وبينما الدنيا هكذا تريد أن تكون واحدا وترفض أن تنقسم، نسعى نحن إلى العمل الجزئي، وإلى الانفصال، وإلى التخصص؛ فمثلا لكي نرضي الحواس نفصل متعة الحواس عن حاجات الشخصية، ومن هنا فإن عبقرية الإنسان كانت تتوجه دائما نحو حل مشكلة واحدة، وهي كيف نفصل اللذة الحسية، أو القوة الحسية، أو الإشراق الحسي، إلى آخر ذلك، عن اللذة الروحية، والعمق الروحي، والجمال الروحي، ومعنى ذلك أننا نحاول أن نعزل عزلا تاما السطح العلوي ونرققه حتى يصبح من غير قاع، أو أن نحصل على طرف دون الطرف الآخر. تقول النفس كل، ويريد الجسم أن يولم، وتقول النفس إن الرجل والمرأة سيكونان جسدا واحدا وروحا واحدة، ولكن الجسم يريد أن يتصل بالجسد وحده. وتقول النفس: تسلط على كل شيء من أجل الفضيلة، ولكن الجسم يريد النفوذ على الأشياء لأغراضه الخاصة.
إن الروح تجاهد بكل قوة لكي تعيش وتعمل خلال الأشياء جميعا. وتريد أن تكون الحقيقة الوحيدة. وكل شيء ينضم إليها، القوة والمتعة والمعرفة والجمال. إن الرجل الواحد يهدف إلى أن يكون شخصا ما، وأن يقوم لذاته، وأن يبادل السلع ويساوم لصالحه الخاص، وهو في تفصيلات حياته يريد أن يركب لكي يكون راكبا، وأن يلبس لكي يكون لابسا، وأن يأكل ليكون آكلا، وأن يحكم لكي يرى. إن الناس يرمون إلى بلوغ العظمة، فهم يريدون المناصب والثراء والقوة والشهرة. ويحسبون أن بلوغ العظمة هو امتلاك ناحية من نواحي الطبيعة - الناحية الحلوة دون الناحية الأخرى - المرة.
هذا التقسيم وهذا الانفصال يقابل دائما بما يناقضه. ويجب أن نعترف أن كل من حاول أن يبرز وحده لم يلاق حتى اليوم أدنى نجاح. إن المياه المنشقة تتحد ثانية خلف أيدينا. والمتعة تزول عن الأشياء الممتعة، والكسب عن الأشياء المكسبة، والقوة عن الأشياء القوية إذا أردنا أن نفصلها عن الكل. إننا لا نستطيع أن نجزئ الأشياء وأن نحصل على الفائدة الحسية وحدها أكثر مما نستطيع أن نحصل على داخل ليس له خارج، أو ضوء بغير ظل «إذا دفعت الطبيعة بشوكة، ارتدت إليك مسرعة .»
إن الحياة تخلع على نفسها شروطا لا مفر منها، يحاول الحمقى أن يتنصلوا منها، ويحاول هذا الفرد أو ذاك أن يفخر بتجاهلها أو بأنها لا تمسه، ولكنه فخر زائف يجري على شفتيه فقط، أما الشروط ففي روحه. إذا فر منها في ناحية هاجمته في ناحية أخرى أشد حيوية، وإن تحاشاها شكلا ومظهرا فذلك لأنه قاوم حياته وفر من نفسه، وليس جزاؤه أقل من الموت. إن فشل كل محاولة في فصل الخير عن ضريبته أمر واضح لا يشجع على إجراء التجربة - ما دام إجراؤها ضربا من الجنون - لولا ما تقتضيه الظروف، وإذا ما ظهرت في إرادة المرء علة العصيان والانفصال، أصيب بها الذهن كذلك، فيتوقف الإنسان عن رؤية الله كاملا في كل شيء، ولكنه يستطيع أن يرى الغواية الحسية للأشياء دون أن يرى الأذى الحسي. إنه يرى رأس عروس البحر ولا يرى ذيل الأفعوان، ويظن أنه يستطيع أن يفصل ما يريد أن يحصل عليه عما لا يريد الحصول عليه. يقول القديس أوغسطين في الكتاب الأول من اعترافاته: «ما أشد اختفاءك يا من تسكن السموات العلا في صمت وسكون، أنت أيها الإله العظيم الأوحد، يا من تنشر بقدرة لا تكل أنواعا من العمى عقوبة لمن يطلقون لشهواتهم العنان.»
إن الروح البشرية تخلص لهذه الحقائق في تصوير الحكايات الخرافية، والتاريخ، والقانون، والأمثال، والأحاديث. وتجد لها لسانا في الأدب بغير قصد؛ ولذا فقد أطلق الإغريق على «جوبتر» اسم «العقل الأسمى». ولما كانوا في تقاليدهم قد نسبوا إليه كثيرا من الأعمال الوضيعة، فقد استرضوا العقل عفوا. وذلك بتقييد يدي إله سيئ كهذا. فأصبح عاجزا كملك إنجلترا. ويعرف «بروميثيس» سرا واحدا لا بد ل «جوف» أن يساوم فيه، وتعرف «منيرفا» سرا آخر. ولا يستطيع جوف أن يظفر بصواعقه؛ لأن «منيرفا» تحتفظ بمفاتيح هذه الصواعق.
من بين الآلهة جميعا أنا وحدي أعرف المفاتيح،
التي تفتح الأبواب الجامدة التي تختفي صواعقه
داخل قبابها.
وهذا اعتراف صريح عن العمل الباطني «للكل» وعن عرضه الخلقي. وتنتهي الميثولوجيا الهندية بنفس هذه القواعد الخلقية. ويظهر أنه من المستحيل أن تخترع حكاية خرافية وتشيع بين الناس إلا إذا كانت تقوم على أساس خلقي. لقد نسيت «أورورا» أن تطلب الشباب لعشيقها، ومع أن «تيثونس» خالد إلا أنه عجوز، ولم يكن «أخيل» محصنا ضد الطعنات تماما؛ لأن المياه المقدسة لم تغسل العقب الذي أمسكته منه «ثتس». وكذلك «سيجفريد» في نيبلنجن ليس خالدا كل الخلود؛ لأن ورقة من أوراق الشجر سقطت على ظهره بينما كان يستحم في دماء الأفعوان، وتلك البقعة التي غطتها الورقة فانية. وينبغي أن تكون كذلك. إن في كل شيء خلقه الله نقطة ضعف. ويظهر أن الظرف الانتقامي يوجد دائما، ويدب في الشيء دون أن يحس به، حتى في الشعر الهمجي الذي حاول فيه خيال الإنسان أن يأخذ حرية جريئة، وأن يتخلص من القوانين العتيقة، هذه الضربة الخلفية، أو هذه القذيفة المدفعية، تشهد بأن القانون لا مفر منه، وأن الأشياء لا توهب في الطبيعة، لكنها جميعا تباع.
ذلك هو المبدأ القديم لنمسس، الذي يسهر على الكون، ولا يدع إساءة تمر بغير عقوبة. ويقال إن آلهة الانتقام في خدمة العدالة، وإذا ما تخطت الشمس في السماء مسيرها عاقبتها هذه الآلهة. وروى الشعراء أن الأسوار الحجرية والسيوف الحديدية، والسيور الجلدية تشارك في الخفاء ما يقترف أصحابها من آثام، وأن الحزام الذي أعطاه «أيجكس» ل «هكتور» جر بطل طروادة في الميدان إلى عجلات عربة «أخيل»، وأن السيف الذي أعطاه «هكتور» ل «أيجكس» هو الذي سقط «أيجكس» على حده. ورووا أنه لما أقام «ألثاسيان» تمثالا ل «ثيجنيز» الذي ظفر في المباريات، تسلل إليه أحد منافسيه في المساء، وحاول أن يحطمه بالضربات المتتالية، حتى استطاع في النهاية أن يزعزعه عن قاعدته، فسقط التمثال وسحقه تحت سقطته حتى مات.
ناپیژندل شوی مخ