيجاب، وهو العلة. ولا يجوز أن تثبت له هذه الصفات بالفاعل لما قدمنا أن الصفة التي بالفاعل تثبت حالة الحدوث ولا يجوز خروج الموصوف عنها في حالة البقاء. فلو كانت هذه الصفات بالفاعل لوجب أن تثبت حالة الحدوث وأن لا يجوز خروج الموصوف بها عنها في حالة بقائه، ومعلوم خلافه، فإنها لا تثبت لأحدنا حالة الحدوث لأنه قد كان موجودا غير حي ثم صور وجعل حيا في حالة البقاء، وكذلك كونه قادرا ومشتهيا ونافرا، وكذلك فإنه يجوز خروجه عن كونه مشتهيا ونافرا وقادرا بل عن كونه حيا في حالة بقائه. فبطل أن تثبت له هذه الصفات بالفاعل.
مخ ۱۴۳
وإذا كانت ثابتة له بالعلة فهي لا تخلو إما أن تكون معدومة أو موجودة. ولا يجوز أن تكون معدومة لأن العدم لا اختصاص له بذات دون ذات فكان يجب أن يكون جميع الذوات حية لذلك المعنى المعدوم، ومعلوم خلافه، وكان يجب أن يكون جميع الأحياء قادرين لذلك المعنى المعدوم على مقدور واحد، فكان يؤدي إلى مقدور بين قادرين وهذا محال، وكان يجب أن يكون الواحد منا مشتهيا لشيء واحد نافرا عنه في حالة واحدة لأن الشهوة المعدومة ليست بأن توجب كونه مشتهيا لشيء أولى من أن توجب النفرة المعدومة a كونه نافرا عنه وكونه مشتهيا لشيء واحد نافرا عنه في حالة واحدة معا محال. فإذا بطلت هذه الأقسام لم يبق إلا أن تثبت هذه الصفات لمعان موجودة هي الحياة والقدرة والشهوة والنفار، وهو الذي أردناه. فهذه اثنا عشر عرضا قد أثبتناها بالدليل.
مخ ۱۴۳
والثالث عشر هي الرطوبة والرابع عشر هي اليبوسة والخامس عشر هو الفناء عند من أثبته. فأما الذي يدل على إثبات الرطوبة واليبوسة فهو أن الجسم حصل رطبا مع جواز أن يكون يابسا أو يابسا مع جواز أن يحصل رطبا والحال واحدة والشرط واحد. فلا بد من أمر يخصص أحدهما دون الآخر، وليس ذلك إلا وجود معنيين هما الرطوبة واليبوسة على ما تقدم تحقيق ذلك في إثبات القدرة والحياة والشهوة ونفور الطبع. وقد يمكن الاستدلال على إثبات الرطوبة واليبوسة معا بكون التأليف التصاقا في بعض الأجسام دون البعض. ألا ترى أن بعض الأجسام يصعب تفكيكه علينا كالحديد والحجارة وبعضها لا يصعب تفكيكه كالقطن والصوف وما جرى مجراها، وليس ذلك إلا لحصول رطوبة في إحدى محلي التأليف ويبوسة في المحل الآخر. إذ لو عدمتا عن المحلين لصار ذلك لاحقا بالأجسام التي لا يصعب تفكيكها. ولو حصلت الرطوبة فيهما جميعا b لم يكن ذلك التأليف التصاقا كما ثبت في الطين الرطب، فإنه إذا عرى عن اليبوسة لم يصعب تفكيكه مثاله اللبن قبل يبسه وانضاجه بالنار، فإنه لا يصعب تفكيكه لعدم يبوسة أو قلتها، ولو زادت عليه النار حتى تذهب رطوبته بأسرها صار رمادا متناثر الأجزاء ولم يصعب تفكيكه، ومتى اعتدل نضحه صار أجزاء صلبا صعب التفكيك، وليس ذلك إلا لتعدل أجزاء الرطوبة واليبوسة، فكان هذا الحكم الذي هو صعوبة التفكيك دلالة على إثبات المعنيين جميعا.
مخ ۱۴۵
فأما الفناء فمن أثبته معنى استدل عليه بأنه قد ثبت أن هذه الأجسام تفنى لدلالة السمع من الكتاب الكريم على ذلك وهو قوله تعالى ﴿هو الأول والآخر﴾. فكما أنه لم يصح كونه أولا إلا بأن لا يكون معه موجود سواه، فكذلك لا يصح كونه آخرا إلا بأن لا يبقى معه موجود سواه. وقد ثبت أن الآخرة باقية فلا بد من فناء يتخلل بين الدنيا والآخرة وبغير هذه من الآيات. فلما صح فناء الأجسام وثبت أنها تفنى مع الجواز لم يكن بد من أمر يؤثر في ذلك، وليس ذلك إلا وجود معنى هو ضد لها يسمى الفناء ولأنها أيضا، أعني الأجسام والجواهر، باقية. والباقي لا يعدم إلا بالضد أو ما يجري مجراه لما نعلمه b من أن الألوان وغيرها من سائر الباقيات لا تنتفي إلا بالضد أو ما يجري مجراه. وإنما وجب ذلك فيها لأنها باقية بدليل أنها لو لم تكن كذلك لما وجب ذلك فيها. ألا ترى أن الأصوات لما لم تكن باقية لم تحتج في انتفائها إلى ضدا أو ما يجري مجراه. فإذا كانت هذه الجواهر باقية وجب أن لا تنتفيى إلا بضد وهو الفناء. فإذا ثبت أنه أمر ثبت أنه عرض، إذ لا يجوز أن يكون متحيزا، وألا كان مثلا للأجسام والجواهر ومحال كونه مثلا لها وضدا لها. فصح أنه محدث غير متحيز، وهذا هو معنى العرض، ولم يجز وجوده في محل لمنافاته للأجسام ومحال اجتماع المتنافيين، فلم يصح حلوله في ضده لأن ذلك اجتماع الضدين، وذلك محال. ويجب أن لا يكون من الباقيات بل يكون مما يجب عدمه في الحال الثاني لأنه لو كان باقيا لما انتفى إلا بالضد وهو الجواهر فكان يجب أن يكون موجودا إلى أن يعيد الله الأجسام. وقد ثبت أن البارئ لا يصح كونه آخرا إلا بأن لا يكون معه موجودا سواه. تم ذلك
وصلى الله على سيدنا محمد النبي وآله وسلم.
مخ ۱۴۵