والندم نوع آخر من الصلاة الزائفة؛ فالضجر نقص في الاعتماد على النفس، وعجز في الإرادة. اندم على الكوارث إن كنت بهذا الندم تعين من يكابدها. وإلا فباشر عملك وسوف يشرع الشر في إصلاح ذاته. وعطفنا لا يقل عن الندم وضاعة. إننا نتوجه إلى أولئك الذين يبكون غافلين، ونجلس إلى جوارهم، وننادي بصحبتهم، وذلك بدلا من أن نعرفهم بالحق والصواب ونصدمهم صدمات كهربية عنيفة، كي نردهم ثانية إلى الاتصال بعقولهم. إن سر ما يصيب الإنسان من خير هو الابتهاج بما بين يديه. والرجل الذي يعين نفسه ترحب به الآلهة والناس في كل حين. تتفتح له الأبواب، وتحييه الألسنة جميعا، ويتوجه الشرف، وتتبعه الأعين كلها في شغف. نهبه حبنا ونطوقه به، لأنه لم يحتج إليه. ونلاطفه ونحفل به في اهتمام واعتذار؛ لأنه ثبت على طريقته واستهان باستنكارنا لها. تحبه الآلهة لأن الناس قد كرهوه. قال زرادشت: «إن الآلهة المباركة تخف إلى الإنسان المثابر.»
وكما أن صلوات الناس مرض في الإرادة، فكذلك عقائدهم مرض في العقل. إنهم يقولون مع أولئك الإسرائيليين الحمقى: «لا تدع الله يتحدث إلينا خشية أن نموت، بل تكلم أنت أو ليكلمنا أي إنسان نطعه.» في كل مكان أجد عقبة في سبيل لقاء الله في نفس أخي؛ لأنه أغلق أبواب معبده، واكتفى بتلاوة حكايات إله أخيه، أو إله أخي أخيه. كل عقل جديد نوع جديد. إن ثبت أنه عقل له نشاط وقوة غير عادية، كعقل لوك أو لافوازييه أوهتن أو بنتام أو فورييه فإنه يفرض نوعه على غيره من الناس، ثم انظر فإذا نظام جديد! وإن اطمئنان الطالب يتناسب وعمق تفكيره، وبالتالي يتناسب وعدد الأشياء التي يمسها هذا التفكير ويجعلها في متناوله. ويظهر هذا خاصة في المذاهب والكنائس المتنوعة، وهي كذلك ضروب من عقل قوي يعمل وفقا لفكرة الواجب الأولية، وعلاقة الإنسان بربه. هكذا كانت الكلفنية والكويكريه ومذهب سودنبرج. إن التلميذ يسر لإخضاع كل شيء للمصطلحات الجديدة، كالفتاة التي تعلمت علم النبات حديثا عندما ترى تربة جديدة وفصولا زراعية جديدة تتفق وما تعلمت. وقد يحدث لفترة ما أن يجد الطالب أن قواه العقلية قد نمت بدراسة عقل أستاذه. ولكن العقول غير المتزنة تعبد الفرع عبادة الأوثان، وتجعله هدفا في ذاته، ولا تجعله وسيلة سريعة الزوال، بحيث تندمج في أعينهم - في الأفق البعيد - حدود النظام الجديد في حدود العالم بأسره، بل تبدو لهم الأجسام المضيئة في السماء معلقة على البناء الذي شيده أستاذهم. أصحاب هذه العقول الناقصة لا يستطيعون أن يتصوروا كيف يكون لكم أنتم أيها الأغراب أي حق في المشاهدة، أو كيف تستطيعون الرؤيا: «لا بد أن تكونوا قد اختلستم النور منا بطريقة ما.» إنهم لم يدركوا بعد أن النور لا يسير على نسق واحد ولا يمكن إخضاعه؛ فهو يسطو على أي كوخ حتى على كوخهم. هلا ابتهجت نفوس هؤلاء القوم مرة ورأت أن النور نورها! إنهم إن أخلصوا وحسنت أعمالهم ضاقت حظيرتهم المحدودة الجديدة في الحال، وانخفضت، وتشققت، ومالت، وانهارت ثم اختفت، وأشرق على الدنيا ضياء خالد كذلك الذي يشرق في أول الصباح، قوي بهيج، متعدد الأفلاك، مختلف الألوان.
إن خرافة السفر التي تقدس الرحلة إلى إيطاليا وإنجلترا ومصر تستمد جاذبيتها لجميع الأمريكيين المهذبين من نقص ثقافتهم الذاتية. إن أولئك الذين جعلوا بلادهم - إنجلترا وإيطاليا واليونان - مقدسة في الخيال، إنما فعلوا ذلك بثباتهم في أمكنتهم كمحور الأرض. وإننا في ساعات الرجولة نحس أن واجبنا أن نثبت في مكاننا. الروح لا تسافر، والرجل العاقل يبقى في بيته، وعندما تستدعيه ضروراته وواجباته في أية مناسبة إلى مغادرة بيته أو إلى ارتياد بلاد أجنبية، فإنه برغم ذلك يكون في بيته، ويجعل الناس يحسون بما يبدو على ملامحه من تعبير أنه إنما جاء ليبشر بالحكمة والفضيلة، وأنه يزور المدائن والرجال كما يزورها السيد لا كما يزورها المتطفل أو التابع.
ليس عندي اعتراض سخيف على الطواف بالكرة الأرضية، في سبيل الفن والدراسة وفعل الخير، إن كان المرء يتوطن أولا، ولا يرحل إلى الخارج آملا أن يجد شيئا أعظم مما يعرف. من يرحل للتسلية، أو لكي يظفر بشيء لا يحمله بين جنبيه إنما يرحل بعيدا عن نفسه، ويشيخ حتى في شبابه بين الأشياء العتيقة. إن إرادته وعقله تشيخ وتتحطم في طيبة وبلميرا، مثلهما. إنه يضم أطلالا إلى أطلال.
الأسفار جنة «العبيط». ورحلاتنا الأولى تبين لنا ما بين الأماكن من تشابه. إنني في وطن أتخيل أن جمال نابلي وروما يمكن أن يخدرني وينسيني أحزاني. فأحزم متاعي، وأعانق أصدقائي، وأقلع في البحر، وأستيقظ أخيرا في نابلي، وهناك إلى جواري أجد الحقيقة الصارمة، أجد نفسي الحزينة، التي فررت منها، هي هي لم تذعن ولم ترضخ. إنني أقصد الفاتيكان والقصور. وأتظاهر بأني أثمل بالمناظر وما تثيره، ولكني لست كذلك، فإن ماردي يرافقني أنى ذهبت.
بيد أن سورة السفر ليست إلا عرضا لاختلال أبعد مدى يؤثر في الأعمال العقلية جميعا؛ فالذهن متشرد، ونظامنا في التعليم يربي القلق. ترحل عقولنا حينما تضطر أجسامنا إلى البقاء في الدار. إننا نقلد، وليس التقليد سوى رحلة من رحلات العقل. ونبني بيوتنا بذوق أجنبي، ونزين رفوفنا بأدوات الزينة الغريبة عنا. وآراؤنا، وأذواقنا، وكفاياتنا، تخضع، وتتبع الماضي والبعيد. لقد أبدعت الروح الفنون حيثما ترعرعت هذه الفنون. ولم يبحث الفنان عن نموذجه إلا في عقله. كان يطبق فكره على الشيء الذي يصنعه والشروط التي يراعيها . وما حاجتنا إلى تقليد النموذج الدوري أو الغوطي؟ إن الجمال وراحة الفكر وعظمته وغرابة التعبير قريبة منا قربها من أي إنسان آخر . وإذا درس الفنان الأمريكي - يحدوه الأمل والحب - الشيء الذي يريد صنعه تماما، وأخذ في اعتباره المناخ والتربة وطول النهار وحاجات الناس وتقاليد الحكومة وشكلها؛ لأنشأ بيتا تجد فيه هذه الأشياء كلها لنفسها مكانا ملائما لها ويرضى به كذلك الذوق والعاطفة.
اعتمد على نفسك، ولا تقلد مطلقا. إنك تستطيع في كل لحظة أن تمد موهبتك بالقوى المتجمعة من ثقافة حياة بأسرها، ولكن ذكاء غيرك الذي تستعيره لا تملك إلا نصفه امتلاكا مزعزع الأصول. إن ذلك الذي يستطيع الفرد أن يتقنه أكثر من إتقانه أي شيء سواه لا يستطيع أن يعلمه إياه إلا بارئه. لا يعرف أحد ما هو، ولا يستطيع أن يعرف، حتى يعرضه صاحبه. أين ذلك الأستاذ الذي كان يستطيع أن يعلم شكسبير؟ وأين الأستاذ الذي كان يمكنه أن يعلم فرانكلن أو واشنطن أو بيكون أو نيوتن؟ كل رجل عظيم فريد في نوعه. إن آراء سكبيو الخاصة هي ذلك الجانب بعينه الذي لم يكن يستطيع استعارته. وإنك لن تخلق شكسبير بدراسة شكسبير. إن أنت فعلت ما عين لك لم تكن مغاليا في أملك أو في إقدامك. لك في هذه اللحظة رسالة جريئة عظيمة كرسالة إزميل فدياس الضخم أو مسطار المصريين، أو قلم موسى أو دانتي، ولكنها تختلف عن كل هؤلاء. إن الروح الفنية الفصيحة ذات اللسان الذي له ألف شق، لا يمكن أن ترضى بتكرار نفسها. ولكنك لو استطعت أن تصغي إلى ما يقوله هؤلاء الشيوخ أمكنك بالتأكيد أن تجيب عليهم بصوت مرتفع كصوتهم؛ لأن الأذن واللسان عضوان من طبيعة واحدة. الزم دائرة حياتك الساذجة النبيلة، وأطع قلبك، تستعد الدنيا القديمة مرة أخرى.
وكما أن ديانتنا وتربيتنا وفنوننا تبدو غريبة عنا، فكذلك روح الجماعة عندنا. كل الناس يفخرون بارتقاء المجتمع، ولا يرتقي منهم أحد.
إن الجماعة لا تتقدم مطلقا. إنما هي تتراجع في جانب بمقدار ما تكتسب في جانب آخر. إنها تتعرض لتغير مستمر؛ فهي وحشية، ومتحضرة، ومسيحية، وغنية، وعلمية. ولكن هذا التغير ليس تقدما، إنما يؤخذ منها بمقدار ما تعطى. تكتسب الجماعة فنونا جديدة، وتفقد غرائز قديمة. ما أشد التباين بين الأمريكي المهندم اللباس، القارئ، الكاتب، المفكر، ومعه ساعته وقلمه وقائمة الحساب في جيبه، وبين الرجل العاري من نيوزيلاند، الذي لا يملك سوى العصا والرمح والحصير، وجزءا من عشرين لا يقبل التجزئة في حظيرة ينام تحتها! ولكن وازن بين صحة الرجلين، تجد أن الرجل الأبيض قد فقد قوته الأصيلة، وإن صدق ما يروي الرحالة فإنك إن ضربت المتوحش بفأس عريضة التأم لحمه بعد يوم أو يومين وتم شفاؤه كأنك ضربت ضربتك في قار لين. في حين أن الضربة عينها تقذف بالرجل الأبيض إلى قبره.
أنشأ الرجل الأبيض العربة، ولكنه فقد استخدام قدميه. تسنده عكازته، ولكنه يفتقر إلى مثل هذا السند من عضلاته. لديه ساعة جميلة من جنيف، ولكن تنقصه مهارة معرفة الوقت بالشمس. ولديه تقويم بحري من جرينتش، ولذا فإن رجل الشارع لا يعرف نجما في السماء؛ لأنه قمين ببلوغ المعرفة كلما أراد. إنه لا يرصد الانقلاب الشمسي، ولا يعرف عن الاعتدالين إلا قليلا. وليس للتقويم المشرق السنوي في ذهنه مزولة. مذكراته تضعف ذاكرته، ومكتباته تبهظ ذكاءه. ومكتب التأمين يزيد من عدد الحوادث، وأشك في أن الآلة معطلة، وأننا فقدنا بالتهذيب شيئا من النشاط، وبالمسيحية المستغرقة في المؤسسات والصيغ شيئا من قوة الفضيلة الطبيعية؛ لأن كل رواقي كان رواقيا، ولكن أين المسيحي في العالم المسيحي؟
ناپیژندل شوی مخ