إن كل أشكال الحكومات ترمز إلى حكومة أبدية، مشتركة بين كل الجماعات، بغض النظر عن عدد أفرادها، فهي كاملة إذا وجد من الرجال اثنان، وكاملة إذا لم يوجد غير رجل واحد.
إن طبيعة كل فرد إعلان كاف له عن صفة زملائه. الصواب والخطأ عندي، هما الصواب والخطأ عندهم. وما دمت أعمل ما يلائمني وأمتنع عما لا يلائمني، فإني وجاري سوف نتفق غالبا في وسائلنا، ونعمل معا مدة من الزمن لهدف واحد. ولكني حينما أجد أن سلطاني على نفسي لا يكفيني، وأتعهد بتوجيه جاري كذلك، أتخطى الحقيقة، وأفسد علاقتي به. وقد يتوفر لي من المهارة أو القدرة ما لا يتوفر له، فلا يستطيع أن يحسن التعبير عن شعوره بالإساءة، ولكن ذلك خداع، يصيبه بالأذى ويصيبني ككل خداع آخر. والحب والطبيعة لا يمكن أن يؤيدا هذه الدعوى، وإنما يجب أن تنفد بالخداع العملي، أقصد بالقوة، وهذا التعهد بعمل الآخرين هو الخطأ الجسيم الذي تقع فيه حكومات العالم فيجعلها مرذولة ممقوتة. والأمر يختلف في الأعداد الكبيرة عنه في الزوج، ولكنه لا يفهم في الحالة الأولى بالوضوح الذي يفهم به في الحالة الثانية.
إني أستطيع أن أرى جيدا فرقا كبيرا بين أن أقصر نفوذي على نفسي، وبين أن أحاول أن أجعل غيري يعمل وفقا لآرائي. ولكن إذا زعم ربع الجنس البشري أنه يوجهني إلى ما ينبغي لي عمله، فقد يجبرني هذا الظرف إلى درجة لا أرى معها بجلاء سخف ما يدعونني إليه. ومن ثم فإن الأهداف العامة كلها تبدو غامضة خيالية إلى جانب الأهداف الشخصية؛ لأن أي قانون، ما خلا ذلك الذي يسنه الناس لأنفسهم، مدعاة للضحك. إذا وضعت نفسي موضع طفلي، ووقفت وإياه إزاء فكرة واحدة، ورأينا أن الأمور هي كذا أو كذا، فإن هذا الذي نرى هو القانون لي وله. فكلانا هناك، وكلانا يعمل. أما إذا كنت أتدبر أمره - دون أن أشركه في الفكر - وأحدس كيف يكون الأمر معه، وأقضي بهذا أو ذاك، فإنه لن يطيعني. هذا هو تاريخ الحكومات، رجل واحد يعمل شيئا يربط به غيره، رجل لا يمكنه أن يتعرف بي يفرض علي ضريبة، وينظر من بعد إلي، ويحكم بأن ينصرف جانب من عملي إلى ذلك الغرض الهوائي، الذي يتراءى له دون أن يتراءى لي. الضرائب هي الدين الذي أشد ما يكون الناس ميلا عن دفعه. وما أشد هذه السخرية من الحكومة! إن الناس يعتقدون أنهم يحصلون على ما يساوي ما لهم في كل شأن سوى هذا.
ولذا فكلما ضعف سلطان الحكومة كان ذلك خيرا لنا، وكذلك كلما قلت القوانين وقل النفوذ الذي نوليه ثقتنا. والبلسم الذي يقي من شر هذه الحكومة الرسمية هو تأثير شخصية الفرد، ونمو الفرد، وظهور الأصل ليحل محل الصورة، أو ظهور الرجل الحكيم الذي يجب أن نقر بأن الحكومة القائمة ليست سوى محاكاة ممسوخة له.
إن ذلك الذي تميل الأشياء جميعا إلى استخلاصه، وذلك الذي تتآزر الحرية، والثقافة، وتبادل العملات، والثورات، على تكوينه وإخراجه، هو الشخصية. ذلك هو هدف الطبيعة: أن تبلغ تتويج ملكها هذا. إنما تقوم الدولة لتربية الرجل الحكيم، وبظهور الرجل الحكيم تنتهي الدولة. إن ظهور الشخصية يجعل الدولة أمرا لا ضرورة له. الرجل الحكيم هو الدولة. إنه ليس بحاجة إلى جيش أو حصن أو أسطول، إنه شديد الحب للناس. لا يجذب الأصدقاء إليه رشوة، أو وليمة، أو قصر، ولا أساس المنفعة أو الظروف المواتية. إنه ليس بحاجة إلى مكتبة لأنه لم يفكر، أو كنيسة لأنه نبي، أو كتاب قانون لأن لديه واضع القانون، أو مال لأنه القيمة، أو الطريق لأنه في بيته حيثما يكون، ولا خبرة لأن حياة الخالق تخترقه وتطل من عينيه. ليس له أصدقاء شخصيون؛ لأن من يملك السحر الذي يجتذب دعاء الناس جميعا وتقواهم لا يحتاج إلى زوج وقل من يربيهم، كي يشاطروه حياة شاعرية منتقاة. علاقته بالناس ملائكية، وذكراه دواء لهم، ووجوده عطر وزهر.
إنا نحسب أن مدينتنا قد اقتربت من ذروتها، ولكنا ما زلنا عند صياح الديك ونجم الصباح. إن تأثير الشخصية في مجتمعنا الهمجي لا يزال في طفولته. ويكاد وجوده لا يحس كقوة سياسية أو كسيد شرعي ينزل كل حاكم عن عرشه. وقد فات ذلك مالتس وريكاردو تماما، «والسجل السنوي» صامت، ولم يدون ذلك في «قاموس المحادثات»، ولم يرد له ذكر في رسالة الرئيس، أو خطاب الملكة، ولكنه - برغم ذلك - لا يكون عدما قط. كل فكرة يلقي بها النبوغ والتقوى في هذا العالم تغير وجه الأرض. ويحس المقاتلون بالسيوف وهي بين صفوف الجيش وجود القيمة الحقة، برغم ما يرتدون من ثياب القوى التي تنعدم فيها الأصالة. وأعتقد أن النضال نفسه في سبيل التجارة والأطماع ليس سوى اعتراف بهذه الصفة المقدسة، والنجاح في هذه الميادين هو العوض القليل، أو ورقة التين التي تحاول أن تغطي بها عريها النفس المستحية. وإني أجد مثل هذا الاتجاه الملتوي في كل صقع من الأصقاع. إنا نسارع إلى إظهار شيء من قدرتنا العقلية عوضا عن القيمة الحقيقية؛ لأنا نعرف مقدار ما يجب علينا أداؤه. إن الإحساس بحق عظمة الشخصية هذه يطاردنا، ولكنا لا نخلص له. غير أن لكل منا نوعا من القدرة العقلية، ويستطيع أن يؤدي شيئا نافعا، أو جليلا، أو مريعا، أو مسليا، أو مربحا. إنا نقوم بذلك، اعتذارا لغيرنا ولأنفسنا؛ لأنا لم نبلغ حد الحياة الطيبة المتساوية. بيد أن ذلك لا يرضينا، وإن كنا نلقي به تحت ملاحظة الرفاق. وقد يعمي بصائرهم، ولكنه لا يبسط أسارير وجوهنا، أو يعطينا اطمئنان الأقوياء حينما نسير في الخارج.
إننا نقدم الكفارة حيثما حللنا. وقدرتنا العقلية نوع من الاستغفار. ونحن مكرهون على التأمل في أية لحظة من اللحظات يتم فيها عمل عظيم، ونحن لها خاشعون، كأنها أمر جلل، وليست فصلا من عدة فصول، وتعبيرا صادقا عن طاقتنا الدائمة. إن أكثر الأشخاص القادرين يلتقون في المجتمع بشيء من التجاذب الخفي. وكأن كلا منهم يقول: «لست هنا بكليتي.» وأعضاء مجلس الشيوخ، ورؤساء الولايات، قد تسنموا الذروة بكثير من الألم، لا لأنهم يعتقدون أن المكانة العليا تريحهم خاصة، وإنما فعلوا ذلك اعتذارا عن القيمة الحقيقية، ولكي يبرروا رجولتهم في أعيننا. هذا المقعد البارز هو تعويضهم لأنفسهم عن طبيعتهم الضعيفة الباردة الجامدة. يجب أن يفعلوا ما يستطيعون. وما أشبههم في ذلك بنوع من حيوان الغاب ليس له سوى ذنب قابض، ولا بد له أن يتسلق أو أن يزحف. وهل إذا وجد المرء نفسه غنيا في طبيعته إلى درجة تمكنه من الدخول في علاقات دقيقة مع خير الأشخاص، فيجعل الحياة صافية حوله بما في مسلكه من كرامة وعذوبة، هل يستطيع مثل هذا الرجل أن يرضى بالمزايا الكاذبة للصحابة واجتماعات الانتخابات النيابية، ويشتهي العلاقات الجوفاء التي تنم عن الأبهة والعظمة، علاقات رجال السياسة؟ ليس من شك في أن من يستطيع أن يكون مخلصا لا يرضى أن يكون دجالا.
إن اتجاهات العصر الحاضر تؤيد فكرة الحكم الذاتي، وتترك الفرد - في كل الشرائع - إلى ما يوقعه عليه دستوره الخاص من جزاء وعقوبة، وهذا الدستور يعمل بنشاط لا نتصوره، في حين أنا نعتمد على القيود المصطنعة. وقد ظهرت في التاريخ الحديث الحركة التي تسير في هذا الاتجاه ظهورا واضحا. وما أكثر ما فيها من طيش وانحطاط. غير أن طبيعة الثورة لا تتأثر برذائل الثائرين؛ لأن الثورة قوة معنوية بحتة. لم يتميز بها قط أي حزب في التاريخ، ولا يمكن أن يتميز بها؛ لأنها تفصل الفرد من كل حزب، وتوحده - في الوقت نفسه - بالجنس كله. إنها تبشر بالاعتراف بحقوق أسمى من حقوق الحرية الشخصية، أو ضمان الملكية. لكل امرئ الحق في أن يعمل، وأن يكون محل ثقة، وأن يحب وأن يحترم.
إن قوة الحب لم تجرب قط كأساس للدولة. يجب ألا نتصور أن كل شيء يسير نحو الفوضى، إذا كان كل بروتستانتي رقيق الحس لا يرغم على القيام بنصيبه في الأوضاع الاجتماعية المعروفة، ولا ينبغي كذلك أن نشك في أنه ليس من الممكن أن تعبد الطرق، وأن ترسل الخطابات، وأن تكفل للعمل ثمرته، إذا انتهى حكم القوة. وهل بلغت وسائلنا الآن حدا من الامتياز يجعل كل منافسة عديمة الجدوى؟ بل هل لا تستطيع أمة من الأصدقاء أن تخترع وسائل أحسن من هذه؟ ومن ناحية أخرى، لا يخشى أشد الناس تحفظا وجبنا شيئا من إلقاء السلاح ونظام القوة قبل الأوان؛ فإنه طبقا لنظام الطبيعة، الذي يسمو كثيرا على إرادتنا تسير الأمور في هذا الاتجاه. وتقوم حكومة القوة دائما إذا اتصف الناس بحب الذات. وعندما يصفون إلى درجة تجعلهم ينكرون ناموس القوة، يبلغون من الحكمة ما يجعلهم يدركون كيف يمكن أن تؤدى هذه الأغراض العامة، أغراض البريد، والطرق العامة، والتجارة، وتبادل الملك، والمتاحف، والمكتبات، ومؤسسات الفن والعلم.
إننا نعيش في حالة وضيعة جدا من الدنيا، وندين بالولاء - بالرغم منا - لحكومات تقوم على أساس القوة. وليس عند أشد الناس تدينا وعلما في أكثر الأمم دينا ومدنية، اعتماد على الإحساس الخلقي، واعتقاد كاف في وحدة الأشياء، مما يدفعهم إلى الاعتقاد بأن المجتمع يمكن أن يسير بغير قيود مصطنعة، كما يسير النظام الشمسي، أو أن المواطن الفرد يمكن أن يكون عاقلا، وجارا طيبا، دون التلويح بالسجن، أو مصادرة الأملاك. ومن عجب كذلك أنه لم يكن بنفس أي إنسان إيمان كاف بالقدرة على الإصلاح، مما يوحي إليه خطة عامة لتجديد الدولة على مبادئ الحق والمحبة. كل من زعموا هذه الخطة كانوا مصلحين جزئيين، اعترفوا بسلطان الدولة على صورة من الصور. ولست أذكر إنسانا واحدا أنكر بإيمان سلطة القوانين، على هذا الأساس البسيط، أساس طبيعته الخلقية الخاصة. أمثال هذه الخطط، قد تنم عن منتهى النبوغ وغاية التقدير، ولكنا لا نرحب بها كصور مثالية إلا نفاقا. وإذا اجترأ الفرد الذي يعرضها على احتسابها خططا عملية فإنه ينفر منه العلماء ورجال الكنيسة، ولا يستطيع الرجال ذوو المواهب، أو النساء ذوات العواطف السامية، أن يخفوا ازدراءهم لها، ولا يقل عن ذلك ما تدأب الطبيعة عليه من ملء قلوب الشباب بالإيماء بالحماسة؛ فهناك الآن جماعة من الرجال - إن جاز لي أن أتكلم بصيغة الجمع - أو إن نشدت الدقة قلت إني كنت أتحدث منذ حين إلى رجل واحد، لا يحمل من عبء الهوى والتحيز ما يظهر له في لحظة واحدة استحالة أن يتبادل ألوف البشر أسمى العواطف وأبسطها، كما تتبادلها ثلة من الأصدقاء، أو زوج من العاشقين.
ناپیژندل شوی مخ