بيت غنكاكو الجبلي
السراب
كابا1
اكتئاب تانيكو
كوتشيا
شتاء
رسالة
ثلاث نوافذ
تروس
حوار في الظلام
حلم
حياة أحد الحمقى
بيت غنكاكو الجبلي
السراب
كابا1
اكتئاب تانيكو
كوتشيا
شتاء
رسالة
ثلاث نوافذ
تروس
حوار في الظلام
حلم
حياة أحد الحمقى
1927
1927
مختارات قصصية لريونوسكيه أكوتاغاوا
جمع وترجمة
ميسرة عفيفي
بيت غنكاكو الجبلي
1
كان ذلك البيت صغير الحجم وله بوابة مهيبة، ومع ذلك، لم يكن بيتا نادرا في تلك المنطقة، وثمة اهتمام شديد بالأشجار التي تظهر من واجهته ومن أسواره أكثر من البيت ذاته.
مالك هذا البيت، يدعى غنكاكو هوريكوشي، وهو رسام معروف إلى حد ما، ولكنه كون ثروته من خلال حصوله على براءة اختراع لأختام مطاطية، أو بسبب أنه تاجر في الأراضي بعد أن حصل على براءة الاختراع تلك، وعلى أرض الواقع، الأراضي التي يملكها في الضواحي الآن، لا تنتج حتى الزنجبيل، ولكنها تحولت إلى منطقة سكنية من تلك التي يطلق عليها «قرى حديثة» تصطف فيها البيوت ذات الأسطح المغطاة بالقرميد الأحمر والأزرق.
ولكن في كل حال كان «بيت غنكاكو الجبلي» صغير الحجم وله بوابة مهيبة، وبدا البيت أكثر شاعرية بصفة خاصة مؤخرا، حينما علقت أحبال الحماية من الثلوج على أشجار الصنوبر التي تظهر من فوق السياج، واحمرت ثمار الزعرور بين أوراق الصنوبر الذابلة المفروشة أمام المدخل، ليس هذا فقط، بل إن الحارة التي يقع بها هذا البيت غالبا خالية لا يمر بها أحد، حتى بائع التوفو يترك عربته على ناصية الشارع الكبير ويمر بهذه الحارة وهو ينفخ في البوق فقط.
وعندما مر صدفة طالب يدرس الرسم في كلية الفنون الجميلة ذو شعر طويل وهو يحمل صندوقا طويلا رفيعا لأدوات الرسم تحت إبطه، سأل زميله الذي يرتدي زيا موحدا بأزرار ذهبية اللون مثله قائلا: «بيت غنكاكو الجبلي! ... ترى ما معنى كلمة غنكاكو؟» «لا أدري! أرجو ألا يكون محاولة تأنق لكلمة غنكاكو بمعنى الصرامة!»
ضحك الاثنان معا وهما يمران بمشاعر مرحة من أمام ذلك البيت، وبقي خيط من دخان أزرق خفيف يرتفع من سيجارة «جولدن بات» ألقى بها أحدهما على قارعة الطريق الذي تجمد من البرودة ...
2
كان جوكيتشي يعمل في بنك من قبل أن يتزوج من ابنة غنكاكو، وبالتالي يعود للبيت دائما وقت إضاءة مصابيحه، في الأيام الأخيرة كلما دخل من بوابة البيت يشعر على الفور برائحة كريهة، كانت رائحة أنفاس غنكاكو الذي يرقد على فراش المرض مصابا بداء السل الرئوي النادر بين المسنين. ولكن، بالتأكيد ليس هناك افتراض أن تتسرب تلك الرائحة إلى خارج البيت، ولذا لم يكن أمام جوكيتشي الذي يسير فوق الأحجار التي تغطي مدخل البوابة حاملا حقيبته المطوية تحت إبط معطف الشتاء الثقيل، إلا أن يشك في حواسه هو.
اتخذ غنكاكو الغرفة المنفصلة عن مبنى البيت الأصلي مكانا لفراش المرض، وعندما لا يكون نائما، فهو يستند بظهره على جبل الأغطية، ومن عادة جوكيتشي أن يطل بوجهه على الغرفة المنفصلة، بعد أن يخلع المعطف والقبعة، ثم يلقي بتحية من نوع «لقد عدت» أو «كيف حالك اليوم؟» ولكن من النادر أن يطأ بقدمه داخل الغرفة. بالتأكيد كان خائفا من أن يعديه صهره بمرض السل، ولكن هناك سببا آخر وهو إحساسه بالنفور الشديد من تلك الرائحة الكريهة، وكان غنكاكو كلما رأى وجهه يجيب دائما بكلمة «أهلا» أو «عودة حميدة» فقط. كان ذلك الصوت ضعيفا، فكان أقرب للأنفاس منه للصوت، وعندما يقول الصهر ذلك، لا يعدم الأمر أن يشعر جوكيتشي أحيانا بالندم على لا إنسانيته، ولكنه ينفر بشدة من الدخول إلى غرفة المريض.
ثم يمر جوكيتشي بعد ذلك على حماته أوتوري المريضة التي ترقد في الغرفة المجاورة لغرفة المعيشة. أصيبت أوتوري بالشلل من قبل أن يمرض غنكاكو، منذ سبع أو ثماني سنوات، ولا تستطيع حتى الذهاب إلى المرحاض، وسبب زواج غنكاكو منها بالإضافة إلى أنها ابنة وزير في إقطاعية كبيرة، أنها جميلة الوجه، حتى مع كبرها في السن هذا، فما زالت جميلة، خاصة عينيها، ولكن عندما تجلس على فراش المرض، لتصلح الجوارب البيضاء بعناية بالغة، لا تختلف كثيرا عن المومياء. يقول جوكيتشي لها: «كيف حالك اليوم يا أماه؟» وبعد أن يلقي عليها تلك التحية الموجزة، يدخل غرفة المعيشة ذات الست حصيرات.
إن لم تكن أوسوزو زوجة جوكيتشي في غرفة المعيشة، فهي في المطبخ الضيق تعمل مع الخادمة أوماتسو القادمة من إقليم شينشو، بالطبع كان جوكيتشي معتادا على غرفة المعيشة المرتبة لتبدو جميلة ونظيفة، بل إنه أكثر اعتيادا على المطبخ ذي الفرن الحديث من غرفة صهره أو غرفة حماته، إنه الابن الثاني لسياسي شهير وصل في فترة من حياته إلى منصب محافظ إقليم، ولكنه كان ذا موهبة قريبة من موهبة والدته التي كانت تكتب الشعر في ماضيها، أكثر من قربه إلى والده ذي الشخصية العظيمة والعبقرية الفائقة، ويتضح ذلك أيضا من عينيه الناعستين الودودتين وفكيه الناحلين. عندما يدخل جوكيتشي غرفة المعيشة تلك، بعد أن يستبدل ملابس يابانية تقليدية بملابسه الغربية، يجلس باسترخاء وراحة أمام مدفأة الفحم الطويلة، يدخن سيجارا رخيص الثمن، أو يسخر ويلعب مع ابنه الوحيد تاكيو الذي دخل هذا العام المدرسة الابتدائية. كان جوكيتشي دائما يتناول الطعام مع زوجته وتاكيو وهم يحيطون بالطبلية. تفيض وجباتهم بالحيوية، ولكن مؤخرا حتى مع قولنا «حيوية» إلا أنها بلا شك مملة كذلك إلى حد ما، وكان سبب ذلك فقط هو وجود الممرضة كونو المرافقة لغنكاكو، وبالطبع لم يتغير مزاح تاكيو بأدنى قدر حتى بعد مجيء «السيدة كونو». كلا بل ربما زاد مزاحه أكثر بسبب وجودها. كانت أوسوزو تقطب حاجبيها أحيانا وترمق تاكيو هذا بنظرات حادة، ولكن كان تاكيو في هذه الحالة لا يفعل إلا أن يقلب الأرز داخل الصحن بمبالغة متعمدة، وبسبب قراءة جوكيتشي للروايات كان يشعر «بذكورية» في مرح تاكيو، فيجعله ذلك يشعر بالاستياء، ولكنه كان في أغلب الأحيان يبتسم فقط ويتناول الطعام صامتا.
كان بيت غنكاكو الجبلي هادئا في الليل، ينام جوكيتشي وزوجته في العاشرة مساء، بالطبع كذلك يفعل تاكيو الذي يذهب إلى المدرسة في الصباح الباكر، وبعد ذلك، تظل الممرضة التي ترتدي ملابس النوم في حدود الساعة التاسعة هي فقط المستيقظة. تحمل كونو مجمرة الفحم ذات الاشتعال الأحمر إلى جوار فراش غنكاكو، وتجلس هناك دون أن يغمض لها جفن. ماذا عن غنكاكو؟ كان غنكاكو يستيقظ من حين لآخر، ولكنه كان لا ينبس ببنت شفة إلا أن يقول مثلا إن حاوية الماء الساخن التي تدفئه قد بردت، أو الكمادات قد يبست، وما يسمع في تلك الغرفة المنفصلة هو فقط صوت اهتزاز الخيزران في الحديقة. كانت كونو تفكر في أمور عديدة وهي تراقب بثبات غنكاكو وسط الهدوء البارد قليلا، تفكر في مشاعر أهل هذا البيت، وفي مصيرها هي نفسها ...
3
في ظهيرة أحد الأيام وقد ظهرت الشمس بعد سقوط الثلوج، ظهر وجه في مطبخ عائلة هوريكوشي هذا الذي ترى منه السماء الزرقاء عبر النافذة، امرأة في الرابعة أو الخامسة والعشرين من عمرها، تسحب طفلا نحيفا من يده، بالطبع لم يكن جوكيتشي في البيت. شعرت أوسوزو التي كانت في ذلك الوقت بالضبط تعمل على ماكينة الخياطة، بما يشبه الارتباك والحيرة قليلا، مع أنها توقعت ذلك، ولكنها على أي حال وقفت أمام مجمرة الفحم الطويلة واستقبلت المرأة. صعدت المرأة إلى المطبخ، ثم عدلت حذاءها وحذاء الطفل الصغير. (كان الطفل يلبس سترة بيضاء) ويتضح شعور المرأة بالدونية من خلال تلك اللفتة البسيطة، ولكن لا عجب من ذلك، فتلك المرأة هي أويوشي الخادمة التي اتخذها غنكاكو محظية علانية في بيت بطوكيو منذ خمس أو ست سنوات. عندما رأت أوسوزو وجه أويوشي، شعرت على عكس المتوقع أنها كبرت في السن، بل ولم يكن ذلك عبر الوجه فقط، لقد كانت يدا أويوشي سمينة قبل أربع أو خمس سنوات. ولكن، جعلها العمر نحيفة لدرجة أن عروق يديها نفرت. أحست أوسوزو ببؤس عائلي عندما رأت خاتمها الرخيص وما ترتديه من ملابس وزينة. «تفضلي! طلب مني أخي أن أعطيه إلى سيدي.»
أخيرا أخرجت أويوشي شيئا ملفوفا في ورق جرائد قديمة، وكأنها تتخوف من الأمر ووضعته في ركن المطبخ قبل أن تخطو بقدميها إلى غرفة المعيشة. أوماتسو التي كانت تغسل أواني الطعام منذ فترة وتنظر شزرا إلى أويوشي ذات الشعر الناضر الذي سرح على هيئة الفراشة وهي تحرك يديها بسرعة وعجلة. ولكن، عندما رأت لفافة ورق الجرائد تلك، زادت تعابير وجهها تلك بغضا وضغينة. لا ريب أن تلك اللفافة تفوح منها رائحة كريهة لا تتناسب مع الفرن الحديث ولا مع الأطباق الرقيقة الصغيرة. لم تر أويوشي وجه أوماتسو ولكنها شعرت على الأقل بتغير وجه أوسوزو بطريقة مريبة، ففسرت الأمر قائلة: «إنه ... هذا ثوم.» ثم بعد ذلك تحدثت إلى الطفل الذي كان يعض أصابعه قائلة: «هيا أيها السيد الصغير انحن بتحية اللقاء.» وبالطبع كان ذلك الطفل هو بونتارو الذي أنجبته أويوشي من غنكاكو. كانت أوسوزو تشعر بالأسى الشديد تجاه أويوشي لمناداتها لذلك الطفل بكلمة السيد الصغير، ولكن إحساس أوسوزو العقلي جعلها تعيد التفكير أن ذلك أمر لا حيلة فيه بالنسبة لامرأة مثل أويوشي. قدمت بملامح وجه تلقائية، الشاي والحلوى المتاحة للأم وابنها الجالسين في ركن من غرفة المعيشة، وهي تشرح لها حالة غنكاكو وتلاعب بونتارو في محاولة لتسليته.
بعد أن جعل غنكاكو من أويوشي محظية، كان يتردد بالضرورة على بيتها مرة أو مرتين في الأسبوع، بدون أن يبالي بأن يركب أكثر من خط لقطار الضواحي. في البداية شعرت أوسوزو بكراهية ورفض لسلوك والدها، وكانت تفكر مرات كثيرة قائلة: «أليس من الأفضل أن يفكر أبي في مشاعر أمي قبل ذلك؟» ولكن يبدو أن أوتوري من الأصل قد يئست من كل شيء تماما، إلا أن ذلك كان سببا في أن تشعر أوسوزو أكثر بالأسى على أمها، وحتى بعد أن يرحل والدها متجها إلى بيت محظيته، تكذب على أمها كذبا مفضوحا بقولها: «يبدو أن اليوم لديه اجتماع الشعراء.» حتى هي نفسها كانت تعرف أن مثل هذا الكذب لن يفيد، ولكن، من حين لآخر عندما ترى على وجه أمها ملامح قريبة من الابتسام البارد، تندم على كذبتها تلك ... بل كانت على العكس تميل إلى الإحساس بالشفقة نوعا ما تجاه أمها المشلولة التي لا تستطيع أن تشاطرها مشاعرها القلبية تلك.
بعد أن تودع أوسوزو والدها عند الباب، كانت يدها تتوقف عدة مرات عن العمل في ماكينة الخياطة لتفكر في أمر أسرتها. لم يكن غنكاكو بالنسبة لها «والدا عظيما» حتى قبل أن يبدأ علاقته مع أويوشي، ولكنها كانت لا تبالي بذلك بالطبع لأنها امرأة طيبة حنونة، ولكن ما أقلقها هو حمل والدها التحف واللوحات الثمينة واحدة بعد أخرى إلى بيت محظيته. لم تكن أوسوزو تعتقد أن أويوشي فتاة شريرة منذ كانت خادمة في البيت. كلا، بل على العكس كانت تراها أكثر حياء من الأخريات، ولكنها لم تكن تعلم ما الذي يخطط له شقيق أويوشي الذي يدير محلا لبيع الأسماك على أطراف مدينة طوكيو، وفي الواقع كان يبدو لها رجلا ذكيا ذكاء مريبا، وكانت أحيانا تمسك بجوكيتشي وتبثه مخاوفها تلك، ولكنه لم يعرها بالا. «من المستحيل أن أتحدث أنا لوالدي بهذا الأمر.» وعندما تسمع أويوشي منه ذلك، لا تجد بديلا عن الصمت.
وأحيانا كان جوكيتشي يتحدث مع أوتوري بلا هدف قائلا: «لا أعتقد أنه يظن أن أويوشي يمكنها أن تفهم لوحات لو ليان فينغ.»
1
نظرت أوتوري عاليا تجاه جوكيتشي، وقالت له بنفس ابتسامتها المريرة الدائمة: «هذه هي عقليته، إنه الذي يسألني أنا: «ما رأيك في تلك المحبرة التحفة؟»»
ولكن عند النظر إلى ذلك الأمر الآن، يجده الجميع قلقا غبيا لا داعي له، فمنذ شتاء هذا العام، لم يعد غنكاكو قادرا على التردد على بيت محظيته بسبب ازدياد ثقل المرض عليه، فعلى غير المتوقع وافقت أويوشي بسلاسة على طريقة الانفصال التي قدمها لها جوكيتشي (في الواقع كانت شروط ذلك الانفصال من صنع أوتوري وأوسوزو أكثر من كونها من تفكيره هو)، ووافق كذلك شقيق أويوشي الذي كانت أوسوزو تخافه. تسلمت أويوشي مبلغ ألف ين للانفصال عن غنكاكو وعادت إلى بيت والديها في قرية ساحلية بإقليم كازوسا، على أن يرسل لها نفقة شهرية لتربية بونتارو، ولم يعترض الشقيق على ذلك. ليس هذا فقط، بل لقد أعاد تحف غنكاكو الثمينة من أدوات صناعة الشاي وغيرها قبل أن يطلب منه ذلك، شعرت أوسوزو تجاهه بشعور طيب فقط لأنها ارتابت فيه سابقا. «أعربت أختي عن استعدادها للمجيء لتمريضه، في حالة احتياجكم لذلك.»
قبل أن تجيب أوسوزو على ذلك الطلب، استشارت أمها القعيدة، ولا ضير من القول إن ذلك كان بالتأكيد سوء تقدير عظيم منها، فما إن سمعت أوتوري استشارتها، حتى نصحتها على الفور أن تطلب من أويوشي أن تأتي من اليوم التالي بمرافقة بونتارو، وبخلاف مشاعر أمها خافت أوسوزو من أن تضطرب بيئة البيت، ولذا حاولت عدة مرات أن تجعل أمها تعيد التفكير في الأمر. (ومع ذلك، من جهة أخرى كانت تشعر بالضيق لأنها لا تستطيع رفض الطلب باقتضاب بسبب أنها الوسيط بين شقيق أويوشي وبين والدها غنكاكو)، ولكن، لم تقبل أوتوري أن تسمع كلامها بأي حال. «إن تم الرفض قبل أن أسمع بالموضوع فالأمر مختلف، ولكنني أخجل أمام أويوشي.»
وبالتالي لم تجد أوسوزو مفرا من أن توافق لشقيق أويوشي على حضورها للبيت، وربما كان هذا أيضا إحدى حماقاتها بسبب جهلها بالحياة، وفي الواقع، عندما عاد جوكيتشي من عمله بالبنك وسمع تلك الحكاية منها، أظهر ملامح الاستياء القليلة بين حاجبيه مثل امرأة رقيقة القلب، وقال لها: «لا شك أن زيادة عدد من يقوم برعايته أمر محمود، ولكن كان من الأفضل التحدث أيضا مع الوالد في الأمر، وإن رفض فلن يكون عليك مسئولية تجاه الرفض.» فأجابته أوسوزو بالقول: «حقا، كان يجب علي ذلك.» ولكن حتى عند النظر إلى الأمر الآن، لا شك أنها لم تكن تستطيع استشارة غنكاكو، والدها الذي يحتضر وفي قلبه رغبة مؤكدة في أويوشي.
كانت أوسوزو تتذكر تلك التفاصيل المعقدة وهي تتعامل مع أويوشي وابنها، كانت أويوشي تتحدث إليها أحاديث متقطعة عن شقيقها أو عن بونتارو دون أن تدفئ يديها بمدفأة الفحم. ولم تكن قد عدلت نطقها لكلمة «هذا» التي تنطقها «هيذي» بلهجة قروية كما كانت منذ أربع أو خمس سنوات. شعرت أوسوزو عبر تلك اللهجة الريفية أن أويوشي بدأت تكون غير متكلفة في مشاعرها، وفي نفس الوقت، أيضا شعرت بقلق مبهم تجاه أمها أوتوري التي ترقد على الجهة الأخرى من باب واحد فقط بدون أن تتنحنح نحنحة واحدة. «ستستطيعين إذن البقاء معنا لمدة أسبوع كامل؟» «أجل، إن لم يكن لديكم مانع من ذلك.» «ولكن ماذا عن الملابس؟» «لقد قال أخي إنه يمكنه أن يحضرها لي حتى ولو ليلا.»
وهي تجيب بذلك، أخرجت من صدرها حلوى الكراميل وأعطتها لبونتارو الذي بدا عليه الملل. «دعينا نخبر الوالد بذلك، لقد ضعفت حالته الصحية جدا، لدرجة أن أذنه التي ناحية النافذة، أصابها سفع الصقيع.»
وقبل أن تبتعد أوسوزو عن مدفئة الفحم أعادت وضع الغلاية الحديدية بلا سبب محدد. «يا أمي!»
أجابت أوتوري بشيء ما، وكان في صوتها لزوجة يوضح أنها استيقظت لتوها على ذلك الصوت. «لقد جاءت أويوشي، يا أمي!»
اطمأنت أوسوزو ونهضت سريعا من أمام مدفئة الفحم وهي تحرص على عدم النظر إلى وجه أويوشي، ثم عند مرورها أمام الغرفة التالية وجهت الحديث إلى أمها مرة ثانية بالقول «أويوشي جاءت.» كانت أوتوري راقدة على جنبها كما هي تدفن فمها داخل كم ملابس النوم، ولكن عندما نظرت عاليا ورأت وجهها ظهر على عينيها فقط بوادر ابتسامة، وأجابت: «حقا! يا لها من سرعة في المجيء!» ومع تأكدها أن أويوشي آتية خلف ظهرها مباشرة، إلا أن أوسوزو اجتازت الممر في عجلة وتوجهت إلى الحديقة التي ملأتها الثلوج وذهبت إلى «الغرفة المنفصلة».
بدت «الغرفة المنفصلة» أكثر عتمة من الحقيقة في عيني أوسوزو لأنها أتت من الممر المضيء بوضوح، كان غنكاكو مقيما جذعه فقط جاعلا كونو تقرأ له الجريدة، ولكنه عندما رأى وجه أوسوزو قال لها فجأة: «هل جاءت أويوشي؟» وكان صوته مبحوحا متوترا قريبا من أن يكون استجوابا، أجابت أوسوزو وهي واقفة ناحية الحديقة بقولها «أجل» فقط. وبعد ذلك لم ينبس أحد بكلمة. «سوف أجعلها تأتي لك على الفور.» «أجل ... هل هي بمفردها؟» «كلا ...»
أومأ غنكاكو صامتا. «تعالي معي يا سيدة كونو.»
ذهبت أوسوزو بخطى سريعة في الممر أمام كونو، وفي ذلك الوقت كان طائر الذعرة
2
يهز ذيله على سعف النخيل الذي تبقى عليه الثلج، ولكنها بدلا من هذا لم تشعر إلا أن شيئا مخيفا يلاحقها من داخل تلك الغرفة التي تفوح منها رائحة المريض المنفرة.
4
بعد أن باتت أويوشي تقيم في البيت، تحول جو البيت إلى ما يشبه العاصفة المرئية للعين، وبدأ ذلك أولا من تنمر تاكيو على بونتارو، كان بونتارو أكثر شبها بأمه أويوشي من أبيه غنكاكو، بل كان طفلا يشبه أمه حتى في صفات الجبن وضعف شخصيتها، وبالتأكيد لم تستطع أوسوزو كتم تعاطفها مع طفل مثله، مع ذلك كانت تشعر أحيانا أن بونتارو طفل لم تحسن تربيته.
كانت الممرضة كونو تتأمل تلك الأوضاع العائلية المأسوية ببرود وسخرية، وهي تقوم بعملها في تمريض غنكاكو. كلا، بل يجب القول إنها كانت على العكس تجد متعة في ذلك. لا تحصي عدد المرات التي حاولت فيها الانتحار بتناول كمية من سيانيد الصوديوم من جراء علاقتها مع المرضى في البيوت أو مع الأطباء في المستشفيات، وزرع هذا الماضي داخلها هواية مرضية هي الاستمتاع بآلام الآخرين، وعندما دخلت بيت عائلة هوريكوشي، اكتشفت أن أوتوري القعيدة لا تغسل يديها عندما تنتهي من المرحاض. «إن زوجة ابن العائلة ذكية ولبقة جدا؛ لأنها تحمل لها المياه بدون أن يشعر أحد بذلك.» وظلت وهي المتشككة دائما زمنا متأثرة بذلك الأمر، ثم بعد مرور أربعة أو خمسة أيام، اكتشفت أن ذلك غفلة من أوسوزو التي تربت تربية مرفهة، وشعرت في ذلك الاكتشاف بما يشبه الرضا، فكانت تحمل المياه للمرحاض في كل مرة تذهب أوتوري إليه.
وشكرتها أوتوري وهي تضم كفيها وتذرف دموعها قائلة: «بفضلك يا سيدة كونو استطعت غسل يدي مثل باقي البشر.»
ولكن لم يتأثر قلب كونو لفرحة أوتوري ولو بقدر بسيط، ولكنها كانت تستمتع برؤية أوسوزو التي اضطرت بعد ذلك أن تحمل بنفسها المياه مرة كل ثلاث مرات، وبالتالي لم يكن عراك الأطفال منفرا بالنسبة لامرأة مثلها، وأظهرت أمام غنكاكو تعاطفا مع أويوشي وابنها، وأعطى ذلك تأثيرا مؤكدا حتى وإن ظهر ذلك التأثير ببطء.
بعد مرور أسبوع تقريبا على إقامة أويوشي في البيت، تعارك تاكيو مع بونتارو، بدأ العراك من مجرد التشاحن حول أيها أغلظ وأيها أنحف، ذيل الخنزير أم ذيل البقرة؟ تاكيو زنق بونتارو النحيف في أحد أركان غرفة الاستذكار الصغيرة المجاورة لمدخل البيت وأخذ يكيل له اللكمات والركلات. أويوشي التي جاءت للمكان في نفس اللحظة حضنت بونتارو الذي لم يقدر حتى على البكاء، وبدأت في تحذير تاكيو لأفعاله. «لا يجب الاستقواء على الضعفاء، يا سيدي الصغير.»
كانت كلمات حادة نادرا ما تخرج على لسانها وهي الخجولة. اندهش تاكيو من سلوك أويوشي التهديدي، وهذه المرة بكى هو، وهرب إلى حيث تجلس أوسوزو في غرفة المعيشة. وعندها بدا أن أوسوزو اشتاطت غضبا، فتركت عملها على ماكينة الخياطة، وهرعت إلى مكان أويوشي وابنها وهي تجر ابنها تاكيو جرا إلى هناك غصبا عنه. «أنت طفل أناني جدا، هيا اعتذر إلى السيدة أويوشي وابنها، ضع يديك على الأرض واعتذر كما يجب.»
وأمام غضب أوسوزو هذا، بكت أويوشي وبكى ابنها وذرفا الدموع معا، ولم يكن أمامهما إلا الاعتذار بجد واجتهاد، وكانت الممرضة كونو هي دائما من يقوم بدور الوسيط بينهم، كانت كونو تجتهد في رد وإبعاد أوسوزو التي احتقن وجهها للخلف وهي تتخيل مشاعر إنسان آخر، مشاعر غنكاكو وهو يسمع ذلك العراك، فتبتسم في سرها ابتسامة ازدراء، وبالطبع لم تظهر ذلك السلوك على وجهها أبدا.
ولكن لم يكن عراك الأطفال هو الوحيد الذي يعكر صفو وهدوء تلك العائلة، فمع الوقت أثار وجود أويوشي مشاعر الغيرة في قلب أوتوري التي ظن الجميع أنها قد يئست تماما من كل شيء، وفي الواقع لم تنبس أوتوري بكلمة كراهية أو غضب تجاه أويوشي نفسها مطلقا (ولم تفعل هذا أيضا عندما كانت أويوشي تقيم في غرفة الخدم منذ خمس أو ست سنوات)، ولكنها كانت تصب غضبها على جوكيتشي الذي ليس له أي ذنب، وبالتأكيد لم يأبه جوكيتشي بذلك بتاتا، وكانت أوسوزو تشعر بالأسى له، فتعتذر له من حين لآخر بدلا من أمها، ولكنه كان في العادة يبتسم ابتسامة مصطنعة ويغير مجرى الحديث بقوله: «ستكون ورطة لو أصبحت أنت أيضا في حالة هيستيرية.»
اهتمت كونو أيضا بغيرة أوتوري، بالطبع لم تتفهم مشاعر الغيرة التي أصابت أوتوري فقط، بل وتفهمت أيضا أن تصب جام غضبها على جوكيتشي، ليس هذا فقط، بل لقد بدأت تشعر بالغيرة تجاه جوكيتشي وزوجته دون أن تنتبه هي نفسها. كانت أوسوزو بالنسبة لها «الأميرة الجميلة»، ولكن لا شك أن جوكيتشي رجل صنع ليكون إنسانا عاديا، ولكنه بالتأكيد كان ذكرا يستحق احتقارها. بدت سعادة الزوجين لها غير عادلة، ومن أجل تقويم عدم العدالة (!)
3
تلك، أظهرت حميمية وهي تتعامل مع جوكيتشي، وربما كان ذلك لا يعني أي شيء لجوكيتشي، ولكنها كانت أعظم الفرص لإغضاب أوتوري أكثر. كانت أوتوري تسأل جوكيتشي بنبرة مسمومة وهي تظهر رضفة ركبتها: «هل أنت يا جوكيتشي غير راض بابنتي لأنها ابنة امرأة قعيدة؟»
ولكن لم تبد أوسوزو شكوكا تجاه جوكيتشي بسبب ذلك. كلا، بل في الواقع بدا أنها بالشفقة تجاه كونو نفسها، لم تشعر كونو بالسخط فقط تجاه أوسوزو، بل شعرت باحتقار أوسوزو الطيبة احتقارا أشد، ولكنها كانت تستمتع بتجنب جوكيتشي لها. ليس هذا فقط، بل على العكس بدأت تشعر بالجاذبية نحو جوكيتشي كرجل كلما تجنبها. في البداية كان لا يبالي بالتعري تماما في الجانب المطل على المطبخ عند دخوله للاستحمام حتى في وجود كونو هناك، ولكنه أصبح مؤخرا يحرص على ألا تراه في تلك الحالة بتاتا، ولا شك أن سبب ذلك هو خجله من جسمه النحيف الذي يشبه ديكا نتف ريشه كله، عندما تراه في تلك الحالة (حتى وجهه، كان ممتلئا بالبثور) تسخر منه في سرها قائلة ترى هل يظن بشكله هذا أن تقع في غرامه امرأة أخرى غير أوسوزو؟!
في صباح غائم وبارد، وضعت كونو مرآة في غرفة مدخل البيت الضيقة التي أصبحت غرفتها الخاصة، وأعادت تسريح شعر رأسها الذي كانت تشده كله للخلف فترة طويلة، وتصادف أنه كان اليوم السابق لليوم الذي قررت فيه أويوشي العودة أخيرا إلى قريتها، وبدا أن رحيل أويوشي عن هذا البيت أسعد الزوجين جوكيتشي وأوسوزو. ولكن، على العكس بدا أنه زاد من غضب وحقد أوتوري. عندما سمعت وهي تسرح شعر رأسها صياح أوتوري ذات النبرة العالية، تذكرت ما حكته لها صديقة في إحدى المرات، أنها أثناء إقامتها في باريس وقعت في براثن مرض الحنين الشديد للوطن، وانتهزت فرصة عودة أحد أصدقاء زوجها إلى اليابان، فقررت ركوب الباخرة معه، وعلى غير المتوقع لم يسبب لها السفر الطويل عبر البحر معاناة، ولكن عندما وصلت الباخرة إلى خليج كيشو في اليابان، حتى أصيبت المرأة بالهياج المفاجئ وألقت بنفسها في البحر، فعلى العكس كلما اقتربت من اليابان، زادت حدة مرض الحنين للوطن سوءا. مسحت كونو يديها من الزيت في هدوء، وفكرت أن غيرة أوتوري القعيدة بالطبع، وغيرتها هي لهما نفس تلك القوة السحرية العجيبة.
تردد صوت أوسوزو من حافة حديقة البيت المطلة على الغرفة المنفصلة وهي تقول: «ماذا حدث لك يا أمي؟ لماذا زحفت للقدوم حتى هنا، ما أفعل معك؟! يا سيدة كونو من فضلك تعالي هنا قليلا.»
عندما سمعت كونو ذلك الصوت، تسربت منها لأول مرة ابتسامة نشوة تجاه نفسها داخل المرآة المصقولة بعناية تامة، ثم بعد ذلك أجابت بنبرة وكأنها فوجئت: «حاضر، سآتي على الفور.»
5
زاد هزال غنكاكو بخطى متسارعة، وازداد عنف معاناته من المرض المزمن على مدى سنوات طويلة، وازداد كذلك ألم قرحة الفراش من ظهره إلى خصره، كان يتأوه بصوت عال من حين لآخر، ليخفف من آلامه ولو قليلا، ولكن لم تكن الآلام الجسدية هي بالضرورة ما يعانيه فقط، ولكن مقابل السلوى القليلة التي حصل عليها أثناء إقامة أويوشي في البيت، كان يشعر بمعاناة لا تتوقف من غيرة زوجته أوتوري ومن شجار الأطفال، ولكن حتى ذلك كان أفضل، فبعد أن رحلت أويوشي وقع غنكاكو في وحدة مرعبة، ولم يجد مفرا من مواجهة حياته الطويلة.
كانت حياته ضحلة بدرجة كبيرة بالنسبة إلى رجل مثله، مفهوم أنه لا ريب أنه عاش عصره الذهبي المشرق عندما حصل على براءة اختراع الخاتم المطاطي، ولكن حتى في ذلك الوقت كان يعاني بلا انقطاع من غيرة وحسد أقرانه، بالإضافة إلى شعوره شخصيا بالقلق من فقدان ثروته، فضلا عن أنه عندما اتخذ أويوشي محظية، استمر يحمل أعباء ثقيلة على عاتقه دائما، لتدبير أموال بعيدا عن تدخل أسرته ولا يعرفون عنها شيئا، بل وعلاوة على ذلك سحرت أويوشي الشابة لبه بسبب ضحالته، إلا أنه لا يحصي عدد المرات التي تمنى فيها موت أويوشي وابنها في سره في السنتين الماضيتين. «ضحالة؟! ولكن لو فكرنا في ذلك فهو أمر لا يقتصر علي وحدي.»
هكذا كان يفكر ليلا، ثم يتذكر بالتفصيل حالات أقاربه وأصدقائه واحدا بعد آخر، فلقد قتل صهره عددا من أعدائه السياسيين قتلا اجتماعيا لمجرد أنهم أقل منه حنكة وبراعة بدعوى «الحفاظ على الحياة الدستورية»، وكذلك أقرب أصدقائه، تاجر التحف المسن، كان على علاقة غير شرعية مع ابنة زوجته السابقة، وثمة محام من معارفه بدد ودائع مالية ضخمة، وبعد ذلك أحد فناني حفر الأختام ... ولكن العجيب أن تذكر الجرائم التي ارتكبها هؤلاء لم يقلل من معاناته، ليس هذا فقط بل على العكس زاد فقط من مساحة الظلال السوداء في حياته نفسها. «ماذا؟! تلك المعاناة لن تطول، إذا وصل الحال إلى حال مفرح ...»
4
كان ذلك فقط هو المواساة الوحيدة الباقية لغنكاكو، حاول أن يتذكر ذكرياته الممتعة لتلهيه عن آلامه المختلفة التي تغلغلت في جسده وروحه، ولكن كما ذكرت من قبل كانت حياته كلها ضحلة، ولو كانت فيها شيء مشرق واحد، لكانت مرحلة الطفولة التي لم يكن يعرف فيها شيئا، يتذكر مرات بين الحلم واليقظة، القرية التي تقع في واد جبلي ضيق في إقليم شينشو التي كان يسكنها والداه، وخاصة أغصان شجرة التوت العبقة برائحة دود القز المجمعة لاستخدامها حطبا وسطح البيت المغطى بألواح التسقيف المفردة التي وضع فوقها أحجار، ولكن لم تستمر تلك الذاكرة طويلا، كان وسط تأوهاته وصراخه من الألم، يحاول أحيانا أن يتلو من كتاب كانون المقدس لإله الرحمة، أو يغني الأغاني التي انتشرت في زمن ماض، بل كان يشعر بأنه لا يستحق المشهد الفكاهي الذي يحدثه غناء أغنية «كابوري، كابوري»
5
بعد تلاوة «ميو أون كان زيون، بون أون كاي تشو أون، شوهي سيكن أون ...»
6 «النوم جنة. النوم راحة ...»
كان غنكاكو يرغب في النوم نوما عميقا من أجل أن ينسى كل شيء، وفي الواقع كانت كونو تحقنه بالهيروين بالإضافة إلى المنوم، ولكن لم يقتصر النوم بالنسبة له على الراحة فقط. فأحيانا ما كان يلتقي مع أويوشي وبونتارو في أحلامه.
فيشعر في أحلامه بمشاعر مرحة (في أحد الأحلام الليلية كان يتحدث عن «العشرين نقطة لزهرة كرز» في لعبة «الهانافودا»
7
الجديدة، بل كانت تلك بطاقة الكرز تلك عليها وجه أويوشي منذ أربع أو خمس سنوات)، ولكن لهذا السبب بالذات شعر بتعاسة كبيرة عند استيقاظه، وفي غفلة من الزمن بات غنكاكو يشعر بقلق يشبه الرعب من النوم.
في ظهيرة أحد الأيام، حيث اقترب آخر أيام العام، بمجرد أن رقد غنكاكو نائما على ظهره، تحدث إلى كونو التي تجلس بالقرب من فراشه. «يا سيدة كونو، أطلب منك شراء بضعة أمتار من قماش قطني لأنني لم ألف فوندوشي
8
منذ زمن طويل.» ولم يكن الحصول على قماش قطني يستدعي إرسال الخادمة أوماتسو لشرائه خصوصا إلى محل الملابس القريب من البيت. «أنا الذي سألفه بنفسي، اطويه وضعيه هنا فقط.»
قضى غنكاكو نصف اليوم القصير هذا اعتمادا على ذلك الفوندوشي، اعتمادا على الموت شنقا بذلك الفوندوشي، ولكن لم يكن من الهين الحصول على فرصة مناسبة لذلك وهو الذي لا يستطيع النهوض من الفراش إلا بمساعدة الآخرين، ليس هذا فقط، بل وكما هو المتوقع عندما اقترب منه الموت صار غنكاكو يخافه، وسخر من نفسه وهو يحاول التهام الحياة حتى هذه اللحظة وهو يتأمل الجملة التي كتبت على لوحة فنية، المضاءة تحت أشعة المصباح الكهربائي المعتمة. «يا سيدة كونو أرجوك ساعديني لكي أقوم.»
كان الوقت ليلا بالفعل وتخطت الساعة العاشرة تقريبا. «سأنام قليلا، وأنت أيضا أرجو منك أن تنامي بلا حرج.»
حملقت كونو في وجه غنكاكو بغرابة، وأجابت باقتضاب قائلة: «كلا، سأبقى أنا صاحية؛ فهذا عملي.»
أحس غنكاكو أن كونو كشفت خطته، ولكنه أومأ صامتا، وبدأ يتظاهر بالنوم، فتحت كونو عدد العام الجديد من المجلة النسائية، وبدا أنها منهمكة في قراءة شيء ما بجوار فراشه. كان غنكاكو يراقب كونو بعينين ضيقتين وهو يفكر في الفوندوشي الذي بجوار الفراش. وعندها شعر بكوميدية الموقف. «يا سيدة كونو.»
حتى كونو نفسها فزعت عندما رأت وجه غنكاكو، كان في غفلة من الزمن لا يتوقف عن الضحك وهو يتكئ على اللحاف. «ماذا حدث؟» «لم يحدث شيء. ما من شيء مضحك.»
هز غنكاكو يده اليمنى النحيلة وهو يضحك. «لقد هاجمتني نوبة ضحك هكذا بلا سبب، هذه المرة أرجو منك أن تجعليني على جنبي.»
بعد مرور ساعة فقط كان غارقا في النوم، كانت أحلامه في تلك الليلة مرعبة، كان يقف في مكان أشجار كثيفة، يتلصص على ما يبدو أنها غرفة معيشة عبر فتحة في نافذة علوية، وكان في الغرفة طفل عار تماما، ينام ووجهه في اتجاهه، كان طفلا ومع ذلك يمتلئ جسمه بتجاعيد وكأنه عجوز. حاول أن يتحدث إليه، ولكنه استيقظ من نومه وهو غارق في عرقه.
لا أحد في «الغرفة المنفصلة»، ليس هذا فقط بل كان الوقت ما زال ليلا، ما زال؟! ولكن نظر غنكاكو إلى ساعة المكتب، فعرف أنه وقت الظهر تقريبا، انشرح قلبه للحظة بسبب اطمئنانه، ولكنه عاد لكآبته المعتادة سريعا، بدأ يحصي أنفاسه هو شخصيا وهو نائم على ظهره، كانت مشاعره تستحثه بالقول: «يجب التنفيذ الآن» وجذب الفوندوشي خفية، ولفه حول عنقه، ثم جذب الطرفين بيديه بقوة.
في تلك اللحظة كان من جاء هو تاكيو الذي تضخم جسمه بسبب ملابسه الثقيلة. «أوه، جدي يشنق نفسه!»
هكذا صرخ تاكيو وجرى مسرعا إلى غرفة المعيشة.
6
مر أسبوع فقط، ثم لفظ غنكاكو أنفاسه الأخيرة بسبب مرض السل محاطا بأفراد أسرته، كانت جنازته عظيمة (!). (ولكن لم تستطع أوتوري القعيدة حضور تلك الجنازة)، أبلغ الحاضرون لبيت غنكاكو كلمات العزاء إلى جوكيتشي وزوجته، ثم أحرقوا البخور أمام جثمانه المسجى في تابوت مغطى بحرير أبيض لامع، ولكن بعد خروجهم من باب البيت نسي أغلبهم أمره تماما، ولكن من المؤكد أن أصدقاءه القدامى كانوا استثناء من ذلك. «لا شك أن ذلك العجوز قد عاش حياة مريحة، فلقد امتلك محظية شابة، وكان لديه مدخرات لا بأس بها.»
كان الجميع يتحدثون فيما بينهم بمثل هذا القول.
وضع التابوت الذي يحمل جثمانه فوق عربة جنائز مخصوصة يجرها أحصنة إلى محرقة الجثث وسط المدينة في آخر أشهر العام حيث لا تسقط أشعة الشمس عليها. وفي عربة الأحصنة البالية التالية ركب جوكيتشي وابن عم له، كان ابن عمه ذلك طالبا جامعيا، يقرأ في كتاب وهو يحترس من اهتزازات عربة الأحصنة دون أن يتحدث معه تقريبا، كان كتاب «المذكرات» لفلهلم ليبكنخت، ولكن كان جوكيتشي إن لم يكن في غفوة نعاس بسبب إرهاقه من إجراءات العزاء والجنازة، كان يتأمل المدينة التي نشأت جديدا من نافذة العربة وهو يحدث نفسه بلا مبالاة قائلا: «لقد تغيرت هذه المنطقة تماما.»
وصلت عربة الأحصنة ذات العجلتين إلى محرقة الجثث أخيرا بعد سيرها في طريق الثلج الذائب، ولكن مع أنه كان قد اتصل هاتفيا مسبقا ورتب الأمر مع المحرقة، إلا أن أفران الدرجة الأولى كانت ممتلئة كلها، ولم يتبق إلا أفران الدرجة الثانية، ولم تكن العائلة تمانع في استخدام أي نوع، ولكن جوكيتشي كان مهتما بمشاعر زوجته أوسوزو أكثر من اهتمامه بصهره الراحل، فاستمر يتفاوض بحماس مع الموظف المعني عبر النافذة التي على شكل نصف دائرة، وحاول أن يكذب عليه بالقول: «في الواقع لقد اكتشفنا فجأة أنه مريض في حالة متأخرة، فعلى الأقل نريد أن يحرق في فرن من الدرجة الأولى.»
ويبدو أن تلك الكذبة قد أتت بنتيجة فعالة أكثر مما توقع. «إذن لنفعل ما يلي، إن أفران الدرجة الأولى ممتلئة، ولكن لنأخذ أجرا متميزا ونحرق الجثة بطريقة متميزة، ما رأيك؟»
شعر جوكيتشي ببعض الحرج، فأخذ ينحني عدة مرات للموظف معبرا عن شكره، كان الموظف عجوزا يبدو طيب القلب ويضع على عينيه نظارة بإطار نحاسي أصفر. «كلا، كلا، لا يحتاج الأمر إلى الانحناء شكرا.»
بعد إحكام غلق فرن الحرق، وكانوا على وشك الخروج من بوابة المحرقة بعربة الأحصنة البالية، احتار جوكيتشي قليلا وحاول أن ينزع قبعته من على رأسه. وعندها، وعلى غير المتوقع كانت أويوشي تقف دون حركة أمام السور المبني بالطوب الأحمر، وألقت بتحية بعينيها إلى عربة الأحصنة التي يركبونها.
ارتبك جوكيتشي قليلا، ثم حاول أن يرفع قبعته، ولكن العربة التي يستقلونها قد انعطفت لتسير في الطريق التي ذبلت أوراق شجر الحور فيها. «إنها هي، أليس كذلك؟» «بلى ... ترى هل كانت في نفس المكان عندما أتينا؟» «لا أتذكر إلا وجود الشحاذين فقط ... ترى ما ستفعل هذه المرأة بعد الآن؟»
أشعل جوكيتشي النار في سيجارة شيكيشيما، وحاول أن يجيب ببرود على قدر ما يستطيع. «لا أدري، ترى ماذا سيحدث لها؟ ...»
فالتزم ابن عمه الصمت، ولكن كان خياله يرسم له قرية صيادين على ساحل البحر في إقليم كازوسا، ويرسم له كذلك الأم وطفلها اللذين يجب عليهما العيش في تلك القرية فيما يلي من سنين ... تجهم وجهه فجأة داخل أشعة الشمس التي كانت قد بدأت تشع في المكان، وبدأ يقرأ في كتاب ليبكنخت مرة أخرى. ••• (الشهر الأول من العام الثاني لعصر شوا [يناير 1927].)
السراب
1
في ظهيرة يوم من أيام الخريف، ذهبت مع الطالب الجامعي «ك» الذي أتى من طوكيو، لمشاهدة السراب، يعرف الجميع أن السراب يمكن رؤيته على شاطئ البحر في بلدة كوغنوما، وفي الواقع عندما رأت خادمتي منظر سفينة منعكسا في السراب انبهرت من المنظر، وقالت: «إنه يشبه تماما تلك الصورة التي نشرت في الجرائد منذ فترة.»
انعطفنا بجانب العريشة، وقررنا أن ندعو «أ» معنا أيضا. ويبدو أن «أ» الذي يلبس قميصا أحمر كالمعتاد كان يطبخ طعام الغداء، فكان منظره يبدو من خلف سور الأشجار يتحرك بسرعة ورشاقة بجوار البئر، رفعت عصاتي المصنوعة من خشب المران وأعطيت إشارة إلى «أ ». «تفضلوا بالدخول من عندكم ... أهلا، هل أنت حضرت أيضا؟»
ظن «أ» أنني أتيت لزيارته مع «ك». «لقد جئنا لرؤية السراب، ألا تذهب معنا أنت أيضا؟» «السراب؟ ...»
ضحك «أ» فجأة. «يبدو أن السراب أصبح له شعبية مؤخرا.»
بعد مرور خمس دقائق فقط، كنا نسير ومعنا «أ» على طريق رملي عميق، كان الجانب الأيسر من الطريق أرضا رملية، وعلى ذلك الطريق آثار خطين أسودين مائلين لمرور عجلات عربة تجرها الأبقار، شعرت بما يقرب من الضغط النفسي نوعا ما في آثار تلك العجلتين العميقين. آثار عمل عبقري شجاع ... لا ينفي اقتراب مثل تلك المشاعر مني. «إنني ما زلت في حالة صحية غير جيدة؛ لأنني أنهزم حتى من مجرد النظر إلى آثار عربة مثل هذه.»
ظل «أ» رافعا حاجبيه ولم يجب على كلماتي بأي رد. ولكن، يبدو أن مشاعري وصلت بوضوح إلى قلب «أ».
وأثناء ذلك مررنا خلال أشجار صنوبر، أشجار صنوبر متفرقة وقصيرة، ومشينا على ضفة نهر هيكيجي، كان البحر مشرقا يمتد خلف شاطئ الرمال الواسع بلون أزرق، ولكن كانت بيوت جزيرة إنوشيما وأشجارها بها غيوم كئيبة نوعا ما. «إنه عصر جديد.»
كانت كلمة «ك» تلك على حين غرة، ليس هذا فقط، بل كان مبتسما. عصر جديد؟ بل إنني اكتشفت في لحظة واحدة «العصر الجديد» الذي يعنيه «ك»، كان ذلك رجلا وامرأة يتأملان البحر خلف سور من البامبو بني لصد الرمال، ولكن لم يكن الرجل الذي ارتدى معطفا خفيفا جدا وقبعة لينة مطوية عند منتصفها، يليق عليه إطلاق اسم العصر الجديد، ولكن بالتأكيد كانت المرأة، بشعرها القصير ومظلة الشاطئ وحذائها قصير الكعب تعبر عن العصر الجديد. «تبدو السعادة عليهما.» «أنت أيضا مثلهما ممن يحسد عليه.»
هكذا سخر «أ» من «ك».
يبتعد المكان الذي يمكن منه رؤية السراب عن الرجل والمرأة بمسافة مائة متر تقريبا، انبطحنا جميعا على بطننا نتأمل شاطئ الرمال الذي يتصاعد فيه سديم الحرارة على الجانب الآخر من النهر، يهتز فوق شاطئ الرمال خط واحد أزرق، بعرض شريط رفيع ، على ما يبدو أن ذلك انعكاس لون البحر على سديم الحرارة، ولكن غير ذلك لم نر انعكاس صورة السفن فوق شاطئ الرمال.
قال «ك» الذي أصبح فكه مليئا بالرمال بخيبة أمل: «هل هذا حقا ما يطلق عليه السراب؟»
وهنا، ظهر غراب من مكان مجهول، فوق شاطئ الرمال على بعد مائتي أو ثلاثمائة متر، فوق اللون الأزرق المهتز، ثم طار أكثر للجهة المقابلة، وبالتزامن مع ذلك، انعكس ظل ذلك الغراب مقلوبا في المنطقة التي فوق سديم الحرارة. «مع ذلك فاليوم أفضل كثيرا.»
مع كلمة «أ» تلك نهضنا جميعا من فوق الرمال، وعندها في غفلة من الزمن كان أمامنا زوجا (العصر الجديد) اللذان تركناهما، يمشيان في اتجاهنا.
اندهشت جدا، فنظرت للخلف، ولكن كان الاثنان بدون تغيير يتحدثان معا في أمر ما خلف سور البامبو على بعد مائة متر تقريبا منا. نحن، خاصة «أ»، ضحكنا ضحكا شديدا. «أليس هذا على العكس هو السراب؟»
بالطبع كان «العصر الجديد» الذين أمامنا الآن يختلف عن هؤلاء، ولكن لم يختلف مظهرهما تقريبا من الشعر القصير للمرأة، والقبعة اللينة للرجل. «أنا أشعر بالاستياء لسبب مجهول!» «لقد فكرت أنني جئت على حين غفلة.»
كنا ونحن نتحاور هكذا، قد اخترقنا الجبل الرملي المنخفض دون أن نسير بمحاذاة ضفة نهر هيكيجي، كانت أوراق الصنوبر المنخفض التي على طرف سور صد رمال الجبل الرملي كما هو متوقع قد اصفرت، وعندما مر «أ» من هناك انحنى بخصره وكأنه يقول: «هيلا هوب.» ثم التقط شيئا من فوق الرمال، كانت لافتة خشبية رصت فيها حروف بالعرض داخل إطار أسود يبدو وكأنه بيتومين. «ما هذا؟
Sr. H. Tsuji ... Unua ... Aprilo ... Jaro ... 1906 ... »
1 «ترى ما هذا؟ هل هو
dua ... Majesta ...؟ مكتوب 1926.»
توقع «أ» بالقول: «أليس هذا ما يلصق بما يسمى الجثث التي تدفن في البحر؟» «ولكن، عند الدفن في البحر تلف الجثة بقماش الشراع أو شيء من هذا القبيل فقط.» «أجل ولذلك تلصق به هذه اللافتة، انظر! لقد دق هنا مسمار، في الأصل تأخذ شكل الصليب.»
كنا وقتها قد مشينا بين غابات الصنوبر والسور الشجري المصنوع من الخيزران القصير لمنتجعات جبلية. إن لوحة الاسم الخشبية تقريبا كما توقع السيد «أ»، شعرت باستياء لا يفترض أن أشعر به في أشعة الشمس. «لقد عثرت على شيء لا يجلب الفأل الحسن.» «ماذا؟ سأجعلها تميمة حظ لي ... ولكن من 1906 حتى 1926 يعنى أنه مات في العشرين من عمره تقريبا، والعشرون تقريبا تعني ...» «ترى أكان رجلا، أم امرأة؟» «من يدري ... ولكن في أي حال ربما كان طفلا هجينا.»
كنت وأنا أجيب على «ك» تخيلت شابا هجينا يموت داخل سفينة، وطبقا لتخيلاتي يفترض أن والدته يابانية.
فجأة همس «أ» متحدثا لنفسه وهو ينظر للأمام كما هو. «السراب!»
وربما كانت تلك كلمة قالها بلا تعمد، لكنها كانت تلمس شيئا خافتا داخل مشاعر. «ألا نستريح قليلا ونشرب الشاي قبل العودة؟»
وفي وقت قصير كنا نجلس في ثبات في ركن من الطريق الرئيس الذي تكثر فيه البيوت، تكثر فيه البيوت! ... ولكن كان طريق الرمل الجاف خاليا من المارة تقريبا. «ماذا ستفعل يا «ك»؟» «أنا! أي شيء ...»
في تلك اللحظة جاء من الجهة المقابلة كلب شارد بلون ناصح البياض يهز ذيله.
2
بعد أن عاد «ك» إلى طوكيو، عبرنا أنا و«أ» وزوجتي جسر نهر هيكيجي، كانت هذه المرة الساعة السابعة مساء، وقد انتهينا لتونا من تناول وجبة العشاء.
وكانت النجوم لا ترى في تلك الليلة أيضا، كنا نمشي على شاطئ الرمل الخالي من الناس والصمت يسيطر علينا. تحركت ظلال فوق الشاطئ الرملي عند مصب نهر هيكيجي في البحر، ويبدو أنها إشارة للسفن التي تذهب للصيد في البحر.
بالطبع لم ينقطع صوت الأمواج، ولكن مع اقترابنا من الشط الذي تضربه الأمواج، بدأت رائحة البحر القوية تزداد، ويبدو أن تلك الرائحة لم تكن رائحة البحر نفسه أكثر من كونها رائحة الأخشاب والطحالب البحرية التي تلقي بها الأمواج على الشاطئ، لسبب مجهول شعرت بتلك الرائحة فوق بشرتي بالإضافة إلى أنفي.
ظللنا لبعض الوقت نتأمل ذروة الأمواج الضبابية ونحن نقف على الشط الذي تضربه الأمواج، كان البحر شديد الظلام مهما نظرنا إليه من أي اتجاه، وتذكرت عندما كنت أسكن على ساحل البحر في كازوسا منذ ثلاثة أعوام تقريبا، وفي نفس الوقت تذكرت الصديق الذي كان معي وقتها. كان ذلك الصديق بالإضافة إلى دراسته يقرأ مسودة قصتي القصيرة «عصيدة اليام» المصححة.
وأثناء ذلك أشعل «أ» عود ثقاب وهو يجلس القرفصاء على الشاطئ الرملي. «ماذا تفعل؟»
رفع «أ» عينيه من خلف كتفه ونظر إلينا وتحدث إلى زوجتي تقريبا: «لا أفعل شيئا، لقد أشعلت نارا فقط، فهكذا يمكن رؤية العديد من الأشياء، أليس كذلك؟»
مفهوم، لقد سبب عود واحد من الثقاب، إنارة العديد من القواقع والطحالب والأعشاب البحرية المنتشرة داخل البحر، وبعد أن انطفأ ذلك العود، حك «أ» عود ثقاب جديدا، وأخذ يسير على الشاطئ ببطء. «ما هذا! أمر يبعث على الاستياء، لقد ظننت أنها قدم غريق!»
كانت فردة حذاء سابحة نصفها مدفون في الرمال، وكذلك في منتصف الأعشاب البحرية ثمة قطعة إسفنج عملاقة، ولكن عندما انطفأت تلك النار أيضا أصبح المكان أكثر ظلاما عن ذي قبل. «أي إنه ما من غنيمة مثل غنيمة النهار، أليس كذلك؟» «غنيمة؟ آه، هل تقصد تلك اللوحة؟ إن مثل العثور على تلك اللوحة أمر نادر.»
قررنا العودة إلى الشاطئ الرملي الواسع تاركين خلفنا أصوات الأمواج التي لا تنقطع، وغير الرمال اشتبكت بأقدامنا طحالب بحرية أحيانا. «في هذا المكان ثمة أشياء متنوعة، أليس كذلك؟» «هل أشعل عود ثقاب مرة أخرى؟» «لا داعي ... أسمعت؟ إنه صوت جرس.»
أصيخت أذني؛ لأنني ظننت أن ذلك أحد الأوهام التي زادت عندي مؤخرا، ولكن لم يكن ثمة شك أن جرسا يدق في مكان قريب، عندما كنت على وشك أن أسأل «أ» مرة ثانية هل يسمع الجرس، وعندها تحدثت إلي زوجتي التي كانت خلفنا بخطوتين أو ثلاث بصوت ضاحك، قائلة: «إنه جرس قبقابي الذي يدق، أليس كذلك؟ ...»
ولكن حتى بدون النظر للخلف كانت زوجتي بلا شك تنتعل خفا من القش وليس قبقابا. «إنني الليلة أصبحت طفلة صغيرة وأسير وأنا أنتعل قبقابا». «إنه يدق داخل أكمام السيدة زوجتك ، آه إنه دمية ياسوشي، الدمية الملصق بها جرس من السلولويد.»
قال «أ» ذلك ثم ضحك، وأثناء ذلك لحقت بنا زوجتي وسرنا نحن الثلاثة في صف واحد، وكان مزاح زوجتي فرصة لنعود نحن الثلاثة للتحدث معا مرة أخرى في مرح وحيوية أكثر مما قبل.
تحدثت إلى «أ» عن الحلم الذي رأيته ليلة أمس، لقد حلمت أنني أتحدث مع سائق سيارة نقل أمام أحد البيوت ذات الطراز الغربي، وعلى ما أتذكر أنني كنت داخل ذلك الحلم أظن أنني سبق لي أن قابلت هذا السائق من قبل، ولكنني حتى بعد أن استيقظت من النوم لم أعرف أين قابلته. «وعندما تذكرت ذلك فجأة، كان ذلك صحافية جاءت منذ ثلاثة أو أربعة أعوام لعمل لقاء صحفي معي لمرة واحدة فقط.» «كانت إذن سائقة نقل سيدة؟» «كلا، بالتأكيد كان رجلا، الوجه فقط كان وجه تلك الصحافية، إن الوجه الذي نراه مرة واحدة فقط يظل في مكان ما من الذاكرة على الدوام.» «حقا إنه كذلك، وخاصة الشخص صاحب الوجه المميز الذي يترك انطباعا قويا ...» «ولكنني لم أكن أحمل أي اهتمام بوجه تلك المرأة مطلقا، وعلى العكس من ذلك جعلني أشعر باستياء؛ لأنني أحسست أنه ثمة العديد من الأمور خارج نطاق الوعي إلى حد ما ...» «بمعنى أنه عندما تشعل عود ثقاب وتنظر يبدو لك العديد من الأشياء، أليس كذلك؟»
وأنا أقول ذلك اكتشفت بالصدفة أن وجوهنا فقط هي المرئية بوضوح، مع عدم اختلاف الوضع عما كان عليه من قبل، وأن إضاءة النجوم لا يمكن رؤيتها. أمسيت مكتئبا ثانية لسبب ما ونظرت عاليا تجاه السماء عدة مرات، ويبدو أن زوجتي لاحظت ذلك وقبل أن أنطق بشيء ردت هي علي بالسؤال: «إن ذلك بسبب الرمال، أليس كذلك؟»
ضمت زوجتي كمي ثوبها ثم نظرت للخلف تجاه شاطئ الرمال الرحب. «بلى، يبدو كذلك.» «إن الرمال على الأغلب مشاكسة؛ لأنها هي أيضا التي تصنع السراب ... ألم تري السراب يا سيدتي بعد؟» «بلى، لقد رأيته مرة واحدة فقط مؤخرا ... ولكنني رأيت فقط شيئا أزرق اللون ...» «أجل، إنه ذلك فقط يا سيدتي، هذا فقط ما رأيناه نحن أيضا اليوم.»
عبرنا نهر هيكيجي، ومشينا خارج عريشة على الضفة المقابلة، كانت أغصان الصنوبر جميعها تصدر أصواتا خشنة وكأنها بدأت في القيام، وبدا أن رجلا قصير القامة يأتي تجاهنا بخطوات سريعة، وعندها تذكرت فجأة أحد الأوهام التي رأيتها في الصيف، وقتها رأيت في ليلة مثل هذه ورقة عالقة في غصن شجرة الحور وكأنها خوذة على رأس رجل، ولكن ذلك الرجل لم يكن وهما، ليس هذا فقط، بل وعندما كنا نقترب من بعضنا البعض، ظهر صدر قميصه. «ما مشبك رابطة العنق الغريب هذا؟»
بعد أن قلت ذلك بصوت خفيض، اكتشفت أن ما ظننته مشبك هو شعلة سيجارته، وعندها عضت زوجتي على طرف كمها وضحكت قبل الجميع ضحكة مكتومة، مر ذلك الوجل بجوارنا مسرعا دون حتى أن يلتفت إلينا. «حسنا، طابت ليلتكما.» «طابت ليلتك.»
افترقنا مع السيد «أ» بتلك التحية البسيطة، ومشينا وسط صوت الرياح التي تتخلل الصنوبر، وتختلط داخل صوت رياح الصنوبر تلك كذلك أصوات الحشرات الخافتة. «ترى متى عيد الزواج الذهبي للجد؟»
وتعني بكلمة «الجد» تلك أبي. «ترى متى؟ ... هل وصلت الزبدة من طوكيو؟» «الزبدة لم تصل بعد، ولكن الذي وصل هو المقانق.»
وأثناء كلامنا هذا كنا قد وصلنا أمام مدخل البيت ... أمام مدخل البيت نصف المفتوح بابه. ••• (الرابع من الشهر الثاني للعام الثاني لشوا [4 فبراير 1927].)
كابا1
أرجو منكم نطقها
Kappa
تمهيد
إنها قصة يحكيها المريض رقم 23 في مستشفى للأمراض النفسية لكل الناس، إنه مجنون تخطى عمره الثلاثين عاما بالفعل، ولكن مظهره الخارجي يبدو في ذروة الشباب، إن أغلب حياته ... كلا، هذا أمر ليس ذا أهمية، إنه يظل ثابتا يحضن ركبتيه، وينظر أحيانا من النافذة (النافذة التي وضع فيها أسياخ من الحديد، يرى منها شجرة سنديان ليس بها حتى أوراق ذابلة، تفرد أغصانها في السماء الغائمة بغيوم ثلجية)، استمر يتحدث لي وللدكتور «س» مدير المستشفى لوقت طويل بلا انقطاع، وبالطبع لا يعني قولي «يظل ثابتا» أنه لم يكن يحرك جسمه من حين لآخر، وعندما يقول مثلا: «اندهشت» كان يشيح بوجه للخلف ...
ولقد حرصت على أن أنقل حديثه هذا بدقة متناهية، وإن وجد أحد لا يكتفي مما دونته هنا، فالأفضل الذهاب لزيارة مستشفى «س» للأمراض النفسية في قرية سوغامو خارج مدينة طوكيو. إن المريض رقم 23 الذي يبدو أصغر سنا من عمره الحقيقي، على الأرجح سيحني رأسه في أدب بالغ ويشير بيده إلى كرسي بلا وسادة للجلوس عليه، ثم بعد ذلك تبرز على فمه ابتسامة كئيبة، ويبدأ في تكرار هذه القصة بهدوء. وفي النهاية، أتذكر وجهه عندما انتهى من هذه القصة. في النهاية، وبمجرد أن ينهض بجسمه أخذ يلف قبضة يده ويصرخ بما يلي: «اخرج أيها الشرير! إنك حيوان أناني وأحمق وغيور وداعر وخبيث وغارق في الغرور وقاس، اخرج من هنا! أيها الشرير!»
1
في فصل الصيف منذ ثلاث سنوات، كنت على وشك الصعود إلى جبل هوتاكا من نزل في منطقة ينابيع كاميكوتشي وأنا أحمل خلف ظهري حقيبة ظهر عادية، وكما هو معلوم فما من طريق آخر لصعود جبل هوتاكا، إلا الصعود بمحاذاة نهر أزوسا إلى منابعه، ولأنني كنت قد صعدت من قبل جبل هوتاكا بالطبع وجبل ياريغاتاكه، ذهبت صاعدا إلى منابع نهر أزوسا دون دليل يرشدني وسط وادي أزوسا الذي يسقط عليه الضباب في الصباح الباكر، يتساقط الضباب على الوادي في الصباح، ولكن مهما مر من وقت لا يبدو منظر هذا الضباب أنه سيزول، ليس هذا فقط، بل على العكس كان يزداد عمقا وشدة. مشيت ساعة ثم فكرت في العودة إلى النزل في ينابيع كاميكوتشي، ولكن حتى أستطيع العودة إلى كاميكوتشي كان يجب انتظار زوال الضباب، ومع قول ذلك كان الضباب يزداد عمقا مع كل لحظة ولا يبدو أنه سيزول، فكرت «من الأفضل مواصلة الصعود» لذا مشيت وأنا أبعد أغصان الخيزران حريصا على ألا أبتعد عن وادي نهر أزوسا.
ولكن كان الضباب الكثيف يحجب الرؤية عن عيني، ولكن لم يعدم الأمر أحيانا من رؤية أغصان لأشجار الزان والشوح بأوراقها الخضراء تتدلى أمام عيني وسط الضباب، ثم بعد ذلك، ظهر أمام عيني فجأة وجوه أبقار وأحصنة تركت لترعى بحريتها، ولكنها بمجرد أن ظهرت داخل الضباب الكثيف اختفت فورا، وأثناء ذلك بدأت قدماي تتعبان، ومعدتي تشعر بالجوع، وعلاوة على ذلك لم تكن ملابس تسلق الجبل والبطانية التي اخترقها الضباب فتبللت بالثقل الطبيعي المعتاد. ولأنني قررت أخيرا التوقف عن العناد، لذا بدأت الهبوط إلى وادي نهر أزوسا معتمدا على خرير المياه التي تحثها الصخور على سرعة الجريان.
ثم جلست على صخرة على ضفاف النهر، وبدأت أتناول وجبة الطعام مؤقتا، فتحت علبة بلوبيف، وجمعت الأغصان الجافة، وأشعلت فيها النار، أثناء ما كنت أفعل ذلك مر عشر دقائق على الأرجح، وخلال تلك المدة انقشع الضباب الذي كان مشاكسا حتى النهاية، وأصبح الطقس صحوا في غفلة من الزمن. نظرت سريعا إلى ساعة يدي وأنا أقضم الخبز، كانت الساعة قد تخطت الواحدة وعشرين دقيقة، ولكن الذي أدهشني أكثر من ذلك، كان وجه مريب، يسقط ظله فوق زجاج ساعة اليد الدائري، اندهشت والتفت إلى الخلف، وعندها ... كان ذلك في الواقع أول مرة أرى فيها ما يطلق عليه حيوان الكابا، حيوان كابا كما يرسم في اللوحات يقف فوق الصخور خلفي، يمسك بإحدى يديه جذع شجرة قضبان بيضاء، ويضع اليد الأخرى فوق عينيه ليحميها من أشعة الضوء، وينظر إلي من عل كأنه ينظر إلى شيء نادر.
أصابني الذهول، وبقيت لبعض الوقت مبهوتا لا أتحرك، وبدا أن الكابا أيضا أصابته الدهشة، فلم تتحرك حتى يده التي فوق عينيه، وأثناء ذلك أسرعت بالنهوض واقفا، وقفزت مسرعا تجاه الكابا الذي فوق الصخور، وفي نفس اللحظة هرب الكابا. كلا، على الأرجح أنه بدأ الهروب. ففي الواقع أنه تفاداني بخفة ورشاقة، ثم اختفى فورا في مكان مجهول، وأخيرا أخذت أدور بعيني داخل الخيزران القصير، وأنا ما زلت مذهولا. فكان الكابا ينظر خلفه تجاهي على بعد مترين أو ثلاثة أمتار وقد جفل من الدهشة، وليس هذا أمرا عجيبا مطلقا، ولكن ما كنت أراه غير طبيعي ، هو لون جسم الكابا، كان لون جسم الكابا الذي رأيته فوق الصخرة كله بلون رمادي، ولكن تغير ذلك اللون تماما إلى الأخضر. رفعت صوتي بالصياح: «اللعنة!»، ثم قفزت مجددا تجاهه، بالطبع هرب. بعد ذلك ولمدة ثلاثين دقيقة، اخترقت الخيزران القصير وتخطيت الصخور، وظللت أطارده باندفاع.
سرعة أقدام الكابا لا تقل أبدا عن القرود. وأثناء مطاردته بانهماك كنت على وشك أن أفقد أثره عدة مرات، ليس هذا فقط، بل لقد انزلقت أقدامي وتدحرجت مرات عدة، وعندما أتيت حتى أسفل الأغصان الغليظة الممتدة لشجرة كستناء الفرس اليابانية، لحسن حظي أن بقرة أعاقت الكابا عن التقدم للأمام. كلا، بل كان ثورا ذا قرنين غليظين وينطلق الشرار من عينيه. عندما شاهد الكابا ذلك الثور، صرخ صرخة ما وهو يقفز داخل أجمة خيزران أطول من السابق وكأنه يتشقلب في الهواء، ثم لأنني أيضا اندهشت وفكرت أنني فشلت، طاردته بالقفز أنا أيضا داخل نفس الأجمة، وعلى الأرجح أن ذلك المكان كان به ثقب لم أكن أدري بوجوده، وعندما لمست أناملي ظهر الكابا الملس، سقطت على الفور متدحرجا بالمقلوب في وسط ظلام حالك وعميق، ولكننا نحن البشر في حالة وقوعنا في ورطة وأزمة شديدة، تفكر عقولنا في أمور لا تخطر على البال ولا على الخاطر، وفي اللحظة التي صرخت فيها قائلا: «آه!» تذكرت أن هناك جسرا بجوار نزل الينابيع في بلدة كاميكوتشي يدعى «جسر الكابا»، ثم بعد ذلك ... لا أتذكر شيئا مما حدث بعد ذلك، بل إنني بعد أن شعرت بحدوث ما يشبه الصاعقة أمام عيني، فقدت الوعي في غفلة من الزمن.
2
وعندما عاد إلي وعيي أخيرا، كنت راقدا على ظهري، محاطا بعدد كبير من حيوانات الكابا. ليس هذا فقط، بل كان منهم كابا يضع نظارة أنف فوق منقاره الغليظ، يكشف على صدري بسماعة طبية وهو يجثو على ركبتيه بجواري، وعندما رأى ذلك الكابا أنني فتحت عيني أشار لي بيده بما معناه «لا تتكلم»، ثم بعد ذلك تحدث إلى كابا خلفه بقوله
xQuax, qua . وعندها جاء من مكان ما حيوانا كابا يمشيان وهما يحملان نقالة مرضى، وضعت على تلك النقالة، وساروا بي في هدوء عدة مئات من الأمتار وسط حشد كبير من الكابا. كانت المدينة التي تتراص على جانبي يمينا ويسارا لا تختلف كثيرا عن شارع غينزا، كما هو متوقع فردت محلات متعددة مظلاتها تحت ظلال أشجار الزان المتراصة على جانبي الطريق، وفي الطريق الذي أحاطت به تلك الأشجار يسير عدد من السيارات.
أخيرا، عندما انعطفت النقالة التي تحملني في حارة جانبية ضيقة، حملت إلى داخل أحد البيوت، وطبقا لما عرفته فيما بعد، فهو بيت الكابا، ذلك الذي يضع نظارة على منقاره، أي بيت الطبيب الذي يسمى تشاك، أنامني تشاك فوق سرير أنيق، ثم بعد ذلك أسقاني جرعة من دواء شرب بلون شفاف. لقد كانت كل مفاصل جسمي تؤلمني ألما شنيعا لدرجة أنني لم أكن أستطيع تحريك أي عضو من أعضاء جسمي.
كان تشاك يكشف علي حتما كل يوم مرتين أو ثلاث مرات، وأيضا كان الكابا الذي رأيته في البداية - الصياد باغ - يأتي مرة كل ثلاثة أيام لزيارتي. إن حيوانات الكابا تعرف عن البشر أكثر بكثير جدا مما يعرفه البشر عن الكابا، وعلى الأرجح أن سبب ذلك هو أن الكابا تصطاد البشر بعدد أكبر كثيرا جدا من اصطياد البشر لها، وحتى لو كان ذلك لا يصلح أن يطلق عليه اصطياد، ولكن عددا كبيرا من البشر جاء إلى بلاد الكابا قبلي. ليس هذا فقط، بل ثمة عدد كبير منهم عاش عمره كله في بلاد الكابا. جرب أن تقول لماذا؟ لمجرد أننا لسنا كابا فقط، وأننا بشر، فلدينا ميزة أننا نعيش ونأكل دون عمل، وعلى أرض الواقع طبقا لحديث باغ، فلقد جاء شاب كان يعمل في إنشاء الطرق عن طريق الصدفة إلى هذه البلاد ثم تزوج من أنثى كابا وعاش هنا حتى وفاته، وعلاوة على أن أنثى الكابا تلك كانت أجمل إناث البلاد؛ فقد كانت على قدر كبير من الذكاء لكي تخدع زوجها عامل الطريق ذلك.
بعد مرور أسبوع واحد فقط ، ومن خلال ما ينص عليه القانون في هذه الدولة، تقرر أن أسكن بجوار تشاك بصفة «مقيم بحماية خاصة». كان بيتي راقيا مقارنة بصغر حجمه، بالطبع كانت حضارة هذه الدولة لا تختلف كثيرا عن حضارة الدول في عالم البشر، أو على الأقل لا تختلف كثيرا عن حضارة في اليابان، ثمة بيانو صغير في أحد أركان غرفة الضيوف المطلة على الطريق العام، وأيضا معلق في إطار على الحائط لوحة مطبوعة بالحفر، ولكن كان الجزء الأهم في البيت أن مقاسات كل شيء مثل المناضد والكراسي صنع ليناسب طول قامة الكابا، فكان شعوري كأنني وضعت في غرفة أطفال لا أرتاح معها.
كنت دائما عندما يأتي المغيب، أستقبل في هذا البيت تشاك وباغ، وأتعلم منهما لغة الكابا. كلا، ليس هذان الاثنان فقط، فلأن الجميع كان يحمل فضولا تجاهي أنا الذي أحمل صفة «مقيم بحماية خاصة»، فقد كان مدير شركة زجاج يدعى غيل، وكان يستدعي تشاك خصوصا كل يوم لكي يقيس له ضغط الدم، كان أيضا يطل بوجهه في هذا البيت، ولكن في مدة نصف الشهر الأول، كان الصياد الذي يدعى باغ هو أكثر من أقمت معه علاقتي الحميمية.
في غروب يوم دافئ رطب، كنت أجلس في بيتي هذا مع الصياد باغ وبيننا المنضدة، ثم لا أدري ماذا فكر باغ، ولكنه صمت فجأة ثم أخذ يحملق في بعينيه الواسعتين، بالتأكيد شعرت أنا بغرابة وريبة، فقلت له:
Quax, Bag, quo quel, quan?
وإن ترجمت ذلك للغة اليابانية فهو يعني «يا باغ! ماذا حدث لك؟» ولكن باغ لم يرد على سؤالي، ليس هذا فقط، بل وقف فجأة وأخرج لسانه، ثم أخذ وضع القفز وكأنه ضفدعة على وشك القفز، وفي النهاية شعرت بالاستياء فوقفت برفق من فوق مقعدي، وكنت على وشك الإسراع بالخروج من باب البيت في قفزة واحدة، ولحسن الحظ جاء في تلك اللحظة الطبيب تشاك. «توقف يا باغ! ماذا تفعل؟»
ظل تشاك يحدق في باغ هذا وهو يضع النظارة فوق أنفه كما هي، وبدا أن باغ شعر بالحرج، فوضع يده على رأسه عدة مرات وهو يعتذر إلى تشاك كما يلي: «أعتذر لك بشدة، في الواقع لقد كان منظر هذا السيد وهو خائف مني مشوقا جدا، فأخذت أشاكسه دون وعي مني، أرجو منك يا سيدي أن تسامحني أنت أيضا.»
3
قبل أن أواصل الحديث عن حكايتي فيما بعد ذلك يجب علي أن أشرح بعض المعلومات الموجزة عن حيوانات الكابا، إن الكابا هي حيوانات يشك في وجودها حاليا، ولكنني أنا شخصيا بما أنني عشت بينهم، فما من أدنى شك لدي. حسنا، إن سألنا أي الحيوانات هي، بالتأكيد على رءوسهم شعر قصير، والأيدي والأقدام بها غشاء رقيق بين الأصابع لا خلاف ظاهر عما جاء في كتاب لوجود «دراسات عن نمور الماء»،
2
والطول في حدود متر واحد فقط يزيد قليلا أو ينقص قليلا، والوزن طبقا للطبيب تشاك، من عشرين إلى ثلاثين رطلا، ويقول إنه من النادر العثور على كابا عملاق يصل وزنه إلى خمسين رطلا. ثم في منتصف الرأس هناك صحن بيضاوي، وتزداد صلابة هذا الصحن تدريجيا مع زيادة العمر، وفي الواقع فإن ملمس صحن باغ العجوز يختلف تمام الاختلاف عن صحن تشاك الشاب، ولكن الأمر الأعجب هو بالتأكيد لون بشرة الكابا. إن حيوانات الكابا ليس لها لون محدد مثلنا نحن البشر، ولكن لون بشرتها يتغير ليصبح نفس اللون المحيط بها، مثلا لو كانت موجودة وسط الأعشاب يتغير لونها إلى لون الأعشاب الأخضر، وعندما تكون موجودة فوق الصخور يتغير لونها للون الصخور الرمادي، ولكن هذا بالطبع لا يقتصر على الكابا، ولكن الحرباء أيضا لها نفس الصفة، وربما كان الكابا يمتلك فوق خلايا الجلد شيئا قريبا من الحرباء، وعندما اكتشفت تلك الحقيقة، تذكرت وثائق علم الفولكلور التي تذكر أن الكابا في غربي البلاد خضراء اللون والكابا في شمالي شرقي البلاد حمراء اللون، ليس هذا فقط، ولكنني تذكرت كذلك أنني عندما كنت أطارد باغ كان أحيانا يختفي فجأة عن الأنظار ولا أعلم أين ذهب، بل ويبدو أن الكابا يمتلك دهونا سميكة تحت الجلد، ومع أن درجة حرارة هذه البلاد تحت الأرض منخفضة نسبيا (متوسط درجة الحرارة في العام في حدود 15 درجة مئوية)، إلا أنهم لا يعرفون شيئا عن ارتداء الملابس. وبالتأكيد، يضع الكابا نظارات طبية ويحملون علب سجائر، ويحلمون حافظات نقود، ولكن لأن الكابا له جراب بطني مثل حيوان الكانغر فهم لا يعانون من مشاكل من حمل تلك الأشياء، ولكن الأمر الذي أدهشني أنا، أنهم لا يغطون ما حول الخصر بأي شيء، وفي أحد الأوقات سألت باغ عن سبب هذه العادة، وعندها ظل باغ يضحك بلا توقف وهو يحني ظهره للخلف، علاوة على ذلك قال لي: «إنني أرى أن إخفاءك أنت هو الغريب.»
4
حفظت تدريجيا كلمات الحوار اليومي التي يستخدمها الكابا. وبالتالي بت أفهم عاداتهم وتقاليدهم، وأعجب تلك الطباع الغريبة هي أن الكابا تسخر من الأمور التي نعتقد نحن البشر في جديتها، وفي نفس الوقت تعتقد الكابا بجدية الأمور التي نسخر منها نحن البشر، مثلا العدالة والأخلاق الإنسانية نراها نحن البشر أمور جدية، ولكن عندما يسمع الكابا ذلك يضحك حتى يستلقي على الأرض من شدة الضحك. بمعنى أن معايير الفكاهة لديهم تختلف اختلافا كاملا عن مفهوم الفكاهة لدينا. في مرة من المرات تحدثت مع الطبيب تشاك عن تحديد النسل. وعندها ضحك تشاك بشدة فاغرا فاه حتى سقطت النظارة من على أنفه، ولأنني بالطبع غضبت بشدة فقد سألته عما يضحكه، وأتذكر أن إجابة تشاك كانت على الأغلب كما يلي، ربما اختلفت بعض التفاصيل البسيطة، فعلى أي حال وقتها لم أكن أستطيع فهم لغة الكابا فهما تاما: «من المضحك التفكير في الأمر من موقف الأبوين فقط؛ لأن ذلك في منتهى الأنانية.»
ومقابل ذلك ما من شيء في الواقع أعجب من ولادة الكابا بالنسبة لنا نحن البشر، وعلى أرض الوقع بعد مرور فترة بسيطة ذهبت إلى كوخ باغ لمشاهدة ولادة زوجته. إن أنثى الكابا عندما تلد طفلا مثل البشر تماما، أي إنها تستعين بطبيب توليد وقابلة، ولكن عند وقت الولادة يضع الأب فمه على العضو التناسلي للأم وكأنه يتحدث في الهاتف، ويسأل بصوت عال: «فكر جيدا في الأمر ثم أجب: هل تريد حقا أن تولد في هذا العالم؟» وكما هو متوقع جثا باغ أيضا على ركبتيه وكرر ذلك القول عدة مرات، ثم بعد ذلك تمضمض بالمطهر السائل الموضوع فوق المنضدة، ثم أجاب الطفل الذي داخل بطن الأم الذي بدا متحيرا قليلا بما يلي بصوت منخفض: «إنني لا أريد أن أولد، فأولا جينات مرض الجنون التي يحملها أبي ستكون معاناة شديدة، وعلاوة على ذلك أنا أؤمن أن وجود الكابا ذاته وجود شرير.»
عندما سمع باغ ذلك الرد، حك رأسه خجلا، ولكن القابلة التي كانت حاضرة الموقف، أدخلت على الفور أنبوبا زجاجيا غليظا في مهبل الزوجة وحقنتها بسائل ما، وعندها أطلقت الزوجة زفرة غليظة وكأن قلبها اطمئن، وفي نفس الوقت تقلص بطنها الذي كان منتفخا انتفاخا كبيرا حتى ذلك الوقت مثل بالون نزع منه غاز الهيدروجين.
ولأنه قادر على مثل هذا الرد، فالكابا بمجرد ولادته يستطيع الكلام والمشي فورا، بل لدرجة أنه طبقا لما قاله تشاك فقد ألقى طفل محاضرة عن وجود الإله من عدمه في اليوم السادس والعشرين من ميلاده، ولكن هذا الطفل مات في الشهر الثاني فقط من ولادته.
وبمناسبة أنني تحدثت عن الولادة، دعني أتحدث لك عن ملصق دعائي كبير الحجم رأيته صدفة على قارعة الطريق في الشهر الثالث من مجيئي لهذه البلاد. في أسفل ذلك الملصق الدعائي الكبير رسم كابا عددها بضعة عشر حيوانا، منها من ينفخ في بوق، ومنها من يمسك بسيف، وفوق الرسم صفت حروف ملأت الصفحة من تلك التي يستخدمها الكابا وتشبه بالضبط زنبرك الساعة الحلزوني، وعند ترجمة تلك الحروف الحلزونية، نجد معناها على الأغلب كما يلي، وتلك الترجمة أيضا ربما بها بعض الأخطاء في التفاصيل الدقيقة، ولكنني على أي حال كتبت في مذكرتي كل ما قرأه لي الطالب الذي يدعى لاب الذي كان يمشي معي وقتها:
نجمع ونحشد لقوات الشجاعة الجينية!
أيها الكابا الأصحاء ذكورا وإناثا!
من أجل إبادة الجينات الضارة!
تزوجوا من حيوانات الكابا غير الأصحاء!
وبالطبع تحدثت وقتها إلى لاب عن أن ذلك لا يحدث حاليا. وليس لاب فقط، بل كل من كان بالقرب من الملصق الإعلاني ضحك على قولي ضحكا شديدا. «لا يحدث؟ ولكنني من حديثك اعتقدت أنكم أيضا تفعلون ما نفعل نحن، أليس كذلك؟ تعتقد لأي سبب يعشق الابن الخادمة، وتعشق الابنة السائق، إن كل ذلك يحدث بدون وعي تقريبا من أجل إبادة الجينات الضارة. وأولا ما تحدثت أنت عنه منذ مدة، عن القوات التطوعية عند البشر - قوات التطوع التي تقاتل بعضها بعضا من أجل الاستيلاء على خط سكة حديد - ألا تعتقد أنه مقارنة بمثل تلك القوات المتطوعة فإن قواتنا التطوعية أكثر نبلا ورقيا؟»
كان لاب وهو يقول ذلك بجدية، يحرك بطنه السمين فقط بلا انقطاع على شكل موجات عجيبة، ولكنني لم أضحك، بل كنت أحاول أن أقبض على كابا يمر بجانبي. لأنني انتبهت أن ذلك الكابا يحاول أن يستغل غفلتي ويسرق قلمي الحبر، ولكننا لم نستطع أن نمسك به بسبب سلاسة جلد حيوان الكابا. وبعد أن أفلت ذلك الكابا بين أيدينا هرب في سرعة مهولة، وهو يبدو أنه على وشك السقوط للأمام بجسده النحيل الذي يشبه البعوضة.
5
لقد اعتنى بي لاب ذلك عناية فائقة لا تقل على عناية باغ بي، ولكن ما لا يمكن لي أن أنساه بين ذلك هو تعريفي بالكابا الذي يدعى توك، وتوك هو أحد الأصدقاء الشعراء من الكابا. لا يختلف شعراء الكابا عن شعراء البشر في إطالة شعر رأسهم، وكنت أحيانا أذهب إلى بيت توك للترفيه ودفع ما أحس به من ملل. كان توك يبدو دائما أنه يعيش في راحة بال واستمتاع، يكتب الشعر ويدخن السجائر ويرص أصص نباتات أعالي الجبال في ركن من غرفته الضيقة، ثم في ركن آخر من تلك الغرفة ثمة أنثى كابا (لا يملك توك زوجة لأنه يتبع مذهب الحرية في الحب) تغزل شيئا ما بالكروشيه أو ما شابه. عندما يرى توك وجهي، يقول دائما وهو يبتسم (إن ابتسامة الكابا في الأغلب الأعم ليس لها معنى جيد، أو على الأقل كنت أنا أشعر في البداية بنفور واستياء منها): «أهلا، من الجيد أنك أتيت، تفضل بالجلوس على هذا الكرسي.»
كان توك يتحدث إلي كثيرا عن حياة الكابا وعن فنونها، وطبقا لما يؤمن بها توك، ما من شيء أغبى من حياة الكابا التقليدية الطبيعية، لا يجد الآباء والأبناء والأزواج والزوجات والإخوة والأخوات من متعة يعيشون بها إلا التسبب في معاناة بعضهم البعض. إن غباء هذا النظام الأسري لا يفوقه أي غباء آخر. في أحد الأوقات أشار توك بيده إلى خارج النافذة وقال وكأنه يتقيأ: «انظر! إلى درجة ذلك الغباء!» كان خارج النافذة أنثى كابا شابة تبدو أما تسير بأنفاس متقطعة ويتدلى من عنقها سبعة أو ثمانية من الكابا ذكورا وإناثا، ولكن لأنني تأثرت بروح التضحية لدى الكابا الشاب، فمدحت على العكس تلك الجراءة. «آها، إنك تملك مؤهلا أن تكون مواطنا في هذه الدولة، بالمناسبة هل أنت تؤمن بالمذهب الاشتراكي؟»
أجبت بالطبع
qua (في اللغة التي يستخدمها الكابا تعبر تلك الكلمة عن معنى «هو كذلك»). «إذن يفترض أنك تمانع من التضحية بعبقري واحد من أجل إرضاء مائة شخص عادي.» «وأنت ما المذهب الذي تؤمن به؟ لقد قال أحدهم إن ما يؤمن به توك هي اللاسلطوية ...»
قال توك بفخر: «أنا؟ إنني سوبرمان (الترجمة الحرفية هي سوبركابا).»
3
كان توك هذا يحمل أفكارا ذات طبيعة خاصة جدا فيما يتعلق بالفنون، فطبقا لما يؤمن به، يجب أن يكون الفن غير محكوم بشيء، يجب أن يكون فنا من أجل الفن فقط، وبالتالي يجب على الفنان الحقيقي أن يكون سوبرمان وأن ينقطع عن معايير الخير والشر قبل أي شيء آخر، ولكن ليس هذا بالضرورة رأي توك وحده فقط، ولكن على ما يبدو أن كل أصدقاء توك من الشعراء لهم نفس الرأي، وفعليا لقد زرت عدة مرات مع توك نادي السوبرمان هذا، ويجتمع في نادي السوبرمان الشعراء والروائيون والمسرحيون والنقاد والرسامون والموسيقيون والنحاتون وهواة الفنون ... إلخ، ولكنهم جميعا سوبرمان، وهم يتبادلون الحوارات الصاخبة في صالون منار بمصابيح كهربائية شديدة الإنارة. ليس هذا فقط، بل كانوا أحيانا ما يتبادلون إظهار قدراتهم الفائقة تلك أمام بعضهم البعض بفخر. على سبيل المثال أحد النحاتين أمسك كابا شابا بين أصص نبات السرخس الشيطانية الكبيرة يمارس معه الحب الذكري. وأيضا روائية من إناث الكابا صعدت فوق المنضدة وعلى الفور أظهرت قدرتها على شرب ستين زجاجة من مشروب الأفسنتين الكحولي، وبعد أن شربت الزجاجة الستين سقطت تحت المنضدة ميتة.
في ليلة قمرية رائعة، رجعت من نادي السوبرمان مع توك ونحن نشبك مرفقينا معا. كان توك مكتئبا على غير العادة فلم ينبس ببنت شفة، وأثناء ذلك مررنا من أمام نافذة صغيرة تشع منها ظلال الإضاءة، وداخل تلك النافذة كان زوجان من الكابا وثلاثة أطفال يحيطون بمائدة وجبة العشاء، وعندها تنهد توك تنهيدة أسى وتحدث إلي فجأة بما يلي: «أنا أعتقد أنني سوبرمان في الحب، ولكنني مع ذلك كلما رأيت مثل هذا المنظر العائلي أشعر بالغيرة.» «ولكن مهما فكرنا في ذلك ألا تراه تناقضا؟»
ولكن ظل توك تحت ضوء القمر يراقب مائدة عشاء تلك الأسرة والكابا الخمسة الهانئين في سلام على الجهة الأخرى من النافذة الصغيرة، ثم أجاب كما يلي بعد فترة: «لأن البيض المقلي الموجود فوق تلك المائدة صحي أكثر من الحب.»
6
في الواقع، إن الحب عند الكابا يختلف تماما عن الحب عندنا نحن البشر، فمجرد أن ترى أنثى الكابا ذكرا يروق لها تسرع في الإمساك به دون أي اعتبار للوسيلة في سبيل ذلك، والكابا الأكثر صراحة من الإناث هي من تلاحق ذلك الذكر بلا هوادة، ولقد رأيت فعليا أنثى كابا تلاحق ذكرا كالمجنونة. كلا ليس هذا فقط، فبالتأكيد تفعل الأنثى الشابة ذلك ولكن يلاحق الذكر معها أيضا والداها وإخوانها. إن ذكر الكابا فعلا هو البائس حقا. أجل ففي نهاية اللف والدوران هنا وهناك محاولا الهروب، وحتى لو لم تكتشفه، يرقد بعد ذلك مريضا في فراشه لمدة شهرين أو ثلاثة. في أحد الأوقات، كنت أقرأ ديوان شعر من تأليف توك، وعندها أسرع بالمجيء الطالب لاب، وبعد أن اقتحم لاب بيتي سقط على الأرض، وقال وأنفاسه متقطعة ما يلي: «مصيبة! لقد ألحقت بي أخيرا!»
ألقيت بديوان الشعر على الفور، وذهبت لأغلق باب البيت بالقفل، ولكنني تلصصت من ثقب المفتاح فرأيت أنثى كابا قصيرة القامة لطخت وجهها بمسحوق الكبريت ما زالت تحوم حول الباب. ظل لاب منذ ذلك اليوم يبيت في فراشي لعدة أسابيع. ليس هذا فقط، بل لقد تعفن منقار لاب تماما وسقط.
وبالطبع لا يعني ذلك عدم وجود ذكر كابا يلاحق أنثى كابا بكل ما لديه من جهد، ولكن في الحقيقة هذا من أعمال أنثى الكابا التي تجعله لا يحتمل إلا أن يطاردها، ولقد رأيت ذكور الكابا يلاحقون إناث الكابا كالمجانين، وفي أثناء هروب الأنثى، أحيانا ما تتعمد أن تقف أو تزحف على أربع. علاوة على ذلك أنها تجعله يمسك بها بسهولة فجأة وكأنها يئست من الفرار. ذكر الكابا الذي رأيته بمجرد أن حضن أنثى الكابا ظل لبعض الوقت راقدا في مكانه، ولكن، عندما قام واقفا أخيرا، كانت ملامحه لا يمكن وصفها أهي ملامح ندم أم ملامح خيبة أمل، في كل الأحوال، كان وجهه يثير الشفقة، ولكن ما زال ذلك أفضل في أي حال. فقد رأيت ذكر كابا، يلاحق أنثى كابا. كانت الأنثى كما هي العادة تهرب منه بالجري جريا أكثر إثارة وإغراء، وعندها جاء من الجهة الأخرى ذكر كابا كبير الحجم وهو يصفر بمنخاره، ولسبب مجهول عندما رأت أثنى الكابا ذلك الذكر صرخت بصوت حاد قائلة له: «النجدة! أرجوك أنقذني! فهذا الكابا يريد قتلي!»
وبالطبع أمسك ذكر الكابا الضخم على الفور بالكابا الصغير وألقى به في عرض الشارع. حاول الكابا الصغير عدة مرات أن يمسك الهواء بيده ذات الأغشية التي بين الأصابع، ولكنه في النهاية لفظ أنفاسه الأخيرة ومات، ولكن وقتها أنثى الكابا تلك ابتسمت ابتسامة عريضة وطوقت عنق ذكر الكابا الضخم الجثة بذراعيها والتصقت به.
إن كل من أعرفهم من ذكور الكابا أجمعوا على قول واحد أنهم لوحقوا من إناث الكابا، وبالتأكيد حتى باغ الذي لديه زوجة وأطفال لوحق. ليس هذا فقط، بل وأمسك به أكثر من مرة، ولكن الفيلسوف ماغ (إنه ذلك الكابا الذي يسكن بجوار الشاعر توك) فقط هو الوحيد الذي لم يمسك به قط، وعلى الأرجح أن سبب ذلك أن عدد الكابا الدميمين دمامة ماغ قليل بالتأكيد، وسبب آخر أن ماغ قليل ما يظهر وجهه في الطرقات العامة، بل هو يظل داخل بيته على الدوام. لقد كنت أزور بيت ماغ هذا أيضا من حين لآخر للتحدث معه. كان ماغ دائما يضيء البيت المعتم بقنديل زجاجي بسبعة ألوان، ويقرأ دائما في كتب ضخمة على مكتب أقدامه عالية، وفي أحد المرات تحاورت معه عن حب حيوانات الكابا. «لم لا تقبض هذه الدولة بحزم وصرامة أكثر على إناث الكابا اللائي يطاردن الذكور؟» «السبب أن عدد موظفي الدولة الإناث قليل؛ لأن مشاعر الغيرة لدى إناث الكابا أقوى بكثير منها لدى الذكور، بمجرد زيادة عدد موظفي الدولة من الإناث فمن المؤكد أنهن سيعيشون حياة أفضل من الآن دون الاضطرار إلى مطاردة الذكور، ولكن فاعلية ذلك غير معروفة. جرب أن تسأل عن السبب؛ لأن الإناث تطارد الذكور حتى بين موظفي الدولة.» «وبهذا تكون الحياة على طريقتك أنت هي أفضل وسيلة للعيش في سعادة، أليس كذلك؟»
وعندها ابتعدت ماغ عن مقعده، ثم قال ما يلي وهو يتنهد ويشبك يديه ببعضهما البعض: «من المنطقي أنك لا تفهم لأنك لست كابا مثلنا، ولكن لسبب أو لآخر حتى أنا، أشعر بالرغبة الشديدة في أن تطاردني إناث الكابا تلك المطاردة المرعبة.»
7
وكنت أذهب من وقت لآخر إلى الحفلات الموسيقية مع الشاعر توك، ولكن ما لا يمكن أن أنساه حتى الآن هي ثالث مرة ذهبت فيها لسماع حفل موسيقي. كان المنظر العام لقاعة الموسيقى لا يختلف كثيرا عن اليابان. يجلس ثلاثمائة أو أربعمائة من ذكور وإناث الكابا على المقاعد المدرجة من أسفل لأعلى وكل منهم يمسك في يده بجدول البرنامج ويميل بإذنه للموسيقى. في المرة الثالثة تلك لذهابي إلى الحفل الموسيقى ، كان معي توك وفتاته والفيلسوف ماغ، نجلس في مقدمة الصفوف، ثم بعد أن انتهى العزف المنفرد للتشيللو، صعد على المسرح كابا بعيون رفيعة مريبة يحمل بعشوائية نوتة موسيقية. وطبقا لما يذكره جدول البرنامج فهذا الكابا هو المؤلف الموسيقي الشهير كراباك، وكما يذكر البرنامج ... كلا، لا داعي للنظر إلى البرنامج. فلأن كراباك أيضا عضو في نادي السوبرمان الذي ينتمي إليه توك، فقد كنت أنا أيضا أعرف وجهه.
Lied-Craback (كان جدول برنامج هذه الدولة أيضا تتراص فيه الحروف الألمانية جنبا إلى جنب).
بعد أن انحنى كراباك تجاهنا لتحيتنا وسط عاصفة من التصفيق، سار بهدوء تجاه البيانو، ثم بدأ بعد ذلك يعزف بعشوائية ليدة من تأليفه، وطبقا لكلمات توك فإن كراباك هو العبقرية الموسيقية التي أنجبتها هذه البلاد ولا يقارن بمن جاء قبله ولا بمن سيأتي بعده، ولأنني كنت مهتما بكراباك بالطبع ومهتما كذلك بالشعر الغنائي الذي يقرض على سبيل الهواية وليس الاحتراف، فكنت أميل بأذني بحماس شديد لأسمع الصوت الصادر من البيانو المقوس العملاق، وعلى الأرجح أن توك وماغ كانا في حالة من النشوة فاقتني كثيرا، ولكن تلك الكابا الأنثى الجميلة (على الأقل هذا بناء على أقوال حيوانات الكابا) فقط كانت تقبض على جدول البرنامج وتخرج لسانها من حين لآخر بملل وضجر، وطبقا لما قاله ماغ عن ذلك، فلقد حاولت قبل عشر سنوات الإمساك بكراباك ولكنه أفلت منها، ولذلك فهي تعد هذا الموسيقار عدوها اللدود حتى الآن. استمر كراباك في العزف على البيانو بكل شغف في جميع أعضاء جسده وكأنه في حرب وقتال، وفجأة انطلقت صرخة كالصاعقة النارية في وسط القاعة تقول: «هذ الحفل ممنوع!» حدثت لي صدمة من ذلك الصوت، ونظرت للخلف لا إراديا. كان صاحب الصوت بلا أدنى شك هو شرطي الدورية طويل القامة القابع في آخر صف، كان الشرطي عندما التفت أنا للخلف، يجلس في هدوء، ويصيح مرة ثانية بصوت أعلى من السابق: «هذ الحفل ممنوع!» ثم بعد ذلك ...
ثم بعد ذلك وقعت فوضى كبرى في القاعة . انطلقت صرخات من كل اتجاه في القاعة «إنه استبداد من الشرطة!» «اعزف يا كراباك! اعزف! اعزف!» «شرطي أحمق!» «اللعنة!» «انسحب!» «لا تيئس!» ... ثم في وسط فوران تلك الأصوات سقطت المقاعد، وتطايرت كتيبات البرنامج، بل وصل الأمر إلى هطول زجاجات صودا فارغة وبعض الحصى وقطع من خيار مقضوم كالأمطار ولا يعلم من يقذفها، ولقد ذهلت من الوضع فسألت توك عن أسباب ذلك، لكن بدا أن توك في ثورة هياج ظل يصرخ وهو يقف فوق كرسيه: «اعزف! اعزف! يا كراباك!»
ليس هذا فقط، بل لدرجة أن فتاة توك نسيت في غفلة من الزمن مشاعر العداء فأخذت تصرخ: «يسقط طغيان الشرطة!» بحماس لا يختلف عن توك بأي حال، ولم أجد مفرا من التوجه إلى ماغ بسؤال: «ما الذي حدث؟» «أتقصد هذه الفوضى؟ يحدث هذا كثيرا في هذه البلاد، ففي الأصل اللوحات والفنون ... إلخ.»
شرح لي ماغ بهدوئه المعتاد وهو يقلص عنقه قليلا كلما طار فوقنا شيء مما يقذفه الجمهور الغاضب. «في الأصل اللوحات والفنون ... إلخ، يفترض أن معناها واضح لكل ذي عينين يراها، فلا يمنع البيع ولا يمنع العرض في هذه البلاد، وبديلا عن ذلك تمنع حفلات الموسيقى، والسبب بأي حال أن الموسيقى فقط مهما كان اللحن مفسدا للذوق العام، لا تفهمها حيوانات الكابا التي لا تملك آذانا.» «ولكن هل لذلك الشرطي آذان؟» «هذا أمر مشكوك فيه، ربما يكون أثناء سماعه لتلك الأنغام الآن تذكر فجأة نبض قلبه وهو نائم مع زوجته.»
وحتى أثناء هذا الشرح كانت الفوضى مستمرة ووصلت إلى ذروتها، التفت كراباك ناحيتنا بتعال وهو جالس أمام البيانو كما هو، ولكن مهما كانت درجة تعاليه، كان لا بد أن يتفادى العديد من الأشياء التي تتطاير نحوه، وبالتالي اضطر إلى تغيير وضعية جسمه الصارمة كل ثانيتين أو ثلاث ثوان، ولكنه بأي حال ظل محافظا على هيبة وجلال الموسيقار العظيم، وظلت عيناه الرفيعتان تتألقان تألقا مهولا. أما أنا - فكنت أنا بالطبع أتخذ من توك درعا واقية لي من المخاطر - فكان الفضول يلتهمني فظللت أتحدث مع ماغ بمنتهى الحماس. «أليست هذه الرقابة الحكومية وحشية واعتداء على الحريات؟» «ماذا! إنها على العكس أكثر تقدما ورقيا من الرقابة في أي دولة أخرى. انظر مثلا إلى
xx . ففي الواقع أنه منذ شهر واحد فقط ...»
لحظة أن نطق بذلك، للأسف سقطت زجاجة فارغة فوق رأسه فصرخ صرخة واحدة
quack (وهي مجرد حرف تعجب فقط مثل وي) ثم فقد وعيه.
8
العجيب أنني كنت أحمل إعجابا بغيل مالك شركة صناعة الزجاج، إن غيل رأسمالي أكثر من الرأسماليين، وعلى الأرجح أنه ما من كابا له كرش ضخم مثل غيل بين حيوانات الكابا في هذه البلاد، لا شك في ذلك، ومنظره وهو يجلس على الكرسي المريح وعلى جانبيه زوجته التي تشبه نبات الكراث العريض، وطفله الذي يشبه الخيار، هو المثال الحقيقي للغنى والرفاهية. من حين لآخر كان القاضي بيب والطبيب تشاك يصحبانني ونذهب لحفل عشاء في بيت غيل، وكذلك ذهبت في زيارات لمصانع عديدة لها علاقة إلى حد ما بغيل وزوجته وأنا أحمل خطابات توصية منهما، ومن بين تلك المصانع العديدة كان أكثر الزيارات إمتاعا هي زيارة مصنع لشركة تعمل في إنتاج وطباعة الكتب. دخلت المصنع مع مهندس كابا شاب، وعندما تأملت تلك الآلات الضخمة التي تعمل بالطاقة الهيدروكهربائية، ازداد عجبي مجددا من التقدم المهول لصناعة الآلات في بلاد الكابا تلك، فكما سمعت ينتج ذلك المصنع سبعة ملايين نسخة في العام، ولكن لم تكن دهشتي من عدد النسخ المنتجة، بل لأن إنتاج مثل هذا العدد من الكتب لا يكلفهم جهدا ولو قليلا، فعلى أي حال إنتاج الكتب في هذه الدولة لا يتطلب إلا وضع ورق وحبر ومسحوق رمادي فقط في فوهة آلة تصنيع الكتب التي على شكل قمع. تدخل تلك المواد الأولية الآلة ثم قبل أن تمر خمس دقائق تقريبا تخرج أعدادا لا نهاية لها من الكتب بأحجام كبيرة ومتوسطة وصغيرة. وأنا أتأمل أنواعا مختلفة من الكتب تتوالى الاندفاع ساقطة أمامي مثل الشلال، جربت أن أسأل المهندس الشاب الذي التوى ظهره للخلف عن ماهية المسحوق الرمادي المستخدم ، فأجاب المهندس وهو يقف ثابتا أمام الآلة بنبرة متململة قائلا: «تقصد هذه؟ هذه أمخاخ الحمير. أجل، تجفف مرة ثم تسحق سريعا. هذا كل ما في الأمر، وسعر الطن منها بسنين أو ثلاث سنات ...»
4
بالطبع تلك المعجزة الصناعية ليست قاصرة على شركات صناعة الكتب فقط، بل كذلك شركات صناعة اللوحات، وشركات صناعة الموسيقى يحدث فيها نفس الأمر، بل وفي الواقع وطبقا لحديث غيل، إن هذه البلاد يخترع فيها من 700 إلى 800 آلة في المتوسط كل شهر، وكل المنتجات تنتج بكميات ضخمة دون انتظار ليد عاملة كثيرة، وبالتالي عدد من يفصل من العمل من العمال لا يقل عن أربعين أو خمسين ألفا من حيوانات الكابا، ومع ذلك ومع قراءة الجرائد كل يوم في هذه الدولة، لن تجد حرفا من كلمة إضرابات عمالية، وأنا مع تفكيري أن ذلك أمر غريب، قررت أن أنتهز فرصة زياراتي القادمة لحضور حفل في بيت غيل مع بيب وتشاك أن أسألهم عن سبب ذلك. «لأن الجميع يؤكل».
قال غيل ذلك ببساطة بعد الطعام، وهو يضع في فمه السيجار، ولكنني لم أفهم ماذا يعني بكلمة «الجميع يؤكل» تلك، ويبدو أن تشاك بنظارته التي على أنفه قد لاحظ ارتيابي، فتبرع من جانبه بشرح إضافي: «إن هؤلاء العمال يتم ذبحهم جميعا وتستخدم لحومهم في صناعة المواد الغذائية. انظر إلى هذه الجريدة، في هذا الشهر فصل بالضبط 64769 عاملا من وظيفته، ولذلك انخفضت أسعار اللحوم بدرجة مهولة.» «وهل يذبح العمال ويقتلون وهم صامتون؟» «لا حيلة لهم في الأمر حتى إن ثاروا، فثمة قانون قتل العمال وذبحهم.»
كانت هذه كلمات بيب التي قالها بوجه مرير وهو يجلس وخلفه أصيص الخوخ الجبلي. بالطبع أحسست بمشاعر كريهة، ولكن كان غيل بطل القصة، وبالتأكيد بيب وتشاك يفكران أن ذلك طبيعي، وفي الواقع تحدث إلي تشاك ضاحكا وكأنه سخر من الأمر: «بمعنى
لوقت قليل، لذلك لا يشعرون بآلام كبيرة.» «ولكن أكل ذلك اللحم ...» «لا تمزح ! لو سمعك ماغ فسوف يضحك ملء شدقيه، أليس في بلادك تتحول بنات الطبقة الرابعة
5
إلى عاهرات؟ إن الغضب من أكل لحوم العمال يعد عاطفية منك!»
عرض علي غيل الذي كان يسمع هذا الحوار بيننا صحنا عليه سندويشات قريبا منه وهو يقول: «ما رأيك، ألا تتناول واحدا؟ فهذا أيضا مصنوع من لحوم العمال!»
وبالتأكيد جفلت من ذلك، كلا ليس هذا فقط، بل لقد هربت من غرفة الضيوف في بيت غيل وأنا أسمع خلفي ضحكات كل من بيب وتشاك. صادف أن تلك الليلة كانت ذات طقس ملبد بالغيوم لا يرى في سمائها التي فوق البيوت ضوء النجوم، وأنا عائد إلى مسكني وسط ذلك الظلام الحالك، تقيأت ما في بطني بلا توقف، قيئا ينساب أبيض في ظلام الليل.
9
ولكن مما لا شك فيه أن غيل رئيس شركة الزجاج كان لطيفا في تعامله مع الآخرين. كنت أحيانا أذهب مع غيل إلى النادي الذي ينتمي إليه، وأقضي ليلة ممتعة، والسبب أن ذلك النادي كان بالنسبة لي مريحا نفسيا أكثر بكثير من نادي السوبرمان الذي ينتمي له توك. ليس هذا فقط فحتى إن لم يكن لحديث غيل نفس عمق كلام الفيلسوف ماغ، ولكنه بالنسبة لي فتح عيني على عالم جديد بالكامل وجعلني أختلس النظر إلى عالم رحب. لقد تحدث غيل إلي بأحاديث متنوعة بحيوية ونشاط وهو يقلب كوب قهوته بملعقة من الذهب الخالص.
كانت ليلة ذات ضباب كثيف وكنت أسمع حديث غيل وسط مزهريات ملئت بورد الشتاء، وأتذكر - إن كان ما أتذكره صحيحا - أن الغرفة بأكملها كانت على الطراز الألماني وأن المقاعد والمنضدة فوق أنها ناصعة البياض فهي مذهبة بقشرة ذهبية رقيقة. تحدث غيل عن حكومة حزب
xQuora
الذي كان في ذلك الوقت بالضبط قد سيطر على الحكم وابتسامة فخر عريضة تفيض من محياه أكثر من المعتاد، وكلمة كوراكس مجرد كلمة تعجب فيمكن ترجمتها إلى «وي» مثلا، ولكن في كل الأحوال هو حزب شعاره المناداة «لفائدة جنس الكابا كله» أكثر من أي أمر آخر. «إن من يحكم حزب كوراكس هو السياسي الشهير روب، إن بسمارك يقول: «الصدق هو أفضل سياسة خارجية.» أليس كذلك؟ ولكن روب يصل بالصدق حتى إلى السياسة الداخلية ...» «ولكن ماذا عن خطب روب السياسية؟» «اسمع ما أقول، بالتأكيد كل ما في خطبه كذب صراح، ولكن لأن الجميع يعرف أنها كذب ففي النهاية هي والصدق سواء، أليس كذلك؟ إن إصراركم على أنها كذب كلها يعد تحيزا منكم أنتم فقط. إننا نحن الكابا مثلكم أنتم ... ولكن لا أهمية من هذا الكلام. ما أريد التحدث عنه هو روب. يتحكم روب في حزب كوراكس، ومن يتحكم في روب هو كويكوي مالك جريدة
(كلمة «بوفو» تلك هي أيضا حرف تعجب. وإن كان لا بد من ترجمتها فلن أجد ترجمة لها إلا «آها» فقط)، ولكن حتى كويكوي نفسه لا يملك أمره، فمن يملك كويكوي هو غيل هذا الذي أمامك.» «ولكن، وربما كان ذلك قولا وقحا، ولكن ألا تساند جريدة بوفو وجهة نظر العمال؟ ولكن أن يكون مالكها كويكوي تحت سيطرتك ...» «بالتأكيد صحفيو «بوفو» في جانب العمال، ولكن كويكوي هو المسيطر على الصحفيين، ولا يستغني كويكوي عن دعم غيل.»
كان غيل مبتسما بلا تغيير، وقد اتخذ من ملعقة الذهب الخالص ألعوبة في يده، وعندما نظرت إلى غيل هذا، أكثر من حقدي على غيل نفسه، شعرت بالتعاطف مع صحفيي جريدة بوفو المساكين، ويبدو أن غيل قد أدرك شعور التعاطف هذا على الفور، فقال ما يلي وهو ينفخ كرشه الضخم أكثر وأكثر: «ماذا! إن صحفيي بوفو ليسوا جميعا يساندون العمال. على الأقل إننا نحن حيوانات الكابا، قبل أن يساند المرء منا شخصا آخر، فهو يساند نفسه أولا ... ولكن الأمر الأكثر تعقيدا هو حتى غيل هذا يتحكم فيه شخص آخر. من هذا الشخص في رأيك؟ إنها زوجتي السيدة غيل الجميلة.»
ثم ضحك غيل بصوت عال. «على العكس هذا يعني أنك سعيد.» «على أي حال أنا راض، ولكن أمامك أنت فقط - أنت لأنك لست كابا - أستطيع التذمر بحرية هكذا.» «وهذا يعني أن حكومة كوراكس تسيطر عليها السيدة غيل ، أليس كذلك؟» «حسنا، هذا ما يشاع أيضا ... ولكن في الحرب التي وقعت قبل سبع سنوات، لا شك أن الحرب بدأت بسبب إحدى إناث الكابا على ما أتذكر». «حرب؟ هل وقعت حروب في هذه البلاد؟» «بالطبع وقعت، ومن يدري متى تقع كذلك في المستقبل! طالما ظلت البلاد المجاورة موجودة ...»
وفي الواقع لقد عرفت في ذلك الوقت لأول مرة، أن بلاد الكابا ليست دولة منعزلة وحيدة، فبناء على شرح غيل، فالكابا يعدون القضاعة عدوهم الدائم، بل والقضاعة تلك لديها استعدادات عسكرية لا تقل عن استعدادات الكابا، ولقد أحسست باهتمام بالغ بالحديث عن حروب الكابا ضد القضاعة (فمهما قلنا إن وجود أعداء أقوياء مثل القضاعة لحيوانات الكابا هي حقيقة جديدة لم يعلمها مؤلف كتاب «دراسة عن نمور الماء» بالطبع ولا حتى مؤلف كتاب «الحكايات الشعبية للجبال والجزر» السيد كونيو ياناغيتا). «قبل وقوع تلك الحرب كانت الدولتان بالطبع تراقب كل منهما الأخرى بدون أي تهاون، والسبب أن كل دولة كانت خائفة من الأخرى بنفس الدرجة، وعندها كان حيوان قضاعة مقيم في هذه البلاد في زيارة لزوج وزوجة من حيوانات الكابا. وكانت أنثى الكابا تلك تنوي قتل زوجها، والسبب أن زوجها كان زوجا لعوبا، وعلاوة على ذلك ربما كان وجود بوليصة تأمين على حياته سببا في إغوائها أكثر لفعل ذلك.» «هل تعرف الزوجين؟» «أه، ... كلا، كنت أعرف الكابا الذكر فقط، وزوجتي تقول عنه إنه يشبه الأشرار، ولكن إن سمح لي بالقول، فقد كان على العكس مجنونا ذا عقدة اضطهاد نابعة من خوفه من أن يمسك من إناث الكابا أكثر منه شريرا ... عندها وضعت أنثى الكابا تلك لزوجها سيانيد البوتاسيوم في كوب الكاكاو، ولا يدري أحد كيف فعلت ذلك الخطأ، فلقد جعلت ذكر القضاعة الضيف هو الذي يشربه، وبالطبع مات ذكر القضاعة. ثم ...» «ثم وقعت الحرب على إثر ذلك؟» «أجل، لسوء الحظ أن ذكر القضاعة ذلك كان يحمل نوطا من الدولة.» «ومن الذي انتصر في الحرب؟» «بالتأكيد بلادنا التي انتصرت، ومن أجل ذلك استشهد في الحرب ببسالة 369500 فرد من الكابا، ولكن مقارنة بالعدو، لا يمثل ذلك خسارة كبرى. إن كل أنواع الفراء التي في هذا البلاد هو فراء القضاعة، وأنا أيضا وقت تلك الحرب بالإضافة إلى صناعة الزجاج كنت أرسل إلى الحرب رماد الفحم.» «وفيم يستخدم رماد الفحم؟» «بالطبع يستخدم غذاء للكابا.» «لأننا نحن الكابا نأكل أي شيء وقت الجوع.» «معنى ذلك، وأرجوك لا تغضب، ولكن لحيوانات الكابا في أرض القتال ... هذا نسميه نحن في بلادنا فضيحة.» «ولا خلاف أيضا أن ذلك فضيحة في هذه البلاد. ولكنني شخصيا إن قلت ذلك لن يعدها أحد فضيحة، فحتى الفيلسوف ماغ يقول: «اعترف بلسانك بكل شرورك، وعندها تنمحي كلها» ... ولكنني بالإضافة إلى الحرص على مصالحي كنت مشتعلا بالوطنية أيضا.»
وفي تلك اللحظة بالضبط دخل النادل التابع للنادي. انحنى النادل إلى غيل ثم قال ما يلي وكأنه يقرأ من كتاب: «حريق ... إنه حريق!»
اندهش غيل ووقف قفزا من على مقعده. بالتأكيد وقفت أنا أيضا، ولكن كان النادل هادئا للغاية وأتبع كلامه: «لقد تم إطفاؤه بالفعل.»
كانت ملامح غيل قريبة من الضحك الباكي وهو ينظر إلى النادل مودعا، وعندما رأيت ذلك الوجه، أدركت أنني أصبحت في غفلة من الزمن أكره صاحب مصنع الزجاج هذا بشدة، ولكن كان غيل يقف أمامي كحيوان كابا لا حول له ولا قوة ولا يظهر أنه رأسمالي فاحش الثراء. أخذت زهرة ورد الشتاء من المزهرية وأعطيتها له قائلا: «ولكن حتى
إليها.» «أشكرك.»
قبض غيل على يدي للسلام، ثم ابتسم فجأة ابتسامة خبيثة، وقال لي بصوت منخفض:
ما زلت حتى هذه اللحظة أتذكر ابتسامة غيل وقتها تلك ... الابتسامة التي لا أستطيع أن أحتقرها ولا أستطيع أن أكرهها.
10 «ماذا حدث؟ إنك اليوم في حالة اكتئاب مريبة، أليس كذلك؟»
في اليوم التالي لذلك الحريق قلت ذلك للطالب لاب الجالس في غرفة الضيوف ببيتي وأنا أضع السيجارة على فمي. كان لاب في الواقع يضع ساقه اليسرى فوق ساقه اليمنى، وينظر بشرود إلى الأرض لدرجة لا يظهر فيها منقاره المتعفن. «ما رأيك يا لاب لو تقل لي ماذا حدث؟» «لا عليك، فهو أمر ممل ...»
أخيرا رفع لاب رأسه وأخرج من منخاره صوتا حزينا، وقال: «اليوم وأنا أنظر من النافذة همست بلامبالاة قائلا: «تفتح البنفسج قاتل الحشرات.» وعندها شحب وجه أختي الصغرى فجأة، وتعاركت معي قائلة: «أجل في كل الأحوال أنا بنفسج قاتل حشرات.» علاوة على ذلك قامت أمي أيضا بالهجوم علي لأنها أكبر محاب لأختي.» «ولماذا غضبت أختك من كلمة تفتح بنفسج قاتل الحشرات؟» «لا أدري، ربما أنها أخذت معناها على أنه الإمساك بذكور الكابا. وهنا تدخلت خالتي التي على علاقة سيئة مع أمي ولذا أصبح الأمر جلبة كبرى، بل وسمع أبي - الذي يظل سكران طوال العام - العراك فبدأ يضرب ويلكم الجميع دون تمييز، ومع أن هذه لوحدها مشكلة لا نهاية لها، إلا أن أخي الأصغر في غضون ذلك سرق حافظة نقود أمي، وذهب لمشاهدة السينما. وأنا ... أنا لم أعد أطيق ...»
دفن لاب وجهه بين كفيه، وتوقف عن الكلام وأخذ يبكي. وبالتأكيد تعاطفت معه، وفي نفس الوقت، تذكرت بالتأكيد احتقار الشاعر توك للنظام الأسري. خبطت على كتف لاب وواسيته بكل ما لدي من جهد. «إن هذا يحدث في جميع الأسر، أرجو منك أن تظهر بسالة وشجاعة لمواجهة الموقف.» «ولكن ... إن لم يكن منقاري قد تعفن ...» «ما باليد الحيلة إلا الاستسلام لذلك الأمر. حسنا، دعنا نذهب معا إلى بيت توك». «إن توك يحتقرني؛ لأنني لا أستطيع أن أتخلى عن الأسرة بجراءة مثله.» «إذن لنذهب إلى بيت كراباك.»
وقد بت بعد حفل الموسيقى إياه صديقا لكراباك أيضا، فقررت أن أصحب لاب إلى بيت ذلك الموسيقار العظيم. كان كراباك يعيش في رفاهية من العيش مقارنة بتوك، ولكن لا يعني هذا أنه يعيش مثل الرأسمالي غيل، ولكن يمتلئ البيت بالعديد من التحف الأثرية، تتراص في أرجاء الغرفة تماثيل تناغرا وخزف فارسي وأرائك تركية الطراز، ودائما يلعب أطفاله تحت صورة بورتريه لكراباك نفسه، ولكنه كان اليوم لسبب مجهول يجلس شابكا ذراعيه حول صدره بملامح وجه كئيبة. ليس هذا فقط بل تناثرت قمامات كثيرة من الأوراق تحت أقدامه. يفترض أن لاب التقى كراباك عدة مرات مع توك، ولكنه يبدو أنه خاف من حالته تلك، وانحنى له اليوم بأدب بالغ، وجلس في ركن الغرفة صامتا.
سألت الموسيقار العظيم على سبيل التحية: «ماذا حدث يا كراباك؟» «ما الذي حدث؟ هذا الناقد الأحمق! يقول إن أشعاري الغنائية لا يمكن مقارنتها بأشعار توك.» «ولكنك موسيقار ...» «إن هذا فقط ما قاله لكنت أستطيع الصبر، ولكنه أضاف أنني لا قيمة لي كموسيقار مقارنة بلوك.»
كان لوك موسيقارا غالبا ما يقارن بكراباك، ولكن للأسف لأنه لم يكن عضوا في نادي السوبرمان، لم يسبق لي التحدث معه ولو لمرة واحدة، ولكنني كنت فقط أرى أحيانا وجهه الذي يحمل طبيعة خاصة بمنقاره الملوي لأعلى في صور له. «لا شك أن لوك أيضا عبقري، ولكن موسيقى لوك ليست مثل موسيقاك التي يفيض منها الحماس والشغف الحديث.» «هل أنت ترى ذلك حقا؟» «بالتأكيد هذا ما أعتقده.»
فقبض كراباك بيده على تماثيل تناغرا وألقى بها على الأرض محطما إياها، وبدا أن لاب دهش بشدة فصرخ صرخة مجهولة وحاول القفز هاربا من البيت، ولكن أشار كراباك له ولي بيده بما معناه «لا تندهشا»، ثم بدأ يتحدث ببرود وهدوء: «ذلك
«أنت؟ أرجوك لا تتظاهر بالتواضع!» «ومن الذي يتظاهر بالتواضع؟ فأولا إن كنت بدرجة التظاهر أمامكم أنتم، لكنت تظاهرت أمام النقاد، إنني كراباك العبقري. في هذه النقطة لا أخشى لوك.» «ماذا تخشى إذن؟» «أخشى شيئا مجهول المحتوى ... أي إنني أخشى النجم الذي يسيطر على لوك.» «إنني لا أفهم على وجه الدقة.» «إذن هل تفهم إن قلت كما يلي: إن لوك لا يتأثر بي، ولكنني في غفلة من الزمن أصبحت أتأثر بلوك؟» «إن حساسيتك العاطفية ...» «انتظر واسمعني ! ليس الأمر شأن حساسية عاطفية، إن لوك مطمئن أنه ينجز عملا لا يستطيع إنجازه سواه، ولكنني أصاب بالانفعال، وهذا بالنسبة إلى لوك مجرد بعد بمقدار خطوة واحدة فقط، ولكنه بالنسبة لي عشرة أميال من البعد.» «ولكن موسيقاك البطولية ...»
ضيق كراباك من حدقة عينيه ورمق لاب بنظرات حادة مؤلمة. «اصمت! ما الذي يفهمه شخص مثلك؟! إنني أعرف لوك. إنني أعرف لوك أكثر من الكلاب التي تنبطح أرضا وتطلب السماح من لوك.» «حسنا، حاول أن تهدأ!» «دائما أفكر: ... آه لو كنت قادرا على التزام الهدوء، إنني أعلم جيدا أن الفيلسوف ماغ يقول: «إن شيئا لا نعرفه وضع لوك أمام كراباك من أجل السخرية منه.» مع أنه لا يفعل إلا قراءة الكتب العتيقة دائما تحت قنديل بسبعة ألوان.» «لماذا؟» «انظر إلى كتاب «كلمات الأحمق» الذي ألفه ماغ مؤخرا ...»
ثم أعطاني كراباك أحد الكتب ... بل الأصح القول إنه قذف به إلي، ثم بعد ذلك رجع يشبك ذراعيه على صدره، وقال بعنف: «حسنا يكفي هذا اليوم.»
وقررت أن أخرج للشارع مرة أخرى مع لاب الذي كان في كآبة شديدة. تراصت المحلات على جانبي الطريق تحت ظلال أشجار الزان في الشارع الذي كثر فيه المارة كالمعتاد. كنا نمشي صامتين بدون هدف، وعندها مر أمامنا الشاعر توك بشعره الطويل، وعندما رآنا توك، أخرج من جراب بطنه منديلا ومسح جبهته عدة مرات. «أهلا، لم نتقابل منذ مدة، لقد كنت ذاهبا لزيارة كراباك بعد فترة غياب ...»
وفكرت أن تركهما يتعاركان معا أمر غير حميد، فتحدثت إلى توك بطريقة غير مباشرة عن مدى سوء حالة كراباك المزاجية. «حقا. إذن ما من ضرورة لزيارته، فكراباك على أي حال مصاب بالوهن العصبي ... وأنا أيضا في حالة سيئة لأنني لا أستطيع النوم منذ أسبوعين أو ثلاثة أسابيع.» «ما رأيك في التنزه معنا؟» «كلا، اعفني اليوم، عجبا!»
هكذا صرخ توك ثم أسرع بإمساك بذراعي بقوة، بل وكان كل جسمه ينز بعرق بارد. «ماذا حدث؟» «ماذا حدث؟» «لقد رأيت وكأن قردا أخضر اللون يخرج عنقه من نافذة تلك السيارة.»
أصابني القلق إلى حد ما، ونصحته بأن نذهب ليكشف عليه الطبيب تشاك، ولكن لم يبد توك أي بادرة للموافقة على ذلك. ليس هذا فقط، بل ظل ينظر إلى كل منا بالتبادل نظرات شك وارتياب لدرجة أنه بدأ يقول لنا: «إنني لست أناركيا مطلقا. أرجو منك ألا تنسى هذا الأمر فقط ... وداعا إذن. لن أذهب مطلقا إلى تشاك أو غيره.»
وقفنا مذهولين في شرود نتأمل ظهر توك الذي رحل. كنا ... كلا ليس «كنا». فجأة فرج الطالب لاب بين ساقيه في وسط الطريق على حين غفلة وانقلب برأسه ليختلس النظر إلى المارة والسيارات من بين ساقيه، وفكرت أن ذلك الكابا قد جن واندهشت، ثم جذبته ليعتدل. «لا تمزح! ما الذي تفعله؟»
ولكن فرك لاب عينيه بيديه، وقال بهدوء لم أتوقعه: «كلا، ولكن لأنني مكتئب، قررت النظر إلى العالم بالمقلوب، ولكنه كما توقعت هو نفسه بدون تغيير.»
11
هذه بعض الفصول الذي كتبها الفيلسوف ماغ في كتابه «كلمات الأحمق». •••
يؤمن الأحمق دائما أن الآخرين غيره حمقى. •••
إن حبنا للطبيعة نابع من أن الطبيعة لا تكرهنا ولا تغار منا. •••
إن حياة الفطنة هي أن تعيش محتقرا عادات وتقاليد العصر، وفي نفس الوقت لا تخرقها بتاتا. •••
إن الشيء الذي نريد أن نفخر به بشدة هو فقط الشيء الذي لا نملكه. •••
ما من أحد لديه اعتراض على تحطيم الأصنام، وفي نفس الوقت لا أحد لديه اعتراض على أن يضحي هو نفسه صنما، ولكن من يجلس مطمئنا على قاعدة الصنم هم أكثر من أنعمت عليهم الآلهة ... أي الحمقى أو الأشرار أو الأبطال. (وضع كراباك آثار أظافره تحت تلك الجملة.) •••
ربما تكون الأفكار الضرورية للحياة قد انتهت قبل ثلاثة آلاف عام، وعلى الأرجح أننا فقط نضيف لهبا جديدا على الحطب القديم. •••
دائما ما تفوق مميزاتنا الخاصة ما ندركه نحن شخصيا منها. •••
إن كانت السعادة تصاحبها الآلام، والسلام يصاحبه الملل ... •••
إن الدفاع عن النفس أصعب بكثير من الدفاع عن الآخرين. من يشك في ذلك فلينظر إلى المحامين. •••
منذ ثلاثة آلاف عام تنبع كل أنواع الجرائم من ثلاثة ... الفخر والحب والشك، وفي نفس الوقت - ويا له من رعب! - تنبع كل أنواع الفضائل. •••
ليس من الضرورة أن نقص الشهوات المادية يؤدي إلى السلام، بل يجب علينا لكي نحصل على السلام أن نقلل من شهواتنا الروحية كذلك. (وضع كراباك آثار أظافره تحت تلك الجملة.) •••
نحن أكثر تعاسة من البشر؛ لأن البشر لم يبلغوا بعد مبلغ الكابا من التطور. (عندما قرأت تلك الجملة ضحكت رغما عني.) •••
المفعول هو ما يمكن فعله، وما يمكن فعله هو ما يفعل. إن حياتنا في النهاية لا يمكنها أن تخرج عن تلك الحلقة المفرغة ... أي إنها غير منطقية من البداية للنهاية. •••
بعد أن جن بودلير كانت نظرته للعالم في كلمة واحدة ... عبر عنها بفرج المرأة، ولكنه شخصيا لم يكن ما يحكيه يعبر عن ذلك بالضرورة. على العكس بل لأنه وثق في عبقريته ... عبقريته الشاعرية التي تكفي للحفاظ على معيشته، فقد نسي كلمة المعدة. (كما هو متوقع وضع كراباك آثار أظافره تحت تلك الجملة أيضا.) •••
إن اتبعنا العقل والمنطق حتى النهاية، من الطبيعي أننا نحن أنفسنا يجب أن ننفي وننكر وجودنا. إن نهاية حياة فولتير الذي جعل المنطق إلها نهاية سعيدة، هي الدليل على أن البشر أقل تطورا من الكابا.
12
في ظهيرة يوم يميل إلى البرودة، لأنني مللت من قراءة كتاب «كلمات أحمق»، خرجت للقاء الفيلسوف ماغ، وعندها وجدت ذكر كابا نحيفا مثل البعوضة في ركن موحش من هذه المدينة، يستند في شرود على الحائط، بل وكان بلا أي شك هو الكابا الذي سرق ذلك الوقت قلمي الحبر وهرب به، ولأنني فكرت أنني أمسكت به استدعيت شرطي الدورية الذي كان يمر بالصدفة في هذا المكان. «أرجو منك أن تستجوب ذلك الكابا؛ لأنه سرق قلمي الحبر منذ حوالي شهر.»
رفع ذلك الشرطي يده اليمنى الممسكة بالعصا (إن شرطي الدورية في هذه الدولة يمسك عصا من خشب السرو بدلا من المسدس) وتحدث إلى ذلك الكابا قائلا: «يا هذا !»
وخشيت من أن يفر ذلك الكابا هاربا، ولكنه اقترب من شرطي الدورية في حالة هدوء غير متوقعة. ليس هذا فقط، بل ظل يحملق بمنتهى التبجح في وجهي وفي وجه شرطي الدورية وهو كما هو يشبك ذراعيه معا، ولكن لم يبد الشرطي غضبه بل أخرج مفكرة من جراب بطنه وبدأ على الفور التحقيق معه: «ما اسمك؟» «غورك.» «ما وظيفتك؟» «كنت أعمل ساعي بريد حتى أيام قليلة مضت.» «حسنا، طبقا لادعاء هذا الشخص، فلقد سرقت منه قلمه الحبر.» «أجل. لقد سرقته منذ شهر تقريبا.» «ولم سرقته؟» «فكرت أن أجعله لعبة لطفلي.» «أين ذلك الطفل؟» «مات منذ أسبوع.» «وهل معك شهادة وفاته؟»
أخرج الكابا النحيل ورقة من جراب بطنه، فمر الشرطي بعينيه على تلك الورقة ثم ضرب فجأة بيده على كتف الطرف الآخر وهو يضحك بمرح. «حسنا. شكرا لتعاونك معنا.»
تأملت وجه شرطي الدورية وأنا مذهول، بل وقد تركنا ذلك الكابا النحيل وراء ظهره ورحل وهو يغمغم بفمه بكلام مبهم. استعدت وعيي أخيرا وسألت شرطي الدورية السؤال التالي: «لم لا تقبض على ذلك الكابا؟» «لأنه بلا جرم.» «ولكنه سرق قلمي الحبر ...» «من أجل أن يجعله لعبة لطفله، أليس كذلك؟ ولكن ذلك الطفل قد مات. إن كان لديك شك فأرجو منك أن تقرأ المادة رقم 1285 من قانون العقوبات.»
قال الشرطي ذلك ورحل مبتعدا عني على الفور، ولأنني لم يكن لدي حيلة أخرى أخذت أردد كلمة «المادة رقم 1285 من قانون العقوبات» على لساني وذهبت مسرعا إلى بيت ماغ. إن الفيلسوف ماغ يحب الزوار، وفعليا كان يتجمع عنده اليوم في غرفته المعتمة القاضي بيب والطبيب تشاك ورئيس شركة الزجاج غيل، وينفثون دخان سجائرهم تحت القنديل الزجاجي ذي السبعة ألوان، وقدوم القاضي بيب معهم كان بالنسبة لي فرصة رائعة، وبمجرد أن جلست على المقعد، وبدلا من أن أبحث في المادة رقم 1285 من قانون العقوبات سألت بيب على الفور: «يا سيد بيب سيبدو سؤالا في منتهى الوقاحة، ولكن ألا تعاقب هذه الدولة المجرمين؟»
رفع بيب ببطء دخان سيجارته ذات المبسم الذهبي عاليا، ثم أجاب بملل شديد: «بالتأكيد تعاقبهم، بل لدرجة تنفيذ حكم الإعدام عليهم.» «ولكنني منذ شهر تقريبا ...»
وحكيت له الحكاية ثم سألته عن المادة رقم 1285 من قانون العقوبات. «أجل، إن هذه المادة تنص على ما يلي: «مهما كانت الجريمة المرتكبة فلا يمكن توقيع العقوبة على الجاني بعد زوال الظروف التي أدت إلى ارتكابه للجريمة» بمعنى أنه في حالتك كان ذلك الكابا أبا في السابق ولم يعد أبا الآن، ولذا فقد زالت الجريمة.» «إن ذلك غير منطقي.» «لا تمزح. إن من غير المنطقي النظر إلى كابا كان أبا نفس النظرة إلى كابا لم يعد أبا. أجل، أجل إن قوانين اليابان تعاملهما نفس المعاملة، وذلك أمر مضحك جدا بالنسبة لنا هاهاها، هاهاها.»
تسربت ضحكات خافتة بلا روح من بيب وهو يخرج دخان سيجارته، وتدخل في الحديث هنا تشاك الذي ليس له أية علاقة بالقانون. عدل تشاك النظارة الطبية على أنفه ثم سألني: «هل في اليابان أيضا عقوبة الإعدام؟» «أجل. في اليابان يتم الإعدام شنقا.»
ولأنني شعرت بالاعتراض تجاه بيب الذي بدا لا مباليا انتهزت هذه الفرصة لكي أصب عليه سخريتي. «من المؤكد أن الإعدام هنا ينفذ بطريقة أكثر تحضرا من اليابان، أليس كذلك؟» «بالتأكيد هي طريقة متحضرة.»
كان بيب كما هو متوقع هادئا. «نحن لا نستخدم في هذه الدولة طريقة الإعدام شنقا. أحيانا نادرة نستخدم الصعق بالكهرباء، ولكن في الأغلب لا نستخدم الكهرباء كذلك، بل فقط نردد على مسامع الجاني اسم تلك الجريمة.» «وهل يموت الكابا بذلك فقط؟» «يموت بالتأكيد، فتأثير الخلايا العصبية لنا نحن الكابا أكثر حساسية بكثير منكم أنتم أيها البشر.» «ولا ينطبق هذا على طريقة الإعدام فقط، بل تستخدم تلك الطريقة في جرائم القتل كذلك ...»
أبدى غيل رئيس الشركة وجها محبوبا لدى الآخرين، وقد انعكست عليه إضاءة القنديل الزجاجي الملون. «لقد كنت على وشك الإصابة بالشلل مؤخرا لأن أحد الاشتراكيين قال لي: «أنت لص».» «هذا يحدث كثيرا على غير المتوقع، لأن أحد معارفي من المحامين مات بسبب ذلك.»
نظرت للخلف للكابا الذي قال ذلك وهو الفيلسوف ماغ، وكما هي عادته دائما كان ماغ يتحدث وهو يبتسم ابتسامة ساخرة دون أن ينظر إلى وجه أحد منا. «لقد قال أحدهم لذلك الكابا يا ضفدع - كما أعتقد أنك أنت أيضا تعلم أن قول يا ضفدع في هذه البلاد أشد أنواع الشتائم - فكان كل يوم يفكر أحقا أنا ضفدع أم أنني لست ضفدعا؟ إلى أن مات في النهاية.» «معنى هذا أنه انتحر، أليس كذلك؟» «ولكن ترى هل ذلك الكابا الذي نعته بالضفدع كان يقصد بذلك قتله؟ أم أن الأمر يبدو من وجهة نظركم انتحار؟ ...»
وفي ذلك الوقت بالضبط الذي قال ماغ فيه ذلك، على الجانب الآخر تماما من جدار تلك الغرفة - على ما أتذكر أنها شقة الشاعر توك - صدر صوت طلقة مسدس مدوية زلزلت الهواء بقوة عارمة.
13
أسرعنا بالذهاب إلى بيت توك، كان توك ساقطا على ظهره وسط أصص نباتات الجبال العليا وتنزف الدماء بغزارة من صحن رأسه ويده اليمنى قابضة على المسدس كما هي. وبجواره أنثى كابا تدفن وجهها في صدر توك وتنحب نحيبا شديدا. حملت أنثى الكابا وجعلتها تنهض واقفة (في الأصل كنت لا أحب لمس جلد الكابا اللزج)، وسألتها: «ما الذي حدث؟» «لا أدري ما الذي حدث، ولكنه كان يكتب شيئا ما، وفجأة أطلق المسدس على رأسه. آه. ما الذي يحب علي فعله؟
qur-r-r-r-r, qur-r-r-r-r » (إن هذا هو صوت بكاء حيوانات الكابا).
هز غيل رئيس مصنع الزجاج رأسه وتحدث إلى بيب القاضي قائلا: «على أي حال لقد كان السيد توك أنانيا.»
ولكن لم يقل بيب شيئا، فقط أشعل النار في سيجارته ذات المبسم الذهبي. وعندها تشاك الذي كان جاثيا حتى الآن يفحص الجرح أعلن فجأة لنا نحن الخمسة: «كنا إنسانا واحدا هو أنا وأربعة كابا» بهيئة تليق جدا بطبيب. «نفذ الأمر. لقد كان السيد توك في الأصل مريضا بمرض معوي، لذا كان من السهل وقوعه في براثن الاكتئاب». «وماذا كان يكتب؟»
همس الفيلسوف ماغ بهذا السؤال محدثا نفسه وكأنه يدافع عنه، ثم أمسك بالورقة التي فوق المكتب. مددنا جميعا أعناقنا (أنا الوحيد الذي كنت استثناء)، وأخذنا نختلس النظر على الورقة من فوق كتف ماغ العريض. «حان وقت الرحيل، إلى الوادي الذي يفصلنا عنه عالم المعاناة.
إلى الوادي الذي يفوح فيه أريج زهور الأعشاب الطبية.
وتتجمع الصخور في واد ضيق وعر، ومياه الجبال الصافية.»
التفت ماغ ناحيتنا وقال ما يلي وعلى وجهه ابتسامة متكلفة: «إنها انتحال من أغنية «ميغنون
Mignon » لغوته، وهذا يعني أن السيد توك انتحر بسبب تعبه وإرهاقه من كونه شاعرا.»
وفجأة جاء الموسيقار كراباك راكبا سيارة، وعندما رأي كراباك ذلك المنظر وقف مذهولا لبعض الوقت عند الباب، ولكنه عندما اقترب من أمامنا، ثم تحدث إلى ماغ وكأنه يصرخ: «هل تلك هي وصية توك؟» «كلا، إنها آخر ما كتب من شعر.» «شعر؟»
وكما هو متوقع سلم ماغ الذي لم يندهش ولو قليلا، شعر توك إلى كراباك ذي الشعر المشعث. بدأ كراباك يقرأ مسودة ذلك الشعر بحماس بدون أن ينظر إلى المحيطين، بل إنه لم يجب على كلمات ماغ. «ما رأيك في موت توك؟» «في وقت الرحيل، ... حتى أنا لا أدري متى أموت! إلى الوادي الذي يفصلنا عن عالم المعاناة ...» «ألم تكن أحد أصدقاء توك المقربين؟» «مقربين؟ لقد كان توك في وحدة دائمة، إلى الوادي الذي يفصلنا عن عالم المعاناة ... ولكن كان توك لتعاسته ... الصخور وعرة ...» «لتعاسته؟» «مياه الجبال صافية ... إنكم سعداء ... الصخور وعرة ...»
ولأنني كنت متعاطفا مع أنثى الكابا التي ما زالت حتى ذلك الوقت لا تتوقف عن البكاء، لذا حضنت كتفها برقة وصحبتها لتجلس على أريكة في ركن الغرفة. كان هناك طفل كابا في عمر سنتين أو ثلاث سنوات يضحك وهو لا يدري شيئا مما يحدث، ولاطفت الطفل بدلا من الأنثى، وعندها شعرت في غفلة من الزمن أن الدموع تجمعت في عيني، وكانت تلك أول وآخر مرة أذرف فيها دموعي في الفترة التي قضيتها في بلاد الكابا. «إن هي الأسرة المسكينة هي ضحية العيش مع هذا الكابا الأناني .» «أجل فهو لم يفكر في عاقبة ما فعله.»
هكذا أجاب القاضي بيب على رجل الأعمال غيل وهو يشعل النار في سيجارة جديدة، ثم أدهشنا صراخ الموسيقار كراباك. صرخ كراباك وهو يقبض على مسودة الشعر دون أن يوجه كلامه إلى شخص بعينه: «وجدتها! لقد ألفت موسيقى جنائزية رائعة.»
قبض كراباك على يد ماغ وعيناه تلمعان، ثم خرج فجأة قفزا من الباب. بالطبع كان في ذلك الوقت كل جيران بيت توك قد تجمعوا عند مدخل بيته، يتلصصون إلى داخل البيت بنظرات من ينظر إلى شيء نادر، ولكن بالطبع دفعهم كراباك بقوة يمينا ويسارا وأسرع بالركوب في سيارته برشاقة، وتزامن ذلك مع إطلاق السيارة ضجيج محركها واندفاعها في الطريق إلى مكان مجهول. «اذهبوا! لا يجب عليكم التلصص هكذا.»
قال القاضي بيب ذلك قائما بدور الشرطة وطرد حيوانات الكابا التي تجمعت بعدد كبير، ثم أغلق باب بيت توك، وربما بسبب ذلك تنزل الصمت المطبق على المكان فجأة. كنا ونحن في ذلك الصمت والهدوء، وسط شذى أزهير نباتات الجبال الشاهقة المختلطة برائحة دماء توك، نتناقش فيما يجب علينا فعله بعد ذلك، ولكن كان ذلك الفيلسوف ماغ فقط شاردا يفكر في أمر ما وهو يتأمل جثة توك. ربت على كتف ماغ، وسألته: «فيم تفكر؟» «في حياة الكابا.» «إلام ستصير تلك الحياة؟» «إننا نحن الكابا، مهما حدث ومهما سيكون، من أجل أن نستمر في هذه الحياة أن ...»
ثم أضاف ماغ بصوت خفيض وهو يبدو خجلا قليلا: «على أي حال يجب علينا أن نؤمن بقدرة شيء ما خارج نطاقنا نحن حيوانات الكابا»
14
إن ما جعلني أتذكر الأديان هو كلمة ماغ تلك، ولأنني أتبع المذهب المادي، فلا شك أنني لم يسبق أن فكرت بجدية في الأديان، ولكن في ذلك الوقت من أجل أنني تأثرت بموت توك إلى حد ما، بدأت أفكر ترى ما هو ديانة الكابا؟ وعلى الفور سألت الطالب لاب ذلك السؤال: «تقام تعاليم المسيحية والبوذية والإسلام
6
والزرادشتية،
7
وفي البداية أكثر الأديان انتشارا هو الديانة العصرية، التي يمكن وصفها بالديانة المعيشية .» [ربما تكون ترجمتي (الديانة المعيشية) غير صائبة؛ فأصلها كلمة
Quemoocha ، وعلى الأرجح أن
cha
تشبه كلمة
ism
في اللغة اللاتينية، وكلمة
quemoo
أصلها فعل
quemal ، وهي ليس بمعنى «يعيش» ببساطة، بل إن معناها «يأكل ويشرب الخمر ويتناسل ... إلخ».] «معنى ذلك إذن أن في هذه البلاد كنائس ومساجد ومعابد، أليس كذلك؟» «لا يجب أن تمزح. إن معبد الديانة العصرية هو أكبر مباني هذه البلاد. ما رأيك ألا نذهب لزيارته؟»
خرج لاب بفخر معي لزيارة ذلك المعبد الكبير في ظهيرة يوم غائم دافئ بعض الشيء. كان بالفعل مبنى عملاقا يبلغ حجمه عشرة أمثال كاتدرائية نيقولاي. ليس هذا فقط، بل كان مبنى ضخما أنشئ من تجميع مختلف الطرز المعمارية في طراز واحد. عندما وقفت أمام ذلك المعبد، أتأمل الأبراج العالية والقباب الدائرية، شعرت نوعا ما بالنفور والاستياء، ولقد بدا لي في الواقع وكأنه مجسات بلا عدد تمتد تجاه السماء. ظللنا واقفين بثبات أمام البوابة الرئيسة (ترى إلى أي مدى كنا صغارا مقارنة بتلك البوابة العملاقة!) ننظر عاليا إلى ذلك المعبد النادر الذي كان يبدو كأنه وحش عملاق أكثر منه مبنى معماري.
وكان المعبد الكبير ضخما من الداخل كذلك. كان القادمون للزيارة وللعبادة يمشون وسط تلك الأعمدة الكورنيثية الدائرية الواقفة، ولكنهم ظهروا مثلنا في منتهى الصغر، وقابلنا من بينهم كابا محني الظهر، وعندها بعد أن أحنى لاب رأسه لذلك الكابا، تحدث إليه كما يلي بأدب بالغ: «من الجيد يا شيخنا أن تكون هكذا في خير حال.»
حياه ذلك الكابا برأسه ثم أجاب كذلك بأدب بالغ: «هل أنت السيد لاب؟ أنت كما أنت لا تتغير ... (على الأرجح أنه بدأ يقول ذلك ولكنه لم يكمل كلامه لأنه انتبه إلى منقار لاب المتعفن) ... آه، على أي حال تبدو في صحة جيدة أليس كذلك؟ ولكن ماذا حدث لكي تأتي اليوم؟» «لقد جئت اليوم بصحبة هذا الرجل. إنه وكما تعلم على الأرجح ...»
تحدث لاب عني باندفاع وسلاسة، ويبدو أن ذلك كان حجة قوية لعدم حضور لاب إلى المعبد إلا نادرا. «بهذه المناسبة كنت أرجو أن ترشد هذه الرجل داخل المعبد.»
أولا وجه الشيخ التحية لي بابتسامة عريضة، وأشار بهدوء إلى المذبح المقدس الذي في الواجهة. «مهما قلت إرشاد فأنا لا يمكن أن أفيد بشيء. إن ما نعبده نحن المؤمنين هو «شجرة الحياة» تلك التي في المذبح المقدس في الواجهة، وكما ترى فإن «شجرة الحياة» ثمارها بلون ذهبي ولون أخضر، الثمر الذهبي يسمى «ثمر الخير» والثمر الأخضر يسمى «ثمر الشر» ...»
بدأت أشعر بالملل أثناء هذا الشرح، وذلك لأنني سمعت في كلمات ذلك الشيخ مجازا عتيقا، ولكنني بالتأكيد تظاهرت بأنني أسمع بحماس، ولم أنس أن ألتفت بنظري إلى داخل المعبد الكبير من وقت لآخر.
الأعمدة الكورنيثية والقباب القوطية والأرضية بتصميمات الشطرنج على الطراز العربي ومنصة الصلاة التي هي أقرب ما تكون إلى الطراز الألماني الانفصالي ... كان ذلك التوافق الذي يصنع كل تلك الأشياء يحتوي على جمال همجي مريب، ولكن أكثر ما شدني هو تمثالان صنعا من المرمر داخل مقصورتين على الجانبين. كنت أفكر أنني أعرف التمثالين من قبل، ولم يكن ذلك غريبا؛ فبعد أن أنهى ذلك الكابا محني الظهر شرح «شجرة الحياة»، اقترب معي ومع لاب من التابوت الذي على اليمين، وبدأ يضيف الشرح التالي الخاص بالتمثال النصفي الذي داخل المقصورة: «إن ذلك هو أحد القديسين ... إنه القديس ستريندبرغ الذي اعترض على كل شيء. إن هذا القديس بعد أن عانى معاناة شديدة، يقال إنه نجا من فلسفة سويدنبورغ، ولكنه في الحقيقة لم ينج، وهذا القديس ما زال يؤمن بالديانة المعيشية مثلنا تماما ... أو يجب القول إنه لم يكن أمامه إلا أن يؤمن بها. أرجو أن تجرب قراءة كتاب «الأسطورة» الذي تركه لنا ذلك القديس، فهذا القديس بنفسه يعترف فيه أنه حاول الانتحار.»
أصبت بالاكتئاب قليلا، ثم بعد ذلك نظرت إلى المقصورة. كان من في المقصورة التالية رجل ألماني بشارب غليظ. «إن هذا هو نيتشه شاعر زرادشت. لقد كان هذا القديس يطلب النجاة من السوبرمان الذي صنعه القديس بنفسه، ولكنه كما هو متوقع أصيب بالجنون، ولكنه إن لم يجن، فربما لم يكن ليدخل في عداد القديسين ...»
صمت الشيخ قليلا ثم أرشدنا إلى المقصورة الثالثة. «من يشغل المقصورة الثالثة هو تولستوي. إن هذا القديس هو أكثر من قام بالممارسات التنسكية الشاقة؛ وذلك لأنه كان يكره أن يظهر معاناته للعامة كثيري الفضول بسبب أنه كان في الأصل من النبلاء. لقد بذل ذلك القديس جهدا لكي يؤمن بالمسيح الذي لا يؤمن به في الحقيقة. كلا بل لدرجة أنه قال علانية إنه يؤمن به. وأخيرا أصبح في نهاية حياته لا يستطيع تحمل المأساة والبطولة معا، ويشتهر عن هذا القديس كذلك أنه كان يشعر بالخوف من عوارض مكتبته، ولكنه لم ينتحر بالطبع، ولذلك دخل في عداد القديسين.»
كان التمثال النصفي الذي تحتويه المقصورة الرابعة هو أحد اليابانيين، وعندما رأيت وجه ذلك الياباني، أحسست بالحنين والشوق إليه. «هذا هو دوبو كونيئدا. إنه شاعر يعرف بوضوح مشاعر العمال الذين يموتون دهسا بالسيارة، ولا شك أنه لا حاجة لأن أشرح لك أكثر من ذلك. حسنا انظر إلى المقصورة الخامسة ...» «أليس هذا فاغنر؟» «بلى، الثوري الذي كان صديقا للملك، لقد كان القديس فاغنر في أواخر عمره يصلي حتى صلاة قبل الوجبات، ولكنه بالطبع كان أحد المؤمنين بديانة المعيشة أكثر من الديانة المسيحية، وطبقا للرسالة التي تركها فاغنر، فلا يعرف عدد المرات التي أودت المعاناة بهذا القديس إلى عتبات الموت.»
كنا في ذلك الوقت نقف بالفعل أمام المقصورة السادسة. «إن هذا صديق القديس ستريندبرغ. رسام فرنسي كان في الأصل تاجرا تزوج بدلا من زوجته أم أطفاله الكثيرين، ببضع عشرة امرأة من نساء جزيرة تاهيتي. إن هذا القديس تجري في عروقه الغليظة دماء بحار، ولكن انظر إلى شفتيه. يتبقى بها آثار زرنيخ أو ما شابه. المقصورة السابعة بها ... أنت تعبت أليس كذلك؟ حسنا أرجو أن تأتي إلى هنا.»
ولأنني كنت في الواقع متعبا حقا، أطعنا أنا ولاب الشيخ ودخلنا غرفة متصلة بممر تفوح فيه رائحة البخور. تحت تمثال أسود لفينوس يقع في ركن من تلك الغرفة الصغيرة قدم قربان عبارة عن عنقود عنب جبلي، ولقد شعرت بالدهشة إلى حد ما لأنني كنت أتخيل صومعة راهب بلا أية زينة، ويبدو أن الشيخ شعر بمشاعري تلك من مظهري، وقبل أن يعرض علينا الجلوس على المقاعد شرح لي الأمر بما يشبه الأسى. «أرجو منك ألا تنسى أن ديانتنا هي ديانة الحياة المعيشية. إلهنا وتعاليم «شجرة الحياة» تقول لنا «عيشوا في حيوية ونشاط»... يا سيد لاب: هل جعلت هذا السيد يقرأ كتابنا المقدس؟»
أجاب لاب بصدق وهو يحك الصحن الذي فوق رأسه: «كلا ... في الواقع أنا نفسي لم يسبق لي قراءته تقريبا.»
ولكن الشيخ ظل مبتسما ابتسامة هادئة لا تتغير وأكمل حديثه. «إن كان الأمر كذلك فما من افتراض أن يعلم. إن إلهنا خلق هذا العالم في يوم واحد. (إن شجرة الحياة شجرة، ولكنها قادرة على فعل أي شيء) ليس هذا فقط، بل خلق أيضا أنثى الكابا. ثم وصل الضجر بأنثى الكابا مداه، وطلبت وجود ذكور الكابا. أشفق إلهنا من ذلك النحيب، أخذ مخ أنثى الكابا وخلق منه ذكر الكابا، ووهب إلهنا بركته لهذين الزوجين من الكابا قائلا لهما: «كلا وتناسلا وعيشا بحيوية ونشاط» ...»
تذكرت الشاعر توك في كلمات الشيخ. إن الشاعر توك لتعاسته كان مثلي لا ديني، ولأنني لست كابا فلا لوم علي لعدم معرفتي بديانة المعيشة، ولكن يفترض أن توك الذي ولد في بلاد الكابا كان يعرف بالطبع «ديانة الحياة المعيشية»، ولأنني أشفقت على نهاية توك الذي لم يطع تلك التعاليم، قاطعت كلمات الشيخ وبدأت أتحدث عن حكاية توك.
سمع الشيخ حديثي وأطلق زفرة عميقة، وقال: «آه، إنه ذلك الشاعر المسكين.» «إن ما يحدد مصيرنا هو الإيمان والظروف والصدف فقط. (ربما أنتم تعدون مع ذلك الجينات الوراثية أيضا)، ولتعاسته لم يكن توك يحمل إيمانا.» «على الأرجح أن توك كان يغبطك أليس كذلك؟ كلا، بل أنا أيضا أغبطك. أما السيد لاب فهو ما زال صغير السن ...» «لو أن منقاري فقط بلا مشاكل لربما كنت متفائلا.»
عندما قلنا ذلك للشيخ، أطلق زفرة عميقة مرة أخرى، بل وظل يحملق بثبات في تمثال فينوس الأسود وعيناه تدمعان. «إنني أيضا في الواقع ... ولأن ذلك سري، أرجو منكما عدم البوح لأحد أيا كان ... إنني في الواقع لا يمكنني الإيمان بإلهنا، ولكن في يوم ما أتمنى أن صلاتي ...»
في تلك اللحظة التي تكلم فيها الشيخ. فتح باب الغرفة، وهجمت أنثى كابا كبيرة الحجم على الشيخ فجأة، وبالتأكيد حاولنا أن نمنع أنثى الكابا تلك، ولكن أنثى الكابا في غفلة من الزمن أسقطت الشيخ وطرحته أرضا. «أيها العجوز المخرف! لقد سرقت اليوم أيضا الكثير من النقود من حافظة نقود، أليس كذلك؟!»
بعد مرور عشر دقائق فقط، تركنا الشيخ وزوجته وراءنا ونحن في الواقع نهرب، وخرجنا من بوابة المعبد عائدين.
قال لاب لي بعد فترة من المشي في صمت: «بهذا الحال يفترض أن الشيخ حقا لا يؤمن ب «شجرة الحياة».»
ولكنني لم أفكر في الرد، بل نظرت خلفي تجاه المعبد الكبير. كان المعبد يمد أبراجه وقبابه المرتفعة مثل المجسات في السماء الملبدة بالغيوم، وهو يثير شعورا بالنفور مثل السراب الذي يظهر في صحراء مجهولة.
15
ثم بعد ذلك بعد حدوث هذا وذاك ومرور أسبوع، سمعت حكاية نادرة من الطبيب تشاك، وهي أن الأشباح تظهر في بيت الكابا المدعو توك. في ذلك الوقت كانت أنثى الكابا قد ذهبت إلى مكان مختلف، وتغير بيت صديقنا الشاعر إلى استديو للتصوير، وعلى أي حال طبقا لما قاله تشاك، فإن تصوير صورة في ذلك الاستديو، تظهر أيضا صورة توك ضبابية خلف ظهر العميل في غفلة من الزمن، ولأن تشاك في الأصل يؤمن بالمادية، فهو لا يؤمن بالحياة بعد الموت، وفي الواقع أنه عندما تحدث إلي بهذه الحكاية كان يظهر ابتسامة شريرة وأضاف من عنده تفسيرا بالقول: «يبدو كما هو متوقع أن ما تسمى الروح لها وجود مادي.» أنا أيضا لا أختلف عن تشاك في عدم الإيمان بالأشباح، ولكن لأنني كنت أشعر بحميمية تجاه الشاعر توك، هرعت من فوري إلى مكتبة لبيع الكتب، واشتريت الصحف والمجلات التي نشرت المقالات والصور التي ظهر فيها شبح توك، ولكن عند النظر إلى تلك الصور، وجدت أنها تظهر كابا يشبه توك خلف أنواع مختلفة من الكابا رجالا ونساء، شبابا وعجائز، ولكن ما أدهشني أكثر من صور توك، هي المقالات الخاصة بالأشباح ... خاصة تقرير خاص بشبح توك أصدرته الجمعية العلمية للأرواح، ولأنني ترجمت ذلك التقرير ترجمة حرفية، فلا مانع من أن أذكر فيما يلي ملخصا عاما له، ولكن ما بين القوسين هو شرح كتبته أنا بنفسي.
تقرير عن شبح الشاعر توك (نشر في العدد رقم 8274 لمجلة الجمعية العلمية للأرواح).
إننا الجمعية العلمية للأرواح، أنشأنا لجنة تقص وبحث موقتة رقم 251 في البيت السابق للشاعر المنتحر السيد توك الذي تحول حاليا إلى استديو
XX
الواقع في منطقة
XX . وتألفت اللجنة من أعضاء الجمعية التالية أسماؤهم (قمت بحذف الأسماء).
نحن أعضاء الجمعية السبعة عشرة، بمعية السيد بيك رئيس الجمعية، في الساعة العاشرة والنصف صباحا من يوم 17 سبتمبر، اصطحبنا السيدة هوب الوسيط الأكثر مصداقية بيننا، واجتمعنا في غرفة من غرف الاستديو المشار إليه، وبمجرد أن دخلت السيدة هوب الاستديو المذكور، شعرت بالفعل ببيئة وجود أرواح، وبدأ جسدها كله في الرعدة والارتعاش ووصل الأمر إلى أن تتقيأ عدة مرات، وطبقا لما حكته السيدة، سبب ذلك هو احتواء ذلك الجو الروحاني للنيكوتين نتيجة لحب ذلك الشاعر السيد توك الشديد للسجائر.
جلس أعضاء اللجنة مع السيدة هوب حول مائدة مستديرة في صمت مطبق. بعد مرور ثلاث دقائق وخمس وعشرين ثانية، سقطت السيدة في سرعة فجائية دراماتيكية في حالة نعاس عميق، بالإضافة إلى ذلك تلبستها روح الشاعر السيد توك. طرحنا نحن أعضاء اللجنة على السيدة هوب الأسئلة بالترتيب طبقا لأكبر الأعضاء سنا فالذي يليه.
س:
ما سبب ظهور روحك؟
ج:
من أجل أنني لا أعلم شهرة ما بعد الموت.
س:
أنت ... أو أيتها الأرواح المبجلة، هل تريد الحصول على الشهرة حتى بعد الموت؟
ج:
على الأقل أنا يجب علي فعل ذلك، ولكن على ما يبدو أن أحد الشعراء اليابانيين الذين قابلتهم بعد الموت يحتقر المجد والشهرة.
س:
وهل تعلم اسم ذلك الشاعر؟
ج:
لسوء الحظ لقد نسيت اسمه، ولكنني فقط أحفظ قصيدة الشعر الذي ألفها ذلك الشاعر المكونة من 17 حرفا.
س:
أية قصيدة شعر تلك؟
ج: «بركة عتيقة/قفز ضفدع/صوت الماء.»
8
س:
وهل تعد ذلك الشعر عملا عظيما؟
ج:
أنا لا أعده عملا سيئا بالضرورة، ولكن لماذا لم يبدل بالضفدع حيوان الكابا؟ لو فعل لأصبح الشعر أكثر بهاء وتألقا.
س:
ولكن ما سبب ذلك؟
ج:
إننا نحن حيوانات الكابا نبحث بألم ومعاناة عن الكابا في كل فن من الفنون.
في تلك اللحظة لفت السيد بيك رئيس الجمعية نظرنا نحن الأعضاء السبعة عشر إلى أن لجنة التقصي والبحث المؤقتة لا يجب أن تتحول إلى لجنة لنقد الشعر.
س:
كيف هي حياة الأرواح؟
ج:
لا تختلف عن حياتكم.
س:
إن كان الأمر كذلك فهل أنت نادم على انتحارك؟
ج:
لست نادما بالضرورة على ذلك. إن مللت من حياة الروح، فيجب أن أمسك المسدس وأعيد إحياء نفسي.
9
س:
أمن السهل إحياء النفس؟
ردت روح السيد توك بسؤال للإجابة على هذا السؤال، وهو رد فعل طبيعي جدا لمن يعرف السيد توك.
ج:
وهل يا ترى من السهل الانتحار؟
س:
هل حصلت على حياة الخلود؟
ج:
لا يجب الإيمان بنظريات متنوعة ومشتتة تتعلق بحياتنا. ولا تنس أنه لحسن الحظ بيننا أديان مثل المسيحية والبوذية والإسلام والزرادشتية ... إلخ.
س:
وبماذا تؤمن أنت به شخصيا؟
ج:
إنني أتبع مذهب الشك على الدوام.
س:
ولكنك على الأقل لا تشك في وجود الروح؟
ج:
أنا لا أملك اليقين مثلك.
س:
ماذا عن علاقاتك مع الآخرين؟
ج:
تمتد علاقاتي شرقا وغربا، قديما وحديثا، ولا تقل عن 300 شخص، وإن ذكرت المشاهير منهم، هاينريش فون كلايست، وفيليب ماينلندر، وأوتو فينينغر ...
س:
وهل علاقاتك مع المنتحرين فقط؟
ج:
لا، ليس بالضرورة، فإن ميشيل دي مونتين الذي يدافع عن الانتحار من بين أصدقائي الذين أبجلهم، ولكنني ليس لي علاقة بالسيد شوبنهاور الذي يتبع مذهب كراهية العالم ولكنه لم ينتحر.
س:
وهل شوبنهاور بصحة جيدة؟
ج:
لقد أسس مذهب كراهية الأرواح ويجادل الآن في جدوى إحياء النفس
jikatsu ،
10
ولكنه عرف مرض الكوليرا ومرض الميكروبات، ويحيا في أمان واطمئنان شديد.
سألناه نحن الأعضاء عن مصير أرواح كل من نابليون وكونفوشيوس ودوستويفسكي ودارون وكليوباترا وبوذا وديموستيني ودانتي وسن نو ريكيو ... إلخ، ولكن لسوء الحظ لم يجب السيد توك بالتفصيل، بل على العكس بدأ يسألنا عن عدد من الشائعات المتنوعة التي تخص توك نفسه.
س:
ترى ما هي سمعتي بعد انتحاري؟
ج:
قال ناقد «إنه أحد الشعراء المجهولين.»
س:
إنه أحد الذين يكرهونني لأنني لا أهديهم دواوين شعري. هل صدرت أعمالي الكاملة؟
ج:
لقد صدرت أعمالك الكاملة، ومبيعاتها أحدثت ضجة.
س:
إن أعمالي الكاملة بعد ثلاثمائة عام، أي بعد انتهاء حقوق الملكية الفكرية، يجب أن تكون تكفيرا عن الجميع. ماذا عن المرأة التي كنت أعيش معها؟
ج:
أصبحت زوجة راك بائع الكتب.
س:
إنها لا تعرف بعد لسوء حظها أن راك عينه صناعية. وماذا عن أبنائي؟
ج:
سمعنا أنهم أودعوا ملجأ الأيتام القومي.
بعد صمت توك لفترة، بدأ الأسئلة مرة أخرى.
س:
ماذا عن بيتي؟
ج:
أصبح استديو لأحد المصورين.
س:
وماذا حدث لمكتبي؟
ج:
ما من أحد يعرف ما حدث له.
س:
إن في أحد أدراج مكتبي رزمة من خطاباتي السرية ... ولكن لحسن الحظ بسبب انشغالي لم أذكر شيئا يتعلق بأحد منكم، والآن حان الوقت غروب روحي في عالم الأرواح ببطء وتأن في وقت الغسق. يجب علي أن أودعكم، الوداع. الوداع أيها الجمع، الوداع أيها الجمع الطيب.
مع آخر كلمة فاقت السيدة هوب مرة أخرى فجأة. نقسم نحن أعضاء اللجنة السبعة عشر بإله السموات العلى أن هذا الحوار حدث بالفعل في الحقيقة (ولقد دفعنا أجرة السيدة هوب التي نثق فيها جميعا طبقا لأجرها اليومي عندما كانت تعمل في الماضي ممثلة).
16
قرأت هذه المقالة، ثم أصبحت أشعر تدريجيا باكتئاب لوجودي في مثل هذه الدولة، ولذا فكرت أن أعود بطريقة ما إلى عالمنا الإنساني، ولكنني مهما مشيت وبحثت لم أستطع العثور على الثقب الذي سقطت منه، وأثناء فعلي ذلك سمعت حديث الصياد باغ الذي يحكي فيه عن حيوان كابا عجوز يعيش في هدوء وسكينة على أطراف هذه الدولة يقرأ الكتب ويعزف على الناي، وعندما جربت أن أزور ذلك الكابا العجوز وأسأله هل يعرف طريق الهروب من هذه الدولة؟ فعلى الفور قررت الذهاب إلى أطراف المدينة، ولكن عندما وصلت إلى هناك، ما وجدته في بيت صغير ليس كابا عجوز، بل كابا صغير لم يتثبت الصحن فوق رأسه بعد، ويبدو في الثانية أو الثالثة عشرة من عمره يعزف الناي في استرخاء. بالطبع فكرت أنني من المؤكد أنني دخلت البيت الخاطئ، ولكنني عندما سألته عن اسمه، كان هو الاسم الذي علمني باغ بلا أي خطأ. «ولكنك تبدو وكأنك طفل ...» «ألا تعرف؟ ألا تعرف ما قدري ومصيري؟ إنني عندما خرجت من بطن أمي كانت رأسي تملؤها الشيب، ومن وقتها كنت أصغر في السن تدريجيا، والآن أصحبت طفلا بهذا الشكل، ولكن إن حسبنا عدد السنين فإن حسبت ستين عاما قبل مولدي، ربما يكون عمري مائة وأحد أو اثني عشر عاما.» درت بنظري في الغرفة، وربما كان ذلك وهما توهمت ولكنني شعرت بطيف من السعادة النقية تفوح بين المنضدة والمقاعد المتواضعة. «على ما يبدو أنك تعيش في سعادة أكثر من باقي حيوانات الكابا، أليس كذلك؟» «حقا! ربما كان الأمر كذلك فعلا، فأنا منذ شبابي وأنا مسن، وفي شيخوختي أنا شاب، وبالتالي أنا مثل الشيوخ لا تنبع داخلي الشهوات، ولا أغرق في الملذات مثل الشباب، وعلى أي حال حتى وإن كانت حياتي ليست سعيدة فلا شك أنها هادئة.» «فهمت إنها بذلك حقا تكون هادئة.» «كلا، ولكنها لا تكون هادئة بهذا فقط، فأنا قدراتي البدنية جيدة، وأملك ثروة من المال تجعلني لا أعاني في مأكلي طوال العمر، ولكن ربما كان الأمر الأكثر سعادة هو أنني كنت عجوز منذ وقت ميلادي.»
تحدثت مع ذلك الكابا لبعض الوقت عن حكايات توك الذي انتحر وعن غيل الذي يتردد يوميا على الأطباء، ولكن لسبب ما كان ذلك الكابا العجوز تبدو على ملامح وجهه أنه غير مهتم بما أقوله مطلقا. «أنت إذن ليس لديك تعلق خاص بالحياة مثل باقية حيوانات الكابا، أليس كذلك؟»
أجاب الكابا العجوز بهدوء وهو ينظر إلى وجهي: «إنني على أي حال مثل باقي الكابا تركت رحم أمي بعد أن سألني أبي عن رغبتي في المجيء إلى هذه البلاد أم لا؟» «ولكنني سقطت في هذه البلاد في لحظة مصادفة فجائية. وأرجو منك أن تعلمني طريق الخروج من هذه البلاد.» «ما طريق للخروج إلا طريقا واحدا فقط.» «وهو؟» «إنه الطريق الذي أتيت منه إلى هنا.»
عندما سمعت ذلك وقف شعر جسمي لسبب مجهول. «ولكنني للأسف أنا لا أستطيع العثور على ذلك الطريق.»
ظل الكابا العجوز يحملق في وجهي بعينيه اللامعتين بالرطوبة، ثم حرك جسمه أخيرا، واقترب من ركن الغرفة وجذب حبلا يتدلل من السقف هناك، وعندها فتحت نافذة في السقف لم أكن أنتبه إلى وجودها حتى الآن. خارج نافذة السقف الدائرية تلك، تمتد السماء الزرقاء الصافية خلف أغصان الصنوبر والسرو. كلا، بل أيضا ترتفع عاليا قمة جبال ياريغاتاكه المدببة التي تشبه نصل سهام عملاقة، وفي الواقع لقد قفزت فرحا كطفل رأى طائرة.
قال الكابا العجوز وهو يشير بإصبعه إلى تلك النافذة: «هيا، يمكنك أن تخرج من هذا المكان.»
ما كنت أعتقد أنها شباك حتى ذلك الوقت كانت في الحقيقة سلالم من الأحبال. «إذن اسمح لي أن أغادر من تلك النافذة.» «ولكنني سأقول لك محذرا. فكر حتى لا تندم بعد أن ترحل.» «لا تقلق. إنني لن أندم مطلقا.»
بعدما أجبت بذلك بدأت أتسلق الأحبال سريعا، وأنا أتأمل الصحن الذي فوق رأس الكابا العجوز يبتعد بعيدا عني.
17
بعد أن عدت من بلاد الكابا، ظللت لفترة منزعجا من رائحة جلودنا نحن البشر. إن حيوانات الكابا في الواقع أكثر نظافة من البشر. ليس هذا فقط بل بدت لي أنا الذي كنت لا أرى إلا رءوس الكابا ، بدت رءوسنا نحن البشر منفرة ومقززة جدا. ربما كان ذلك أمرا لا تفهمه أنت بنفسك، ولكن بغض النظر عن العيون والفم، ولكن ذلك الأنف يوقظ في حالة مزاجية عجيبة. بالطبع كنت أحرص على تدبير الأمر بعدم مقابلة أي إنسان مهما كان، ولكن يبدو أنني بدأت أعتاد تدريجيا على البشر مع مرور الوقت وفي خلال ستة أشهر فقط أصبحت أخرج إلى كل مكان، ولكن ما كنت أعاني منه أنني عندما أتحدث في أمر ما أجدني أنطق لغة الكابا بلساني دون وعي مني. «هل أنت موجود في بيتك؟»
Qua . «ماذا قلت؟» «كلا، أقول إنني موجود.»
كان الأمر على هذا الحال تقريبا.
ولكن بعد العودة من بلاد الكابا، عندما مر عام بالضبط، وبسبب أنني فشلت في أحد المشاريع ... (عندما قال ذلك نبهه الدكتور «س» بالقول: «كف عن الكلام عن هذا الموضوع»، وطبقا لما قال الدكتور لي، إنه عندما يحكي ذلك الموضوع يصبح هائجا لدرجة عدم قدرة الممرضين على السيطرة عليه.)
حسنا سأكف عن هذا الموضوع، ولكنني عندما فشلت في أحد المشاريع تذكرت أنني أريد العودة إلى بلاد الكابا مرة أخرى. أجل. ليس أريد «الذهاب» بل أريد «العودة» لأنني شعرت وقتها أن بلاد الكابا هي موطني الأصلي.
هربت سرا من بيتي، وحاولت أن أركب قطار خط تشويو، ولكنني للأسف قبض علي من شرطي الدورية هناك ووضعت أخيرا في المستشفى، ولكنني ظللت أتذكر أحداث بلاد الكابا منذ دخلت المستشفى وحتى الآن. ترى كيف حال الطبيب تشاك؟ ربما يفكر الفيلسوف ماغ كما هي عادته في شيء ما تحت القنديل الزجاجي ذي السبعة ألوان، وبصفة خاصة صديقي الحميم الطالب راب صاحب المنقار المتعفن - في ظهيرة يوم غائم مثل اليوم. كنت على وشك رفع صوتي بالكلام دون وعي مني أثناء انغماسي في ملاحقة الذكريات هكذا. كان يقف أمامي أحد حيوانات الكابا الصياد الذي يدعى باغ دخل علي في غفلة مني، وظل يحني رأسه عدة مرات أمامي، وبعد أن فاق ذهني - لا أدري هل ضحكت أم بكيت ، ولكن على أي حال، من المؤكد أنني فرحت جدا باستخدام لغة بلاد الكابا بعد غياب طويل. «أهلا باغ! لماذا أتيت؟» «أهلا، لقد أتيت لزيارتك في مرضك؛ لأنني سمعت أنك أصيبت بمرض ما.» «وكيف عرفت ذلك؟» «عرفت من نشرة أخبار الراديو.»
ثم ضحك باغ بزهو. «ولكن مع ذلك، كيف أفلحت في القدوم إلى هنا؟» «ماذا؟ هذا أمر هين؛ لأنه كما تعلم الكابا تجيء وتذهب خلال أنهار طوكيو وقنواتها المائية.»
لقد انتبهت لتوي أن الكابا حيوانات برمائية مثلها مثل الضفادع. «ولكن ما من أنهار في هذه المنطقة.» «كلا، فلقد صعدت إلى هنا بعد أن تخطيت الأنابيب الحديدية لشبكة المياه، ثم بعد ذلك فتحت محبس إطفاء الحرائق ...» «فتحت محبس إطفاء الحرائق؟» «هل نسيت يا سيدي؟ أن حيوانات الكابا أيضا منهم عمال ميكانيكية؟»
ثم بعد ذلك استقبلت زيارات من حيوانات كابا متنوعة مرة كل يومين أو ثلاثة أيام. طبقا للدكتور «س» فإن مرضي هو خرف عقلي مبكر، ولكن لقد قال لي ذلك الطبيب تشاك (ربما يكون ذلك قولا في منتهى قلة الأدب بالنسبة لك أنت أيضا) إنني مريض بخرف عقلي مبكر، بل أنتم المصابون بمرض الخرف العقلي بداية من الدكتور «س» نفسه. إن وصل الأمر لأن يأتي الطبيب تشاك، فبالطبع أتى لزيارتي الطالب راب والفيلسوف ماغ، ولكن لم يأت أحد في النهار إلا ذلك الصياد باغ فقط، وخاصة عندما يأتي اثنان أو ثلاثة معا يكون ذلك ليلا ... بل وفي الليالي المقمرة فقط. لقد تحدثت في الليلة الماضية تحت ضوء القمر مع غيل مالك مصنع الزجاج والفيلسوف ماغ. ليس هذا فقط بل لقد عزف لي الموسيقار كراباك مقطوعة موسيقية على الكمان. انظر، هناك باقة زهور الزنبقة السوداء موضوعة فوق المكتب، أليس كذلك؟ لقد أحضرها أيضا كراباك أمس هدية معه ... (التفت للخلف ونظرت. بالطبع لم يكن فوق المكتب باقة زهور ولا غيرها.)
وبعد ذلك هذا الكتاب في الفلسفة أيضا أحضره لي خصوصا الفيلسوف ماغ. جرب أن تقرأ قليلا الأشعار التي في البداية. كلا، فلا يفترض أن تكون على معرفة بلغة بلاد الكابا. سأقرؤها أنا بدلا عنك. إنه كتاب صدر مؤخرا يضم الأعمال الكاملة للمؤلف توك ... (فتح دليل أرقام الهواتف القديم، وبدأ يقرأ بصوت عال الشعر التالي): ... إن بوذا نائم،
منذ زمن بعيد!
داخل سعف النخيل،
وأوراق الخيزران. •••
يبدو أن المسيح،
مات بالفعل،
مع التين الذابل،
على قارعة الطريق. •••
ولكننا يجب أن نستريح،
حتى ولو أمام خلفية النجيلة. (ثم عند النظر إلى تلك الخلفية، نجدها لوح قماش ممتلئا بالرتوق؟) ...
ولكنني لست كارها للعالم مثل ذلك الشاعر. ما دام يأتي لزيارتي الكابا من حين لآخر ... آه، لقد نسيت ذلك الأمر. أنت تتذكر القاضي بيب صديقي، أليس كذلك؟ لقد جن ذلك القاضي حقا بعد أن فقد وظيفته، ولقد سمعت أنه الآن يرقد في مستشفى للأمراض النفسية في بلاد الكابا، وأنا أريد أن أذهب لزيارته في مرضه لو فقط وافق الدكتور «س» على ذلك ... ••• (اليوم الحادي عشر من الشهر الثاني من العام الثاني لعصر شوا [11 فبراير 1927].)
اكتئاب تانيكو
عندما تسلمت تانيكو إشعار حفل زواج ابنة رجل الأعمال صديق زوجها، تحدثت بحماس إلى زوجها الذي كان على وشك الخروج للعمل: «هل من السيئ ألا أحضر أنا أيضا؟» «سيكون سيئا بالتأكيد.»
هكذا أجاب زوجها وهو يربط رابطة العنق ناظرا إلى تانيكو عبر المرآة، وبالنظر إلى أن تلك المرآة وضعت فوق خزانة الملابس، فالأقرب القول إنه أجاب تجاه حاجبي تانيكو أكثر من أنه أجاب إلى تانيكو. «ولكن ألن يقام الحفل في الفندق الإمبراطوري؟» «في الفندق الإمبراطوري؟» «ألم تكن تعلم ذلك؟» «بلى ... أعطني الصدرية.»
أسرعت تانيكو بإعطائه الصدرية ثم عادت للحديث عن حفل الزواج. «الفندق الإمبراطوري، يعني طعاما غربيا، أليس كذلك؟» «أنت تذكرين أمرا بديهيا» «أليس هذا ما يجعلني في مأزق؟» «لم؟» «تسأل لم؟ ... لأنني لم أتعلم طريقة تناول الطعام الغربي ولو مرة واحدة في حياتي.» «وهل يتعلم أحد مثل هذه الأشياء؟»
وبمجرد أن ارتدى الزوج سترته العلوية، وضع القبعة اللينة على رأسه بعشوائية، ثم ألقى نظرة على دعوة حفل الزواج التي فوق الخزانة ، وقال: «ما هذا ؟ إن الموعد السادس عشر من أبريل، أليس كذلك؟» «وما الفرق لو كان السادس عشر أو السابع عشر؟!» «أي إنه لدينا ثلاثة أيام، أقصد أن تتعلمي خلالها.» «حسنا، بالتأكيد سترافقني غدا الأحد إلى مكان ما!»
ولكن الزوج خرج مسرعا للذهاب إلى شركته دون أن يقول شيئا.
شعرت تانيكو بالاكتئاب قليلا وهي تودع زوجها، ومن المؤكد أن حالتها الصحية ساعدت على ذلك. عندما صارت تانيكو بمفردها حيث إنها بلا أطفال، فردت صفحات الجريدة أمام مدفأة الفحم الطويلة، ومرت بعينيها باحثة في كل الصفحات عن مقال بهذا الشأن، ولكن حتى وإن كان ثمة باب «وجبة اليوم»، إلا أنها لا تخبرها عن طريقة تناول الوجبات الغربية. ما طريقة تناول الوجبات الغربية؟ ... شعرت فجأة أن الكتاب المدرسي لمدرسة البنات كان به مثل هذا الدرس، فعلى الفور أخرجت كتابين قديمين لمادة التربية المنزلية من أدراج الخزانة. ما أسرع ما تهلهل الكتابين وتراكم عليهما السخام! ليس هذا فقط، بل كانت تفوح منهما رائحة الماضي الذي لا تخطئها الأنف، وضعت تانيكو هذين الكتابين على ساقيها الرفيعتين وأخذت تتابع الفهرس باجتهاد لا تفعل مثله بتاتا عندما تقرأ الروايات أيا كانت. «غسيل الملابس من القطن والكتان، المنديل، المريول، الجوارب، مفرش المائدة، مناديل المائدة ...» «مفارش الأرضية، الحصير، السجاد، المشمع، حصير الفلين ...» «أدوات المطبخ، الأواني الخزفية والفخارية، الأواني الزجاجية، الأدوات المعدنية والفضية ...»
بدأت تانيكو البحث في الكتاب الثاني بعد أن خاب أملها في الكتاب الأول. «طريقة ربط الضمادات، رباط رأسي ملفوف، الضمادة المقطوعة ...» «الولادة، ملابس الوليد، غرفة الولادة، أدوات التوليد ...» «الإيرادات والنفقات، بنك العمال، الفائدة، إيرادات الشركات ...» «إدارة شئون العائلة، تقاليد العائلة، مهارات ربة البيت، الاجتهاد والادخار، العلاقات، الهوايات ...»
خاب أمل تانيكو فألقت بالكتاب بعيدا، ثم ذهبت لتصفف شعر رأسها أمام المرآة الكبيرة الموضوعة على خزانة خشب السرو، ولكنها مع ذلك لم تستطع إلا أن تنشغل بطريقة تناول الطعام الغربي ...
في ظهيرة اليوم التالي، صحبها زوجها الذي شاهد قلقها خصوصا إلى أحد المطاعم في الشوارع الخلفية لحي غينزا. في البداية اطمأنت تانيكو وهي تجلس على المائدة إلا أنه لا أحد غيرهما في المطعم، ولكنها عندما فكرت أن هذا المطعم لا شعبية له، لم تستطع إلا أن تشعر أن الكساد قد أثر حتى على حوافز زوجها. «مساكين ألا يكون لديهم زبائن هكذا.» «لا تمزحين، لقد اخترت خصوصا الوقت الذي يخلو فيه المطعم من الزبائن.»
ثم بعد ذلك رفع زوجها الشوكة والسكين وبدأ يعلمها طريقة أكل الطعام الغربي، ولا شك أن ذلك في الواقع لم يكن مؤكدا بالضرورة، ولكنه على أي حال وجه كل معارفه وحكمته في تعليم تانيكو وهو يقطع أعواد نبات الهليون واحدا بعد آخر. وكانت هي كذلك بالتأكيد في غاية الحماس، ولكن في النهاية عندما أتى البرتقال والموز وغيرهما، لم تستطع إلا أن تفكر من نفسها في أسعار مثل تلك الفواكه.
غادرا ذلك المطعم ومشيا معا في طرقات غينزا الخلفية. على ما يبدو أن زوجها كان يشعر بإحساس الرضا عن النفس لتأدية واجبه أخيرا، ولكن تانيكو كان تتذكر في ذهنها عدة مرات طريقة استخدام الشوكة وطريقة شرب القهوة. ليس هذا فقط، ولكنها كانت تشعر بالقلق المرضي الذي يقول: ترى ماذا تفعل في حالة الخطأ؟ كانت الشوارع الخلفية لغينزا هادئة، وكذلك كانت أشعة الشمس التي سقطت على الأسفلت هادئة تناسب فصل الربيع، ولكن سارت تانيكو متأخرة قليلا عن زوجها وهي تجيب على كلماته بعشوائية ...
بالطبع تلك هي المرة الأولى التي تخطو فيها داخل الفندق الإمبراطوري، وهي تصعد السلالم الضيقة وزوجها أمامها مرتديا الملابس التي عليها شعار العائلة، شعرت بمشاعر تقترب من الاستياء في الجزء الداخلي المستخدم في بنائه الطوب والحجر الخفاف. ليس هذا فقط، بل حتى إنها شعرت أن فأرا كبيرا يجري متنقلا من حائط إلى آخر. شعرت؟ ... لقد كان ذلك «شعرت» بالفعل. جذبت طرف رداء زوجها وقالت: «انظر إنه فأر.» ولكن عندما التفت زوجها كان ملامح وجهه منزعجة ولم يجب إلا بالقول: «أين؟ ... أنت تتوهمين.» كانت تانيكو قد انتبهت بنفسها أنه وهم منها حتى قبل أن يقول لها زوجها ذلك، ولكنها كلما انتبهت إلى ذلك كانت لا تستطيع إلا أن تقلق أكثر وأكثر.
جلسا عند ركن المائدة، وبدآ يحركان الشوك والسكاكين. صبت تانيكو من حين لآخر نظرها على العروس التي كانت تضع على رأسها غطاء الرأس الأبيض للعروس، ولكن بالطبع كان اهتمامها الأكبر منصبا على ما فوق الأطباق من طعام. شعرت بأن أعصاب جسدها كله ترتعش من أجل أن تضع قطعة خبز في فمها. ناهيك عن أنها عندما سقطت الشوكة وقعت في حيرة ولم تدر ماذا تفعل؟ ولكن لحسن الحظ اقترب حفل العشاء من نهايته أخيرا. عندما نظرت تانيكو إلى السلاطة فوق طبقها أخيرا، تذكرت كلمة زوجها عندما قال: «اعتبري أن الوجبة انتهت عندما تأتي أطباق السلاطة.» ولكنها عندما فكرت أن تلتقط أنفاسها أخيرا، كان يجب عليها هذه المرة أن تقف وترفع كأس الشامبانيا. كانت تلك الدقائق هي أقسى دقائق في حفل العشاء. ابتعدت عن المقعد بخيفة وتردد، وهي ترفع الكأس حتى أعلى عينها، وشعرت هذه المرة أنه حتى عظام الظهر ترتعش. ذهبا منعطفين في حارة ضيقة في محطة القطار النهائية، وكان زوجها يبدو في منتهى السكر. قالت تانيكو شيئا بابتهاج ومرح وهي تنتبه إلى موضع أقدام زوجها، وأثناء ذلك، مرا من أمام «مطعم» له إضاءات قوية. كان داخله رجل يرتدي قميصا فقط دون بدلة يجلس وهو يشرب الخمر مع «مزة» من الأخطبوط وهو يمازح النادلة. بالطبع كان ذلك ما لمحته عيناها، ولكنها لم تكن تستطيع أن تمنع نفسها من احتقار ذلك الرجل، ذلك الرجل بذقنه الخشن. وفي نفس الوقت لم يكن من الممكن أيضا ألا تحسده تلقائيا على حريته، وبعد أن تخطت ذلك المطعم، أصبح المكان كله بيوتا سكنية وليست محلات، وبالتالي بدأت المنطقة تظلم تدريجيا. شعرت تانيكو داخل مثل ذلك الظلام برائحة براعم أشجار ما، ثم تغلغلت داخلها فجأة ذكريات الريف الذي ولدت به، وتذكرت أيضا أمها التي كانت تقول في تعالم وهي تشتري سندين أو ثلاثة سندات بقيمة خمسين ينا: «لأنه بذلك تزيد الأصول الثابتة (!)»
في صباح اليوم التالي، تحدثت تانيكو التي كان وجهها مرهقا إلى حد ما مع زوجها، وكان زوجها كما هو متوقع يربط رابطة العنق أمام المرآة. «هل قرأت جريدة الصباح؟» «أجل.» «هل قرأت الخبر عن إصابة بنت بائع وجبات الطعام في حي هونجو بالجنون؟» «جنت؟ لماذا؟»
قال الزوج وهو يدخل ذراعيه في الصدرية، ناقلا بصره إلى تانيكو عبر المرآة. ربما يجب القول إلى حاجبي تانيكو وليس إلى تانيكو نفسها ... «يقال إن السبب أن عاملا قبلها.» «وهل يجن المرء من شيء بسيط كهذا؟» «يجن بالتأكيد. أعتقد أنه يجن. لقد رأيت أمس حلما مخيفا ...» «أي حلم؟ ... إن رابطة العنق هذه نهايتها هذه السنة بالتأكيد» «لقد ظننت ظنا خاطئا جدا ... ولا أعرف ما الذي فعلته. حلمت أنني أقدمت على فعل خاطئ تماما، وألقيت بنفسي فوق قضبان القطار، ولكن القطار جاء في نفس الوقت ...» «وعندما ظننت أن القطار دهسك، استيقظت على الفور، أليس كذلك؟»
ارتدى الزوج سترته العلوية، واعتمر القبعة الصيفية اللينة، ولكن ظل متجها ناحية المرآة منشغلا بأمر رابطة العنق. «كلا، بعد أن دهسني كنت ما زلت أعيش في الحلم، ولكن تبعثر جسدي أشلاء وبقيت حواجبي فقط فوق القضبان ... كما أتوقع ذلك بسبب قلقي بشأن طريقة أكل الطعام الغربي خلال الأيام الماضية، أليس كذلك؟» «ربما هو كذلك.»
استمرت تانيكو في حديثها وهي تودع زوجها وكأنها تتحدث إلى نفسها: «لو كنت فشلت ليلة أمس فشلا ذريعا، حتى أنا لا أعرف ماذا كنت سأفعل في نفسي.»
ولكن زوجها ذهب سريعا إلى عمله دون أن يرد عليها بشيء. أخيرا أصبحت تانيكو وحيدة، فجلست ذلك اليوم أيضا أمام مدفأة الفحم الطويلة، وقررت أن تشرب الشاي الأخضر البارد الذي كان في الكوب، ولكن كان قلبها قد فقد هدوءه. كانت الجريدة التي أمامها بها صورة لحدائق أوينو المزدهرة بالزهور. حاولت أن تشرب جرعة أخرى من الشاي وهي تنظر في شرود إلى تلك الجريدة، ولكن طفا فوق سطح الشاي زيت يشبه معدن الميكا، ولكن كان ذلك - ربما وهما منها - يشبه حاجبها . «...»
ظلت تانيكو تتأمل الشاي طويلا وهي تسند خديها على يديها، دون أن تأتيها الرغبة في تصفيف شعرها. ••• (اليوم الثامن والعشرون من الشهر الثالث من العام الثاني لعصر شوا [28 مارس 1927].)
كوتشيا
1
وقعت معركة كاشيي في يوم التاسع والعشرين من الشهر الرابع في أول أعوام عصر «غن نا»،
1
وقتل في تلك المعركة أشهر قادة جيش أوساكا ناويوكي بان وشيغيماسا باناوا. وخاصة ناويوكي بان قتل في قلب مدينة كاشيي بعد أن حارب حتى امتلأت درعه الذهبية التي تحمي صدره بسهام ذات نصل صليبي، وحتى انكسرت مقابض تلك السهام.
وفي وقت الحمل
2
من يوم الثلاثين من الشهر نفسه، قدم قائد الجيش المنتصر ناغا أكيرا أسانو رأس ناويوكي إلى قائده الأعلى إيياس توكوغاوا وهو يعلن له انتصاره في المعركة. (وكان إيياس منذ السابع عشر من نفس الشهر يقيم في قلعة نيجوجو
3
منتظرا قدوم ابنه القائد العام لليابان من قلعة إيزو إلى كيوتو من أجل الهجوم الشامل على قلعة أوساكا)، وكان من قام بتلك المهمة هما سوبيه سيكي وسامانوسكيه تيراكاوا مساعدا ناغا أكيرا.
أمر إيياس مساعده ماسازومي هوندا بعرض رأس ناويوكي لفحصها.
4
ذهب ماسازومي إلى الغرفة المجاورة وفتح بهدوء غطاء الصندوق الخشبي الذي بداخله الرأس، وألقى نظرة على رأس ناويوكي، ثم رسم فوق الغطاء علامة مانجي لدرء النحس، وفوق ذلك بعد أن قلب جذر السهم، قال ما يلي إلى إيياس: «إن رأس ناويوكي أصبحت متعفنة وسقط لحمها، تفوح منها رائحة شنيعة، ورأيي ألا نقوم بطقس الفحص، ما رأيكم؟»
ولكن لم يوافقه إيياس وقال: «لا يختلف هذا الأمر مع موت الجميع. أحضر تلك الرأس في أي حال.»
تقهقر ماسازومي إلى الغرفة المجاورة مرة أخرى، وجلس بلا حراك أمام الرأس المغطى بقطعة قماش لوقت طويل.
ثم وجه إيياس حديثه إلى الغرفة المجاورة قائلا: «ألا تسرع؟»
لقد أضحى ناويوكي بان، الذي كان جندي مشاة في مدينة يوكوسوكا بإقطاعية إينشو، في زمن وجيز واحدا من عظام المحاربين المعدودين بين ساموراي الدولة اليابانية المشهورين. ليس هذا فقط، بل إن القائد إيياس كان في أحد الأوقات يساعده بمبلغ يقدر بمائتي قطعة من الذهب سنويا؛ لأنه كان سيد «أومان» محظية إيياس التي ولدت له ابنه «يورينوبو». وفي النهاية بخلاف مهارته كساموراي، تدرب ناويوكي على طريقة الزن تحت قيادة الراهب الكبير دايريو، وبالتالي ليس من سبيل الصدفة أن تنشأ تلك الرغبة لدى إيياس في التأكد من رأس ناويوكي هذا ...
ولكن ماسازومي امتنع عن الرد، وبدأ يتحدث من تلقاء نفسه إلى ماساناري ناروسيه هاياتونوشو وإلى توشيكاتسو دوي أوينوكامي اللذين ينتظران في غرفة مجاورة:
الأعظم الذي وصل للقمة في أخلاق الساموراي لا يختلف في ذلك عن الآخرين. إن ماسازومي حاول بقدر الإمكان الحفاظ على التقاليد العريقة للساموراي، إن رأس ناويوكي حتى وإن كان هو الرأس الأول، ولكنها تفتح عينيها على وسعهما، لذا فقد رفضت عرشها للفحص، ولكن أليس أمر القائد الأعلى بعرضها مع ذلك على ناظريه، دليلا جيدا على أهميتها؟»
بعد أن سمع إيياس كلمات ماسازومي عبر باب الغرفة الذي رسم عليه الزهور والطيور التقليدية، بالطبع لم يطلب مجددا أن يفحص رأس ناويوكي.
2
وعندها، في نفس ليلة الثلاثين من الشهر ذاته، صرخت فجأة امرأة تعمل خادمة في مقر إقامة ناوتاكا إيي كامون نوكامي وكأن مسا من الجنون أصابها، كانت المرأة قد تعدت الثلاثين من عمرها لتوها واسمها كوتشيا. «ألا تجهز رأسا لساموراي بحجم ناويوكي بان دان إيمون لكي يعرض على القائد الأعظم؟ ذلك الرجل الذي كان قائدا فريدا وليس له مثيل؟ إن طاله مثل ذلك الخزي والعار، فمن المؤكد أنه سينزل لعنته عليكم ...»
ثم ظلت كوتشيا تصرخ وهي تحاول الطيران في الهواء، وكانت قوتها تلك بدرجة لا يستطيع من حولها من رجال ونساء أن يسيطروا عليها تقريبا، ومن المؤكد أن الضوضاء التي أحدثوها من أجل أن يسحبوها لتجلس وكذلك صراخها العالي لا يمكن التعبير عنهما في كلمة واحدة.
وكذلك كان من المحال ألا تصل أخبار تلك الجلبة التي حدثت في مقر إقامة القائد إيي إلى أذن القائد الأعظم إيياس توكوغاوا، ليس هذا فقط، بل لقد التقى ناوتاكا بإيياس وتحدث إليه أن الجميع في خوف بسبب حلول روح القائد ناويوكي الشريرة على كوتشيا. «ليس من العجيب أن تنزل لعنة ناويوكي، لنسرع إذن بإجراء طقس عرض الرأس.»
أنزل إيياس أمره هذا بحزم تحت إضاءة الشموع العملاقة.
اتشح طقس عرض رأس ناويوكي في الغرفة الرئيسة لقلعة نيجوجو في ذلك الوقت المتأخر من الليل بحلة من المهابة أكثر من لو أجري في النهار، ارتدى إيياس معطفا بني اللون فوق الهاكاما وانتهى من مراسم فحص رأس ناويوكي بإيجاز، وكان الاثنان اللذان يحملان الرايات على يمين ويسار ذلك الرأس على أهبة الاستعداد بوضع كل منهما يده على مقبض سيفه لنزعه من غمده في أي لحظة، مع صب نظراتهما بثبات على الرأس أثناء ما كان إيياس يفحصه. لم يكن رأس ناويوكي ساقط اللحم، ولكنه فوق كونه تلون بلون برونزي، كان يفتح عينيه على وسعهما كما قال ماسازومي هوندا. «من المؤكد أن بذلك ارتاح دان إيمون بان.»
قال ذلك جين إيمون يوكوتا أحد حاملي الرايات ثم حيا إيياس بانحناءة منه.
ولكن أومأ إيياس فقط، ولم يجب بشيء على كلمته تلك.
ليس هذا فقط، ولكنه استدعى ناوتاكا وقرب فمه من أذنه وأمره بصوت خفيض قائلا: «ابحث عن أصل تلك المرأة!»
3
وبالطبع لا يعقل ألا تصل أنباء فحص إيياس لرأس ناويوكي إلى مقر إقامة القائد إيي، وعندما وصلت تلك الأخبار إلى سمع كوتشيا، برزت على محياها ابتسامة ورفعت صوتها بالقول: «ارتياح، ارتياح.» ثم غرقت في نعاس عميق جدا يدل على إرهاقها الشديد، وبذلك اطمئن أخيرا رجال ونساء مقر القائد إيي؛ ففي الواقع لا ريب أن صوت كوتشيا الغليظ مثل صوت الرجال كان يثير الرعب وهو يسب ويلعن.
ثم صبح الصباح فقرر ناوتاكا استدعاء كوتشيا على الفور، وسؤالها عن أصلها وفصلها، كانت تلك المرأة نحيفة نحافة شديدة لكي تخدم في مثل ذلك المقر، وعلى الأخص كتفاها اللتان لا تثيران الشفقة بل على العكس تبعثان على التألم. «أين ولدت؟» «في نطاق قلعة هيروشيما غيشو.»
ظل ناوتاكا يحملق في كوتشيا أثناء ذلك الحوار، ثم سألها آخر سؤال ببطء: «بمعنى أنك لك علاقة بالقائد بان؟»
يبدو أن كوتشيا فوجئت قليلا بالسؤال، ولكنها على عكس المتوقع أجابت بوضوح بعد حيرة بسيطة: «أجل، مع خجلي من ذلك ...»
طبقا لحديث كوتشيا فقد أنجبت طفلا من ناويوكي. «ربما كان ذلك هو السبب، عندما سمعت ليلة أمس عدم فحص الرأس، ومع أنني أنثى فقد شعرت بخيبة أمل، وعرفت أنني فقدت عقلي، وتلفظت بأشياء عديدة، مع أنني لا أتذكر أيا مما حدث ...»
يبدو أن كوتشيا أصابها هياج خفيف وهي تقول ذلك وكفاها على الأرض مطأطئة الرأس، وقد أعطت أشعة شمس الصباح لجسدها النحيل بريقا خفيفا يشبه الثلج. «حسن، حسن. يمكنك الانصراف وأخذ راحة.»
بعد أن جعل ناوتاكا كوتشيا ترحل، ذهب مجددا لرؤية إيياس تحدث إليه بكل المعلومات عن تلك المرأة. «كما توقعت، كانت لها علاقة مع دان إيمون بان.»
ابتسم إيياس لأول مرة، إن الحياة تبدو له واضحة جلية مثل خارطة طريق طوكايدو. إنه يشعر بحقيقة أن لجنون كوتشيا - مثلما لكل شيء - ظاهر وباطن كما علمته الحياة دائما، إن ذلك التوقع هذه المرة أيضا، تطابق مع خبرته التي تخطت السبعين عاما ... «بالضبط كما توقعت.» «ماذا نفعل في تلك المرأة؟» «لا بأس، دعها كما هي في خدمتك.»
كان ناوتاكا يشعر بالغضب قليلا. «ولكن، ماذا عن جريمة السخرية من مقامكم؟»
صمت إيياس لبعض الوقت، ولكن كانت عيون قلبه تتجه نحو ظلام في قاع الحياة، ونحو الوحوش المتعددة داخل ذلك الظلام. «هل تسمح لي بأن أفعل بها ما يتراءى لي؟» «ماذا! السخرية من مقامي! ...»
في الواقع كان ذلك أمرا لا يشك فيه ناوتاكا بتاتا، ولكن أجاب إيياس سريعا برد مهيب وكأنه يتوجه به إلى أعدائه وهو كما هو يفتح عينيه على وسعهما: «كلا، من المحال أن يسخر مني أحد!» ••• (اليوم السابع من الشهر الخامس للعام الثاني من عصر شوا [7 / 5 / 1927].)
شتاء
ذهبت سيرا على الأقدام إلى سجن إيتشيغايا ، أرتدي معطفا ثقيلا ومعتمرا قبعة أستراخان روسية. لقد دخل ابن عم
1
لي هذا السجن قبل أيام قليلة، وكنت أزوره ممثلا لجميع أفراد العائلة، ولكن من المؤكد أنني كنت أشعر كذلك بالفضول تجاه السجن.
مع اقتراب شهر فبراير تبقت في الشوارع رايات إعلانات المحلات، ولكن أصاب كساد الشتاء المدينة بأكملها فقل عدد المارة. شعرت أن الإرهاق الجسدي قد تغلغل في كياني شخصيا وأنا أصعد المنحدر. لقد مات عمي في شهر نوفمبر من العام الماضي بسرطان الحنجرة، ثم هرب أحد فتيان العائلة من بيتهم في أول هذا العام، ولكن كان القبض على ابن عمي وسجنه الضربة الأكثر إيلاما لي. كان علي أن أتفاوض مرات عديدة مع شقيق السجين الأصغر منه، مفاوضات أبعد ما تكون عن طبيعة شخصيتي. ليس هذا فقط، بل إن المشاكل العاطفية بين الأقارب المتعلقة بذلك الحدث كثيرا ما يتولد عنها حرص يصعب فهمه إلا لمن ولد في طوكيو. كنت لا أستطيع منع رغبة عارمة داخلي في الراحة بعد زيارة ابن عمي هذه لمدة أسبوع في مكان ما ...
كان سجن إيتشيغايا محاطا بحاجز ترابي عال ذبلت حشائشه، ليس هذا فقط، ولكن على الجهة الأخرى من بوابة شبكية مصنوعة من خشب غليظ تشبه بوابات القرون الوسطى، يرى من خلالها حديقة فرشت بالحصى، بها أشجار سرو اسودت بسبب الصقيع، وقفت أمام تلك البوابة وسلمت بطاقة اسمي لحارس تدلت لحيته الطويلة الرمادية فبدا أنه إنسان صالح، رافقني الحارس إلى غرفة انتظار ذات إفريز جف عليه عفن سميك، لا تبعد كثيرا عن البوابة، وهناك جلس عدد من المنتظرين غيري على مقاعد ذات وسائد نحيلة. كان أكثرهم لفتا للأنظار امرأة في الرابعة أو الخامسة والثلاثين من عمرها، تقرأ في مجلة وتضع على كتفيها معطفا تقليديا أسود اللون.
من حين لآخر يأتي إلى غرفة الانتظار أحد الحراس بوجه متجهم تماما، وينادي بصوت رتيب ليس به أقل القليل من التنغيم على أرقام من أتى دورهم في الزيارة، ولكنني مهما انتظرت وانتظرت لم يناد على رقمي بسهولة. مهما انتظرت وانتظرت ... لقد كانت الساعة وقت دخولي من بوابة السجن العاشرة تقريبا، وتشير ساعتي الآن إلى الواحدة إلا عشر دقائق.
وبالتأكيد بدأت أشعر بالجوع، ولكن ما لم يكن محتملا هو برودة هذه الغرفة التي ليس بها أي أثر للتدفئة. كنت أكتم مشاعر الغضب وأنا أهز ساقي بلا توقف، وعلى غير المتوقع بدا أن أغلب الزائرين كثيرو العدد لا يبالون. بصفة خاصة الرجل الذي يرتدي معطفين فوق بعضهما البعض ويبدو وكأنه مقامر لا يحاول قراءة جريدة واحدة، بل هو مستمر فقط في أكل اليوسفي بتمهل.
ولكن تدريجيا قل عدد الزائرين الكثير في كل مرة يأتي الحارس لاستدعاء أحدهم، وأخيرا خرجت من غرفة الانتظار، وبدأت أمشي في الحديقة المغطاة بالحصى. لا شك أن أشعة شمس الشتاء كانت تسقط علي، ولا ريب كذلك أن الرياح التي علت فجأة قد أثارت الغبار الخفيف على وجهي، وبطبيعة الحال بت عنيدا تلقائيا، وقررت ألا أعود إلى غرفة الانتظار حتى تصبح الساعة الرابعة.
لسوء الحظ لم يناد على اسمي حتى بعد أن صارت الساعة الرابعة. ليس هذا فقط، بل لقد بدا أن عددا ممن جاءوا بعدي نودي عليهم، وفي آخر الأمر لم يبق أحد تقريبا. أخيرا رجعت إلى غرفة الانتظار، وبعد أن انحنيت لتحية الرجل الذي يبدو أنه مقامر تناقشت معه في حالتي، ولكنه لم يبد حتى ابتسامة، وأجاب فقط بصوت قريب من لهجة أهل أوساكا قائلا: «لأنهم
ولا ريب أن كلماته تلك أصابتني بقلق مؤكد، فقررت أن أسأل الحارس الذي جاء لنداء أرقام جديدة هل سأستطيع زيارة ابن عمي، ولكن علاوة على أن الحارس لم يجب مطلقا على سؤالي، رحل دون حتى أن ينظر إلى وجهي، وفي نفس الوقت تبعه الرجل الذي يبدو أنه مقامر هو واثنان أو ثلاثة آخرون من الزوار وخرجوا جميعا من الغرفة، وقفت في منتصف مدخل الغرفة، وأشعلت النار في السيجارة بطريقة آلية، ولكن مع مرور الوقت، بدأت أشعر بتعمق كراهيتي وحقدي تجاه الحارس المتجهم (دائما ما أستغرب من نفسي أنني لا أشعر بالاستياء على الفور عندما أتلقى إهانة مثل هذه الإهانة).
وعندما جاء الحارس للنداء على الزوار مرة أخرى كانت الساعة أوشكت على الخامسة تقريبا. بعد أن خلعت قبعة الأستراخان حاولت أن أوجه السؤال نفسه إلى الحارس، وعندها خرج الحارس مسرعا وهو يتجه بجنبه من دون أن يستمع إلى ما سأقول. لا شك أن مشاعري في تلك اللحظة هي التي يعبر عنها في الواقع بالقول «لقد فاق الأمر القدرة على التحمل!» ألقيت بعقب السيجارة ومشيت متوجها إلى مدخل السجن الواقع على الناحية المقابلة.
بعد صعود سلالم المدخل الحجرية، كان يجلس على اليسار، على الجانب الآخر من نافذة زجاجية عدد من الرجال يرتدون ملابس تقليدية يابانية يقومون بأعمالهم، فتحت تلك النافذة، وتحدثت بكل ما استطعت من هدوء إلى رجل يرتدي زيا حريريا أسود عليه شعار عائلته، ولكن حتى أنا نفسي كنت أدرك أن لون وجهي قد تغير من الغضب. «لقد جئت لزيارة «ت». هل سأستطيع لقاءه؟» «انتظر حتى يأتيك الحارس وينادي على رقمك.» «ولكنني أنتظر منذ الساعة العاشرة.» «من المؤكد أنه سينادي عليك قريبا.» «هل أنتظر حتى وإن لم يأت للنداء علي؟ هل أنتظر حتى وإن غربت الشمس؟» «حسنا، انتظر على كل حال، احرص على الانتظار في كل حال.»
كان يبدو أنه يخشى من هياجي، وتعاطفت قليلا مع ذلك الرجل وسط ثورة غضبي، وشعرت فجأة بهزلية الموقف الذي مضمونه: «إن كنت أنا ممثلا للعائلة، فهو يمثل عموم السجن.» «لقد تخطى الوقت الساعة الخامسة بالفعل، أرجو منك أن تسعى لجعلي أستطيع لقاءه.»
ألقيت إليه بتلك الجملة، وقررت العودة مؤقتا إلى غرفة الانتظار. لم يعد بغرفة الانتظار التي أوشكت على الظلام إلا تلك المرأة ذات تسريحة شعر المتزوجات وحيدة، وهذه المرة كانت قد رفعت وجهها عن المجلة التي قلبتها فوق ركبتيها، بدا وجهها الذي رأيته من الأمام وكأنه نحت قوطي، جلست قبالتها وشعرت بدوام عداوة الضعفاء تجاه منظومة السجون عامة.
وأخيرا عندما نودي على رقمي كانت الساعة على وشك أن تكون السادسة تقريبا، وهذه المرة قادني حارس يبدو عليه النشاط بعينين واسعتين لامعتين، ودخلت في النهاية إلى غرفة الزيارة، ومع قول غرفة الزيارة فهي بالكاد تبلغ مساحة قدمين أو ثلاثة أقدام مربعة على الأكثر. ليس هذا فقط، بل تراصت على الجانبين عدة أبواب غير الباب الذي دخلته دهنت بالطلاء تشبه تماما المراحيض العامة، وفي واجهة غرفة الزيارة بعد ممر ضيق ثمة نافذة على شكل نصف دائرة، وكانت طريقة اللقاء أن يظهر السجين المراد زيارته وجهه من خلال تلك النافذة.
ظهر على الجانب الآخر من النافذة، الجانب الآخر من النافذة الزجاجية ذو الإضاءة المعتمة، وجه ابن عمي الدائري السمين. على غير ما توقعت لم يكن به أي تغيير مما أعطاني قوة وراحة نوعا ما. تحدثنا عن المراد من الزيارة بإيجاز دون أن نخلط ذلك بالعواطف، ولكن كان على يميني مباشرة يتسرب بلا انقطاع إلي صوت بكاء فتاة في السادسة أو السابعة عشرة من عمرها يبدو أنها جاءت لزيارة أخيها الأكبر، كنت أتحدث مع ابن عمي وأنا غير قادر على إهمال صوت البكاء الصادر من يميني. «أرجوك أن تبلغ الجميع أنني بريء من تلك التهمة تماما.»
قال ابن عمي هذا القول بنبرة صارمة وكلمات قاطعة، ظللت أتأمله من دون أن أجيب عليه بشيء، وكان عدم إجابتي عليه سببا في حد ذاته لإحساسي بالاختناق، وعلى أرض الواقع على يساري مباشرة عجوز رأسه أصلع أرقط يقول من خلال النافذة نصف الدائرية لشاب يبدو أنه ابنه: «عندما أكون وحدي أتذكر أمورا عدة، ولكن عندما أقابلك أنساها.»
عندما خرجت من غرفة الزيارة، شعرت بالاعتذار تجاه ابن عمي، ولكن شعرت أيضا أن مسئولية ذلك مشتركة بيننا، قادني الحارس مرة أخرى ومشيت بخطوات واسعة في ممرات السجن التي تتغلغل برودتها في نخاع الجسم.
يفترض أن إحدى بنات عمومتي التي تقتسم معي الدم،
2
تنتظرني وهي تعيش في بيت ابن عمي هذا في ضاحية من ضواحي طوكيو، وصلت أخيرا إلى محطة يوتسويا ميتسكيه وسط المدينة المزدحمة ازدحاما شديدا، وقررت ركوب القطار الممتلئ عن آخره، ما زالت في أذني حتى الآن كلمة ذلك العجوز الخائرة نوعا ما وهو يقول: «عندما أكون وحدي ...» كانت بالنسبة لي أكثر إنسانية من بكاء الفتاة، كنت ممسكا بالحلقة المتدلية في القطار، أتأمل بيوت حي كوجيماتشي التي تنيرها أعمدة الطريق وسط أشعة الغروب، ولم أستطع إلا أن أتذكر كلمة «الناس مختلفون» بعد فوات الأوان. بعد مرور ثلاثين دقيقة تقريبا، وقفت أمام بيت ابن عمي، ووضعت إصبعي على زر الجرس الملصق في الجدار الأسمنتي. صوت الجرس الذي وصلني طفيفا أشعل مصباح الإضاءة في مدخل البيت، ثم فتحت الخادمة المسنة الباب الزجاجي فتحة صغيرة، فأطلقت صرخة تعجب: «أوه ...» أو ما شابه، وقادتني إلى غرفة في الطابق الثاني، عندما ألقيت بالمعطف والقبعة فوق المنضدة، لم أقدر إلا أن أشعر في لحظة واحدة بالإرهاق الذي نسيته حتى الآن، أشعلت الخادمة مدفأة الغاز، ثم غادرت وتركتني بمفردي في الغرفة. زين ابن عمي الذي لديه هواية جمع التحف، جدران هذه الغرفة بلوحتين أو ثلاث لوحات زيتية ومائية. قارنت بين تلك اللوحات في شرود، فتذكرت الآن تلك الكلمة العتيقة التي تدعى «تتقلب الحياة بين الشدة والرخاء ولا تستقر على حال.»
وهنا دخلت ابنة عمتي وشقيق زوجها الأصغر على التوالي. بدت متمالكة نفسها في حالة مطمئنة أكثر مما توقعت، أبلغتهم برسالة ابن عمي لهما بدقة على قدر المستطاع، ثم بدأت أتناقش معهما عما يجب فعله من إجراءات تالية، لم تكن ابنة عمي تحمل رغبة في عمل هذا وذاك بإيجابية خاصة، ليس هذا فقط، بل التقطت أثناء الحديث قبعة الأستراخان ثم وجهت لي الحديث التالي: «قبعة عجيبة، ليست من صنع اليابان، أليس كذلك؟» «هذه؟ إنها القبعة التي يعتمرها الروسيون عادة.»
ولكن شقيق الزوج الأصغر، وبسبب أنه كان أكثر «مهنية» من أخيه، فقد توقع العديد من العقبات. «على كل حال، مؤخرا أرسل صديق أخي إلي صحفيا بقسم الحوادث في جريدة
xx
ومعه بطاقة اسمه، وكتب مع تلك البطاقة: «لقد دفعت بصعوبة بالغة نصف المبلغ المطلوب لسكوته، فأرجو منك دفع المبلغ المتبقي له.» وعندما بحثت الأمر بنفسي عرفت أن من أفشى الأمر لذلك الصحفي هو ذلك الصديق نفسه، وأنه بالطبع لم يدفع له نصف المبلغ ولا غيره، بل أرسله فقط ليحصل مني على المبلغ الذي يدعي أنه نصف المطلوب، وبالطبع ذلك الصحفي هو صحفي على أي حال ...» «حتى أنا صحفي على أي حال، فأرجو منك إعفائي من ذلك الحديث المخزي.»
لم أستطع منع نفسي من قول ذلك المزاح من أجل أن أبرز ذاتي، ولكن شقيق الزوج استمر في الحديث وكأنه يلقي محاضرة، وعيناه في شدة الاحمرار من أثر الخمر. وفي الواقع لا شك أن موقف التهديد ذلك لم يكن يحتمل طيش المزاح. «علاوة على ذلك، فمن أجل إغضاب قاضي الإجراءات تعمد الإمساك به ومحاولة الدفاع عن أخي أمامه.» «لو تحدثت أنت أيضا بذلك له ...» «بالتأكيد أنا أحدثه بذلك، لقد توسلت إليه وأنا أحني له رأسي قائلا: إنني ممتن جدا لغرضه النبيل، ولكن الحديث بهذا الشكل ربما يغضب القاضي، وبالتالي ستكون النتائج على العكس من نيتك الحسنة.»
بقي شقيق الزوج جالسا أمام مدفأة الغاز، يلهو بقبعة الأستراخان، وإن اعترفت أنا بصدق، وأنا أتحدث معه، كنت لا أفكر إلا في تلك القبعة فقط، فلن أغفر له لو وقعت من يده في نار المدفأة ... هذا ما كنت أفكر فيه، لقد ظل أحد أصدقائي يبحث عن تلك القبعة في حي اليهود في برلين وفي النهاية عثر عليها أخيرا بعد أن ذهب إلى موسكو صدفة. «وهل فشل معه ذلك القول؟» «لم يفشل فقط، بل إنه قال لي لا تكن وقحا معي وأنا أرهق نفسي من أجلكم.» «فهمت، واضح أننا لن نقدر على أن نفعل شيئا.» «لن نقدر على أن نفعل شيئا؛ فمن الناحية القانونية وكذلك الأخلاقية بالتأكيد ليس عليه مشكلة، ففي النهاية ظاهريا على الأقل يبدو أنه يبذل جهده ووقته من أجل صديقه، ولكنه في الحقيقة يساعد في حفر حفرة لكي يوقعه فيها ... إنني في الواقع شخص ينفعل بشدة، ولكن أمام مثل هذا الإنسان لا أستطيع فعل شيء.»
وفي أثناء حديثنا هذا سمعنا صوتا يصرخ فجأة: «عاش السيد «ت»!» مما أثار دهشتنا، فتحت ستارة النافذة بإحدى يدي، ونظرت إلى الطريق أسفل النافذة. تجمع حشد من الناس الذين ملئوا الطريق الضيق، ليس هذا فقط بل كانت تتحرك عدة قناديل ورقية كتب عليها جمعية شباب بلدة
xx . نظرنا أنا وقريباي الاثنان لبعضنا البعض، فتذكرت فجأة أن ابن عمي كان يحمل لقب رئيس جمعية شباب بلدة
xx . «ترى هل ينبغي الخروج وشكرهم على ذلك؟»
أخيرا ظهر على وجه ابنة عمتي تعبير «لم أعد احتمل هذا»، وهي تنظر إلى وجهينا نحن الاثنين بالتبادل. «ماذا؟ سأذهب أنا.»
ذهب شقيق الزوج مسرعا وتركنا في الغرفة، وأنا أشعر بغيرة تجاه قدرته على الانفعال، تأملت اللوحات المعلقة على الحائط لكيلا أنظر إلى وجه ابنة عمتي، ولكن، كان وجودي بدون أن أنطق بشيء يسبب لي أنا نفسي المعاناة، ولكنني كنت أعاني من وجودنا معا بدون أن نتكلم، ومع قول ذلك فأي حديث بيننا سيجعلنا نحن الاثنين نتأثر عاطفيا مما يزيد من معاناتي. أشعلت النار في سيجارتي وأنا صامت، فعثرت في إحدى اللوحات التي على الحائط على بورتريه لزوجها نفسه مرسوما بطريقة منظور مضطربة.
أخيرا وجهت ابنة عمتي لي الحديث بصوت سطحي مريب قائلة: «نحن لسنا في عاش فلان، ولكن قول ذلك لا فائدة في النهاية ...» «ترى ألم يعرف بعد الأمر داخل الحي؟» «أجل ... ولكن ترى ما الذي حدث؟» «عم تسألين؟» «عن «ت». عن زوجي.» «أعتقد أنه حدثت أمور متعددة من وجهة نظر «ت».» «أحقا ما تقول؟»
شعرت فجأة بالضيق، فأعطيت ظهري لها وذهبت إلى جوار النافذة، كان الناس تحت النافذة مستمرين في إطلاق صيحات عاش، عاش بلا انقطاع، كانوا يكررون قول «عاش، عاش.» ثلاث مرات متوالية، خرج شقيق الزوج، وانحنى لتحية تلك الجموع التي ترفع القناديل الورقية بأياديها عاليا. ليس هذا فقط، بل كان على يمينه ويساره ابنتا السجين الصغيرتين، يهتز شعرهما الذي ضم في ضفائر من حين لآخر مع جذب عمهما لهما قليلا ...
بعد مرور عدة أعوام من ذلك الحدث، وفي ليلة ذات برودة قاسية، كنت في غرفة المعيشة ببيت ابن عمي، أضع في فمي غليون تبغ النعناع الذي بدأته مؤخرا، أتحدث مع ابنة عمتي التي تجلس قبالتي، كان البيت بعد أن مر اليوم السابع
3
في منتهى الهدوء لدرجة تثير النفور، كنت قد انتهيت من إشعال شمعة مركزية أمام لوح الاسم المقدس لزوجها الراحل، ثم أمام الطاولة وضع فوقها ذلك اللوح أيضا، كانت ابنتاها الصغيرتان نائمتين ومغطاتين بملابس النوم، وأنا أتأمل وجه ابنة عمتي التي أصابها الهرم بشكل ملحوظ، تذكرت فجأة ذلك اليوم الذي سبب لي معاناة شديدة، ولكن ما خرج على لساني كان تلك الكلمات المعتادة الطبيعية جدا: «يبدو أن تدخين غليون النعناع يجعل البرد يصل إلى نخاع الجسم أكثر من اللازم.» «حقا! أنا أيضا أشعر بأن أطرافي في منتهى البرودة.»
ثم أصلحت ابنة عمتي من وضع مدفأة الفحم الطويلة بدون مبالاة كبيرة ... ••• (اليوم الرابع من الشهر السادس من العام الثاني لعصر شوا [2 / 6 / 1927].)
رسالة
إنني الآن أقيم في نزل الينابيع الساخنة هذا، ولا ينفي ذلك أنني أريد الهروب من حرارة الصيف، ولكن من المؤكد أيضا أنني ما زلت لدي غير ذلك مشاعر الرغبة في القراءة والكتابة ببطء وتريث. طبقا لإعلانات دليل السفر والسياحة، فهذا المكان جيد بالنسبة لمرض الوهن العقلي، ولهذا السبب ثمة اثنان من المجانين هنا؛ الأولى امرأة في السابعة أو الثامنة والعشرين من العمر، تلك المرأة لا تتحدث مطلقا، بل تظل طوال الوقت تعزف على أكورديون، ولأن مظهرها أنيق جدا فهي على الأرجح ابنة أسرة راقية. ليس هذا فقط، لقد رأيتها مرتين أو ثلاث مرات، يبدو وجهها متناسقا وجيد الحواف وكأنها مختلطة الدماء. المجنون الآخر كان رجلا في حدود الأربعين من عمره، امتدت جبهته الحمراء لتصل إلى منتصف رأسه الأصلع، ومن خلال رؤية وشم أوراق الصنوبر على ذراعه اليسرى على ما أذكر، فربما كان يعمل قبل أن يجن عملا من تلك الأعمال التي تحتاج إلى عزيمة قوية. بالتأكيد دخلت حوض الاستحمام مع ذلك الرجل عددا من المرات، فجأة أشار «ك» (وهو طالب جامعي يقيم أيضا في هذا النزل) إلى وشم ذلك الرجل وقال: «إن اسم زوجتك السيدة أوماتسو،
1
أليس كذلك؟» وعندها احمر وجه الرجل مثل الأطفال وهو غاطس كما هو في الماء الساخن ...
كان «ك» أصغر مني بعشر سنوات، بالإضافة على أنه شخص يحمل ودا شديدا تجاه عائلة الآنسة «م» المقيمة في نفس النزل، وإن وصفت الآنسة «م» على الطريقة القديمة فيمكن القول إن وجهها وجه غلمان، وعندما سمعت أن «م» كانت في مرحلة التعليم في مدرسة البنات، تتعلم رياضة القتال بالحراب وهي تربط عصابة بيضاء على رأسها للخلف فوق ضفائرها، فكرت أنها على الأرجح كانت تشبه القائد أوشيواكامارو في شبابه. مع أن عائلة «م» تقيم علاقة مع السيد «س»، و«س» هو صديق «ك»، ولكنه يختلف عن «ك» - كنت أسخر دائما عندما أقرأ الروايات أن الروائي للتفرقة بين اثنين من شخصيات الرواية، إن جعل أحدهما سمينا، يجعل الآخر نحيفا، وكنت لا أقدر على منع نفسي من الابتسام عندما يحرص على أنه إن جعل أحدهما شجاعا بطوليا، يجعل الآخر ضعيفا ورقيق المشاعر، وفي الواقع كان كل من «ك» و«س» غير سمينين. ليس هذا فحسب، بل كان الاثنان مولودين وهما يحملان أعصابا من السهل أن تنجرح، ولكن كان «ك» لا يظهر ضعفه بسهولة مثل «س»، ويبدو أنه يدرب نفسه على ذلك.
هذه هي دائرة علاقاتي هنا «ك»، و«س»، و«م» وأمها، ومع قول إنني أقيم علاقة، فلا يزيد الأمر عن التنزه أو التحدث معا فقط، فعلى العموم لا شيء هنا باستثناء الينابيع الساخنة (وهي نزلان اثنان فقط)، فما من مقهى واحد! لا أشعر تجاه تلك الوحدة بالقليل من السخط مطلقا، ولكن كان «ك» و«س» أحيانا يشعرون بما يطلق عليه «الحنين إلى المدينة». الآنسة «م» وأمها كذلك ... حالة «م» وأمها معقدة. فالآنسة «م» وأمها من المحبين لمذهب النبلاء ، وبالتالي ما من سبب لرضاهما على العيش في وسط هذه الجبال، ولكنهما تحسان بالرضا وسط السخط، أو على الأقل تشعران بالرضا خلال شهر واحد فقط تقريبا.
تقع غرفتي في ركن الطابق الثاني، أجلس في ركن تلك الغرفة، وأذاكر بجد في وقت الصباح فقط؛ لأن الشمس تنصب على السطح الصفيح بعد الظهر، فلا يمكن قراءة الكتب أو عمل أي شيء آخر وسط تلك الحرارة العنيفة. ماذا أفعل إذن؟ يأتي إلي «ك» و«س» ونقضي الوقت في اللعب بألعاب الورق أو الشطرنج الياباني، أو أمارس النجارة فأصنع وسادة من الخشب (وهي أشهر منتجات هذه المنطقة)، أو أنام القيلولة فقط، ثم حدث ما يلي في عصر يوم منذ خمسة أو ستة أيام. كنت أقرأ وأنا أضع الوسادة الخشبية تحت رأسي في كتاب «ركاب موساشي أوكوبو» المغلف بغلاف سميك من الورق المقوى. وعندها فتحت «م» التي تقيم في غرفة بالطابق الأسفل باب غرفتي وأطلت برأسها فجأة، انتابتني الحيرة قليلا فاعتدلت وجلست جلسة معتدلة لدرجة الغباء. «ماذا؟ أليسوا هنا؟» «بلى، لا أحد اليوم هنا ... ولكن تفضلي بالدخول.» وقفت «م» ساكنة عند حافة غرفتي تاركة الباب مفتوحا كما هو. «إن هذه الغرفة شديدة الحر.»
بدت لي فقط أذناها شفافتين بلون أحمر قان بسبب إعطاء ظهرها للضوء، شعرت بما يشبه الواجب علي فقررت الوقوف بجوارها: «إن غرفتك معتدلة الحرارة، أليس كذلك؟» «أجل، ... ولكن صوت المروحة الكهربائية مزعج.» «آه، إن غرفتك قبالة غرفة ذلك المجنون، أليس كذلك؟»
وقفنا معا لبعض الوقت نتبادل مثل هذا الحديث عند حافة الغرفة المطلة على الحديقة، يلمع السقف المغلف بالقصدير بأشعة الشمس على شكل أمواج، وعندها سقطت حشرة يسروع من على غصن شجرة الكرز التي في الحديقة.
وعندما صدر من اليسروع صوت حفيف خافت فوق السقف المغلف، لوت جسدها مرتين أو ثلاث، ثم ماتت من التعب على الفور، كان ذلك في الواقع موتا مفاجئا تماما، وفي نفس الوقت موتا لا يسبب إزعاجا لأحد. «وكأنها سقطت فوق سطح مقلاة على النار.» «إنني أكره اليسروع كرها شديدا.» «إنني قادر على مسكها بيدي.» «لقد قال السيد «س» نفس القول.»
نظرت «م» إلى عيني بجدية. «السيد «س» كذلك أيضا.»
على الأرجح أن «م» سمعت ردي هذا على أنه عدم اهتمام (في الواقع إنني مهتم بها أو يجب القول بالحالة النفسية لها). ثم قالت ما يلي وهي تبعد يدها عن السور وكأنها غاضبة: «حسنا إلى لقاء قريب.»
بعد أن رحلت «م»، واصلت قراءة كتاب «ركاب موساشي أوكوبو» وأنا أضع رأسي على الوسادة الخشبية، ولكن كنت أثناء ملاحقتي للحروف المطبوعة، أتذكر من حين لآخر حشرة اليسروع ...
كانت عادتي دائما أن أخرج للتمشية قبل وجبة العشاء على الأغلب، وفي ذلك الوقت أخرج مع «م» وأمها ومع «ك» و«س»، وكان مكان التمشية كذلك لا يتغير عن غابات الصنوبر التي قبل وبعد هذه القرية بمسافة مائتين أو ثلاثمائة متر. ربما كان ذلك حدث قبل أن أرى سقوط اليسروع على الأرجح، كنا كما هو متوقع نمشي داخل غابة الصنوبر في حيوية ومرح، كنا؟! ... المنطقي أن والدة «م» كانت استثناء عن ذلك؛ فقد كانت تلك تبدو أكبر من عمرها الحقيقي بعشر سنوات على الأقل. وكنت أنا أحد الذين لا يعرفون أية معلومات عن أسرة «م» وأمها، ولكن طبقا لخبر في جريدة قرأته في وقت ما، يفترض أن تلك السيدة لم تلد «م» ولا الأخ الأكبر لها، وأن الأخ الأكبر قد انتحر بمسدس والده بعد رسوبه في امتحانات قبول إحدى الجامعات المشهورة. وإن صدق محتوى ذلك الخبر، فلقد كتبت كل الجرائد أن انتحار ذلك الأخ يعود سببه الرئيس إلى تلك الزوجة الثانية بعد زواج أبيه منها. أليس شيخوختها المبكرة أيضا بسبب ذلك؟ كان من السهل التفكير هكذا كلما رأيت شعرها الأبيض رغم أنها لم تبلغ الخمسين من عمرها بعد، ولكن على أي حال كنا نحن الأربعة فقط نواصل الحديث بلا توقف، وعندها يبدو أن «م» رأت شيئا فقالت: «ما هذا؟ إنه مرعب!» وهي تقبض على ذراع «ك». «ماذا؟ لقد ظننت أن ثعبانا قد ظهر .»
كان ذلك في الوقع لا شيء، مجرد أن عددا من النمل فوق رمال الجبل تسحب دبورا أحمر بين الحياة والموت ويذهبون به إلى وكرهم، كان الدبور الأحمر مستلقيا على ظهره ويرن من حين لآخر جناحه المشقوق نصفين ليدفع حشد النمل بعيدا عنه، ولكن كان حشد النمل بعد أن يتبعثر قليلا، يعود ليتشبث بجناحي الدبور الأحمر وأقدامه، توقفنا هناك نتأمل ذلك الدبور الأحمر وهو يقاوم بأقدامه وجناحيه، وفي الواقع كانت على ملامح وجه «م» جدية مريبة لا تناسبها وكانت كما المتوقع تقف بجوار «ك». «أحيانا يخرج سيفه.» «إن سيف الدبور ملتو كالخطاف.»
قلت ذلك للآنسة «م» لأن الجميع صمت. «حسنا، لنذهب، فأنا أكره بشدة رؤية مثل هذا المشهد.»
بدأت أم «م» المشي في مقدمة الجميع، وبالتأكيد بدأنا نحن أيضا المشي. بسطت غابة الصنوبر أعشابها المرتفعة بهدوء وسكينة، مع توفيرها حيزا للطريق، وعلى غير المتوقع أحدثت أصواتنا صدى عاليا داخل غابة الصنوبر تلك، وبصفة خاصة صوت «ك» المرتفع، كان «ك» يتحدث إلى «س» و«م» عن أخت «ك» الأصغر منه، قال إن أخته التي تسكن في هذا الريف تخرجت لتوها من مدرسة بنات، ويقول إنها تشترط أن يكون زوجها رجلا مؤدبا ومثاليا لا عيب فيه، فلا يدخن السجائر ولا يشرب الخمر.
قال لي «س»: «إذن نحن جميعا راسبون.»
ولكن كان وجهه في عيني يبدو عليه حياء مريب لدرجة أنه بدا في عيني جذابا.
ثم أضاف «ك» على الفور: «لا يدخن ولا يشرب الخمر! ... أي إنها تقصد أن يكون شبيها بأخيها.»
بدأت تلك النزهة تسبب لي الاستياء، وأنا أجيب عليه برد لا أهمية له، وبالتالي عندما قالت «م»: «هيا بنا نعود» شعرت بالطمأنينة وتنفست الصعداء، أدارت «م» قدميها للخلف تماما قبل أن ينطق أي منا بكلمة، ووجهها كما هو بنفس البشاشة والإشراق، وفي طريق العودة لنزل الينابيع الساخنة، ظلت أم «م» فقط هي التي تتحدث، وبالتأكيد عدنا من نفس الطريق السابق داخل غابات الصنوبر، ولكن كان ذلك الدبور الأحمر قد اختفى بالفعل.
بعد نصف شهر فقط من ذلك؛ لأنني لم يكن لدي أية رغبة في عمل شيء ربما بسبب الطقس الضبابي الغائم، ذهبت إلى حديقة بها بركة، وهناك وجدت أم «م» وحيدة تجلس على كرسي هزاز، وتقرأ صحف طوكيو، ويفترض أن الآنسة «م» ذهبت اليوم مع «ك» و«س» لتسلق جبل «ي» الذي يقع خلف النزل، وعندما رأتني تلك السيدة خلعت نظارة القراءة وألقت علي بالتحية. «هل أتنازل لك عن هذا الكرسي؟» «كلا، لا داعي، يكفيني هذا.»
وقررت أن أجلس على كرسي خيزران قديم. «أنت لم تنم ليلة أمس، أليس كذلك؟» «بل نمت ... هل حدث شيء؟» «لأن ذلك الرجل المجنون أخذ يجري في الممر فجأة.» «أحدث ذلك فعلا؟ لم أكن أدري.» «أجل، يبدو أن البداية كانت قراءته في الصحيفة عن الضجة الذي حدثت بسبب إفلاس بنك من البنوك.»
تخيلت حياة ذلك المجنون الذي يضع وشما بأوراق الصنوبر، ثم بعد ذلك - لا حيلة إن سخر مني - ولكنني تذكرت الأسهم والسندات التي يملكها أخي الأصغر مني. «إن السيد «س» مثلا أخذ يبكي ...»
أخذت السيدة أم «م» تسألني عن «س» بطريقة غير مباشرة، ولكنني كنت أضيف في كل إجاباتي كلمات عدم التأكد، مثلا: «على الأرجح» و«على ما أعتقد» (إنني دائما لا أستطيع التفكير في شخص ما إلا كأنه شخص واحد بحاله فقط. ويصبح كل ما يتعلق بأسرته أو ثروته أو وضعه الاجتماعي حديثا باردا تلقائيا، علاوة على ذلك أن الأمر الأسوأ هو أنني عندما أفكر في ذلك الشخص كإنسان فقط، أستخرج من ذلك الشخص النقاط التي تشبهني وأحدد من خلالها حبي أو كراهيتي له بأنانية)، ليس هذا فقط بل شعرت بالغرابة أن تلك السيدة تريد البحث والتقصي حول «س». «إن السيد «س» مصاب بعصبية المزاج، أليس كذلك؟» «أجل، على الأرجح يسمى ذلك مزاجا عصبيا.» «ولكنه لا يختلف مطلقا عن الشخص العادي.» «إنه ولد مدلل، ... ولكنني أعتقد أنه بات مدركا لأغلب الأمور.»
أثناء ذلك الحديث اكتشفت حيوان سرطان نهر يزحف على حافة البركة، بل وكان سرطان النهر ذلك يجذب حيوان سرطان نهر آخر قشرته الخارجية محطم نصفها، فتذكرت حديث سرطان البحر داخل نظرية التعاون المتبادل لكروبوتكين. طبقا لما يعلمه كروبوتكين، يقول إن سرطان البحر دائما يذهب ليساعد أي سرطان مصاب بجروح، ولكن في الواقع وطبقا لمراقبة قام بها أحد علماء الأحياء، يقول إن ذلك بسبب أنه يأخذ السرطان المصاب ليأكله، واصلت حديثي مع أم «م» وأنا أنظر إلى سرطان النهر وهو يختبئ تدريجيا خلف ظلال نبات قصب الدريرة، ولكن في غفلة من الزمن فقدنا نحن الاثنان اهتمامنا بالحديث. «على الأرجح لن يعود الجميع إلا في المساء.»
قلت ذلك ونهضت واقفا، وفي نفس الوقت شعرت أن وجه أم «م» به تعبيرات محددة، كانت تعبيرات تلمع بها قليل من الدهشة ومعها أيضا كراهية غريزية، ولكن أجابت تلك السيدة على الفور في هدوء: «أجل لقد قالت «م» شيئا مثل هذا.»
وعندما رجعت إلى غرفتي، مسكت السور الذي على حافة الحديقة، وتأملت قمة جبل «ي» الذي يشمخ عاليا فوق غابات الصنوبر، تتألق بقمة الجبل أشعة شمس رقيقة فوق تجمع الصخور، وأنا أشاهد ذلك المنظر شعرت فجأة بمشاعر تشبه مشاعر الشفقة تجاه حياتنا نحن البشر ...
لقد عادت عائلة «م» مع «س» إلى طوكيو قبل يومين أو ثلاثة أيام، بدأ «ك» يقوم باستعدادات العودة بعد أن اتفق مع أخته الصغرى على الالتقاء في هذا النزل (على الأرجح أن ذلك سيتأخر عن موعد عودتني أنا بأسبوع تقريبا)، عندما بقيت مع «ك» نحن الاثنان فقط، شعرت نوعا ما بالراحة والاسترخاء. ولا شك أنني كنت أخاف أن تكون مشاعري بالرغبة في مواساة «ك»، على العكس تؤثر على «ك» نفسه، ولكن في كل الأحوال، كنت أقيم معه بمشاعر مريحة نسبيا، وعلى أرض الواقع ليلة أمس، ونحن معا في حوض الاستحمام، تناقشنا لمدة ساعة حول الموسيقار سيزار فرانك.
إنني الآن أكتب هذه الرسالة في غرفتي، نحن هنا في بداية الخريف بالفعل، عندما استيقظت هذا الصباح، اكتشفت فوق باب غرفتي صورة لجبل «ي» الصغير وغابات الصنوبر منعكسة بالمقلوب ، وأنا أنفث دخان سيجارتي شعرت بسكينة غير معهودة في مناظر بداية الخريف الصغيرة تلك الصافية للغاية ...
إذن الوداع، إن طقس طوكيو الآن قد بات سهل التحمل صباحا ومساء، أرجو منك أن تبلغي سلامي للأطفال. ••• (اليوم السابع من الشهر السادس من العام الثاني لعصر شوا [7 / 6 / 1927].)
ثلاث نوافذ
(1) فئران
في بداية شهر يونيو رست لتوها البارجة
xx
من الدرجة الأولى في ميناء يوكوسكا الحربي، كانت كل الجبال المحيطة بالميناء الحربي مغطاة بسحب دخانية من تأثير الأمطار، وفي الأصل ما إن ترسو البوارج الحربية في الميناء لا تنقطع الفئران عن التكاثر، وكذلك الحال أيضا مع البارجة
xx . فقد عششت الفئران تحت ظهر السفينة في صناديق الأمتعة ومخلات الجنود في البارجة
xx
التي تبلغ حمولتها عشرين ألف طن وراياتها منزلة وسط المطر.
قبل أن تمر ثلاثة أيام على وصول البارجة للميناء، أمر نائب القبطان بالسماح لكل جندي يصيد فأرا أن ينزل الميناء لمدة يوم، من أجل القضاء على تلك الفئران، وبالطبع منذ أن أصدر نائب القبطان ذلك الأمر تحمس جنود مشاة البحرية وجنود الآليات في اصطياد الفئران، وعلى الفور بدأ عدد الفئران يتناقص بوضوح بسبب جهود هؤلاء الجنود، وبالتالي لم يعدم الأمر وقوع الصراع بينهم على الإمساك بفأر واحد. «إن الفئران التي يأتي بها الجنود مؤخرا، كلها ممزقة تمزيقا شديدا، يمسك الجميع بالفأر من كل جانب ويجاذبونه فيما بينهم.»
هكذا تحدث الضباط الذين تجمعوا معا في غرفة صغار الضباط وهم يضحكون، وكان الملازم «أ» الذي يحمل وجها يشبه الفتيان من بين هؤلاء الضباط. إن الملازم «أ» الذي نشأ باسترخاء في حياة قريبة من التقلبات، لم يكن يفهم شيئا في الحياة حقا، ولكنه كان يعرف بوضوح سبب رغبة جنود البحرية وجنود الآليات في النزول إلى الميناء، ينفث الملازم «أ» دخان سيجارته وهو يرد على أحاديثهم هكذا: «هو كذلك بالتأكيد، حتى أنا ربما أمزقه إربا.»
لا شك أن كلماته تلك لا يقولها إلا أعزب مثله، ولأن صديقه الملازم «ي» تزوج منذ عام تقريبا كان يتعمد أن يصب ضحكاته الباردة على جنود مشاة البحرية وجنود الآليات على الأغلب، ومن المؤكد أن ذلك يتوافق كذلك مع وضعه المعتاد في ألا يظهر أمامهم ضعفه بسهولة، حتى في وقت سكره بشرب الكثير من الجعة بشاربه البني القصير يضع خدوده فوق المنضدة أحيانا يقول للملازم «أ»: «ما رأيك؟ لم لا نصطاد نحن أيضا الفئران؟»
في صباح مشمس بعد أمطار، أعطى الملازم «أ» الذي كان الضابط المناوب على ظهر البارجة إذنا بالنزل إلى الميناء لجندي يسمى «س»، والسبب أن ذلك الجندي قد اصطاد فأرا صغيرا، بل كان فأرا كان الأعضاء بلا نقص. نزل «س» ذو الجسم المتين والقوي حتى بين أقرانه من سلم البارجة الضيق في يوم مشمس نادر الظهور، وعندها تحدث إليه أحد زملائه تصادف صعوده بخفة جسمه في نفس اللحظة على السلم مازحا: «استيراد؟» «أجل، استيراد.»
ولم يعقل ألا يصل حديثهما إلى سمع الملازم «أ»، فاستدعى «س» لكي يعود، وسأله وهو يقف على ظهر السفينة عن معنى الحوار الذي دار بينهما. «ماذا تعني بكلمة استيراد؟»
كان «س» يقف مستقيما في وضع انتباه وينظر إلى وجه الملازم «أ»، ولكن كان من الواضح أنه يبدو عليه أنه في ورطة بالغة. «الاستيراد هو حمل شيء وجلبه من الخارج.» «من أجل ماذا تحمله وتجلبه من الخارج؟»
ولكن يعرف الملازم «أ» بالتأكيد من أجل ماذا يحمله ويجلبه من الخارج، ولكنه عندما رأى «س» لا يجيب، شعر فجأة بالسخط تجاهه، فلكم وجهه بكل ما أوتي من قوة، ترنح «س» قليلا ولكنه عاد على الفور إلى وضع الثبات. «من الذي حمله وأتى به من الخارج؟»
لم يجب «س» بأية إجابة، ومع تأمل الملازم «أ» له تخيل أنه يلكمه مرة ثانية على جانب وجهه. «من؟» «زوجتي!» «هل أتت به عندما جاءت للزيارة؟» «أجل.»
لم يستطيع الملازم «أ» إلا أن يضحك في داخل قلبه. «حملته وجاءت به وهي تضعه في ماذا؟» «حملته وجاءت به وهي تضعه في وعاء الحلوى.» «أين يقع بيتك؟» «في حي هيراساكاشيتا.» «هل والداك بصحة جيدة؟» «كلا، أنا أسكن مع زوجتي، نحن الاثنان فقط.» «أليس لكما أطفال؟» «بلى.»
وأثناء هذا الاستجواب لم تتغير حالة القلق التي عليها «س». جعله الملازم «أ» يستمر في الوقوف ثم نقل بصره إلى مدينة يوكوسكا، تراكمت أسطح مباني مدينة يوكوسكا المزدحمة حتى وصلت إلى داخل الجبال، ومع أن أشعة الشمس كانت تنصب عليها إلا أنها كانت في منظر بائس وضيع. «لن أسمح لك بالنزول إلى الميناء.» «فهمت.»
رأى «س» صمت الملازم «أ»، على ما يبدو أنه محتار فيما يفعل، ولكن كان الملازم «أ» يعد داخل قلبه الأمر التالي الذي سينطق به، ولكنه لم ينطق بشيء بل أخذ يمشي فوق ظهر السفينة، «إنه هذا الجندي يخاف من إنزال العقوبة عليه.» هذا الشعور ومثل جميع الرؤساء يستحيل ألا يجعل الملازم «أ» لا يشعر بالمتعة. «يكفي هذا! اذهب بعيدا.»
قال له الملازم «أ» ذلك، وبعد أن رفع «س» يده بالتحية العسكرية، استدار للخلف ومشى محاولا الذهاب إلى مدخل الغرف، وبعد أن ابتعد خمس أو ست خطوات بعيدا وجه الضابط إلى «س» الحديث مجتهدا ألا يبتسم قائلا: «أنت! انتظر!» «أجل.»
التفت «س» للخلف للحظة، ولكن يبدو أن القلق احتاج كل جسده مرة أخرى. «ثمة طلب لي عندك، ثمة محل في حي هيراساكاشيتا يبيع البسكويت، أليس كذلك؟» «بلى!» «اذهب واشتر لي كيسا من ذلك البسكويت.» «هل أذهب الآن؟» «أجل، في الحال.»
لم يدع الملازم «أ» الدموع التي انهمرت على خدي «س» تفلت دون أن يراها.
ثم بعد مرور يومين أو ثلاثة أيام، كان الملازم «أ» يتصفح خطابا على منضدة غرفة صغار الضباط باسم امرأة، كان الخطاب تتراص فيه حروف قلم مضطرب على ورق خطابات بلون وردي، بعد أن قرأ الخطاب مرة لنهايته، ألقى بالخطاب إلى الملازم «ي» الذي يجلس قبالته بالضبط وهو يشعل النار في سيجارته. «ما هذا؟ ... «إن ما حدث أمس من جريمة زوجي، وقع كله بسببي أنا ذات القلب الطائش، ولذا أرجو منك العفو عنه بأي شكل دون أن تسيء الظن به ... بالإضافة إلى ذلك لن أنسى لك ما حييت جميل صنعك» ...»
برز على وجه الملازم «ي» ملامح الاحتقار تدريجيا وهو ما زال يمسك بالخطاب في يده، ثم بعد ذلك نظر إلى وجه الملازم «أ» نظرة متجهمة وتحدث إليه وكأنه يسخر منه ببرود: «أنت تشعر بتراكم أفعال الخير لديك، أليس كذلك؟» «كلا، لم يحدث ذلك ولو قليلا.»
فوت الملازم الكلام ببساطة وتأمل المنظر في الخارج من خلال النافذة الدائرية، لا يرى من النافذة الدائرية تلك إلا فقط البحر الذي تهطل عليه أمطار مستمرة منذ وقت طويل، ولكن بعد فترة، وجه حديثه إلى الملازم «ي» وكأنه شعر بالخجل من شيء ما فجأة: «شعور مريب بالوحدة، مع أنني عندما لطمته تلك اللطمة لم أشعر بالشفقة عليه مطلقا ...»
أظهر الملازم «ي» تعبيرا على وجهه لا يمكن معرفة أهو تعبير عن الشك أم الحيرة. ثم بدأ بعد ذلك في قراءة الجريدة التي كانت موضوعة فوق المنضدة دون أن يقول شيئا، وفي ذلك الوقت تصادف أنه لم يكن ثمة أحد غيرهما في غرفة صغار الضباط، ولكن كان الكوب الموضوع فوق المنضدة قد غرس فيه بضعة أعواد من نبات الكرفس، ظل الملازم «أ» ينفث فقط دخان السجائر وهو يتأمل أوراق ذلك الكرفس، وهو يشعر في نفس الوقت بالألفة تجاه الملازم «ي» الفظ هذا، ألفة تدعو للتعجب! (2) ثلاثة أشخاص
توجهت البارجة
xx
بعد انتهاء المعركة الحربية، إلى خليج جينهاي في هدوء خلف خمس قطع بحرية أخرى، كان الليل قد أرخى سدوله على البحر في غفلة من الزمن، ولكن اشتعل هلال أحمر على شكل منجل عملاق فوق خط الأفق البحري على الجانب الأيسر من السفينة معلقا في السماء، بالطبع لم يكن الوضع قد استقر بعد داخل البارجة
xx
ذات العشرين ألف طن، ولكن كان المؤكد أن تلك هي الحيوية التي تعقب الانتصار، ولكن الملازم «ك» فقط ذو القلب الجبان هو الوحيد بوجهه الذي يمتلئ بالإرهاق الذي يذرع المكان جيئة وذهابا بحثا عن شيء يفعله خاصة في وسط ذلك الوضع.
ففي الليلة السابقة عن تلك المعركة البحرية اكتشف ضوء مشكاة خافتا أثناء سيره فوق ظهر البارجة، فذهب تجاهه في هدوء، فوجد هناك عازفا شابا من فرقة الموسيقى العسكرية يزحف على بطنه فوق سطح البارجة يقرأ في الكتاب المقدس على ضوء المشكاة متخفيا من أنظار العدو، شعر الملازم «ك» بالتأثر العميق ووجه إلى ذلك العازف الشاب كلمات طيبة، ولكن يبدو أن العازف قد أصابته الدهشة قليلا، ولكنه عندما رأى الضباط الأعلى منه رتبة لا يوبخه ابتسم على الفور ابتسامة أنثوية، وبدأ يرد على كلماته بحرج ... ولكن أمسى هذا العازف الشاب الآن جثة هامدة بالفعل ترقد على جنبها بسبب القذيفة التي أصابت سطح الصاري المركزي، عندما رأى الملازم «ك» جثته، تذكر المقولة التي تقول: «إن الموت يجلب للإنسان السكينة» لو كان الملازم «ك» نفسه قد فقد حياته فورا بسبب نفس القذيفة، فكر أن تلك كانت ستكون أسعد ميتة يموتها بالنسبة له.
ولكن ذلك الحدث الذي وقع قبل المعركة مباشرة ظل باقيا واضحا جليا حتى الآن في قلب الملازم «ك» السريع التأثر. تقدمت البارجة
xx
بعد أن أعدت للقتال عدته، متبعة كما هو متوقع الخمس بوارج، في البحر العالي الأمواج، وعندما ولسبب مجهول لم يفتح غطاء بوابة المدفع الكبير على يمين السفينة، بل وكانت سفن العدو على خط الأفق البحري تقترب مرتفعة منها عدة خيوط مهتزة من الدخان الضئيل. أسرع أحد جنود مشاة البحرية الذي رأى ذلك الإهمال، بامتطاء جسم المدفع وبخفة حركة زحف بجسمه حتى فوهة المدفع، وحاول أن يفتح الغطاء بدفعه بقدميه، ولكن على غير المتوقع يبدو الغطاء غير قابل للفتح بتلك السهولة. حاول الجندي أن يضرب بقدميه عدة مرات والبحر من أسفله، ولكنه أيضا كان أحيانا يرفع وجهه ضاحكا لتظهر أسنانه البيضاء، وأثناء ذلك بدأت البارجة
xx
تميل ميلا شديدا لتغير اتجاهها نحو اليمين، وفي نفس الوقت ضرب البحر الجانب الأيمن للبارجة بالكامل بأمواج عارمة، وبالتأكيد كان ذلك كافيا جدا لكي تبتلع هيئة الجندي الجالس منفرج الساقين فوق المدفع في لمح البصر. بذل الجندي الذي سقط في البحر كل جهده لكي يرفع ذراعيه عاليا، وأخذ يصرخ بصوت عال بشيء ما، وألقي طوق النجاة إلى سطح البحر مع صراخ الجنود منددين بما حدث، ولكن بالتأكيد لا يمكن أن تنزل البارجة
xx
مركب الإنقاذ إلى البحر طالما بوارج العدو أمامها. أمسك الجندي بطوق النجاة ولكنه مع الوقت أخذ يبتعد بسرعة كبيرة بعيدا عن البارجة. كان قدره أن يموت غرقا إن آجلا أو عاجلا. ليس هذا فقط، بل يقال إن سمك القرش ليس قليلا في هذا البحر ...
وبالتأكيد لم يكن ممكنا ألا تصنع مشاعر الملازم «ك» تجاه موت العازف الشاب في المعركة تباينا مع ذاكرة ذلك الحدث قبل المعركة البحرية، ومع أنه قد دخل المدرسة الحربية، إلا أنه كان يتخيل أن يبت في يوم ما كاتبا منتميا للمذهب الطبيعي. ليس هذا فقط، ولكن أيضا كان يحب بشدة قراءة روايات موباسان حتى بعد تخرجه في المدرسة الحربية. كانت الحياة تميل إلى أن تظهر وجهها المظلم تجاه الملازم «ك» هذا، فبعد أن بدأ العمل على البارجة
xx
تذكر العبارة التي كانت تكتب على التوابيت الحجرية في مصر وتقول: «الحياة - قتال»، وكانت يفكر بالتأكيد في مستقبل هذه البارجة
xx
والجنود الذين تحت إمرته، وأن البارجة
xx
نفسها تصب حكمة المصريين تلك كما هي في قالب من الفولاذ. وبالتالي لم يكن من الممكن ألا يشعر أمام جثة العازف بالسكينة والهدوء بعد انتهاء جميع أنواع المعارك، ولكنه فكر كذلك أنه لا يحتمل عذاب محاولة البقاء على قيد الحياة حتى النهاية مثل الجندي الغريق.
صعد الملازم «ك» متوجها إلى غرفته في مؤخرة ظهر السفينة وهو يمسح العرق من على جبهته، على الأقل من أجل أن تنعشه الرياح، وعندها وجد أمام البريج الدوار لمدفع 12 بوصة، الضابط المناوب على ظهر السفينة وقد حلق لحيته بعناية يمشي فوق ظهر السفينة بلا هدف وهو يشبك ذراعيه خلف ظهره، ثم أيضا كان أمامه جندي بوجه ذي عظام خد بارزة، ينظر بوجهه إلى الأرض قليلا، يقف في وضع الانتباه وخلفه البريج الدوار بمسافة قليلة، استاء الملازم «ك» قليلا فاقترب إلى الضابط المناوب بعصبية: «ما الذي حدث؟» «ماذا؟ لأنه دخل المرحاض قبل وقت قليل من فحص نائب القبطان له.»
كان ذلك بالطبع حدثا ليس نادرا بتاتا داخل السفن الحربية. جلس الملازم «ك» هناك، وبدأ يتأمل البحر من الجانب الأيسر من السفينة الذي حجزته الدعامة، والهلال الأحمر الذي اتخذ شكل المنجل.
وكان المكان لا يسمع به أي صوت لا لإنسان ولا حيوان أو جماد فيما عدا صوت حذاء الضابط المناوب، شعر الملازم «ك» براحة البال إلى حد ما، وتذكر أخيرا مشاعره وسط المعركة البحرية التي جرت أمس.
رفع الجندي وجهه فجأة وتحدث موجها كلامه إلى الضابط المناوب قائلا:
ذلك.»
نظر الملازم «ك» لأعلى تجاه الجندي فجأة، فشعر بملامح الجدية التامة على وجهه المعتم قليلا، ولكن الضابط المناوب الممتلئ بالحيوية، استمر كما هو المتوقع في المشي بهدوء فوق ظهر السفينة وهو كما هو يشبك ذراعيه. «لا تقل مثل هذا الكلام الغبي!» «ولكنني إن ظللت أقف هنا في وضع الانتباه، فلن أستطيع أن أري وجهي لجنودي، إنني مستعد لتأخر ترقيتي.» «إن تأخر الترقية أمر جلل، بدلا من ذلك قف في مكانك كما أنت.»
قال الضابط المناوب ذلك، ثم بدأ مجددا المشي على ظهر السفينة بلا تكلف، كان الملازم «ك» يتفق مع الضابط المناوب في رأيه من الناحية العقلانية. ليس هذا فقط، ولكن لا يعقل ألا يحمل مشاعر التعاطف مع ضابط الصف الذي جرح كبرياؤه، ولكن ضابط الصف الذي تدلى رأسه لأسفل بلا حراك جعل الملازم «ك» يقلق قلقا مريبا.
ظل ضابط الصف مستمرا في الرجاء بصوت خافت قائلا: «إن وقوفي هنا عار لي.» «هذا ما جنته يداك.» «إنني أنوي تقبل العقاب بصدر رحب، ولكن أرجوك أعفني من الوقوف تذنيبا فقط ...» «إن نظرنا إلى الأمر من وجهة نظر العار الشكلي فقط، أليس الأمر في النهاية سيان؟» «ولكن بالنسبة لي فقدان هيبتي أمام جنودي هو أمر لا يطاق.»
لم يجب الضابط المناوب على ذلك ألبتة، بدا ضابط الصف أيضا قد يئس فوضع كل قوته في آخر كلماته، ثم ظل ثابتا بلا حراك دون أن ينطق بكلمة أخرى، زاد قلق الملازم «ك» تدريجيا (ولكن ليس معنى هذا أنه لم يحاول ألا يخدع من ضابط الصف هذا خلال هذا الموقف)، وشعر أنه يريد أن يقول شيئا ما من أجله، ولكن عندما ظهر ذلك ال... «الشيء ما» على لسانه كان قد تغير إلى شيء ليس له معالم ولا روح: «الوضع هادئ تماما.» «أجل.»
في اللحظة التي نطق فيها الضابط المناوب بتلك الكلمة، مسح بعدها على ذقنه وتابع المشي، في الليلة التي سبقت المعركة البحرية كان يتحدث إلى الملازم «ك» قائلا: «كما كان شيغيناري كيمورا في الماضي ...» وهو يحلق لحيته تلك بعناية خاصة ...
بعد أن أنهى ضابط الصف ذلك عقابه، في غفلة من الزمن اختفى عن الأنظار، ولكن ليس هناك شك أنه لا يستطيع مطلقا أن يلقي بنفسه في البحر طالما ظلت خدمة المناوبة موجودة بالطبع. ليس هذا فقط بل إنه اتضح قبل مرور نصف يوم أنه لم يكن موجودا في مخزن الفحم الذي يسهل الانتحار داخله.
ولكن اختفاء ضابط الصف هذا يعني بالتأكيد أنه مات، ولقد ترك وصيتين واحدة لأمه وأخرى لأخيه الأصغر، وبدا لكل ذي عينين أن الضابط المناوب الذي أوقع العقوبة عليه في حالة عدم اتزان، وربما بسبب جبنه تعاطف معه الملازم «ك» أكثر من أي شخص آخر، ولم يقدر الملازم «ك» إلا أن يجبره على شرب العديد من أكواب الجعة التي لا يشربها هو شخصيا. وفي نفس الوقت لم يستطع إلا أن يقلق من أن يسكر. «لقد كان عنيدا على كل حال، ولكن مع ذلك ما من ضرورة لأن يموت، أليس كذلك؟»
عندما سقط الضابط المناوب من فوق مقعده كان يكرر ذلك القول مرات ومرات. «لم أقل له إلا: قف ثابتا فقط! ولا يجب أن يموت من أجل ذلك ...»
بعد أن باتت البارجة
xx
في خليج جينهاي اكتشف أحد جنود الآليات جثة ضابط الصف في المدخنة عندما دخلها لينظفها. لقد مات خنقا بسلسلة واحدة متدلية داخل المدخنة. ولقد أمست جثته هيكلا عظميا فقط بعد أن احترقت ليس الملابس العسكرية فقط ولكن لحمه وجلده احترقا وسقطا أيضا. بالطبع وصل هذا الحديث إلى سمع الملازم «ك» الجالس في غرفة صغار الضباط، تذكر منظر صف الضابط وهو واقف في وضع الثبات أمام بريج المدفع، وشعر أن القمر الأحمر الذي على شكل منجل معلق في السماء في مكان ما.
كان موت أولئك الثلاثة أشخاص يلقي بآثار كئيبة على قلب الملازم «ك»، بل لدرجة أنه بدأ في وقت ما يفكر أن الحياة بقدها وقديدها داخل هؤلاء الثلاثة، ولكن جعلت الشهور والسنين ذلك المتشائم يعد واحدا من قادة البحرية الصغار حسني السمعة داخلها. كان كلما عرض عليه الكتابة بالفرشاة نادرا ما يقبل العرض ويمسك الفرشاة، ولكن في الحالات التي لا يجد معها وسيلة للرفض، كان من المؤكد أن يكتب ما يلي:
انظر إلى العينين.
إن لم تنطق لن يأتيك الندم. (3) البارجة
xx
من الدرجة الأولى
تقرر أن ترسو البارجة
xx
من الدرجة الأولى في حوض الصيانة بميناء يوكوسكا، ولم تكن أعمال الصيانة سهلة، فقد أحست البارجة ذات حمولة العشرين ألف طن مرات عديدة بحنق ليس له سابقة، وقد وقف عدد لا نهائي من الحرفيين داخل وخارج جانبيها المرتفعين، لا شك أنها كانت تشعر بحكة عندما تفكر في التصاق القواقع بها، وفي إبحارها في مياه البحر. ترسو كذلك في ميناء يوكوسكا العسكري البارجة
yy
صديقة
xx ، كانت
yy
بارجة حربية أصغر من
xx
في العمر بحمولة 12 ألف طن، وكان أحيانا ما تتحدثان معا حديثا صامتا وبينهما البحر الواسع. كانت
yy
تتعاطف مع
xx
تجاه سهولة إصابة دفتها بالجنوح بسبب كبر عمرها بالطبع وبسبب انخفاض مهاراتها التقنية، ولكنها من المؤكد أنها لم تحدثها عن ذلك ولو مرة واحدة بسبب مراعاة شعورها، ليس هذا فقط بل إنها تستخدم لغة التبجيل والاحترام تجاه
xx
التي خاضت معارك بحرية عديدة.
ثم في عصر يوم غائم، ارتفع صوت تفجيرات مرعب ومفاجئ في البارجة
yy
بسبب حريق في مخازن الذخيرة، ثم مالت على جنبها تقريبا في البحر، ومن المؤكد أن البارجة
xx
اندهشت لما حدث (لا شك أن أغلب العمال الذين كانوا على سطح البارجة
xx
فسروا اهتزازها ذلك تفسيرا فيزيائيا). باتت البارجة
yy
التي لم تخض معارك حربية مطلقا عرجاء فجأة. كانت
xx
لا تصدق مطلقا أن ذلك حدث فعلا، وحاولت البارجة
xx
باجتهاد إخفاء دهشتها، وواست
yy
البعيدة عنها، ولكن كانت
yy
وهي مائلة على جنبها لم تزد عن الاستمرار في رفع صوتها بالتأوه وسط اللهب والدخان المتصاعدين منها.
ثم بعد مرور ثلاثة أو أربعة أيام بدأ ظهر سطح البارجة
xx
ذات العشرين ألف طن يتشقق تدريجيا بسبب فقدانها للضغط المائي، وعندما رأى العمال ذلك بدءوا أخيرا في الإسراع في أعمال الصيانة، ولكن كانت البارجة
xx
نفسها قد يئست من حالتها؛ فلقد غرقت البارجة
yy
في البحر أمامها مع صغر عمرها. عند التفكير في قدر
yy
هذا، فعلى الأقل كانت
xx
قد ذاقت بالكامل كل الأفراح والأحزان طوال حياتها، وتذكرت
xx
إحدى المعارك البحرية التي أصبحت بالفعل ذكرى من الماضي، كانت معركة بحرية تمزقت فيها الرايات إربا إربا، بل وحتى الصواري قد تكسرت.
أمالت البارجة
xx
ذات العشرين ألف طن عنقها العسكري في شموخ عال وسط حوض الصيانة الجاف الأبيض، وانطلقت أمامها عدة طرادات ومدمرات بحرية، ولم يعدم الأمر بعد ذلك وجود غواصات وطائرات بحرية جديدة، ولكنها كانت كلها تجعل
xx
لا تحس إلا بسرعة زوال الحياة. ظلت تنتظر قدرها المحتوم وهي تدور بناظريها حول ميناء يوكوسكا الحربي الذي تسطع الشمس فيه حينا وتغيم أحيانا، وتشعر أثناء ذلك بالقلق تجاه انحناء ألواح ظهرها تدريجيا من نفسها ... ••• (اليوم العاشر من الشهر السادس للعام الثاني من عصر شوا [10 / 6 / 1927])
تروس
(1) معطف مطر
أسرعت بالسيارة من أعماق المصيف إلى إحدى محطات خط سكك حديد طوكاي، وأنا أمسك بحقيبتي من أجل اللحاق بحفل زواج أحد المعارف. كانت أغلب الأشجار المزروعة على جانبي الطريق التي تسير فيها السيارة من الصنوبر. وإمكانية اللحاق بالقطار الذاهب إلى العاصمة طوكيو أمر مشكوك فيه جدا. يركب معي في نفس السيارة مالك أحد صالونات الحلاقة. كان سمينا مثل الزير وله لحية قصيرة. كنت أتحدث معه من وقت لآخر وأنا قلق بشأن الوقت. «لقد حدث أمر مريب. يقال إن العفاريت تظهر في بيت
xx
حتى في النهار.» «حتى في النهار؟»
جاريته في الحديث بما يناسب وأنا أنظر إلى جبل الصنوبر على الجهة الأخرى الذي تتسلط عليه شمس الغروب. «يقال إنها لا تظهر في الأيام المشمسة، وإن أكثر ما تظهر في الأيام الممطرة.» «ربما تظهر في الأيام الممطرة لكي تبتل بالأمطار.» «يا لها من مزحة ... ولكن يقال إن بينها من يرتدي معطفا واقيا من المطر.»
وصلت السيارة إلى جانب المحطة وهي تطلق صافرتها. فارقت مالك صالون الحلاقة ودخلت المحطة، وعندما عرفت أن القطار المتجه إلى طوكيو غادر منذ دقيقتين أو ثلاث دقائق. يجلس رجل يرتدي معطفا واقيا من المطر على الأريكة في غرفة الانتظار وحيدا ينظر للخارج في شرود. تذكرت حديث العفاريت التي سمعته منذ قليل. ولكنني ابتسمت ابتسامة ساخرة ثم قررت أن أدخل المقهى التي أمام المحطة وأنتظر القطار التالي.
ولكن يجب التفكير في أحقية تسمية ذلك مقهى، مقهى من عدمه. جلست على طاولة في الركن، وطلب كوبا من الكاكاو، وكان الغطاء الذي فرش فوق الطاولة عبارة عن مشمع بخطوط شبكية رفيعة زرقاء فوق أرضية بيضاء، ولكن ظهر في أركانه قماش التيل القذر قليلا. أدرت بصري داخل المقهى الموحش وأنا أحتسي «كاكاو» تفوح منه رائحة الصمغ. لصق على جدران المقهى الممتلئ بالأتربة عدد من اللافتات الورقية على أسماء الطعام مثل «أزر بالبيض والدجاج» و«شرائح لحم مشوية» ... إلخ. «أومليت بالبيض البلدي.»
أحسست في هذه اللافتة بالأرياف القريبة من خط سكك حديد طوكاي. أرياف تمر عربات القطار الكهربائي من وسط حقول الشعير والكرنب ...
ركبت القطار التالي في وقت يقترب من الغروب. دائما أستخدم الدرجة الثانية، ولكن قررت لسبب معين أن أركب هذه المرة في الدرجة الثالثة.
كان القطار من الداخل مزدحما للغاية. علاوة على ذلك كان يحيط بي تلميذات مدرسة ابتدائية يبدو أنهن كن في رحلة مدرسية إلى شاطئ أويسو. تأملت أولئك الفتيات وأنا أشعل سيجارتي. كن جميعا في نشاط ومتعة. ليس هذا فقط، بل يواصلن التحدث بلا انقطاع تقريبا. «أيها المصور، ماذا تعني كلمة
Love scene ؟»
أجابها «المصور» الذي كان يقف أمامي برد مبهم، ويبدو كما أتوقع أنه جاء مصاحبا لتلك الرحلة المدرسية، ولكن التلميذة التي في الرابعة عشرة أو الخامسة عشرة من عمرها، استمرت توجه له أسئلة متنوعة. أحسست فجأة أن تلك الفتاة مصابة بمرض الدبيلة القيحية في أنفها، فلم أستطع منع نفسي من الابتسام. ثم بعد ذلك جلست إحدى التلميذات الأخريات اللائي بجواري في الثانية عشرة أو الثالثة عشرة من عمرها، فوق ركبة معلمة شابة، ومسحت بيدها على خدها وهي تحضن بذراع يدها الأخرى عنقها. بل وكانت توجه حديثها إلى تلك المعلمة أحيانا أثناء حديثها مع شخص آخر. «أنت جميلة يا معلمتي. إن عينيك جميلتان.»
أعطتني الفتيات إحساسا أنهن نساء ناضجات ولسن تلميذات صغيرات. إن استثنيت أكلهن التفاح بقشره ونزعهن غلاف الكراميل ... ولكن إحدى التلميذات الأكبر سنا يبدو أنها داست على قدم أحد ما وهي تمر بجانبي فقالت «أعتذر لك.» كانت هي فقط بينهن التي بدت لي على العكس من كبر سنها تلميذة صغيرة. ولم يكن ذلك يمنعني من الابتسام ابتسامة مصطنعة تجاه شعوري أنا نفسي بالتناقض وأنا أضع السيجارة في فمي.
أخيرا وصل القطار الذي أضيئت أنواره في غفلة من الزمن، إلى إحدى محطات الضواحي في طوكيو. هبطت إلى الرصيف وسط الرياح الباردة، وبعد أن عبرت الجسر، قررت انتظار قطار الضواحي. وعندها قابلت صدفة صديقي «ت» الذي يعمل في إحدى الشركات، فتحدثنا عن الكساد الاقتصادي أثناء انتظارنا مجيء القطار. كان «ت» بالتأكيد أعلم مني بتلك القضية. كان يزين إصبعه المتين خاتم بحجر فيروز لا يتناسب مع حالة الكساد الاقتصادي مطلقا. «إنه خاتم رائع!» «هذا؟ لقد أجبرني صديق ذهب في رحلة عمل إلى مدينة هاربن الصينية على شرائه. إنه حاليا في ضائقة. فلم يعد يستطيع عمل تبادل تجاري مع نقابة الشركات هناك.»
من حسن الحظ أن قطار الضواحي الذي ركبناه لم يكن مزدحما بدرجة ازدحام قطار البخار السابق. جلسنا متجاورين، وتحدثنا في أمور عديدة. كان «ت» قد عاد إلى طوكيو لتوه في هذا الربيع من عمله في إحدى الشركات بمدينة باريس. ولهذا السبب كان يغلب على حديثنا الكلام حول باريس. مثل الحديث عن مدام كايو، والحديث عن وجبات سرطان البحر، والحديث عن أحد أمراء العائلة الإمبراطورية اليابانية أثناء رحلته الخارجية في باريس ... «إن فرنسا على غير المتوقع لا تقابل مشاكل، ولكن فقط لأن الفرنسيين في الأصل مواطنون يدفعون الضرائب؛ فلذا تتساقط الوزارات الحكومية دائما ...» «أجل، وكذلك لأن سعر الفرنك ينهار انهيارا حادا.» «هذا عند قراءة الجرائد فقط، ولكن جرب أن تعيش هناك. فاليابان الموجودة في الجرائد هناك عبارة عن زلازل وفيضانات مستمرة بلا توقف.»
ثم عند ذلك جاء رجل يرتدي معطف مطر وجلس في المقعد المقابل لنا. فأحسست بإحساس مقزز وشعرت بالرغبة في التحدث إلى «ت» عن حكاية الأشباح والأرواح التي سمعتها قبل قليل، ولكن قبل ذلك أدار «ت» مقبض العصا ناحية اليسار، وقال لي بصوت خفيض: «ثمة امرأة هناك، أليس كذلك؟ التي تضع شالا بلون فيراني ...» «هل تقصد تلك المرأة التي قصت شعرها على الطريقة الغربية؟» «أجل، المرأة التي تحمل صرة من القماش. لقد كانت في كارويزاوا في هذا الصيف. ترتدي ملابس غربية أنيقة.»
ولكن لا شك أن تلك المرأة كانت بمظهر بائس لكل ذي عينين. كنت أتحدث إلى صديقي «ت» وأنا أتأملها في خفية. كان وجهها يعطي إحساسا بأنها مجنونة، خاصة في مكان ما بين حاجبيها. بل كذلك كان يبرز من داخل الصرة التي تحملها إسفنج يشبه شكل الفهد. «عندما كنت في كارويزاوا كنت أرقص مع الشباب الأمريكان. الرقصة التي تسمى رقصة حديثة».
عندما كنت أودع صديقي «ت» كان الرجل الذي يرتدي المعطف الواقي من المطر قد اختفى. ذهبت سيرا على الأقدام من محطة قطار الضواحي إلى أحد الفنادق وأنا أدلي الحقيبة من يدي. كان على جانبي الطريق على الأغلب بنايات عالية الارتفاع. وتذكرت فجأة أثناء سيري غابات الصنوبر. ليس هذا فقط، بل لقد اكتشفت شيئا مريبا داخل مجال رؤيتي. شيئا مريبا؟ كانت تروسا شبه شفافة تدور بلا توقف. لقد مرت علي مثل هذه التجربة عدة مرات من قبل. زادت التروس من عددها تدريجيا، وحجبت تقريبا مجال رؤيتي، ولكن، لم يكن ذلك لوقت طويل، بعد مرور فترة، اختفت، وبديلا عنها بدأت هذه المرة أشعر بصداع في رأسي، وكان ذلك أيضا هو ما يحدث دائما، وكان طبيب العيون في كل مرة يأمرني بالتقليل من التدخين بسبب ذلك الخداع البصري (؟)،
1
ولكنني كنت أرى مثل تلك التروس قبل وصولي إلى سن العشرين واعتيادي على التدخين. وفكرت أنها بدأت تعود من جديد، وعندها حجبت عيني اليمنى بإحدى يدي ونظرت بعيني اليسرى فقط من أجل قياس قوة إبصارها، ولكن في النهاية لم تكن العين اليسرى بها شيء، ولكن كان عدد من التروس تدور وتلف في باطن جفن العين اليمنى. فأسرعت في السير في الطريق أثناء رؤيتي البنايات التي على الجانب الأيمن تختفي تباعا.
عندما دخلت إلى مدخل الفندق اختفت التروس تماما. ولكن، كان الصدع ما زال باقيا. وطلبت غرفة وأنا أسلم المعطف والقبعة لموظف الفندق. وبعد ذلك هاتفت إحدى المجلات لمناقشتها في أمر مالي.
على ما يبدو أن حفل الزفاف قد بدأ منذ زمن طويل. جلست على طرف المائدة، وبدأت أحرك الشوكة والسكين. كان بالطبع جميع الخمسين شخصا الذين جلسوا على المائدة البيضاء التي على شكل حرف
U
في حالة مرح وسرور، بداية من العروسين في الواجهة. ولكن، كان شعوري يتجه أكثر وأكثر إلى الاكتئاب تدريجيا تحت المصباح شديد الإضاءة. ومن أجل الهروب من ذلك الشعور وجهت حديثي إلى الشخص الجالس بجواري. وبالصدفة كان رجلا عجوزا ذا لحية بيضاء تشبه لبدة الأسد تماما. ليس هذا فقط، بل كان عالما شهيرا في الحروف الصينية وكنت أنا أيضا أعرفه. وبناء على ذلك استقر حديثنا على المخطوطات العتيقة. «إن الكلين، هو الحيوان وحيد القرن، وكذلك طائر العقاب أو ما يسمى العنقاء ...»
كان ذلك العالم الشهير في اللغة الصينية يشعر على ما يبدو باهتمام لحديثي ذلك. حينما كنت أتحدث تحدثا آليا، شعرت تدريجيا برغبة عارمة في التدمير، وبالتأكيد بعد أن جعلت الإمبراطور الصيني «ياو شون» شخصية خيالية، بدأت الحديث بأن مؤلف كتاب «سجلات الربيع والخريف» كان من عصر الهان الذي يلي عصر الإمبراطور بوقت طويل. وعندها أظهر عالم اللغة استياء سافرا وقطع حديثي وكأنه يزأر كالنمر تقريبا دون أن ينظر نحو وجهي بتاتا: «إن كان ياو شون غير موجود فسيكون كونفوشيوس كاذبا. ويستحيل أن يكذب القديس.»
بالتأكيد التزمت الصمت. ثم بعد ذلك كنت أعمل شوكتي وسكيني في قطعة اللحم التي فوق طبقي. وعندها اكتشفت دودة صغيرة تتلوى في هدوء بجسدها على حافة قطعة اللحم. استدعيت في داخل رأسي كلمة
Worm
الإنجليزية. لا ريب أن تلك الكلمة تعني معنى أحد الحيوانات الخيالية مثل الكلين والعنقاء. وضعت الشوكة والسكين جانبا، وتأملت كأسي الذي امتلأ في غفلة مني بالشامبانيا.
بعد أن انتهت الحفل أخيرا، ومن أجل أن أنعزل في الغرفة التي حجزتها مسبقا، بدأت السير في الممر الخالي تماما من أي أثر لإنسان. كان الممر يعطيني إحساسا أن هذا المكان أقرب للسجن منه لفندق، ولكن لحسن الحظ، قل الصداع كثيرا في غفلة من الزمن.
لقد أحضرت معي إلى الغرفة الحقيبة بالطبع والقبعة والمعطف. أحسست في المعطف المعلق على الحائط بهيئتي وأنا واقف، فأسرعت برمي المعطف داخل خزانة الملابس في ركن الغرفة. ثم ذهبت بعد ذلك؛ لأقف أمام المرآة وجعلتها تعكس وجهي بثبات؛ وجهي المنعكس من المرآة كشف عن تشكيل العظام تحت الجلد. برزت الديدان على الفور وبوضوح في ذاكرتي أنا المنعكس على المرآة.
فتحت باب الغرفة وخرجت إلى الممر وذهبت ماشيا دون أن أستهدف مكانا بعينه. وهنا وجدت في ركن مؤد إلى الاستقبال مصباحا واحدا طولي الشكل معلقا به طربوش ينعكس انعكاسا زاهيا على الباب الزجاجي. كان ذلك يعطي لي إحساسا بالسلام النفسي. جلست على المقعد الذي أمامه، وأخذت أفكر في العديد من الأمور، ولكن لم يكن ممكنا أن أجلس هناك أكثر من خمس دقائق. معطف المطر هذه المرة، كان متدليا وعلى وشك الانخلاع من مسند المقعد الطويل الذي كان بجواري. «مع أننا حاليا في موسم البرودة الشديدة!»
وأنا أفكر في مثل هذا الأمر، ذهبت راجعا مرة أخرى في الممر. ولم أستطع رؤية أي من عاملي الفندق في ركن الممر الخاص بتجمع الخدم، ولكن استرقت أذني قليلا صوت حديثهم. كان ما سمعته هو رد أحدهم على ما قيل له بكلمة
All right
الإنجليزية. أوول رايت؟ لقد تعجلت في محاولة فهم معنى ذلك الحوار فهما دقيقا. أوول رايت؟ ترى ما هو هذا الذي أوول رايت؟!
كانت غرفتي بالطبع في منتهى الهدوء، ولكن كان فتح باب الغرفة أمرا مريعا بالنسبة لي. بعد أن ترددت قليلا، استجمعت شجاعتي ودخلت غرفتي. ثم بعد ذلك جلست فوق مقعد المكتب وأنا أحرص على عدم النظر في المرآة. كان نوع المقعد من المقاعد المريحة المصنوعة من الجلد المغربي الأزرق قريب الشبه من جلد السحالي. فتحت الحقيبة وأخرجت منها أوراق المسودة، وحاولت أن أكمل كتابة إحدى القصص القصيرة، ولكن لم يتحرك القلم الذي غمسته في الحبر فوق الأوراق مهما مر من وقت. ليس هذا فقط، بل عندما ظننت أنه تحرك أخيرا، ظل يكرر كتابة نفس الكلمة فقط مرات ومرات
All right ... All right ... All right sir ... All right ... .
وعندها رن فجأة الهاتف بجوار السرير. نهضت مندهشا ووضعت السماعة على أذني وأجبت على المتصل. «من؟» «إنها أنا. أنا ...»
كانت المتصلة هي ابنة أختي الكبرى. «ماذا؟ هل حدث شيء؟» «أجل، لقد حدث أمر جلل؛ لذلك ... لأنه لقد وقع أمر عظيم، لقد اتصلت كذلك بخالتي.» «أمر جلل؟!» «أجل. لذلك تعال في التو والحال. في التو والحال، فهمت؟»
انقطع الخط مباشرة بعد قولها هذا. أعدت سماعة الهاتف إلى مكانها الأصلي، وضغطت لا إراديا على زر الجرس. ولكنني كنت أدرك أنا نفسي بوضوح أن يدي ترتعش. لم يأت عامل الفندق بسهولة. كان شعوري بالمعاناة أكبر من شعوري بالغضب، مما جعلني أدق الجرس أكثر من مرة. وأنا أفهم أخيرا القدر الذي أخبرتني به كلمة «أوول رايت».
مات زوج أختي بعد ظهيرة ذلك اليوم، مات دهسا بالقطار في منطقة ريفية لا تبعد كثيرا عن طوكيو. بل إنه كان يرتدي معطف مطر لا علاقة له بهذا الفصل من فصول العام. أنا الآن ما زلت مستمرا في كتابة القصة القصيرة السابقة الذكر في نفس ذلك الفندق. لا يمر أحد في ممر الفندق في منتصف الليل. أسمع أحيانا صوت رفرفة أجنحة خارج الباب. ربما يكون أحدهم يقتني طائرا ما في مكان ما. (2) انتقام
استيقظت في حوالي الساعة الثامنة صباحا في ذلك الفندق. ولكنني عندما حاولت النزول من السرير من العجيب، إنني لم أجد إلا فردة واحدة من الصندل، وكان ذلك خلال سنة أو سنتين ماضيتين ظاهرة تسبب لي الخوف والقلق دائما. ليس هذا فقط، بل كانت ظاهرة تجعلني أتذكر الأمير في الأسطورة اليونانية الذي لا يرتدي إلا فردة واحدة من الصندل. ضغطت على زر الجرس لاستدعاء عامل الفندق، وطلبت منه البحث عن الخف الضائع. بحث العامل بوجه متجهم داخل الغرفة الضيقة. «لقد وجدته هنا. داخل غرفة الحمام هذه.» «وترى لم ذهب إلى ذلك المكان؟» «لا أدري، ربما سحبه فأر.»
بعد أن رحل العامل، شربت قهوة بدون حليب وتهيأت لإنهاء القصة القصيرة السابقة الذكر. كانت النافذة المحاطة من الأربع جهات بحجر الطفلة تواجه الحديقة التي امتلأت بالثلوج. كنت أتأمل تلك الثلوج شارد الذهن في كل مرة أريح القلم فيها. كانت الثلوج متسخة بسخام المدينة تحت زهور الدفنة ذات الرائحة التي نبتت براعمها. كان ذلك المنظر يعطي قلبي نوعا من الألم إلى حد ما. انتبهت إلى أنني أفكر في العديد من الأمور وأنا أنفث دخان السيجارة دون أن أحرك القلم. في أمر زوجتي، وأمر أولادي، بل والأهم من ذلك أمر زوج أختي ...
اتهم زوج أختي قبل أن ينتحر بتهمة الحريق العمد، ولكن في الواقع لم يكن ثمة حيلة في ذلك. فلقد اشترك في تأمين على الحرائق بما يعادل ضعف قيمة البيت قبل احتراق البيت . بل وكان في فترة وقف تنفيذ حكم عليه بتهمة الشهادة الزور، ولكن الذي كان يسبب لي القلق ليس انتحاره ولكن لأنني كنت بالضرورة أرى نارا تحترق في كل مرة أعود فيها إلى طوكيو. كنت إما أرى الغابات الجبلية تحترق من نافذة القطار، أو أرى من داخل السيارة (وفي ذلك الوقت كان معي أولادي وزوجتي) حرائق في منطقة جسر توكيوا، وكان من المستحيل ألا يجعلني ذلك أتوقع وقوع حريق حتى قبل أن يحترق بيت أختي. «ربما يحدث حريق في بيتنا هذا العام!» «لم تقول هذا القول المشئوم! ...، ولكن مع ذلك إن وقع حريق سيكون أمرا عظيما. فالبيت ليس عليه تأمين جيد ...»
هكذا كنا نتحاور، ولكن لم يحدث حريق في بيتي ... لقد اجتهدت في دفع تلك الأوهام والهروب منها، وحاولت أن أحرك القلم مرة أخرى، ولكن مهما فعلت لا يتحرك القلم بسهولة لكتابة سطر واحد. وأخيرا ابتعدت عن المكتب، واستلقيت فوق السرير وبدأت قراءة قصة تولستوي
. كان بطل تلك القصة ذا شخصية معقدة تتضمن خليطا من الغرور والتكبر والميل إلى الأمراض. بل وكانت حياة تلك الشخصية المأسوية، إن قمنا بعمل بعض التعديلات البسيطة عليها تمثل نسخة كاريكاتورية من حياتي أنا. ثم بدأت أشعر بالامتعاض تدريجيا من إحساسي بالسخرية الباردة خاصة تجاه مأساته الكوميدية البائسة. وقبل أن تمر ساعة قفزت ناهضا من السرير وأنا ألقي الكتاب بكل ما بي من قوة تجاه ركن الغرفة التي تتدلى منه ستارة النافذة. «عليك اللعنة!»
وعندها جرى فأر فوق الأرضية في مسار مائل من تحت ستارة النافذة إلى غرفة الحمام. ذهبت إلى غرفة الحمام في قفزة واحدة، وفتحت الباب أبحث داخله. ولكنني لم أستطع رؤية أي شيء يشبه الفئران حتى خلف حوض الاستحمام الأبيض. شعرت فجأة بالاستياء، فأسرعت باستبدال الحذاء بالصندل، ومشيت في الممر الذي ليس فيه أثر لإنسان.
كان الممر اليوم أيضا كئيبا يشبه السجن بلا تغيير. وأثناء صعودي وهبوطي لدرجات السلم وأنا أحني رأسي في غفلة من الزمن وصلت إلى غرفة الطبخ. كانت غرفة الطبخ مضاءة على غير المتوقع، ولكن كانت النيران تتحرك تحت عدد من القدور التي تراصت على أحد جوانب الغرفة. شعرت وأنا أمر خلال الغرفة أن الطهاة الذين ارتدوا قبعات بيضاء ينظرون إلي بنظرات باردة. وفي نفس الوقت، شعرت كذلك بالجحيم الذي سقطت فيه. «يا إلهي! عاقبني! ولكن لا تنزل غضبك علي. فعلى الأرجح أنني انتهيت.» لم يسعني في تلك اللحظة إلا أن يجري على لساني هذا الدعاء.
بعد أن خرجت من ذلك الفندق، مشيت مسرعا إلى بيت أختي الكبرى على الطريق الذي ذابت عليه الثلوج فانعكست فوقه السماء الزرقاء. اسودت أوراق وأغصان أشجار الحديقة العامة بأجمعها. ليس هذا فقط، بل تملك كل شجرة منها أمام وخلف مثل البشر تماما. وجعلني ذلك أشعر بما يشبه الرعب أكثر من الاستياء. فتذكرت الأرواح
2
التي تحولت إلى أشجار في جحيم دانتي، وقررت أن أمشي على الجانب الآخر من طريق الترام الكهربائي الذي تصطف فيه المباني فقط. ولكنني لم أستطع أن أسير مائة متر في ذلك الجانب. «أعتذر عن إيقافك في الطريق ...»
كان ذلك شابا في الثانية أو الثالثة والعشرين من العمر يرتدي زيا مدرسيا بأزرار ذهبية اللون. التزمت الصمت وتأملت ذلك الشاب، فاكتشفت شامة سوداء على الجانب الأيسر لأنفه. قال لي في رهبة بعد أن خلع قبعته: «هل أنت الأستاذ «أ»؟» «أجل.» «لقد توقعت بذلك ...» «هل تريد شيئا؟»؟ «كلا، لقد كنت أريد مقابلتك فقط. فأنا من محبي القراءة لك ...»
وقتها خلعت قبعتي للحظة فقط ثم تركته خلفي وبدأت السير. الأستاذ، الأستاذ «أ» ... تلك الكلمة هي أكثر الكلمات التي تسبب لي الاستياء حاليا. لقد كنت أؤمن أنني ارتكبت كل أنواع الذنوب. ولكنهم استمروا ينادونني بلقب أستاذ كلما سنحت لهم الفرصة. ولم يكن بوسعي إلا أن أشعر في ذلك الوقت بأن أحدهم يسخر مني. أحدهم؟ ولكن ليس أمام المادية التي أؤمن بها إلا أن ترفض الروحانية. لقد نشرت الكلمات التالية قبل شهرين أو ثلاثة أشهر في إحدى المجلات الصغيرة. «إنني لا أملك أي نوع من أنواع الضمير بما في ذلك الضمير الفني. إنني لا أملك إلا الأعصاب فقط.»
كانت أختي الكبرى مع أطفالها الثلاثة قد لجئوا إلى ثكنة إيواء في العراء. كانت الثكنة التي لصقت عليها ورق بلون بني غامق من الداخل أبرد من الخارج. تبادلنا أحداثا متنوعة ونحن نوجه أيادينا ناحية مدفأة الفحم. كان زوجها صاحب الجسد المتين يحتقرني احتقارا غريزيا بسبب نحافتي المفرطة. ليس هذا فقط بل كان يعلن على الملأ أن مؤلفاتي غير أخلاقية. فكنت دائما أنظر إليه وهو يقول ذلك ببرود ولم يحدث أن تحدثت معه حديثا وديا، ولكن أثناء حديثي مع أختي، بدأت أدرك تدريجيا أنه هو أيضا كان ساقطا في الجحيم مثلي. مثلا يقول إنه رأى بالفعل عفريتا داخل قطار النوم. ولكنني أشعلت النار في سيجارة واجتهدت في مواصلة الحديث عن الأمور المالية فقط. «مهما تكن الظروف أرى في تلك الحالة أنه من الأفضل أن نبيع كل شيء.» «هذا صحيح. ترى كم يبلغ سعر الآلة الكاتبة؟» «أجل، بالإضافة أيضا هناك اللوحات.» «وبالمناسبة أيضا، هل نبيع اللوحة الشخصية للسيد «ن» (زوج أختي)؟ ولكنها ...»
عندما نظرت إلى اللوحة التصويرية التي بلا إطار المعلقة على حائط الثكنة، شعرت أنني لا أستطيع المزاح حتى بطيش. كان وجه الزوج الذي مات دهسا بالقطار عبارة عن كتلة لحم فقط، لم يتبق منه إلا شاربه الخفيف على الفم. بلا شك كان هذا الحديث - بالطبع الحديث نفسه - منفرا، ولكن كانت لوحته الشخصية بالطبع سليمة ولكن لسبب ما كان الشارب فقط باهتا. ظننت أن ذلك بسبب درجة الإضاءة؛ لذا نظرت إلى تلك اللوحة المرسومة بألوان الشمع من مواضع مختلفة. «ماذا تفعل؟» «لا شيء، ولكن فقط ما حول الفم في تلك اللوحة ...»
أجابت أختي وهي تنظر خلفها أنها لا تنتبه لشيء: «ألا ترين أن الشارب خفيف بشكل مريب؟»
لم يكن ما رأيته وهما، ولكن إن لم يكن وهما ... قررت أن أترك بيت أختي قبل أن تعد لي طعام الغداء. «حسنا، لا بأس.» «ربما آتي غدا ... لأنني اليوم سأذهب إلى أوياما.» «آه ، هناك؟ هل ما زالت صحتك سيئة؟» «إنني لا أتناول إلا الدواء فقط. لو المنوم فقط فهو شاق للغاية. فيرونال، نويرونال، ترايونال، نومال ...»
بعد ثلاثين دقيقة تقريبا، دخلت أحد المباني، وركبت المصعد للطابق الثالث. ثم بعد ذلك كنت على وشك دفع باب زجاجي لمطعم والدخول فيه، ولكن لم يتحرك الباب الزجاجي. ليس هذا فقط، بل لقد تدلت لافتة مطلية بالورنيش كتب عليها «يوم العطلة الأسبوعي». في النهاية أصبت بالاستياء، وقررت العودة إلى الطريق مرة أخرى وصورة الأطباق التي امتلأت بالتفاح والموز فوق الطاولة على الجهة الأخرى من الباب الزجاجي باقية في عيني. وعندها احتك بكتفي شابان كانا يحاولان دخول هذا المبني وهما يتحدثان معا بحيوية. ويبدو أن أحدهما كان يقول في تلك اللحظة «فغضبت!»
وقفت بلا حراك في الطريق، انتظرت مرور تاكسي، ولكن لم يمر تاكسي بسهولة. ليس هذا فقط، بل ما يمر صدفة كان بالضرورة سيارة صفراء. (لسبب ما كانت تلك التاكسيات الصفراء تسبب لي حوادث مرورية عادة) وأثناء ذلك، عثرت على سيارة خضراء ذات الفأل الحسن، وتوجهت على أي حال إلى مستشفى الأمراض النفسية بالقرب من مقابر أوياما. «شيء يغيظ،
tantalizing - Tantalus - Inferno ...»
في الواقع لقد كنت أنا شخصيا تانتالوس وأنا أتأمل الفاكهة خلف الباب الزجاجي. ظللت أتأمل ظهر السائق بثبات وأنا ألعن جحيم دانتي الذي برز أمام عيني مرة ثانية. وأثناء ذلك بدأت أشعر مجددا أن العديد من الأمور هي كذب صريح. السياسة، التجارة، الفنون، العلوم ... جميعها بالنسبة لشخص مثلي لا تعد أن تكون إلا مجرد طلاء خزفي بألوان مبرقشة يخفي حياتي المرعبة. شعرت تدريجيا بالاختناق، ففتحت نافذة التاكسي وتركتها مفتوحة، ولكن لم يذهب شعور الانقباض من قلبي.
أخيرا بدأ التاكسي الأخضر يسير أمام معبد جينغو. يفترض أن مستشفى الأمراض النفسية تقع عند الانعطاف في حارة جانبية هنا، ولكن لسبب ما لم أستطع أن أتعرف عليها اليوم فقط. ثم بعد أن جعلت التاكسي يروح ويجيء عدة مرات بمحاذاة سكة القطار، يئست أخيرا وقررت النزول من التاكسي.
وأخيرا عثرت على تلك الحارة ، فانعطفت في طريق ممتلئ بالطين. ثم أخطأت الطريق في غفلة مني، فوصلت إلى أمام قاعة مراسم أوياما. كان ذلك مبنى لم أمر من أمام بوابته تلك منذ مراسم عزاء الأستاذ ناتسوميه أي منذ تقريبا عشر سنوات مضت. لم أكن سعيدا كذلك من عشر سنوات، ولكن على الأقل كنت في حالة سلام نفسي. تأملت الساحة التي فرشت بالحصى بعد البوابة، وأنا أتذكر شجر الموز في متحف الأستاذ ناتسوميه المسمى «سوسيكي سانبو»، ولم يكن بوسعي إلا أن أشعر أن تلك نهاية مرحلة من حياتي. ليس هذا فقط، بل لم يكن بوسعي إلا أن أشعر أن شيئا ما هو الذي أتى بي أمام هذه المقبرة في السنة العاشرة.
بعد أن خرجت من بوابة مستشفى الأمراض النفسية تلك، ركبت سيارة أخرى، وقررت الرجوع إلى الفندق السابق، ولكن عندما نزلت أمام مدخل ذلك الفندق، كان هناك رجل يرتدي معطفا واقيا من المطر يتشاجر مع عامل الفندق. مع عامل الفندق؟ كلا لم يكن عاملا بالفندق، بل كان عامل السيارات الذي يرتدي زيا أخضر. شعرت بنذير شؤم من الدخول إلى الفندق، ولذلك رجعت سريعا للطريق الذي جئت منه.
عندما وصلت إلى شارع غينزا، كان الوقت قد اقترب من الغروب تقريبا. ولم يكن بوسعي إلا أن أشعر بكآبة شديدة من المحلات المتراصة على جانبي الطريق ومن كثرة المارة به. وبصفة خاصة كان من أسباب حنقي سير هؤلاء المارة بخفة ورشاقة وكأنهم لا يقترفون الذنوب. أخذت أسير ناحية الشمال بلا نهاية وسط إضاءة أعمدة إنارة الطريق المختلطة بلمبات النيون الكهربائية المعتمة. وأثناء ذلك، وقعت عيني على مكتبة لبيع الكتب تتراص عندها أعداد كبيرة من المجلات. دخلت تلك المكتبة، ونظرت عاليا إلى عدد من رفوف الكتب وأنا شارد الذهن. ثم بعد ذلك قررت أن ألقي نظرة على كتاب بعنوان «الأساطير اليونانية». كان كتاب «الأساطير اليونانية» ذو الغلاف الأصفر هذا على ما يبدو مخصصا للأطفال، ولكن السطر الذي قرأته فيه صدفة أصابني في مقتل. «حتى زيوس أعظم الآلهة، لا يقدر على إله الانتقام ...»
رجعت للسير وسط زحام المارة تاركا تلك المكتبة خلفي. وأنا أشعر بإله الانتقام يسير خلفي محاولا استهدافي بلا انقطاع كلما انعطفت في طريق ... (3) ليل
عثرت على كتاب ستريندبرغ «الأسطورة» في رفوف الكتب بالطابق الثاني من مكتبة ماروزن، وألقيت وتصفحت منه صفحتين أو ثلاثة، وكان المكتوب في ذلك الكتاب تجارب لا تختلف كثيرا عن تجارب حياتي. ليس هذا فقط، بل كان الغلاف باللون الأصفر. أرجعت «الأسطورة» إلى رف الكتب، وبعد ذلك سحبت كتابا سميكا وقع تحت يدي صدفة تقريبا، ولكن كان رسم في ذلك الكتاب تصطف به تروس لها عيون وأنوف لا تختلف عنا نحن البشر. (كان كتابا يجمع اللوحات التي رسمها المرضى النفسيون في ألمانيا) فأحسست في لحظة بحدوث تمرد نفسي داخل الاكتئاب، ورحت أفتح كتبا عديدة مثل مدمن القمار الذي سيطر عليه اليأس، ولكن لسبب مجهول اختبأت بضع إبر بالضرورة في كل كتاب بين الفصول أو بين الرسوم. كل كتاب؟ ... حتى في الوقت الذي أمسكت فيه برواية «مدام بوفاري» التي قرأتها مرات ومرات، أحسست في النهاية أنني لست إلا مسيو بوفاري من الطبقة البورجوازية.
ويبدو أنه لم يبق زبائن في الطابق الثاني من ماروزن إلا أنا فقط، مع اقتراب غروب الشمس تنقلت تائها بين رفوف الكتب تحت إضاءة المصباح الكهربائي. وبعد ذلك توقفت قدماي أمام رف يعلوه لافتة كتب عليها «الأديان»، فتصفحت كتابا بغلاف أخضر. في ذلك الكتاب تراصت كلمات في الفهرس أن الفصل الفلاني هو «أربعة أعداء مخيفون، الشك والخوف والكبر والشهوة الحسية.» وبمجرد أن رأيت تلك الكلمات، أحسست أن التمرد النفسي ازداد أكثر. لم تكن تلك الأشياء التي وصفت بأنها أعداء، إلا أسماء مختلفة للحساسية والعقلانية بالنسبة لي. ولكنني لم أستطع في النهاية احتمال أن علم النفس التقليدي يسبب لي التعاسة مثله مثل علم النفس الحديث. فجأة تذكرت وأنا أمسك ذلك الكتاب اسم «فتى شولينغ» الذي أستخدمه اسما للكتابة. إن هذا الاسم يشير إلى حكاية شاب صيني في كتاب «هان فيي زي» ذهب لكي يتعلم طريقة المشي في مدينة هاندان، فنسي طريقة مشي مدينته الأصلية شولينغ قبل أن يتعلم طريقة مشي مدينة هاندان، مما أدى به أن يرجع إلى مسقط رأسه زحفا على أربع. ولا شك أنني أعد حاليا في عين أي شخص «فتى شولينغ»،
3
ولكن استخدامي أنا الذي لم أسقط بعد في الجحيم لهذا الاسم كاسم مستعار للكتابة ... دخلت غرفة عرض البوسترات التي كانت في الجهة المقابلة تماما وأنا أحاول بجد دفع الأوهام بعيدا خلف رفوف الكتب الكبيرة، ولكن حتى هناك وجدت لوحة تصور فارسا يبدو أنه القديس مارجرجس يطعن تنينا له أجنحة فيقتله. بل كان ذلك الفارس يظهر تحت الخوذة جزءا من وجهه العبوس الذي يشبه وجه أحد أعدائي. تذكرت مرة أخرى قصة «فن ذبح التنين»
4
في كتاب «هان فيي زي»، فغادرت المكان هابطا درجات السلم عريضة الاتساع بدون أن أمر من خلال قاعة العرض.
ظللت أفكر في كلمة «ذبح التنين» وأنا أسير في شارع نيهونباشي الذي أتى عليه الليل بالفعل. ولا شك أن تلك هي الكلمة المنقوشة على محبرتي الخاصة. لقد أهداني رجل أعمال شاب تلك المحبرة. ورجل الأعمال هذا أعلن أخيرا إفلاسه في نهاية العام الماضي بعد فشله في عدد من المشاريع التجارية. رفعت عيني إلى السماء العالية، وقررت أن أفكر في مدى صغر الكرة الأرضية هذه - وبالتالي مدى صغري أنا نفسي - وسط أضواء تلك النجوم التي لا حصر لها، ولكن الجو الذي كان صحوا في النهار أمسى في غفلة من الزمن غائما تماما. أحسست فجأة أن شيئا ما يحمل تجاهي عداء، ولذا قررت أن ألجأ إلى مقهى على الجانب الآخر من سكة القطار الحديدية.
لا شك أن ذلك كان «لجوءا». فلقد أحسست في حائط ذلك المقهى وردي اللون ما يشبه السلام النفسي، وأخيرا استطعت الجلوس بسهولة أمام الطاولة التي في عمق المقهى. ومن حسن الحظ أنه لم يكن في تلك المقهى إلا شخصين أو ثلاثة أشخاص فقط. شربت كوبا من الكاكاو ودخنت سيجارة كالمعتاد. ارتفع دخان السيجارة على الحائط الوردي فجعله الحائط دخانا بلون أرزق خفيف. أمتعني ذلك التوافق اللوني اللطيف أيضا. لكن بعد مرور فترة، عثرت على لوحة بورتريه لنابليون معلقة على الجدار الذي على يساري، فبدأت أشعر بالقلق مجددا. في الوقت الذي كان فيه نابليون ما زال طالبا، كتب في آخر صفحة من كراس الجيوغرافيا: «جزيرة سانت هيلينا جزيرة صغيرة.» وربما كان ذلك مجرد مصادفة كما نقول، ولكن من المؤكد أن ذلك قد أحدث الرعب حتى في قلب نابليون نفسه.
بدأت أفكر في مؤلفاتي وأنا أحملق في نابليون. وأول ما طرأ على ذهني الحكم والأمثال الواردة في «كلمات القزم». (وبخاصة الكلمة التي تقول: «إن الحياة جحيم أكثر من الجحيم ذاته».) وبعد ذلك قدر الرسام الذي يدعى يوشيهديه بطل قصتي «صور معاناة الجحيم». وبعد ذلك ... وأنا أنفث دخان التبغ، ومن أجل أن أهرب من تلك الذكريات، بدأت أدير نظري داخل المقهى. لقد لجأت إلى هذا المكان قبل خمس دقائق فقط، ولكن خلال وقت قصير جدا تبدل حال المقهى تماما. وما أشعرني بعدم الارتياح بصفة خاصة هو عدم توافق المقاعد والمناضد الخشبية من الماهوجني مع الحائط ذي اللون الوردي مطلقا. خفت من أن أسقط مرة ثانية في عذاب لا يراه أحد غيري، فأسرعت بإلقاء عملة فضية على الطاولة وحاولت الخروج من المقهى. «أنت! انتظر! المطلوب عشرون سنا ...»
كان ما ألقيته عملة نحاسية.
5
أثناء سيري وحيدا وأنا أشعر بالخزي، تذكرت فجأة بيتي داخل غابات الصنوبر. لم يكن ذلك بيت والدي بالتبني في إحدى ضواحي طوكيو، ولكنه البيت الذي استأجرته من أجل أن أكون أنا مركز البيت والأسرة. لقد عشت عشر سنوات تقريبا في ذلك البيت. ولكنني بقرار متهور في ظروف خاصة بدأت الإقامة مع والدي بالتبني. وفي نفس الوقت بدأت التحول إلى عبد، إلى طاغية إلى إنسان أناني ضعيف.
رجعت إلى الفندق في الساعة العاشرة تقريبا. أتيت سيرا على الأقدام في طريق طويل؛ لذا فقدت قدرتي على العودة إلى الغرفة، فجلست على مقعد أمام المدفأة المشتعلة بنار جذوع أشجار مستديرة وسميكة . ثم بدأت أفكر في الرواية الطويلة التي كنت أخطط لكتابتها. بطل الرواية هو الشعب الياباني منذ عصر سويكو
6
إلى عصر ميجي،
7
وتنقسم إلى بضع وثلاثين فصلا تقريبا تحكي في قصص قصيرة تلك العصور بتسلسلها التاريخي. تذكرت فجأة وأنا أنظر إلى رذاذ النيران المتطاير، التمثال البرونزي أمام القصر الإمبراطوري. يرتدي ذلك التمثال درعا وخوذة، ويعتلي فوق الجواد مرتفعا وكأنه الإخلاص ذاته، ولكن كان العدو! «كذب!»
انزلقت ثانية من الماضي البعيد إلى الحاضر القريب جدا. ولحسن الحظ جاء في تلك اللحظة نحات أكبر مني سنا. كان اليوم أيضا يرتدي ملابس من القطيفة، ويجعل لحيته على هيئة عثنون قصير. نهضت من على المقعد، ومسكت يده التي مدها للتحية. (لم تكن تلك عادتي، بل لقد اتبعت عادته هو الذي عاش نصف حياته في باريس وبرلين)، ولكن كان من الغريب أن يده كانت رطبة مثل جلد الزواحف. «هل أنت تقيم الليلة هنا؟» «أجل ...» «من أجل العمل؟» «أجل، أقوم أيضا بالعمل.»
ظل ينظر طويلا إلى وجهي. وشعرت داخل عينيه بملامح قريبة من ملامح المحقق الجنائي. «ما رأيك أن تحضر لغرفتي نتحدث معا؟»
وجهت إليه الحديث بنبرة تحد (مع أنني أفتقر لمثل تلك الشجاعة، ولكن إحدى عاداتي السيئة هي أخذ موقف التحدي على الفور)، وعندها رد مبتسما بسؤال: «أين؟ غرفتك تلك؟»
سرنا كتفا بكتف وكأننا صديقان حميمان وعدنا إلى غرفتي وسط الأجانب الذين يتحاورون معا في هدوء، وعندما وصل إلى غرفتي، جلس معطيا ظهره للمرآة. ثم بعد ذلك بدأنا نتحدث في العديد من الأمور. العديد من الأمور؟ ولكن كان أغلب الحديث عن النساء. لا شك أنني أحد الذين سقطوا في الجحيم بسبب ما ارتكبت من ذنوب. ولكن، جعلتني تلك الكمية من الأحاديث الشريرة في النهاية أصاب بالاكتئاب. لقد بت لفترة قصيرة أنتمي لطائفة المتطهرين البيورتانيين، وبدأت أسخر من أولاء النسوة. «انظر إلى شفتي الفتاة «س». إن ذلك بسبب تقبيل الكثير من الرجال ...»
أغلقت شفتي فجأة، وتأملت ظهره في المرآة. كان يضع مرهما أصفر اللون أسفل أذنه تماما . «بسبب تقبيل الكثير من الرجال؟» «أنا أعتقد أنها من ذلك النوع.»
أومأ الرجل مبتسما. وأحسست أنه يلاحظني في داخله بلا انقطاع من أجل أن يتعرف على أسراري، ولكن كما هو متوقع لم يبتعد حديثنا عن المرأة. وأحسست أنا بالخزي من ضعفي النفسي أكثر من كوني كرهته، وأخيرا لم أتحمل إلا أن أشعر بالاكتئاب.
وأخيرا بعد أن غادر ظللت كما أنا مستلقيا على السرير، وبدأت أقرأ رواية «ممر في الليل المظلم». كان الصراع النفسي الذي يعانيه البطل مؤلما لي بشدة من جوانبه جميعا، وعندما أقارن نفسي بذلك البطل، أحس إلى أي مدى أنا أحمق، وذرفت دمع العين في آخر الأمر. وفي نفس الوقت ألقت الدموع على روحي سلاما وسكينة، ولكن لم يستمر ذلك طويلا. بدأت عيني اليمنى تشعر بالتروس الشفافة مجددا كانت التروس كما هو متوقع تزيد من عددها مع الدوران. خفت من أن يبدأ الصداع، فتركت الكتاب عند الوسادة كما هو، وشربت منوم فيرونال 0,8 جرام، وقررت النوم نوما عميقا أيا كان الأمر.
ولكنني في الحلم كنت أتأمل مسبحا. كان عدد من الأطفال ذكورا وإناثا يسبحون ويغطسون في ذلك المسبح. مشيت إلى غابة الصنوبر التي تقع على الجهة المقابلة للمسبح. وعندها نادى علي أحدهم من الخلف قائلا: «أبي!» فالتفت للخلف، ووجدت زوجتي تقف أمام المسبح. وشعرت في نفس الوقت بندم شديد. «ألا تأخذ المنشفة؟» «لا حاجة بي إليها. انتبهي جيدا للأطفال.»
عدت مرة أخرى للمشي، ولكن فجأة تغير المكان الذي أمشي عليه إلى رصيف محطة. كان رصيفا يحيطه سور من الأشجار الفارعة ويبدو أنها محطة في الريف. كان يقف هناك «ه» الطالب الجامعي وامرأة أكبر سنا، وعندما رأى الاثنان وجهي، أقبلا تجاهي وتحدثا معي في وقت واحد. «كان حريقا هائلا.» «لقد هربت أنا أيضا بأعجوبة.»
شعرت أن تلك السيدة الأكبر سنا لها أثر في ذاكرتي. ليس هذا فقط، بل شعرت كذلك بإثارة ممتعة من الحديث معها. وعندها جاء القطار والدخان يرتفع منه ووقف بجانب الرصيف في هدوء. ركبت ذلك القطار بمفردي ، ومشيت في ممر عربات النوم التي يتدلى قماش أبيض على جانبيها. ثم رأيت في إحدى غرف النوم جسد امرأة قريبة الشبه بالمومياء ترقد نائمة على جانبها عارية ووجهها ناحيتي. وما من شك أنها أيضا إلهة الانتقام ... ابنة المجنون ...
تركت السرير سريعا دون وعي بمجرد أن فتحت عيني. كانت غرفتي بلا تغيير مضاءة بنور المصباح الكهربائي. ولكنني كنت أسمع رفرفة أجنحة وخشخشة فأر في مكان ما. فتحت الباب وخرجت للممر، وذهبت سريعا إلى مكان المدفأة السابقة. ثم وأنا جالس على المقعد، بدأت أتأمل الدخان المضطرب. وفي تلك اللحظة جاء عامل يرتدي ملابس بيضاء لكي يزود المدفأة بالحطب. «كم الساعة الآن؟» «الثالثة والنصف تقريبا.»
ولكن على الجهة الأخرى من بهو الاستقبال ثمة امرأة أمريكية على ما يبدو مستمرة في قراءة كتاب، وعلى ما يبدو لي من بعيد، لا شك أن تلك المرأة ترتدي رداء أخضر. شعرت بالنجاة إلى حد ما، فقررت الانتظار هنا حتى شروق الشمس. مثل العجوز الذي ينتظر الموت في هدوء بعد تحمله لعذاب المرض. (4) ليس بعد؟
انتهيت أخيرا من كتابة القصة القصيرة السابقة الذكر في غرفة الفندق، وقررت إرسالها إلى إحدى المجلات، في الأصل أجرة تلك القصة لا تكفي تكلفة إقامة أسبوع واحد بالفندق، ولكنني رضيت عن نفسي لانتهائي من العمل، وقررت الذهاب إلى إحدى مكتبات بيع الكتب في حي غينزا من أجل البحث على منشط للذهن.
يتدحرج ورق القمامة فوق الأسفلت التي تنصب عليه أشعة شمس الشتاء، ثم من خلال انعكاس الأشعة على ورق القمامة بدت جميعها تشبه الورود. أحسست بشعور مريح إلى حد ما وأنا أدخل مكتبة بيع الكتب تلك، فكان المحل أيضا أجمل مما هو عليه في المعتاد، ولكن ليس معنى ذلك نفي قلقي بشأن فتاة صغيرة تضع على عينيها نظارة طبية تتحدث مع البائع. ولكنني تذكرت زهور الورد الورقية التي كانت واقعة في الطريق، وقررت شراء «حوارات أناتولي فرانس» وكتاب «رسائل ميريميه».
حملت الكتابين، ودخلت أحد المقاهي، وقررت أن أجلس في آخر طاولة داخلية في المقهى أنتظر القهوة . يجلس أمامي رجل وامرأة يبدو أنهما أم وابنها، كان الابن أصغر مني عمرا ولكنه كان يشبهني تماما، ليس ذلك فقط بل كان الاثنان يتحدثان معا ووجهاهما قريبان كما لو كانا حبيبين، وأثناء ما كنت أتأملهما بدأت أشعر أنني أعي في داخلي أن ذلك الابن يعطي اكتفاء جنسيا لأمه، ولا شك أن ذلك كان أحد أمثلة التجاذب الاختياري التي أتذكر منها الكثير، وفي نفس الوقت، لا شك أنها أحد أمثلة الإرادة التي تحول هذه الدنيا إلى جحيم. ولكن ... خفت من أن أسقط في جحيم المعاناة، وكان ذلك لحسن الحظ وقت وصول القهوة، فبدأت في قراءة كتاب «رسائل ميريميه»، لمعت حكم حادة داخل رسائله مثلما يحدث في رواياته، وبدأت تلك الحكم تجعل مشاعري تتصلب سريعا. (كانت سهولة تأثري تلك إحدى نقاط ضعفي) فانتهيت من شرب كوب القهوة، وكان شعوري «فليأت ما يأتي» وتركت المقهى على عجل.
مشيت في الطريق وأنا أشاهد نوافذ العرض المتنوعة، كانت نافذة عرض محل إطارات اللوحات تتزين بلوحة بورتريه لبيتهوفن، تبدو اللوحة وكأنها فعلا لذلك العبقري الذي يرفع شعر رأسه لأعلى، ولم أكن أحتمل إلا أن أرى بيتهوفن ذلك هزليا مضحكا ...
وعندها قابلت فجأة صديقا قديما من أيام المدرسة الثانوية. كان ذلك الأستاذ الجامعي في تخصص الكيمياء التطبيقية يحمل حقيبة كبيرة مطوية للداخل وعين واحدة من عينيه شديدة الحمرة تكاد الدماء تنزف منها. «ما الذي حدث لعينك؟» «هذه؟ مجرد التهاب باطن الجفن.»
ثم تذكرت فجأة أنني منذ أربع أو خمس عشر سنة كلما أحسست بتجاذب اختياري كانت عيني تصاب بالتهاب باطن الجفن مثل عينه تلك، ولكنني لم أقل شيئا. خبط الصديق على كتفي وبدأ يحدثني عن أصدقائنا المشتركين، ثم صحبني إلى مقهى وهو مستمر في الحديث.
أشعل الصديق سيجارته ثم تحدث إلي عبر الطاولة المصنوعة من الرخام قائلا: «لم نتقابل منذ فترة طويلة، أليس كذلك؟ ربما منذ حفل وضع حجر أساس اللوح التذكاري للفيلسوف زهو زيهيو.» «حقا، منذ زهو ...»
لسبب ما لم أستطع نطق اسم زهو زيهيو نطقا صحيحا، لقد كان النطق الياباني للاسم سببا في إحساسي بالقلق إلى حد ما، ولكنه تحدث بلا مبالاة في العديد من الأمور، تحدث عن الروائي الذي يسمى «ك»، وعن الكلب الذي اشتراه من نوع بولدوغ، وعن غاز اللويسايت السام. «على ما سمعت أنك أصبحت لا تكتب مطلقا، لقد قرأت لك «قائمة الموتى»... هل تلك القصة من السيرة الذاتية لك؟» «أجل، إنها من سيرتي الذاتية.» «لقد كنت تبدو مريضا نوعا ما، هل تحسنت صحتك الآن؟» «لا تغيير، ما زلت أتناول الأدوية على الدوام.» «أنا كذلك أعاني من الأرق مؤخرا.» «أنا كذلك؟ لم تقول أنت: أنا كذلك؟» «ألست تقول إنك تعاني من الأرق؟ إن الأرق خطير ...»
برزت على عينه اليسرى شديدة الحمرة فقط ما يشبه الابتسامة، قبل أن أجيب عليه، بدأت الإحساس أنني لا أستطيع نطق كلمة «أرق» نطقا دقيقا. «إنه الأمر الطبيعي لابن مجنونة.»
لم يمر عشر دقائق إلا وكنت أمشي وحيدا في الطريق مرة أخرى، ثم بدأت أرى أوراق القمامة التي سقطت فوق الأسفلت على أشكال أوجهنا نحن البشر، وعندها مرت بي من الجهة الأخرى امرأة بشعر قصير. كانت تبدو جميلة من بعيد، ولكن عندما أتت أمام عيني ونظرت إليها، كان وجهها دميما فوق أنه مليء بالتجاعيد الصغيرة. ليس هذا فقط بل كانت تبدو حبلى. أشحت بوجهي عنها تلقائيا، وانعطفت في حارة جانبية واسعة، ولكن أثناء سيري لبعض الوقت، بدأت أشعر بألم البواسير. كان ذلك المرض لا يمكن شفاؤه بالنسبة لي إلا من خلال الجلوس في حمام من الماء الساخن. «الجلوس في حمام؟ لقد كان بيتهوفن كذلك يعالج من خلال الجلوس في حمام ...»
على الفور بدأت رائحة الكبريت المستخدم في ذلك الحمام تهجم في أنفي، ولكن بالطبع لم أر كبريتا في أي مكان من الطريق، اجتهدت في المشي في طريقي وأنا أتذكر مرة أخرى أوراق القمامة التي على هيئة ورود.
بعد مرور ساعة واحدة فقط، وأنا منعزل تماما في غرفتي، جالسا أمام المكتب أسفل النافذة، بدأت في كتابة قصة جديدة. جرى القلم على ورق الكتابة بسرعة متناهية لدرجة أصابتني أنا نفسي بالدهشة، ولكن توقفت تلك الحالة بعد مرور ساعتين أو ثلاث ساعات من خلال شخص لا تراه عيناي، فاضطررت إلى ترك المكتب، وأخذت أدور في أرجاء الغرفة، حتى في هذا الوقت تكون أوهامي المبالغ فيها في أشد حالاتها، وبت أشعر وسط الفرحة البوهيمية أنني مجرد روح طردت من قلمي، ليس لي أبوان ولا زوجة ولا أطفال.
ولكنني كنت مضطرا بعد أربع أو خمس دقائق أن أتوجه للهاتف والتحدث فيه، كان الهاتف مهما كررت الرد عدة مرات، لا يصل إلي إلا فقط كلمة مبهمة، ولكن على أي حال لا ريب أنني كنت أسمع تلك الكلمة على أنها «مول»، وفي النهاية ابتعدت عن الهاتف، وبدأت أمشي داخل الغرفة مجددا، ولكنني كنت منشغل البال بكلمة «مول» تلك. «مول ...»
Mole .
8
كانت مول كلمة إنجليزية، ولم أكن مستريحا لتتابع الأفكار هذا، ولكنني بعد ثانيتين أو ثلاث ثوان، صححت هجاء كلمة
Mole
إلى كلمة
la mort ، وعلى الفور جعلتني كلمة لامورت - التي تعني الموت باللغة الفرنسية - أكثر قلقا. على ما يبدو أن الموت يقترب مني مثلما اقترب من زوج أختي، ولكنني شعرت وسط القلق ببعض الفكاهة. ليس هذا فقط، بل لقد ابتسمت في نهاية الأمر. لم تحدث مثل هذه الفكاهة؟ أنا شخصيا لا أدري السبب، وقفت أمام المرآة بعد غياب فترة طويلة، وواجهت انعكاس صورتي فيها بجدية، وبالطبع كانت صورتي في المرآة تبتسم، وأثناء تحديقي في صورتي في المرآة تذكرت «القرين» الثاني لي. لحسن الحظ لم يسبق لي أن رأيت قريني هذا - وهو ما يطلق عليه باللغة الألمانية
Doppelgaenger -
من قبل، ولكن لقد رأت زوجة صديقي «ك» الذي أصبح ممثلا في الأفلام الأمريكية، «قريني» في ممر المسرح الإمبراطوري الياباني. (أتذكر أنني أصبت بالارتباك عندما قالت زوجة صديقي «ك» لي فجأة: لماذا لم تلق علي التحية في ذلك الوقت؟ ثم لمح مترجم بقدم واحدة رحل عن عالمنا «قريني» في محل لبيع السجائر في غينزا أيضا، ربما يأتي الموت لقريني بدلا من أن يأتيني ، ولكن حتى وإن أتى لي أنا ... أدرت ظهري للمرآة وعدت إلى مكتبي أمام النافذة.
تطل المائدة المربعة المحاطة بحجر الطفة على بركة وحشائش ذابلة، تذكرت وأنا أتأمل منظر تلك الحديقة عددا من الكراريس والمسرحيات غير المكتملة التي أحرقتها داخل غابة الصنوبر البعيدة. أمسكت القلم ثم بدأت في كتابة قصة جديدة. (5) ضوء أحمر
بدأت أشعة الشمس تعذبني، فأدليت الستارة أمام النافذة في النهار مثل حيوان الخلد في الواقع، وأضأت المصباح الكهربائي في النهار وظللت أكتب القصة السابقة بجد واجتهاد. ثم بعد ذلك عندما تعبت من العمل، فتحت كتاب تاريخ الأدب الإنجليزي تأليف إيبوليت تين، وتصفحت بعيني سير حياة الشعراء الإنجليز، كانوا تعساء كلهم، حتى عمالقة عصر الملكة إليزابيث، حتى بن جونسون الذي كان عالم جيله، لقد سقط في مرض الوهن الذهني لدرجة أنه رأى بداية معركة بين جيش روما وجيش قرطاج فوق أصبع إبهام قدمه، لم أستطع إلا أن أشعر بالفرحة العارمة الممتلئة بنية شريرة لا ترحم تجاه تعاسة هؤلاء الشعراء.
في ليلة ذات رياح شرقية شديدة (كان ذلك علامة جيدة بالنسبة لي)، خرجت إلى الطريق مخترقا غرفة البدروم، وقررت أن أزور صديقا عجوزا. يعمل ذلك العجوز خادما لشركة تطبع الكتاب المقدس مع اجتهاده في القراءة والصلاة وحيدا في غرفة علية بتلك الشركة، تبادلنا الحديث في أمور عديدة تحت الصليب المعلق على الحائط ونحن ندفئ أيادينا على مدفأة الفحم. لم جنت أمي؟ لم فشل أبي في تجارته؟ لم عوقبت أنا؟ ابتسم ذلك الرجل الذي يعرف كل تلك الأسرار، بريبة ابتسامة مهيبة، وظل يتحاور معي طويلا. ليس ذلك فقط، بل كان أحيانا يرسم رسما كاريكاتوريا للحياة بكلمات قصيرة، ولم يكن يمكن ألا أبجل هذا الرجل الذي يعتزل الحياة في تلك العلية. ولكنني اكتشفت أثناء حديثي معه أنه كذلك يتحرك من أجل التجاذب الاختياري. «إن ابنة محل الزهور والنباتات تلك، جميلة الوجه، حسنة المعشر ... وتعاملني بحنان.» «كم عمرها؟» «ستبلغ الثامنة عشرة من عمرها هذا العام.»
ربما كان ذلك بالنسبة له ما يشبه الحب الأبوي تجاهها. ولكنني لم أستطع إلا أن أشعر بالشغف في عينيه، ليس هذا فقط، بل لقد ظهر منظر وحش وحيد القرن فوق قشرة التفاحة الذابلة صفراء اللون التي قدمها لي. (كنت أكتشف مرات عديدة حيوانات أسطورية في أسطح الأخشاب وشروخ أكواب القهوة) ولا شك أن الوحش وحيد القرن ذلك هو حيوان الكيلين الأسطوري. تذكرت أن ناقدا يكن لي العداوة يطلق علي لقب «طفل الكيلين في العقد الأول من القرن العشرين»، فأحسست أن غرفة السقف هذه التي علق عليها الصليب ليست منطقة آمنة. «كيف حالك مؤخرا؟» «بدون تغيير، أعصابي متوترة ومشدودة.» «إن تلك الحالة لا يفلح معها حتى الدواء، أليس لديك نية أن تضحي مؤمنا؟» «إن كان باستطاعتي ذلك ...» «ما من صعوبة في الأمر، مجرد فقط أن تؤمن بالرب، وتؤمن بأن المسيح ابن الرب، وتؤمن بالمعجزات التي فعلها المسيح ...» «إنني يمكنني الإيمان بالشيطان؟ ...» «إذن لم لا تؤمن بالرب؟ أليس من المحال إن آمنت بالظل، ألا تؤمن بالنور المسبب له؟» «ولكن ثمة ظلاما بدون نور؟» «وما ذلك الظلام الذي بدون نور؟»
لم يكن بوسعي سوى الصمت، لقد كان هو الآخر يسير مثلي في الظلام، ولكنه كان يؤمن بوجود نور طالما وجد الظلام. كان الاختلاف بين منطقينا هو فقط تلك النقطة، ولكن لا شك أنني كنت غير قادر على تخطي هذه الفجوة بيننا على الأقل. «ولكن النور موجود بالضرورة، والدليل على ذلك هو وجود المعجزات ... إن المعجزات تقع أحيانا حتى في الوقت الحالي.» «إنها معجزات يفعل الشيطان ...» «لم تذكر الشيطان مرة أخرى؟»
أحسست بإغراء الرغبة في التحدث إليه بتجاربي الشخصية على مدى السنتين الماضيتين، ولكن لم أحتمل الخوف من أن يبلغ زوجتي بذلك، فيكون مصيري أنا أيضا الإيداع في مستشفى الأمراض العقلية مثل أمي. «ما هذا الذي هناك؟»
استدار ذلك العجوز ذو الجسد المتين للخلف تجاه رفوف الكتب القديمة، وأظهر تعبير وجه يشبه إله الرعي. «إنها الأعمال الكاملة لدوستويفسكي، هل قرأت «الجريمة والعقاب»؟»
أنا بالطبع كنت معتادا منذ عشر سنوات مضت على قراءة أربعة أو خمسة أعمال لدوستويفسكي، ولكنني تأثرت بكلمة «الجريمة والعقاب» التي قالها صدفة (؟)،
9
وبعد أن استعرت منه ذلك الكتاب، قررت العودة إلى فندقي السابق. كنت كما هو متوقع لا أرتاح للطريق المزدحم بالمارة الذي يتألق تحت الأضواء الكهربائية، وخاصة أنني بلا شك كنت لا أحتمل بتاتا لقاء أحد معارفي، لذا كنت شديد الحرص على اختيار الطرق المظلمة وأمشي فيها كاللصوص.
ولكن بعد فترة من الوقت، بدأت في آخر الأمر أشعر بألم في معدتي، ولن يوقف ذلك الألم إلا كأس من الويسكي. عثرت على إحدى الحانات، وحاولت أن أدفع بابها لدخولها، ولكن كان دخان السجائر داخل الحانة الضيقة كثيفا، ويقف وسطه ما يبدو أنهم فنانون شبان، يشربون الخمر، ليس هذا فقط، بل كان في المنتصف منهم فتاة بشعر يغطي الأذنين تعزف على آلة الماندرين في حماس. أحسست بالارتباك على الفور، فرجعت للخلف دون أن أدخل من الباب، وعندها فجأة اكتشفت شيئا يهتز على يمين ويسار ظلي، بل كان ضوءا أحمر مقززا ينعكس علي. توقفت في الطريق، ولكن استمر ظلي يتحرك يمينا ويسارا بلا توقف. التفت للخلف بخوف، وأخيرا اكتشفت قنديلا زجاجيا معلقا على إفريز الحانة، كان القنديل يهتز في الهواء ببطء بسبب شدة الرياح.
دخلت بعد ذلك إلى مطعم يقع في قبو تحت الأرض بإحدى البنايات، توقفت أمام بار ذلك المطعم وطلبت كأسا من الويسكي. «هل تريد ويسكي؟ ليس لدينا إلا نوع
Black and White
فقط ...»
صببت الويسكي في ماء الصودا، وبدأت أشرب جرعة بعد أخرى في هدوء. وبجواري رجلان في الثلاثينيات تقريبا من عمرهما يبدو أنهما صحفيان يتحدثان في أمر ما بصوت هامس، ليس هذا فقط، بل كانا يستخدمان اللغة الفرنسية، كنت وأنا أولي لهما ظهري، أشعر بكل جسدي بنظراتهما تجاهي، وكان الجسد في الواقع يستجيب لتلك النظرات وكأنها موجات كهربائية، لقد كان الاثنان بالتأكيد يذكران اسمي ويتحدثان عني.
Bien ... rès mauvais ... pourquoi?
Oui, oui ... d’enfer.
10
ألقيت بعملة فضية (كانت تلك هي آخر عملة فضية أملكها)، وهربت من ذلك القبو إلى الخارج، أصلحت رياح الطريق الذي تهب فيه نسائم الليل العليلة من أعصابي المشدودة بعد أن خفت حدة ألم معدتي، تذكرت راسكولينكوف، فشعرت برغبة في الاعتراف بكل شيء، ولكن، كان ذلك لا ريب سيخلق مآسي للكثير من الناس بخلافي أنا شخصيا، كلا، بل وبخلاف عائلتي أيضا. ليس هذا فقط، بل ثمة شك في تلك الرغبة حقيقة ذاتها أهي حقيقية أم لا؟ لو كانت حالتي النفسية فقط جيدة مثل الناس العاديين ... ولكن كان يجب علي أن أذهب إلى مكان ما من أجل ذلك، إلى مدريد أو إلى ريو أو إلى سمرقند.
وأثناء ذلك أصابتني لافتة صغيرة بيضاء متدلية من سقف أحد المحلات بالقلق المفاجئ، كانت بها رسم لعلامة تجارية عبارة عن إطار سيارة به أجنحة، ذكرتني تلك العلامة التجارية باليوناني القديم الذي اعتمد على جناح صناعي، ففي نهاية ارتفاعه في الهواء احترق جناحاه بأشعة الشمس وفي النهاية مات غرقا في البحر، إلى مدريد أو إلى ريو أو إلى سمرقند ... لم أستطع إلا أن أضحك ساخرا من أحلامي تلك، وفي نفس الوقت، لم أستطع إلا أن أفكر أيضا في أوريستيس الذي طاردته آلهة الانتقام.
مشيت في الطريق المظلم بمحاذاة قناة مائية، وأثناء ذلك تذكرت بيت والدي بالتبني الذي يقع في إحدى الضواحي. لا شك أن والدي بالتبني يعيشان وهما ينتظران عودتي للبيت بالتأكيد، وعلى الأرجح أطفالي كذلك ... ولكنني لا أستطيع إلا أن أخاف من قوة ذاتية، تقيدني إن عدت إلى هناك، كان يرسو في القناة مركب عريض دائري الشكل فوق موجات هادئة على سطح الماء، يتسرب شعاع ضوء خافت من قاع المركب، لا ريب أن ذلك المركب تعيش عائلة من الإناث والذكور يعيشون وهم يكرهون بعضهم البعض من أجل أن يحب بعضهم البعض ... ولكنني استدعيت روح القتال مرة ثانية، وقررت العودة إلى الفندق وأنا أشعر بسكرة الويسكي.
جلست على المكتب مجددا، وواصلت قراءة «رسائل ميريميه»، كان ذلك يمنحني في غفلة مني قوة الحياة، ولكن عندما علمت أن ميريميه أمسى بروتستانتيا في أواخر عمره، بدأت فجأة أشعر بوجه ميريميه القابع خلف ظل قناع ، كان هو أيضا وكما هو متوقع إنسان يسير وسط الظلام مثلنا كلنا، وسط الظلام؟ ... وهكذا بدأت رواية «رحلة في ظلام الليل» تتحول إلى كتاب مرعب بالنسبة لي، ثم بدأت قراءة كتاب «حوارات أناتولي فرانس» من أجل أن أنسى الاكتئاب، ولكن حتى إله الرعي في العصر الحديث هذا، كان يحمل الصليب.
بعد مرور ساعة واحدة فقط، جاءني عامل الفندق لكي يسلم لي حزمة من الرسائل البريدية، كانت إحدى هذه الرسائل من مكتبة في زيورخ تطلب مني كتابة ورقة بحث عن «المرأة اليابانية في العصر الحديث». ترى لم طلبوا مني أنا خاصة أن أكتب مثل هذا البحث؟ ليس هذا فقط بل لقد كتبت حاشية بخط اليد أسفل الرسالة التي باللغة الإنجليزية، تقول: «سوف نرضى حتى بصورة للمرأة بالأبيض والأسود ودون ألوان مثل اللوحات اليابانية تماما»، تذكرت من ذلك السطر ويسكي
Black and White ، فمزقت تلك الرسالة إربا، ثم فتحت هذه المرة عشوائيا مظروف رسالة أخرى، ومررت بنظري على ورق الرسالة الأصفر المسطر. كان كاتب تلك الرسالة شابا لا أعرفه، ولكن قبل أن أكمل قراءة سطرين أو ثلاثة لم أستطع منع نفسي من الغضب تجاه كلمة «إن قصتك (صور معاناة الجحيم) ...» كانت الرسالة الثالثة التي أفتحها قادمة من ابن أختي، فأخذت أنفاسي وقرأت مشاكل العائلة أخيرا، ولكن حتى تلك الرسالة عندما وصلت إلى نهايتها قضت علي فجأة. «سوف أرسل لك نسخة ديوان «ضوء أحمر» المعاد طبعه.»
ضوء أحمر! أحسست بابتسامة ساخرة من شخص ما، فقررت أن أهرب خارج غرفتي، لا أثر لبشر في الممر، وأخيرا استطعت الوصول بصعوبة إلى بهو الفندق وأنا أستند بإحدى يدي على الحائط، ثم جلست بعد ذلك فوق المقعد، وقررت على أي حال أن أشعل سيجارة. كانت السيجارة لسبب ما من نوع إيرشيب
airship
11 (كنت متعودا دائما على تدخين سجائر ستار
12
منذ أن استقرت إقامتي في هذا الفندق)، ثم ظهرت الأجنحة الصناعية أمام عيني مرة ثانية، قررت استدعاء عامل الفندق من الجهة الأخرى، وشراء علبتين من سجائر ستار، ولكن إن صدقنا ما يقوله العامل فسجائر ستار فقط غير موجودة للأسف. «لو سجائر إيرشيب فهي موجودة.»
هززت رأسي ودرت بنظري أتأمل بهو الفندق الواسع. على الجانب الآخر يجلس أربعة أو خمسة أجانب على منضدة يتحدثون، بل وإحداهم - امرأة ترتدي فستانا أحمر - تنظر تجاهي من وقت لآخر وهي تتحدث معهم بصوت خافت.
Mrs. Townshead ...
هكذا همس شخص ما لا تراه عيناي بهذا الاسم، بالتأكيد أنا لا أعرف أحدا اسمه السيدة تاونزهيد. حتى لو افترضت أنه اسم تلك المرأة ... نهضت مرة أخرى من على المقعد، وقررت العوة إلى غرفتي وأنا في خوف من ظهور أعراض الجنون علي.
عزمت على الاتصال فورا بأحد مستشفيات الأمراض النفسية بمجرد عودتي إلى غرفتي، ولكن كان دخولي له لا يختلف عن الموت، وبعد حيرة شديدة، ومن أجل أن ألهو عن ذلك الرعب بدأت في قراءة «الجريمة والعقاب»، ولكن كانت الصفحة التي فتحتها صدفة، عبارة عن فقرة من «الإخوة كارامازوف»، ظننت أنني أخطأت الكتاب، فنظرت إلى صفحة الغلاف، فوجدته مكتوبا عليه «الجريمة والعقاب» ... لا شك أنها رواية «الجريمة والعقاب»، لم أجد مفرا من قراءة تلك الفقرة لأنني أحسست بحركة أصابع القدر في خطأ شركة تجميع الكتاب، ثم في فتحي أنا تلك الصفحة التي بها ذلك الخطأ بالصدفة، ولكنني بدأت أشعر بأن كل أجزاء جسمي ترتعش قبل أن أكمل قراءة صفحة واحدة، كانت تلك الفقرة تصف كيف يعذب الشيطان إيفان، يعذب إيفان، ويعذب ستريندبرغ، ويعذب موباسان، ثم يعذبني أنا القابع في هذه الغرفة شخصيا ...
لم يعد هناك من ينقذني من تلك الحالة التي وصلت إليها إلا النوم فقط، ولكن في غفلة من الزمن كانت كل الأدوية المنومة التي لدي قد انتهت ولم يتبق منها كيس واحد، لم أحتمل أن أظل في هذا العذاب دون أن أستطيع النوم، ولكن تولدت لدي شجاعة يائسة، فقررت أن أطلب حمل قهوة لي، ثم أن أمسك بالقلم وأكتب باستماتة واجتهاد صفحتين، خمس صفحات، سبع صفحات، عشر صفحات ... كانت صفحات المخطوطة تزداد وتزداد في لمح البصر، كنت قد ملأت عالم تلك الرواية بحيوانات ما فوق الطبيعة.
13
ليس هذا فقط، بل لقد رسم أحد تلك الحيوانات بورتريها شخصيا لي، ولكن بدأ التعب يخيم على رأسي ببطء، وفي النهاية ابتعدت عن المكتب، ورقدت على ظهري فوق السرير، ويبدو أنني نمت بعد ذلك لمدة خمس وأربعين دقيقة تقريبا، ثم شعرت أن شخصا يهمس في أذني بالكلمة التالية، فاستيقظت ونهضت واقفا.
Le diable est mort.
14
كان الفجر قد بدأ يهل باردا نافذة حجر الطفلة. كنت أقف ثابتا أمام الباب، أتأمل الغرفة الخالية تماما من البشر، وعندها ظهر مشهد صغير وغائم للهواء الخارجي في شكل بقع على الجانب الآخر من الزجاج، ولم يكن هناك أي شك أن ذلك مشهد البحر خلف غابة صنوبر اصفر لونها، اقتربت من النافذة متوجسا، فاكتشفت أن من صنع هذا المشهد في الواقع هي بركة الحديقة وعشبها الذابل، ولكن في آخر الأمر استدعت أوهامي البصرية تلك إحساسا قريبا من الاشتياق تجاه بيتي.
قررت وأنا أجمع الكتب والمسودات داخل الحقيبة التي فوق المكتب، أن اتصل هاتفيا بإحدى المجلات عندما تصل الساعة إلى التاسعة، وأطلب منهم إمدادي بالمال بأية طريقة، ثم أن أعود إلى بيتي. (6) طائرة
ركبت سيارة تسرع إلى منطقة مصايف تبعد عن إحدى محطات خط طوكاي للسكك الحديدية، كان السائق لسبب ما يضع على جسمه معطف مطر قديما في مثل هذا الجو البارد، فكرت أن تلك الإشارة لا معنى لها، فحرصت على ألا أنظر تجاهه وقررت أن أنظر خارج النافذة، وعندها على الجانب المواجه من شجرة صنوبر قصيرة ... على الأرجح أنني رأيت إحدى الجنازات تسير في الطريق القديم، ويبدو أنه لا ينضم إليها القناديل المصنوعة من الورق الأبيض المشدود ولا القناديل التي على شكل تنين، ولكن كانت تهتز للأمام وللخلف في هدوء زهور لوتس صناعية مصنوعة من الذهب والفضة ...
بعد عودتي أخيرا إلى بيتي، عشت في سلام كبير لمدة يومين أو ثلاثة أيام بفضل زوجتي وأولادي والأدوية المنومة، استطعت أن أرى البحر صغيرا فوق غابة الصنوبر من غرفتي في الطابق الثاني، قررت أن أجلس على مكتب الطابق الثاني هذا، وممارسة عملي في الفترة الصباحية فقط، وأنا أستمع لتغريد الحمام، غير الحمام تطير أيضا على حافة حديقة المنزل غربان وعصافير، وكان ذلك ممتعا لي أيضا، كلما أمسكت بالقلم تذكرت قول: «طائر العقعق يجلب المسرات».
في ظهيرة يوم غائم ودافئ دفئا حيا، خرجت من بيتي إلى محل خردوات لشراء حبر، وعندها، كان الحبر المتراص في رفوف المحل بلون بني محروق فقط، كان الحبر باللون البني المحروق دائما يصيبني بالغثيان أكثر من أي حبر آخر، لم يكن أمامي حيلة إلا أن أترك ذلك المحل، ومشيت متسكعا بمفردي في الطريق الخالي تقريبا من المارة، فمر بجواري أحد الأجانب طويل القامة في حدود الأربعين من عمره يبدو أن لديه قصر نظر آتيا من الجهة المقابلة، كان ذلك الرجل سويديا مصابا بمرض جنون الاضطهاد يسكن هنا، بل وكان اسمه ستريندبرغ، عندما مر بجانبي أحسست باستجابة جسدية من نوع ما.
كان طول هذه الطريق فقط مائتين أو ثلاثمائة متر، أثناء مروري خلال المائتين أو الثلاثمائة متر تلك مر من جانبي كلب نصف وجهه أسود اللون أربع مرات، تذكرت ويسكي
Black and White
وأنا أنعطف في إحدى الحارات. ليس هذا فقط، بل تذكرت أن رابطة عنق ستريندبرغ السابق ذكره كانت باللونين الأبيض والأسود، ولم أستطع بأي حال التفكير أن تلك مجرد صدفة، إن لم تكن صدفة ... كنت أشعر كأن رأسي فقط هو الذي يسير، فتوقفت قليلا في وسط الطريق. كان أصيص زرع من الزجاج بلون قوس قزح خافت ملقيا داخل قفص النفايات الحديدي الذي على جانب الطريق، وكان ذلك الأصيص كذلك يبرز في قاعه تصميم يشبه الأجنحة، ثم هبط هناك عدد من العصافير من فوق أغصان الصنوبر وحطت عليه، ولكن عندما وصلت لقرب ذلك الأصيص طارت كل العصافير إلى السماء مرة واحدة وكأنها جميعا قد اتفقت على ذلك.
ذهبت إلى بيت أهل زوجتي، وجلست على مقعد الخيزران في مقدمة حديقة البيت، في ركن الحديقة تسير بهدوء دجاجات من نوع ليغهورن البيضاء داخل قفص حديدي ، ثم رقد بجانب قدمي كلب أسود، كنت على أي حال أتظاهر في مظهري الخارجي على الأقل بالبرود، وأتحدث مع حماتي وشقيق زوجتي حديثا اجتماعيا وأنا أتلهف الإجابة على سؤال لا يعرف أحد إجابته. «المكان هنا هادئ.» «ولكن هذا فقط مقارنة بطوكيو.» «وهل ثمة وقت تحدث ضوضاء هنا؟» «أوليس هذا المكان جزءا من هذا العالم؟»
قالت حماتي ذلك ثم ضحكت، وفي الواقع لم يكن ثمة خلاف على أن هذا المصيف جزء من «هذا العالم»، ولقد كنت أعلم علما تاما إلى أي مدى حدثت مآس وجرائم شريرة هنا أثناء عام واحد فقط. طبيب حاول أن يقتل مريضا بالسم البطيء، عجوز أحرقت منزل ابنها بالتبني وزوجته، محام حاول سلب ثروة أخته الصغرى ... عندما كنت أنظر إلى بيوت هؤلاء لم يكن ثمة فرق بينها وبين رؤية الجحيم في حياتي دائما. «ثمة مجنون يسكن في هذه البلدة.» «تقصد الآنسة «ه»، كلا إنها ليست مجنونة، ولكنها أصيبت بالعته فقط.» «هل هذا ما يسمى الخرف المبكر؟ إنني كلما أراها أشعر بغثيان لا يحتمل، إنها في آخر مرة ولسبب لا أعرفه كان تلقي تحية الانحناء أمام تمثال الإلهة كانون.» «كيف تصاب بالغثيان؟ ... يجب أن تكون أكثر قوة.» «إن شقيق زوجتي أكثر مني قوة.»
نهض شقيق زوجتي من فوق فراشه ولحيته قد طالت قليلا، واشترك في حديثنا على استحياء كما هي عادته دائما. «إن الأقوياء أيضا لديهم نقاط ضعف.» «كفى، كفى، إن هذا مزعج.»
ولم يكن أمامي عندما نظرت إلى حماتي التي قالت ذلك، إلا الابتسام المرير، وعندها تأمل شقيق زوجتي غابة الصنوبر البعيدة خلف السور الشجري وهو يبتسم، واستمر في الحديث شارد الذهن. (كان شقيق زوجتي الشاب المريض هذا يبدو لي في بعض الأحيان كروح خالصة خرجت من الجسد). «عندما تعتقد أنه ابتعد تماما عن البشر، تجد أن الشهوات البشرية ما زالت قوية وعنيفة ...» «ومن كنت تعتقده إنسانا خيرا، تجده شريرا.» «كلا، ليس الخير والشر، بل شيء على النقيض منهما ...» «حسنا، أليس داخل الشخص البالغ طفل؟» «كلا، ليس كذلك. أنا لا يمكنني القول بوضوح، ولكن ... ألا يشبه قطبي الكهرباء؟ على أي حال فهو امتلاك الأضداد معا.»
ووقتها تردد صوت طائرة عنيف أصابنا بالدهشة، نظرت بدون وعي إلى السماء، فاكتشفت طائرة تطير بارتفاع منخفض تكاد تلمس أغصان الصنوبر، كانت طائرة وحيدة الجناح من نوع نادر وقد دهن جناحها بلون أصفر ... اندهش الكلب والدجاج لصدى الصوت، وهرب كل منهم في كل الاتجاهات، خاصة الكلب أخذ ينبح ويلف ذيله ثم دخل تحت حافة البيت. «هل تسقط تلك الطائرة؟» «لا تقلق ... هل تعلم مرضا اسمه مرض الطائرات؟»
هززت رأسي وأنا أشعل النار بسيجارتي بديلا عن قول «كلا». «لقد سمعت أن من يركب مثل هذه الطائرات، يبيت غير قادر على احتمال هواء هذه الأرض تدريجيا لأنه يتنفس فقط الهواء أعلى السماء ...»
غادرت بيت حماتي، ثم مشيت داخل غابة الصنوبر التي لا يتحرك فيها غصن واحد من أغصانها وأنا أقع في الاكتئاب ببطء، ترى لماذا لم تذهب تلك الطائرة إلى مكان آخر ومرت فوق رأسي أنا؟ كذلك لم لا يبيع ذلك الفندق إلا سجائر من نوع إيرشيب؟ كنت أمشي وأنا أختار الطرقات التي لا أثر لبشر فيها وأنا أعاني من تساؤلات عديدة.
كان سطح البحر غائما بلون رمادي على الجانب الآخر من جبل رملي منخفض، ثم تنتصب كذلك قاعدة أرجوحة بدون أرجوحة عند الجبل الرملي، تأملت قاعدة الأرجوحة تلك، ثم تذكرت على الفور قاعدة الإعدام شنقا، وفي الواقع كان يقف أيضا غرابان أو ثلاثة غربان فوق قاعدة الأرجوحة، لم يظهر الغربان أي بوادر للطيران حتى بعد أن رأتني، ليس هذا فقط، بل لقد أطلق الغراب الأوسط بينهم أربع صياحات وهو يرفع منقاره الكبير في الهواء.
قررت أن أنعطف في طريق ضيقة ذات فيلات كثيرة بمحاذاة السد الترابي الذي ذبلت أعشابه. يفترض أن يقف شامخا في الجانب الأيمن من هذا الطريق الضيق وكما هو متوقع وسط أشجار صنوبر عالية الارتفاع مبنى من طابقين ناصع البياض على الطراز الغربي مصنوع من الأخشاب. (كان أحد أصدقائي يطلق على ذلك البيت اسم «بيت الربيع») ولكن عندما مررت من أمام ذلك البيت، لم يكن ثمة شيء فيه إلا حوض حمام واحد فقط فوق قاعدة خرسانية، حريق! على الفور فكرت هكذا، ومشيت وأنا أحرص على عدم النظر في اتجاه ذلك البيت. وعندها اقترب مني رجل يركب دراجة أمامي مباشرة، كان يعتمر قبعة صيد بلون بني محروق، وينحني بجسده فوق المقود وهو ينظر لي بثبات نظرات مريبة، شعرت فجأة أن وجهه هو وجه زوج أختي الكبرى، ولذا قررت قبل أن يصل ذلك الرجل إلي أن أنعطف في حارة جانبية سريعا، ولكن كانت جثة متعفنة ملقاة ظهرها لأعلى وسط تلك الحارة الضيقة.
بدأ يساورني مع كل خطوة أخطوها أن الجميع يستهدفني. وعندها حجب الرؤية عن عيني ترس شفاف، وفي النهاية وأنا أخاف من أن تكون اللحظات الأخيرة لي قد اقتربت مشيت مرتفع القامة والعنق، ومع تزايد عدد التروس بدأت فجأة في الدوران باطراد، وفي نفس الوقت بدأت تبدو شفافة مثل قطع زجاج دقيق وهي تتفادى خفية أغصان غابة الصنوبر التي على اليمين، شعرت بازدياد نبض قلبي وحاولت أكثر من مرة أن أتوقف عن المشي على قارعة الطريق، ولكن حتى التوقف لم يكن أمرا سهلا وكأن أحدهم يدفعني من الخلف.
مرت ثلاثون دقيقة فقط، ثم ارتميت على ظهري في غرفتي بالطابق الثاني، وبقيت مغمض العينين أقاوم الصداع العنيف الذي أصابني، وعندها بدأت أرى خلف ظهري جناحا فضيا مطويا مثل حراشيف الأسماك، كانت تلك في الواقع شيئا منعكسا بوضوح تام فوق شبكية العين، فتحت عيني ونظرت عاليا إلى السقف، وبالطبع بعد أن تأكدت من عدم وجود شيء مثل هذا على السقف، قررت أن أغمض عيني مرة ثانية، ولكن كما هو متوقع كان الجناح الفضي ينعكس انعكاسا مؤكدا في وسط الظلام، تذكرت فجأة أن غطاء رادياتير السيارة التي كنت أركبها منذ فترة كان عليها صورة جناح.
وعندما أحسست أن أحدا ما يأتي صاعدا السلالم بسرعة ظاهرة، وجدته يهبط مرة ثانية على الفور بنفس السرعة، عرفت أنها زوجتي، وبمجرد أن اندهشت ونهضت من الفراش، ظهر وجه زوجتي في غرفة المعيشة المعتمة بالضبط أمام السلالم، ثم بدت زوجتي منهكة الأنفاس وظلت كما هي تنظر إلى الأرض، وكتفاها يهتزان. «ماذا حدث؟» «كلا، لم يحدث شيء».
أخيرا رفعت زوجتي وجهها لأعلى، وابتسمت بصعوبة ثم أكملت حديثها: «لا سبب لذلك، ولكنني أحسست فقط أنك على وشك الموت ...»
كانت تلك هي أكثر تجربة أصابتني بالرعب في حياتي كلها ... إنني لا أملك قوة لمواصلة الكتابة بعد هذا، إن الحياة بتلك المشاعر عذاب شديد لا يمكن التعبير عنه بالكلمات، أما من شخص يخنقني وأنا نائم لأموت في هدوء؟ ••• (العام الثاني من عصر شوا [1927م]، نص لم ينشر في حياة المؤلف.)
حوار في الظلام
1
صوت :
أنت إنسان تختلف عن توقعاتي تماما.
أنا :
أنا لست المسئول عن ذلك.
الصوت :
ولكنك تعاونت مع سوء الفهم هذا.
أنا :
لم يسبق لي التعاون مطلقا.
الصوت :
ولكنك أحببت الجمال ... أو تظاهرت بأنك أحببته.
أنا :
إنني أحب الجمال.
الصوت :
ما الذي تحبه، الجمال؟ أم المرأة؟
أنا :
كلاهما.
الصوت (يضحك ببرود) :
يبدو أنك لا ترى ذلك تناقضا، أليس كذلك؟
أنا :
ومن الذي يراه تناقضا؟ ربما من يحب المرأة، لا يحب كوبا من خزف سيتو العتيق، ولكن سبب ذلك أنه لا يملك أحاسيس حب كوب سيتو العتيق.
الصوت :
ولكن يجب على الذواقة اختيار أحدهما.
أنا :
لسوء الحظ لقد ولدت برغبات كثيرة أكثر من الشخص الذواقة، ولكن ربما في المستقبل أختار خزف سيتو العتيق عن امرأة واحدة.
الصوت :
أنت شخص غير كامل.
أنا :
إن كان ذلك يعني عدم الكمال، فالشخص الذي يستمر في تدليك جسمه بمنشفة باردة حتى بعد إصابته بالإنفلونزا هو أكمل الناس قاطبة.
الصوت :
لست بحاجة للتظاهر بأنك قوي، إن نفسيتك الداخلية في منتهى الضعف، وأمر طبيعي أن تقول ما تقول من أجل صد النقد الذي تتلقاه من المجتمع.
أنا :
من المؤكد أن ذلك هو قصدي، فأولا من الأفضل التفكير أن عدم صده يعني أنه سيحطمني.
الصوت :
يا لك من لئيم .
أنا :
إنني لست لئيما ، حتى لو كان بقلبي بعض الرقة، إلا أنه بارد تماما مثل الثلج.
الصوت :
يبدو أنك تظن أنك عظيم القوة؟
أنا :
بالتأكد أنا أحد الذين لديهم قوة عظيمة، ولكنني لست الأكثر قوة على الإطلاق؛ لأنني لو كنت الأكثر قوة على الإطلاق لأصبحت مثل ذلك الرجل المسمى غوته، أعبد بسهولة.
الصوت :
إن حب غوته كان خالصا ونقيا.
أنا :
إن هذا إلا كذب، كذب كذبه مؤرخو الأدب، لقد هرب غوته فجأة إلى إيطاليا عندما كان في عمر الخامسة والثلاثين تماما. أجل، لا يمكن تسمية ذلك إلا هروبا، وإن كان هناك من يعرف سر ذلك بخلاف غوته نفسه؛ فهي السيدة شتاين بمفردها فقط.
الصوت :
إن ما تقوله دفاعا عن النفس ليس إلا، وليس هناك أسهل من الدفاع عن النفس.
أنا :
إن الدفاع عن النفس ليس أمرا سهلا؛ لأنه لو كان سهلا لما وجدت وظيفة المحامي.
الصوت :
يا لك من ماكر بلسان مفوه! إنك لن تجد بعد الآن من يخاطبك.
أنا :
إنني ما زلت أملك ماء وأشجارا تثير في المشاعر والأحاسيس، ثم بعد ذلك ما زلت أملك ثلاثمائة كتاب من الشرق والغرب والصين واليابان.
الصوت :
ولكنك ستفقد قراءك إلى الأبد.
أنا :
إنني أملك قراء المستقبل.
الصوت :
وهل قراء المستقبل سيعطونك خبزا؟
أنا :
حتى قراء الحاضر لا يعطون الكثير، إن أقصى ما حصلت عليه من أجر كان عشرة ينات للصفحة.
الصوت :
ولكنك تملك ثروة وممتلكات.
أنا :
إن ثروتي لا تزيد على قطعة أرض صغيرة، في حجم جبهة القط في حي هونجو، ولم يتخط دخلي الشهري في أقصى حالاته عن ثلاثمائة ين.
الصوت :
ولكنك تملك بيتا، ثم بعد ذلك هناك كتاب الأدب الحديث ...
أنا :
إن كمرة ذلك البيت ثقيلة على نفسي، وسأتنازل لك عن نسبة مبيعات كتاب الأدب الحديث في أي وقت تحب؛ لأنني لم أستلم إلا أربعمائة أو خمسمائة ين فقط.
الصوت :
ولكنك محرر ذلك الكتاب، وذلك أمر يوجب عليك الخجل.
أنا :
وما الذي يدفعني إلى الخجل؟
الصوت :
لقد انضممت إلى المعلمين .
أنا :
هذا كذب، إن المعلمين هم الذين انضموا إلي، إنني استعدت تلك الوظيفة.
الصوت :
ومع ذلك هل تقول إنك تلميذ للأستاذ ناتسوميه؟
أنا :
بالتأكيد أنا تلميذ للأستاذ ناتسوميه، ربما تكون على علم بالأستاذ سوسيكي المتمرس على العمل الأدبي، ولكنك لا تعرف الأستاذ ناتسوميه العبقري لحد الجنون.
الصوت :
إنك ليس لديك فكر، بل أنت تمتلك صدفة أفكارا متناقضة.
أنا :
إن ذلك دليل على تطوري، إن الأحمق يعتقد على الدوام أن الشمس أصغر حجما من الطست.
الصوت :
إن غرورك سيقتلك ولا شك.
أنا :
إنني أحيانا أعتقد ما يلي: ربما كنت إنسانا لن يموت فوق حصير التاتامي.
الصوت :
يبدو أنك لا تخاف الموت حقا، حقا؟
أنا :
إنني أخاف الموت، ولكن الموت ذاته ليس صعبا، لقد سبق لي أن خنقت عنقي مرتين أو ثلاث مرات، ولكن بعد التألم لمدة عشرين ثانية فقط يأتي شعور يصل إلى حد المتعة. إن قابلت أمرا أسوأ من الموت فإنني عازم على عدم التردد إزاء الموت.
الصوت :
حسنا، فلماذا لا تموت إذن؟ ألست مذنبا من الناحية القانونية، في عين أي من يراك؟
أنا :
أنا أقر بذلك، مثل فيرلين ومثل فاغنر، بل وكذلك مثل ستريندبرغ العظيم.
الصوت :
ولكنك لا تكفر عن ذنبك.
أنا :
كلا، إنني أكفر عن ذنبي، ما من تكفير عن الذنب يفوق المعاناة.
الصوت :
أنت شرير لا يفلح معك شيء!
أنا :
بل إنني على العكس شاب خير، إن كنت شريرا فلم أكن لأعاني مثل معاناتي، ليس هذا فقط، بل لاستغللت الحب في امتصاص المال من المرأة.
أنا :
حسن، ربما تكون أحمق.
أنا :
أجل، ربما أنا أحمق؛ فمؤلف كتاب «اعترافات مجنون» هو أحمق قريب الشبه بي.
الصوت :
وعلاوة على ذلك فأنت لا تهتم بالمجتمع.
أنا :
إن كانت معرفة المجتمع هي القمة العليا، فسيكون أفضل الناس هم رجال الأعمال.
الصوت :
لقد كنت تحتقر الحب، ولكن عند النظر إلى وضعك الآن أرى أنك كنت نصير الحب الخالص.
أنا :
كلا، فأنا حتى الآن لست نصير الحب الخالص مطلقا. إنني شاعر، فنان.
الصوت :
ولكن ألم تتخل عن والديك بالتبني من أجل الحب؟
أنا :
يا لك من كاذب! بل إنني تخليت عن والدي بالتبني من أجل ذاتي أنا.
الصوت :
أنت إذن محب للذات.
أنا :
لسوء الحظ لست محبا للذات، ولكنني أريد أن أكون محبا للذات.
الصوت :
لتعاستك أنت متأثر بفكر عبادة الذات في العصر الحديث.
أنا :
أنا مع ذلك إنسان العصر الحديث.
الصوت :
إن إنسان العصر الحديث لا يساوي شيئا أمام إنسان العصور القديمة.
أنا :
إن إنسان العصور القديمة كان في وقته إنسان عصر حديث.
الصوت :
ألا تشفق على زوجتك وأولادك؟
أنا :
ومن الذي يستطيع عدم الإشفاق عليهم؟ جرب أن تقرأ رسائل غوغان.
الصوت :
على ما يبدو أنك تنوي استحسان أفعالك حتى النهاية.
أنا :
إن كنت أستحسنها حتى النهاية، لما كنت أحاورك في شيء.
الصوت :
أنت إذن لا تستحسنها.
أنا :
إنني فقط مستسلم.
الصوت :
ولكن ماذا ستفعل في مسئوليتك؟
أنا :
الربع جينات وراثية، والربع للظروف المحيطة بي، والربع للصدف ... إذن تكون مسئوليتي الشخصية الربع فقط.
الصوت :
يا لك من حقير! وضيع!
أنا :
الجميع حقراء وضعاء مثلي تماما.
الصوت :
هل أنت من أتباع مذهب الشيطان؟
أنا :
إنني لست من أتباع مذهب الشيطان، وخاصة أنني أشعر باحتقار دائم لمن يتبع مذهب الشيطان من منطقة آمنة.
الصوت (يصمت لفترة) :
على كل حال أنت تعاني، لا بأس من الإقرار لك بذلك فقط.
أنا :
كلا، أرجو منك ألا تزيد في تقييمي بسبب الإهمال، فربما أكون فخورا بمعاناتي، ليس هذا فقط؛ فعلى الأرجح أن متعدد القوى لا يعتمد قول «الخوف من الفقد بعد المنال».
الصوت :
ربما كنت صادقا، ولكن ربما أيضا تكون مهرجا.
أنا :
أنا أيضا أعتقد أنني أحدهما.
الصوت :
إنك تؤمن دائما بأنك واقعي.
أنا :
لقد كنت بالفعل واقعيا لتلك الدرجة.
الصوت :
ربما أنت إلى زوال.
أنا :
ولكن على الأرجح من صنعني، سيصنع الثاني مني.
الصوت :
إذن من الأفضل لك أن تعاني، فإنني سأفارقك بعد الآن.
أنا :
انتظر! قبل ذلك أرجوك أن تجيبني، من أنت الذي تحاورني دائما بلا انقطاع، أنت الذي لا ترى بالعين؟
الصوت :
أنا؟ إنني الملاك الذي صارعه يعقوب عند فجر العالم.
2
الصوت :
إنك تملك شجاعة تثير الإعجاب.
أنا :
كلا، إنني لا أملك أية شجاعة، إن كنت أملك شجاعة، كنت أنتظر أن يأكلني الأسد بدلا من أن ألقي بنفسي في فمه.
الصوت :
ولكن أفعالك تنم عن الإنسانية.
أنا :
إنها تنم عن إنسانية شديدة وفي نفس الوقت عن حيوانية شديدة.
الصوت :
إن أفعالك ليست شريرة، ولكنك فقط تعاني بسبب النظام الاجتماعي للعصر الحالي.
أنا :
حتى إن تغير النظام الاجتماعي، فمن المؤكد أن أفعالي ستسبب التعاسة لأناس عديدين.
الصوت :
ولكنك لم تنتحر، على أي حال أنت تمتلك القوة.
أنا :
لقد حاولت الانتحار مرات ومرات، ومن أجل أن أموت ميتة طبيعية كنت آكل كل يوم عشرة من الذباب. من السهل جدا القبض بيدي على الذبابة وبلعها حية كما هي، ولكن كنت أشعر بالقذارة من مضغها بأسناني.
الصوت :
ومقابل ذلك ستصبح إنسانا عظيما.
أنا :
إنني لم أطلب العظمة قط، ما أريده هو السلام النفسي فقط، اقرأ رسائل فاغنر. لقد كتب إنه لو لديه فقط ما لا يجعله هو وزوجته وأطفاله لا يعيشون في ضائقة، فسيكون مكتفيا بدون إبداع أعمال فنية عظيمة، حتى فاغنر وهو من هو، على تلك الحالة، حتى فاغنر صاحب تلك الذات المتضخمة هو كذلك.
الصوت :
أنت على أي حال تعاني، فأنت لست إنسانا بلا ضمير.
أنا :
إنني لا أملك ضميرا ولا غيره، لا أملك إلا أحاسيس فقط.
الصوت :
إن حياتك الأسرية كانت تعيسة.
أنا :
ولكن كانت زوجتي مخلصة لي دائما.
الصوت :
إن مأساتك هي أنك تملك معرفة عقلانية أقوى من الآخرين.
أنا :
يا لك من كاذب! إن مأساتي هي أنني أملك معرفة بالمجتمع أضعف من الآخرين.
الصوت :
ولكنك إنسان صادق؛ فلقد أبلغت كل شيء إلى زوج المرأة التي تحبها قبل أن يظهر أي شيء في العلن.
أنا :
تلك أيضا كذبة أخرى، فأنا لم أبح له إلا بعد أن وصلت لحالة نفسية لم يمكنني معها البقاء دون الاعتراف له.
الصوت :
إنك شاعر ، فنان، يباح لك أي شيء.
أنا :
إنني شاعر، وفنان، ولكني أيضا عضو في هذا المجتمع، وليس من العجيب أن أحمل صليبي، وهذا على الأرجح عبء أخف من المطلوب.
الصوت :
إنك تنسى ذاتك المتضخمة، يجب عليك أن تعظم من فرديتك وتحتقر الجماهير المنحطة.
أنا :
إنني أعظم من فرديتي حتى دون أن تقول لي ذلك. ولكنني لا أحتقر الجماهير، لقد قلت ما يلي في وقت سابق «إن حطمت الكرة فلن تحطم القرميد» إن شكسبير وغوته ومونزئمون تشيكاماتسو سيندثرون على الأرجح في وقت ما، ولكن الجنين الذي أنجبوه - الجماهير الضخمة لن تندثر، من المؤكد أنه سيولد منهم فنون متنوعة، حتى إن اختلف شكل تلك الفنون.
الصوت :
إن كتاباتك له طابعها الإبداعي المتفرد.
أنا :
كلا. ليست لها طابع إبداعي متفرد على الإطلاق. فأولا: من ذا الذي كان له طابع إبداعي متفرد؟ فحتى الأعمال التي كتبها العباقرة في الماضي والحاضر مليئة بنماذج أولية، وأنا على وجه الخصوص سرقت مرات ومرات.
الصوت :
ولكنك أيضا تدرس.
أنا :
إن سبب تدريسي هو عدم وجود القدرة لدي، لو عندي قدرة لكنت فعلت أنا قبل أن أدرس.
الصوت :
تيقن من أنك إنسان سوبرمان.
أنا :
كلا، أنا لست سوبرمان، ما من سوبرمان بيننا، إن الإنسان السوبرمان هو زرادشت فقط، بل حتى زرادشت ذلك، لا يعلم نيتشه نفسه كيف استقبل الموت.
الصوت :
حتى أنت تخشى المجتمع؟
أنا :
ومن الذي لا يخشى المجتمع؟
الصوت :
انظر إلى وايلد الذي ظل في السجن لثلاث سنوات. إن وايلد يقول: «إن انتحرت في نزوة طيش سيكون المجتمع قد هزمني.»
أنا :
ومع ذلك حاول وايلد الانتحار في محبسه عدة مرات، بل وسبب عدم انتحاره هو فقط عدم عثوره على الوسيلة المناسبة لذلك.
الصوت :
يجب عليك سحق الخير والشر.
أنا :
إنني عازم تماما على أن أكون في المستقبل إنسانا خيرا أكثر وأكثر.
الصوت :
أنت إنسان بسيط بساطة مفرطة.
أنا :
كلا بل أنا إنسان معقد تعقيدا مفرطا.
الصوت :
ولكن اطمئن، فعلى الأرجح لن ينضب قراؤك.
أنا :
سيكون هذا بعد انتهاء حقوق الملكية الفكرية.
الصوت :
إنك تعاني من أجل الحب.
أنا :
من أجل الحب؟ كف على المجاملة مثل محبي الأدب الصغار، إنني فقط تعثرت في علاقة نسائية.
الصوت :
إن جميع الناس معرضون للتعثر في علاقة نسائية.
أنا :
إن الجميع معرضون فقط للغرق في شهوة المال.
الصوت :
إنك معلق فوق صليب الحياة.
أنا :
ليس هذا أمرا أفخر به، فقاتل عشيقته والمجرم المختلس كذلك معلقون فوق صليب الحياة.
الصوت :
إن الحياة ليست بهذا الظلام.
أنا :
إنني أعرف أن الحياة مظلمة للجميع باستثناء «أقلية قليلة مختارة»، بل إن الاسم الذي يطلق على تلك «الأقلية القليلة المختارة» هو الحمقى والأشرار.
الصوت :
حسنا ذق المعاناة كما يحلو لك، هل أنت تعرف من أنا؟ أنا الذي أتيت خصوصا لمواساتك؟
أنا :
أنت كلب، إنك الشيطان الذي تنكر في الماضي على شكل كلب ودخل غرفة فاوست.
3
الصوت :
ماذا تفعل؟
أنا :
فقط أكتب.
الصوت :
ولماذا تكتب؟
أنا :
فقط لأنني لا أحتمل البقاء دون أن أكتب.
الصوت :
اكتب إذن، اكتب حتى الموت.
أنا :
بالتأكيد، فأولا ليس لدي حيلة أخرى.
الصوت :
أنت على غير المتوقع هادئ تماما.
أنا :
كلا، أنا لست هادئا على الإطلاق، إن كنت من الناس الذين يعرفونني، ستعرف على الأرجح معاناتي.
الصوت :
أين ذهبت ابتسامتك؟
أنا :
عادت إلى آلهة السماء، من أجل إرسال ابتسامة إلى الحياة، أولا يجب أن أملك صفات شخصية متوازنة، وثانيا أموالا، وثالثا أعصابا أقوى من أعصابي.
الصوت :
ولكنك أصبحت أكثر خفة، أليس كذلك؟
أنا :
أجل، أصبحت أخف حملا، ولكن في مقابل ذلك يجب علي أن أحمل كل أعباء حياتي فوق كتفي العاري.
الصوت :
أنت ليس أمامك حل آخر إلا الحياة كما يليق بك، أو ربما يليق بك أن ...
أنا :
أجل، ليس أمامي إلا الموت كما يليق بي.
الصوت :
على الأرجح أنك ستكون إنسانا جديدا يختلف كليا عما كنت عليه حتى الآن.
أنا :
إنني دائما أنا نفسي، ولكن أحيانا يتغير الجلد، مثلما يغير الثعبان جلده.
الصوت :
إنك على علم بكل شيء وأي شيء.
أنا :
كلا أنا لا أعلم، إن ما أعيه هو مجرد جزء من روحي فقط. إن الجزء الذي لا أعيه من روحي - أفريقيا روحي - تمتد باتساع هائل وبلا نهاية، إنني خائف من ذلك. إن الوحوش لا تسكن في الضوء، ولكن ما زال شيء ما نائما داخل الظلام اللانهائي.
الصوت :
إنك أنت أيضا طفلي.
أنا :
من؟ هل أنت الذي قبلني؟ كلا إنني أعرفك معرفة حقة.
الصوت :
إذن تعتقد من أنا؟
أنا :
أنت من سلبني سلامي النفسي، أنت من دمر أبيقوريتي الخاصة بي - كلا ليس أنا فقط بل أنت من أفقد روح الاعتدال والوسطية التي علمها قديس الصين في الماضي. إن ضحاياك راقدون في كل مكان، داخل تاريخ الأدب، وداخل مقالات الصحافة.
الصوت :
وماذا تسمي أنت ذلك؟
أنا :
إنني - أنا لا أعرف ماذا تسمى، ولكن إن استعرت كلام الآخرين، أنت قوة تفوق قوتنا جميعا، أنت الشيطان الذي يتحكم فينا.
الصوت :
هنئ نفسك بنفسك، فأنا لا آتي للتحدث مع كل من هب ودب.
أنا :
كلا، لقد كنت حذرا من قدومك أكثر من أي شخص، فلا سلام في مكان تأتيه، بل أنت مثل الأشعة السينية تأتي كاشفا لكل شيء وتجعله شفافا.
الصوت :
إذن لا تتهاون بعد الآن.
أنا :
بالتأكيد لن أتهاون، فقط عندما أمسك بالقلم.
الصوت :
أنت تريد مني أن آتيك وأنت تمسك بالقلم، أليس كذلك؟
أنا :
ومن ذا الذي يقول لك تعال! إنني فرد من جماعة الأدباء، وإنني أعتقد أنني راغب كذلك في أن أكون فردا من جماعة الأدباء، ولا يمكن الحصول على سلامي النفسي إلا بهذه الطريقة، ولكنني عندما أمسك بالقلم ربما أضحى وقتها أسيرا لك.
الصوت :
إذن كن حذرا على الدوام، فأولا ربما أنقل كلماتك كلها كلمة كلمة إلى موضع التنفيذ، إلى اللقاء إذن؛ لأنني سآتي للقائك مرة أخرى في وقت ما.
أنا (وحيدا) :
ريونوسكيه أكوتاغاوا! ريونوسكيه أكوتاغاوا! ثبت جذورك بإحكام، إنك مثل الغاب الذي تهزه الرياح، ربما تتغير الأجواء في وقت ما وزمن ما، فقط انتصب واقفا بثبات. إن هذا من أجلك أنت نفسك ، وفي نفس الوقت من أجل أطفالك. احذر أن تغتر بنفسك، وفي نفس الوقت احذر أن تصبح وضيعا. يجب عليك أن تصلح من نفسك من الآن. ••• (العام الثاني من عصر شوا [1927م]، مخطوطة تركها المؤلف عند موته.)
حلم
لقد أرهقت تماما، فبخلاف تصلب كتفي وعنقي بالتأكيد، كان الأرق شديدا، ليس هذا فقط، بل عندما أنعس أجد أنني أرى أحلاما متنوعة. لقد قال شخص ما في وقت ما: «إن الأحلام التي بها ألوان دليل على سوء الحالة الصحية.» ومع ذلك لا تخلو الأحلام التي أراها من الألوان عامة وربما ساعد في ذلك طبيعة عملي رساما. دخلت مع عدد من الأصدقاء من الباب الزجاجي لما يبدو كافيتريا في إحدى الضواحي، خارج الباب الزجاجي المغطى بالغبار مباشرة مزلقان سكة حديد لقطار يهز أشجار الصفصاف التي نبتت حديثا، جلسنا على مائدة في أحد الأركان، وأكلنا طعاما ما في أطباق خزفية، ولكن بعد أن انتهينا من الأكل وجدنا أن ما تبقى في قاع الطبق عبارة عن رأس ثعبان بطول بوصة تقريبا - كانت الألوان في ذلك الحلم واضحة تماما.
يقع بيتي في ضاحية من ضواحي طوكيو شديدة البرودة. وكنت عندما أصاب بالاكتئاب، أصعد فوق ضفة النهر من الجهة الخلفية للمنزل، وأشاهد قضبان سكة حديد قطار الضواحي. يلمع عدد من القضبان الحديدية فوق الحصى الملون بالزيوت وصدأ الحديد، وبعد ذلك كانت هناك شجرة وحيدة مائلة تمتد أغصانها على الضفة المقابلة، تبدو أنها شجرة قسطل، ومع أن ذلك المنظر هو الاكتئاب نفسه إلا أنه لم يكن به أي إزعاج ولو قليل، ولكنه كان مناسبا تماما لمشاعري أكثر من أماكن مثل غينزا أو أساكوسا، جلست القرفصاء فوق ضفة النهر، أفكر أحيانا وأنا أدخن سيجارة في قول: «يعالج التسمم بالسم».
بالطبع لا يعني ذلك عدم وجود أصدقاء لي، كان صديقي هذا شابا رساما متخصصا في الرسم الغربي، وكان ابنا لعائلة غنية، عندما رأى ضعفي وهزالي اقترح علي أن أسافر في رحلة، وقال لي بحنان: «يمكنني توفير نفقات السفر بشكل أو بآخر.» ولكنني أنا نفسي كنت أعلم علما تاما أنني حتى إن ذهبت في رحلة فلن يشفى الاكتئاب، وفي واقع الحال لقد سقطت في حالة الاكتئاب تلك منذ ثلاث أو أربع سنوات، قررت الذهاب بعيدا إلى ناغاساكي من أجل أن أصرف نفسي عن تلك الحالة وحتى ولو مؤقتا، ولكن عندما ذهبت إلى ناغاساكي اكتشفت أنني لم يرق لي أي فندق فيها. ليس هذا فقط، بل وبعد أن استقررت أخيرا في أحد الفنادق، دخل عدد من الحشرات الليلية الكبيرة التي تتجمع حول المصباح، وبعد معاناة شديدة قررت العودة مرة ثانية إلى طوكيو قبل أن يمر أسبوع واحد.
في ظهيرة أحد الأيام حيث كان الصقيع ما زال متبقيا في الأرض، وأثناء عودتي من استلام الشيكات المالية، أحسست بالرغبة في العمل الإبداعي، ولا شك أن سبب ذلك هو أنني حصلت على بعض المال وأستطيع استخدام موديل، ولكن بخلاف ذلك من المؤكد أن هناك أسبابا فجائية أخرى مختلفة لشهوة الإبداع تلك. لم أعد للبيت مباشرة بل ذهبت على أي حال إلى بيت المدعو «م» واستأجرت منه موديلا من أجل رسم عمل بشري بحجم عشر درجات. أعطاني مثل هذا القرار حتى في مثل حالة الاكتئاب الحالية قوة بعد غياب، ولسان حالي يقول: «من الممكن أن أموت بعد أن أنهي تلك اللوحة.»
كان وجه الموديل التي أرسلها بيت «م» ليس جميلا، ولكن لا خلاف على أن جسدها - خاصة صدرها - كان عظيما. وعلاوة على ذلك كان شعرها الذي سرحته للخلف كله، غنيا وفيرا. كنت راضيا تماما عن تلك الموديل، وبعد أن أجلستها على كرسي الخيزران ونظرت إليها، قررت أن أبدأ العمل على الفور، أخذت الفتاة التي تعرت من ملابسها بالوضع المطلوب بأن تقبض بيدها على جريدة إنجليزية بديلا عن باقة الورد، ثم تميل رأسها قليلا وهي تضع ساقا فوق أخرى، ولكن عندما توجهت إلى حامل اللوحة، أحسست بعد فوات الأوان بالإرهاق.
كانت غرفتي التي تتجه ناحية الشمال ليس بها إلا مجمرة فحم واحدة للتدفئة، كنت بالطبع أشعلت النار في المجمرة لدرجة أن حوافها تحترق، ولكن لم تدفأ الغرفة بالقدر الكافي بعد، وبمجرد أن جلست الفتاة على الكرسي الخيزران بدأت ترتعش عضلات فخذها رعشات لا إرادية من حين لآخر، في كل مرة يحدث فيها ذلك كنت أشعر بالغضب وأنا أحرك فرشاة الرسم، ولكنه كان غضبا موجها لنفسي لأنني غير قادر على شراء جهاز تدفئة واحد، أكثر من أنه موجها إلى الفتاة، وفي نفس الوقت كان غضبا موجها كذلك لنفسي التي تقدر إلا على استنزاف أعصابها حتى في أمر كهذا. «أين بيتك؟» «بيتي أنا؟ بيتي في منطقة سانساكي بحي ياناكا.» «هل تقيمين بمفردك؟» «كلا، لقد استأجرنا البيت أنا وصديقة لي.»
كنت وأنا أتحدث معها هذا الحديث أضيف الألوان ببطء فوق اللوح القديم الذي رسمت عليها لوحة صامتة، كانت الفتاة كما هي مائلة الرأس ولا تبدي أي نوع من المشاعر على وجهها. ليس هذا فقط، بل كان صوتها رتيبا وكلماتها بالطبع على وتيرة واحدة، ولكنني لم أكن أعتقد أن تلك هي طبيعة الفتاة التي ولدت بها، شعرت في ذلك برحابة صدر، فكنت أجعلها أحيانا تأخذ نفس وضعية الرسم حتى خارج وقت العمل، ولكن ليس معنى ذلك أنني لم أشعر بضغط نفسي مريب تجاه منظر الفتاة التي حتى لا تطرف بعينها طرفة واحدة.
لم تسر عملية رسم اللوحة على ما يرام، بعد أن أنتهي من عمل اليوم، على الأغلب أرقد فوق السجادة، أدلك عنقي ورأسي وأتأمل ما في الغرفة شاردا. لم يكن هناك في غرفتي بخلاف حامل اللوحات إلا الكرسي الخيزران فقط، ورغم عدم جلوس أحد على الكرسي، كان الخيزران يصدر أحيانا صوت صرير ربما بسبب حدوث اختلاف في درجة رطوبة الهواء. وكنت في مثل تلك اللحظة أشعر بالرعب فأخرج على الفور للنزهة في مكان ما، ولكن حتى إن قلنا نزهة، فلم تكن إلا الذهاب فقط إلى المنطقة الريفية خلف البيت التي يكثر بها المعابد البوذية المحاذية لضفة النهر.
ولكنني كنت أعمل على اللوحة كل يوم بلا راحة، وكانت الموديل كذلك تتردد يوميا على بيتي، وأثناء ذلك بدأت أشعر بضغط من جسدها أكثر مما كان من قبل. كان ذلك بسبب غيرتي تجاه حالتها الصحية الجيدة ولا ريب، كانت الموديل راقدة فوق السجادة الحمراء باهتة اللون وهي كما هي بلا تغيير تثبت عينيها على ركن الغرفة بدون أن تبدي تعابير على وجهها، كنت وأنا أحرك الفرشاة فوق اللوحة أفكر أحيانا: «هذه الفتاة أكثر شبها بالحيوانات من البشر».
في ظهيرة أحد الأيام وكانت تهب رياح دافئة دفئا حيويا، كنت أمام اللوحة، أحرك الفرشاة بمثابرة، وكانت الموديل اليوم على ما يبدو متعكرة المزاج أكثر من المعتاد، وفي النهاية بدأت أشعر في جسدها بقوة همجية. ليس هذا فقط، بل بدأت أشعر بوجود شيء ما تحت إبطها، كانت تلك الرائحة قريبة من رائحة جلد ذوي البشرة السوداء. «أين ولدت؟» «في بلدة
xx
بمحافظة غوما.» «بلدة
xx ؟ أليست البلدة التي تكثر فيها أنوال الغزل؟» «بلى!» «ألم تغزلي على نول من قبل؟» «سبق لي أن غزلت في صغري.»
انتبهت أثناء حديثي هذا إلى أن حلمة ثديها بدأت تكبر.
كانت قريبة من حجم بذرة ملفوف بدأت في الانتفاخ، بالطبع كنت أنا أحرك الفرشاة بكل اجتهاد كالمعتاد، ولكنني لم أقدر على صرف الانتباه عن حلمة ثديها - عن ذلك الجمال المريب.
لم تتوقف الريح في تلك الليلة أيضا، فتحت عيني فجأة وحاولت الذهاب إلى المرحاض، ولكن عندما فاق وعيي تماما، وجدت أنني فتحت الباب فقط، وأنني على ما يبدو ظللت أسير داخل غرفتي دون أن أبرحها، نظرت إلى أسفل وأنا كما أنا أوقف قدمي على المشي دون وعي، إلى داخل الغرفة شاردا، وخاصة إلى السجادة الحمراء باهتة اللون تحت أقدامي، ثم بعد ذلك أخذت ألمس السجادة بأنامل قدمي العارية، كان ملمس السجادة على غير المتوقع قريبا من الصوف. «ترى ماذا كان لون ظهر تلك السجادة؟» - شغل ذلك الأمر ذهني، ولكنني كنت خائفا نوعا ما من قلب السجادة على ظهرها ورؤية لونه. بعد أن ذهبت إلى المرحاض، قررت أن أدخل الفراش وأنام .
بعد أن أنهيت عملي في اليوم التالي، كنت مصابا بخيبة أمل أكبر من المعتاد. كان وجودي في الغرفة على العكس هو السبب الذي يمنع الاستقرار أو السكون، وعندها كما هو متوقع قررت الخروج والذهاب إلى ضفة النهر التي تقع خلف البيت. كانت المنطقة قد بدأت في الغروب، ولكن من العجيب أن الأشجار الواقفة كانت بارزة في وضوح على الرغم من فقر إضاءة أعمدة الإنارة. أثناء سيري بمحاذاة الضفة أحسست بإغواء في الصياح بصوت عال، وبالتأكيد لا خلاف على أنني يجب أن أسيطر على مثل هذا الإغواء، ومع إحساسي أن رأسي فقط هو الذي يمشي، هبطت إلى منطقة ريفية بائسة بمحاذاة الضفة.
ولم يتغير الحال في تلك المنطقة الريفية من عدم رؤية أحد في الطريق، ولكن وجدت بقرة كورية مربوطة في أحد أعمدة إنارة الطريق، ظلت البقرة تنظر إلي بثبات بعيون دامعة عجيبة تشبه عيون المرأة وهي تمد عنقها للأمام، كان ذلك التعبير وكأنها كانت تنتظر قدومي. أحسست أنني أواجه حربا هادئة مع مشاعر تلك البقرة. «لا ريب أن تلك البقرة تواجه ناحرها بنفس تلك النظرة من عينيها» - أقلقتني مثل تلك الفكرة. تدريجيا أصبحت مكتئبا، وأخيرا لم أعبر من أمامها بل انعطفت في حارة جانبية. في ظهيرة أحد الأيام بعد يومين أو ثلاثة، وأنا أعمل بالرسم على اللوحة، كنت أستخدم الفرشاة بكل اجتهاد، والموديل الراقدة فوق السجادة الحمراء الباهتة لا تحرك طرف عينها كما هو متوقع. بقيت لمدة نصف شهر تقريبا أعمل على تلك اللوحة التي لا تكتمل بسهولة وأمامي تلك الموديل، ولكن لم يفتح كلانا قلبه للآخر مطلقا. كلا، بل كان الضغط الذي أتلقاه أنا نفسي منها، على العكس يزداد مع مرور الوقت، ولم ترتد الموديل القميص الداخلي ولو مرة واحدة حتى أثناء فترات الراحة. ليس هذا فقط بل كانت تجيب على كلماتي بردود فاترة، ولكن لسبب ما اليوم، وهي تعطي ظهرها لي (لقد اكتشفت فجأة أن هناك شامة سوداء على كتفها اليمنى)، وتفرد ساقيها فوق السجادة، وجهت لي الحديث قائلة: «أستاذ، أليس الطريق المؤدية إلى هنا مبلطة بعدد من الأحجار الرفيعة؟» «بلى ...» «إن ذلك أثر نصب المشيمة.» «نصب المشيمة؟» «أجل، إنه نصب حجري ينصب علامة على دفن مشيمة في ذلك المكان.» «وكيف عرفت؟» «لقد رأيت الحروف المكتوبة.»
تأملتني الفتاة من خلف كتفها، ثم أبدت على وجهها تعبيرا قريبا من الابتسامة الساخرة. «إن جميع البشر يولدون وهم ملتصقون بالمشيمة، أليس كذلك؟» «ما هذا القول الممل!» «لأنني عندما أتخيل أحدا ولد وفوق رأسه مشيمة ...» «...؟» «يأتيني شعور بأنه يشبه الكلاب.»
بدأت أحرك فرشاة الرسم التي كانت لا تتقدم في الرسم أمام تلك الفتاة. لا تتقدم؟ ولكن لم يكن ذلك يعني عدم وجود رغبة. لقد شعرت أنني أريد أن تعبر عن شيء هائج في داخلها، ولكن لم تصل قدراتي إلى إمكانية التعبير عن شيء ما. ليس هذا فقط، بل لقد تحركت داخلي مشاعر الرغبة في تجنب التعبير، أو ربما كانت تلك المشاعر تعبر عن الرغبة في تجنب التعبير باستخدام ألوان الرسم الزيتية والفرشاة. ماذا أستخدم إذن؟ تذكرت وأنا أحرك الفرشاة السيوف والعصي الحجرية التي كانت تعرض أحيانا في أحد المتاحف.
بعد أن عادت الموديل، فتحت كتاب رسومات غوغان الكبير تحت المصباح المعتم، وأخذت أتأمل لوحات تاهيتي واحدة بعد أخرى، وعندها نظرت فجأة، وجدتني أكرر مرة بعد مرة عبارة «هكذا يجب أن يكون» بأسلوب أدبي رصين. وبالتأكيد لم أكن أنا نفسي أعرف لماذا أكرر تلك الجملة، ولكنني بت مستاء بعد أن جعلت الخادمة تزيل الفراش، تناولت أدوية منومة وقررت النوم.
استيقظت بعد ذلك في وقت قريب من الساعة العاشرة تقريبا. ووجدت نفسي قد انزحت قليلا تجاه السجادة الليلة الماضية ربما بسبب دفء الجو، ولكن ما لفت انتباهي أكثر من ذلك هو الحلم الذي رأيته قبل أن أستيقظ مباشرة، كنت أقف في منتصف الغرفة تماما، أحاول أن أقتل تلك الفتاة خنقا بيد واحدة. (بل إنني كنت أعرف أنا نفسي داخل الحلم أن ذلك حلما) رفعت الفتاة وجهها قليلا لأعلى، وأغمضت عينيها تدريجيا كما هو متوقع بدون أي تعبير، وفي نفس الوقت انتفخ ثدياها متكورين في جمال. كانا ثديين يلمعان لمعانا خافتا مع بروز نبض خفيف. لم أشعر بأي قلق من قتلها خنقا. كلا، بل على العكس من الطبيعي أنني شعرت بشيء قريب من المتعة في تنفيذ ذلك. على ما يبدو أن الموديل ماتت في هدوء تام وهي مغمضة العينين، استيقظت بعد رؤية هذا الحلم، وبعد أن غسلت وجهي، شربت كوبين أو ثلاثة من الشاي الأخضر الثقيل، ولكن كانت مشاعري تكتئب أكثر وأكثر. لم يسبق لي من قبل أن رغبت في قتل الموديل من أعماق قلبي، ولكن ماذا عن لا وعيي؟ أثناء ما كنت أدخن السيجارة سيطرت على مشاعر الفرحة المريبة وجلست أنتظر مجيء الموديل، ولكن لم تأت الموديل لغرفتي حتى بعد أن صارت الساعة الواحدة. كان انتظارها يسبب لي معاناة قاسية، وأحيانا كنت أفكر في الخروج في نزهة بديلا عن الجلوس في انتظارها، ولكنني كنت خائفا من النزهة ذاتها. الخروج خارج باب غرفتي، لم تكن أعصابي تتحمل فعل هذا الأمر البسيط جدا.
بدأ الغروب يقترب حثيثا، أخذت أدور ماشيا داخل الغرفة، وأعيش منتظرا الموديل التي لا يفترض أن تأتي، وأثناء ذلك تذكرت حدثا منذ 12 أو 13 عاما. كنت - وأنا ما زلت طفلا - في وقت الغروب أشعل النار في ألعاب نارية على شكل بخور. بالتأكيد لم يكن ذلك في طوكيو، بل كان على حافة حديقة البيت الذي يعيش فيه أبي وأمي في الريف، وعندها سمعت من يقول بصوت عال: «أنت! عد لوعيك!» ليس هذا فقط، بل هناك من يهز كتفي. بالطبع كنت أعتقد أنني أجلس على حافة الشرفة المطلة على الحديقة، ولكن عندما نظرت منتبها من شرودي، وجدتني في غفلة من الزمن أجتهد في إشعال النار في البصل الأخضر وأنا منحن أمام حقل البصل الواقع في خلفية البيت. ليس هذا فقط، بل إن علبة الثقاب كانت تقريبا قد فرغت في وقت قصير، وأنا أدخن السيجارة كنت لا أستطيع منع نفسي من التفكير أن حياتي لها زمنها الخاص بها الذي لا أعرف أنا شخصيا عنه شيئا. كان مثل هذا التفكير يجعلني أصاب بالاستياء أكثر من الإصابة بالقلق. لقد شنقت الفتاة بيد واحدة في حلم ليلة أمس. ولكن، إن لم يكن ذلك حلما ...
لم تأت الموديل في اليوم التالي أيضا، وأخيرا قررت الذهاب إلى بيت المدعو «م» والسؤال عن سلامة الموديل، ولكن مالك البيت المدعو «م» كذلك لم يكن يعرف عن الفتاة شيئا، وأخيرا أصابني القلق، فأخذت منه عنوان بيتها. يفترض أنها طبقا لما قالته هي بنفسها تسكن في منطقة سانساكي بحي ياناكا، ولكنها كانت تسكن في منطقة هيغاشيكاتا بحي هونغو طبقا لما قاله مالك بيت «م». وصلت إلى بيتها في منطقة هيغاشيكاتا بحي هونغو وقت إضاءة أعمدة الإنارة في الشوارع. كان البيت محلا غربيا لغسل وكي الملابس يقع في حارة وطليت جدرانه بلون أحمر فاتح. يقف داخل خلف الباب الزجاجي للمحل عاملان لا يرتدي كل منهما إلا قميصا واحدا، منهمكان في كي الملابس. حاولت فتح باب المحل الأمامي المصنوع من الزجاج بدون عجلة، ولكن اصطدم رأسي فجأة بزجاج الباب. بالطبع أدهش ذلك الصوت الجميع بداية من العمال وأدهشني أنا أيضا.
دخلت المحل متوجسا، ووجهت حديثي إلى أحد العمال: «هل الآنسة ... هنا؟» «الآنسة ... لم تعد منذ أول أمس.»
أصابتني تلك الكلمة بالقلق، ولكن كان يجب علي التوقف عن السؤال أكثر من ذلك والتفكير؛ لأنني كنت أحمل مشاعر حذرة، ألن تحيط بي الشبهات في حالة حدوث شيء؟ «أحيانا لا تعود لمدة أسبوع كامل عندما تترك بيتها هكذا.»
أضاف أحد العمال، وكان وجهه يدل على اعتلال صحته، تلك الكلمات وهو لا يوقف يده الممسكة بالمكواة. أحسست في كلماته تلك بما يقترب من الاحتقار الواضح، فغادرت المحل غاضبا من نفسي ذاتها، ولكن كان ذلك أحسن حالا. فلقد تذكرت فجأة أثناء سيري في طرقات حي هيغاشيكاتا الذي تكثر به المحلات المغلقة أنني شاهدت ذلك الموقف في أحد الأحلام من قبل. محل الغسيل والكي الغربي المطلي بالبوية، العامل ذو الوجه الشاحب، والمكواة التي نفست اللهب، كلا بل إن زيارتي للفتاة كذلك، بالتأكيد لم تتغير عما رأيته من عدة أشهر (أو ربما عدة أعوام) في أحد الأحلام. ليس هذا فقط، بل وكما المتوقع حتى في الحلم بعد أن غادرت محل الغسيل والكي ذلك، يبدو أنني كنت أسير وحيدا تماما في هذا الطريق الموحش، وبعد ذلك، لم يتبق أي جزء ولو قليل من ذاكرة الحلم لما بعد ذلك، ولكنني شعرت أنه في حالة حدوث أمر الآن، لا يمكن نفي أنه سيتحول في التو والحال إلى ذاكرة حدثت داخل الحلم. ••• (العام الثاني من عصر شوا [1927م].)
حياة أحد الحمقى
إلى الصديق ماساو كومه:
1
إنني أفوضك تماما في وقت ومكان نشر هذه المخطوطة، وبالطبع أفوضك في نشرها أو عدم نشرها من الأصل، على الأرجح أنت على علم بأغلب المذكورين في هذه المخطوطة، ولكن حتى لو نشرتها، أريد منك عدم وضع هوامش.
إنني أعيش الآن في «سعادة منتهى التعاسة»، ولكن العجيب أنني لست نادما، ولكنني فقط أشعر بالأسى لمن كنت لهم بئس الزوج، وبئس الابن، وبئس الأب. الوداع. إنني على الأقل لم أتعمد الدفاع عن نفسي بوعي في هذه المخطوطة.
وأخيرا أعتقد أن سبب ائتماني لك أنت بالذات على هذه المخطوطة، أنني أعتقد أنك تعرفني أكثر من أي شخص آخر. أرجو منك (إن استطعت فقط نزع القشرة الخارجية للإنسان المدائني) أن تضحك نوعا ما، على مقدار حماقتي في هذه المخطوطة.
ريونوسكيه أكوتاغاوا (العشرون من الشهر السادس للعام الثاني من عصر شوا [20 / 6 / 1927م]) (1) عصر
في الطابق الثاني من مكتبة لبيع الكتب، صعد الأحمق
2
ذو العشرين ربيعا فوق سلم غربي الطراز معلق على رفوف الكتب ليبحث عن جديد الكتب. موباسان، بودلير، ستريندبرغ، إبسن، شو، تولستوي ...
وأثناء ذلك اقتربت الشمس من الغروب، ولكنه استمر يقرأ بشغف حروف ظهر الكتب. لم تكن الكتب هي التي تراصت هناك، بل على العكس نستطيع القول إنها ثقافة نهاية القرن ذاته. نيتشه، فرلين، الأخان غونكور، دوستويفسكي، هاوبتمان، فلوبير ...
أخذ يحصي أسماءهم وهو يصارع الظلام، ولكن بدأت الكتب نفسها تسقط داخل ظلالها الكئيبة، وأخيرا استنفد قوة احتماله وكان على وشك النزول من فوق السلم الغربي، وعندها أضيئت فجأة إحدى لمبات الضوء التي بلا طربوش، فوق رأسه مباشرة. ظل واقفا كما هو فوق السلم يطالع من أعلى العاملين والزبائن الذين يتحركون بين الكتب. كانوا يبدون في حجم صغير بدرجة مريبة. ليس هذا فقط، بل كان منظرهم في غاية البؤس.
ظل الأحمق لفترة ينظر إلى هؤلاء الناس من فوق السلم وهو يفكر: «إن الحياة لا تعادل سطرا واحدا كتبه بودلير.» (2) أم
لبس المجاذيب جميعا ملابس بلون فئراني، وبسبب ذلك بدت الغرفة الواسعة أكثر كآبة.
يجلس أحدهم قبالة آلة الأرغن ويستمر في عزف أناشيد التمجيد بحماس، وفي نفس الوقت يقف فرد آخر منهم في منتصف الغرفة تماما ويدور في الغرفة يقفز قفزا أكثر منه رقصا.
كان الأحمق يتأمل ذلك المشهد مع طبيب تبدو على وجهه علامات الصحة الجيدة. منذ عشرة أعوام كانت أم الأحمق لا تختلف عنهم شيئا ولو قليلا، ولو قليلا ... في الواقع لقد كان يشعر في روائحهم برائحة أمه. «هيا بنا نذهب.»
قاده الطبيب وذهب به إلى غرفة ما في الممر. في ركن من أركان تلك الغرفة، عدد من القناني الزجاجية الكبيرة ممتلئة بالكحول، وداخل كل منها مخ مغمور. لقد اكتشف الأحمق شيئا خفيفا أبيض فوق مخ منهم. كان بالضبط شيئا يشبه قليلا من بياض بيضة مسكوب. تذكر الأحمق أمه مرة أخرى وهو يحاور الطبيب واقفا. «كان صاحب هذا المخ مهندسا في شركة كهرباء
xx ، وكان دائما يعتقد أن ذاته دينامو كبير يشع شعاعا أسود.»
من أجل أن يتفادى الأحمق عين الطبيب تأمل المنظر خارج النافذة، ليس هناك إلا السور المبني من الطوب غرست فوقه قطع زجاج مكسور، ولكنه بدا ضبابيا ومبيضا بنقاط فطر عفن دائرية. (3) بيت
كان الأحمق ينام ويصحو في غرفة بالطابق الثاني في ضاحية من الضواحي، كان ذلك الطابق الثاني مائلا قليلا بسبب رخاوة طبقات الأرض.
كانت خالته تتعارك معه مرة بعد مرة في ذلك الطابق الثاني . ولم يعدم الأمر أن يتوسط بينهما خاله وزوجة خاله اللذان تبنياه، ولكن كان الأحمق يشعر بالحب تجاه خالته أكثر من أي شخص آخر. عندما كان هو في العشرين من عمره كانت خالته التي ظلت طوال عمرها بلا زواج تقترب بالفعل من الستين من العمر.
كان الأحمق يفكر مرات كثيرة وهو في الطابق الثاني من بيت في ضاحية من الضواحي، ترى هل قدر المتحابين أن يعذب كل منهما الآخر؟ وهو يشعر أثناء ذلك بميل الطابق الثاني ميلا ضئيلا مثيرا للغثيان. (4) طوكيو
كان نهر سوميدا غائما غيما شديدا، يتأمل الأحمق من نافذة المركب البخاري الصغير، أزهار الكرز في حي موكوجيما. كانت أشجار الكرز التي امتلأت بالأزهار تنعكس في عين الأحمق كئيبة مثل صف من الملابس الرثة، ولكن اكتشف الأحمق في ذلك الكرز - أي في كرز موكوجيما الموجود منذ عصر إيدو - ذاته فجأة. (5) الأنا
كان الأحمق يجلس على إحدى الموائد في مقهى مع صديق يكبره،
3
وينفث دخان سجائره بلا انقطاع، ولم يكن يفتح فمه بالحديث كثيرا، ولكنه كان يستمع بحماس إلى حديث صديقه الأكبر. «لقد ركبت اليوم السيارة لمدة نصف يوم.» «وهل كان لديك مهمة ما؟»
ظل زميله الأكبر سنا يسند خده على ذراعه كما هو، ثم أجاب إجابة في منتهى العشوائية قائلا: «ماذا! لقد كنت راكبا السيارة فقط.»
قادت تلك الكلمات الأحمق إلى عالم مجهول ... لقد تحرر الأحمق نفسه إلى عالم «الأنا» القريب من الآلهة، ثم أحس بالألم، ولكن في نفس الوقت، أحس كذلك بالسرور.
كان ذلك المقهى صغير الجحم جدا، ولكن كانت شجرة مطاط زرعت في أصيص أحمر أسفل جبهة الإله بان، تدلي بأوراقها السميكة لأسفل. (6) مرض
فتح الأحمق معجم اللغة الإنجليزية الكبير وسط رياح البحر التي لا تتوقف، وأخذ يبحث عن الكلمات بأنامله.
Talaria :
حذاء ذو أجنحة، أو صندل.
Tale :
قصة.
Talipot :
شجر نخيل يزرع في الهند الشرقية، يبلغ ارتفاع جذعه من 15 إلى 100 قدم، ويستخدم سعفه في صنع المظلات والمراوح والقبعات، وتتفتح زهوره مرة كل 70 عاما.
رسم خيال الأحمق زهرة النخيل تلك بوضوح ، وعندها شعر بحكة في حلقه لم يشعر بها من قبل، فسقط بلغم بلا إرادة منه فوق المعجم. بلغم؟ ... ولكن لم يكن ذلك بلغما. تخيل الأحمق زهرة النخيل تلك مرة أخرى وهو يفكر في قصر الحياة، زهرة النخيل التي تشمخ عالية على الجهة الأخرى من ذلك البحر البعيد. (7) لوحة
وقف الأحمق فجأة ... كان ذلك فجأة حقا، أمام محل لبيع الكتب، وأثناء رؤيته لمجموعة لوحات فان غوخ، فهم فجأة ماذا تعني اللوحة الفنية، وبالتأكيد ما من شك أن مجموعة لوحات غوخ تلك كانت نسخا مصورة، ولكنه أحس بالطبيعة التي تبدو بارزة زاهية، وواضحة داخل تلك النسخ المصورة.
جدد شغف الأحمق تجاه تلك اللوحات أفقه، لقد وزع انتباهه المتواصل بلا انقطاع تجاه أغصان الأشجار الملتوية وتجاه خدود المرأة المنتفخة.
في غروب شمس خريف ممطر، مر الأحمق من طريق يمر أسفل سكة قطار في إحدى الضواحي.
وعلى الجهة الثانية من السكة الحديدية تقف عربة نقل أمتعة تجرها أحصنة أسفل ضفة نهر، مر من هناك وهو يشعر بأن شخصا ما في الماضي قد مر أيضا من هذه الطريق. من؟ ... لم يكن ثمة ضرورة الآن لكي يسأل نفسه بنفسه، في داخل قلب الأحمق ذي الثالثة والعشرين ربيعا، هولندي قطع أذنه يصوب نظرات حادة من عينيه على تلك اللوحة الطبيعية الكئيبة وهو يضع غليونا طويلا في فمه ... (8) شرارة
مشى الأحمق يطأ الأسفلت بقدمه وقد بلله المطر، كانت أمطارا عنيفة جدا، شعر الأحمق وسط رذاذ المطر برائحة معطف مطاطي.
وعندها انطلقت أمام عينيه شرارة بنفسجية من السلك الكهربائي العالي للقطار، شعر أن مشاعره تأثرت بريبة، وكان يخفي في جيب معطفه مخطوطة عمل سينشره في المجلة التي يصدرها مع أصدقائه، نظر الأحمق لأعلى خلفه مرة أخرى وسط المطر إلى السلك الكهربائي.
كان السلك الكهربائي كما هو يطلق شرارات بنفسجية. مهما نظر في حياته، لا يعثر على شيء يريد الحصول عليه بصفة خاصة، ولكنه فقط كان يريد الإمساك بتلك الشرارة بنفسجية اللون، تلك الشرارة الرهيبة التي تنطلق في الهواء، حتى وإن كان الثمن حياته. (9) جثث
كان يتدلى من جميع الجثث بطاقة مربوطة بسلك معدني في إبهام القدم، كانت تلك البطاقة مسجلا عليها الاسم والعمر ... إلخ، وكان صديق الأحمق منكفئ الخصر يستخدم المشرط بمهارة وهو ينزع الجلد عن وجه إحدى الجثث، يمتد تحت الجلد دهن جميل بلون أصفر.
كان الأحمق يتأمل الجثة، فبلا شك كان ذلك ضروريا من أجل أن ينهي الأحمق تأليف قصة قصيرة ما - قصة قصيرة تدور خلفيات أحداثها في عصر الأسرات،
4
ولكن كانت رائحة الجثث الكريهة، قريبة الشبه من رائحة المشمش المتعفن، التي تنتشر في المكان منفرة. قضب صديق الأحمق من جبهته وحرك المشرط في هدوء.
قال الصديق: «هناك نقص حاليا في عدد الجثث.»
وعندها كان الأحمق قد أعد رده في غفلة من الزمن: «لو قابلت مشكلة نقص الجثث، لقتلت البشر دون أي إحساس بالذنب.» ولكنه بالتأكيد احتفظ الأحمق بتلك الإجابة داخل عقله فقط. (10) الأستاذ
5
كان الأحمق يقرأ في كتاب أستاذه تحت شجرة سنديان مسنن عملاقة، لا تتحرك ولو ورقة واحدة من أوراقها تحت أشعة شمس الخريف.
يتدلى من ميزان ما في مكان ما وسط السماء البعيدة كفتان من الزجاج، وتحتفظ كفتا الميزان بتوازنهما متساويتين ... كان الأحمق يحس بوجود مثل هذا المنظر وهو يقرأ في كتاب أستاذه ... (11) فجر
بدأ الليل ينجلي تدريجيا، كان الأحمق في وقت من الأوقات ينظر نظرة شمولية على سوق في ركن إحدى المدن، كانت حشود الناس والسيارات في السوق قد اصطبغت بلون وردي.
أشعل الأحمق النار في سيجارة، وتقدم في هدوء داخل السوق، وعندها نبح عليه فجأة كلب أسود نحيف، ولكن الأحمق لم يندهش، ليس هذا فقط بل إنه أحب ذلك الكلب.
في منتصف السوق كانت شجرة دلب واحدة تمتد أغصانها في الجهات الأربع، وقف الأحمق عند جذورها ونظر عاليا إلى السماء من بين أغصانها، كانت تتألق نجمة في السماء بالضبط فوق رأسه مباشرة.
كان ذلك في الخامسة والعشرين من عمره ... بعد ثلاثة أشهر من لقائه مع الأستاذ. (12) ميناء حربي
كان المكان معتما داخل الغواصة، كان الأحمق منكفئا داخل الآليات التي تغطي كل شيء حوله من الأمام والخلف واليمين واليسار، ويختلس النظر إلى عين معدنية صغيرة، كان المنعكس على تلك العين المعدنية منظر مشرق للميناء الحربي، وجه أحد ضباط البحرية الكلام إلى الأحمق قائلا: «يمكنك رؤية الطراد «كونغو» هناك، أليس كذلك؟»
لسبب ما تذكر الأحمق البقدونس الهولندي وهو يتأمل الطراد الصغير من فوق عدسة مربعة الزوايا. البقدونس الذي تفوح رائحته قليلا من فوق ستيك لحم بقري بمبلغ ثلاثين سنا للفرد. (13) موت الأستاذ
كان الأحمق يسير فوق رصيف موقف سيارات جديد وسط الرياح التي تهب بعد توقف الأمطار، وكانت السماء ما زالت مظلمة، وعلى الجانب الآخر من الرصيف ثلاثة أو أربعة عمال سكك حديدية يحركون معاولهم رأسيا وهم يغنون بصوت عال.
بددت الريح التي هبت بعد توقف الأمطار مشاعر الأحمق مع أغاني العمال، أحس الأحمق بمتعة تقترب من الألم بدون أن يشعل النار في سجائره، وهو يضع في جيب معطفه البرقية التي تقول: «الأستاذ يحتضر.»
بدأ يقترب منه صف عربات قطار الساعة السادسة صباحا الذاهب إلى طوكيو، من خلف جبل الصنوبر وهو يتلوى ويتصاعد من أعلاه دخان رفيع يهتز. (14) زواج
قال الأحمق لزوجته في اليوم التالي لزواجه محذرا: «سأضيق ذرعا إن أنت أسرفت في النفقات.» ولكنه لم يكن تحذيرا نابعا منه، بل مجرد أنه ردد فقط قول خالته له: «قل لها ذلك» وعلى الفور اعتذرت زوجته له بالطبع ثم لخالته، وهي تضع أمامها أصيص زهور النرجس التي اشترتها من أجله. (15) زوج وزوجة
عاش الزوجان في وئام وسلام، في ظل شجرة موز كبيرة ممتدة الأوراق ... لأن بيتهما كان يقع في مدينة ساحلية يستغرق الذهاب إليها من طوكيو ساعة زمن بالتمام والكمال بقطار البخار. (16) وسادة
وضع الأحمق مذهب الشك ذو رائحة الورود تحت وسادته، وهو يقرأ كتاب لأناتولي فرانس، ولم ينتبه لتسلل إله بنصف جسد إنسان ونصف جسد حصان داخل تلك الوسادة في غفلة منه. (17) فراشة
تلمع فراشة وسط الريح الممتلئ برائحة الطحالب، وأحس الأحمق أن جناحي تلك الفراشة لمست شفتيه الجافتين للحظة بسيطة جدا، ولكن ظل دقيق أجنحة الفراشة التي لمست شفتيه وقتها يلمع فوقها حتى بعد سنوات من ذلك. (18) قمر
التقى الأحمق صدفة مع امرأة في منتصف سلم بأحد الفنادق. كان وجهها وكأنه تحت ضوء القمر حتى في مثل هذا الوقت من الظهيرة، كان وهو ينظر إليها (لم يكن بين الاثنين سابق معرفة)، يحس إحساس وحدة لم يعرفه قط. (19) أجنحة صناعية
انتقل الأحمق من أناتولي فرانس إلى فلاسفة القرن الثامن عشر، ولكنه لم يقترب من روسو، وربما كان ذلك بسبب أن إحدى صفاته وهي سهولة الشغف، قريبة من صفات روسو؛ ولذا اقترب الأحمق من فيلسوف «كانديد» القريب من صفة أخرى يمتاز بها الأحمق وهي صفة المنطق البارد.
لم تعط الحياة للأحمق ذي التاسعة والعشرين ربيعا أي قدر ولو ضئيل من البهجة، ولكن منحه فولتير أجنحة صناعية.
فرد الأحمق تلك الأجنحة الصناعية، وطار في السماء بسهولة ويسر، وفي نفس الوقت ترسب في قاع عينيه سرور حياته وحزنها التي امتلأت بأشعة العقلانية أيضا، ثم ارتقى إلى الشمس مباشرة وسط السماء دون أن يحجبه شيء، وهو يسقط ابتساماته واعتراضاته الساخرة على المدينة البائسة، وكأنه نسي اليوناني الذي مات في الماضي بعد أن سقط في البحر في النهاية؛ لأن أجنحته الصناعية الشبيهة بتلك قد احترقت بسبب أشعة الشمس. (20) أصفاد
تقرر أن يقيم الأحمق وزوجته في بيت واحد مع أبويه اللذين تبنياه، وكان ذلك بسبب أن الأحمق قد توظف للعمل بإحدى الجرائد، كان الأحمق يعتمد على عقد كتب على ورقة صفراء اللون، ولكن عند النظر إلى ذلك العقد فيما بعد، وجد أن العقد لا يلزم الجريدة بأي شيء وأن جميع الالتزامات تقع على عاتقه فقط. (21) ابنة المجنون
تجري عربتا ريكشا في طريق ريفي خال بسبب المطر، ومن الواضح أن ذلك الطريق متجه نحو البحر حتى من الرياح البحرية القادمة منه، كان الأحمق الذي يركب العربة الخلفية يفكر مرتابا في عدم اهتمامه بهذا اللقاء الغرامي، ما الذي قاده هو شخصيا لمثل هذا المكان. لم يكن ذلك بسبب الحب مطلقا. فإن لم يكن الحب ... من أجل أن يتفادى الإجابة على ذلك السؤال لم يكن هناك بد من التفكير في: «في كل الأحوال نحن على قدم المساواة.»
تركب في العربة الأمامية ابنة المجنون. ليس هذا فقط، بل لقد انتحرت أختها بسبب الغيرة. «لم يعد باليد حيلة.»
لقد شعر الأحمق تجاه ابنة المجنون - تلك الفتاة ذات الغريزة الحيوانية الشديدة - بمشاعر كراهية من نوع ما.
أثناء ذلك كانت عربتا الريكشا تمران من أمام مقبرة تفوح منهما رائحة البحر المميزة. هناك عدة نصب حجرية سوداء داخل السور المصنوع من أغصان الشجر والملتصق به قشور القواقع. تأمل الأحمق البحر المتلألئ على الجهة الأخرى من تلك النصب، وبشكل ما بدأ فجأة يحتقر زوجها ... زوجها الذي لم يستطع الاستحواذ على قلبها. (22) أحد الرسامين
لوحة في إحدى المجلات، إنها لوحة بالفحم تظهر ديكا في هيئة متفردة، سأل الأحمق أحد أصدقائه عن ذلك الرسام، وبعد أسبوع واحد فقط زاره الرسام. كانت تلك حادثة متميزة في عمر الأحمق كله. لقد اكتشف الأحمق داخل ذلك الرسام شاعرا لا يعرفه أحد غيره. ليس هذه فقط بل لقد اكتشف الأحمق روحه التي لم يكن هو ذاته يعرفها.
في غروب يوم من أيام الخريف الباردة قليلا، بسبب نبات ذرة تذكر على الفور أمر ذلك الرسام. يلتحف نبات ذرة فارع الطول قشرته المضطربة كما هي مثل درع، فوق تربة مرتفعة ويظهر جذوره الرفيعة التي تشبه الأعصاب، ولم يكن هناك أي شك في أن تلك بالطبع هي كذلك لوحة ذاتية له هو الحساس الذي من السهل جرحه، ولكن كان هذا الاكتشاف يصيبه بالاكتئاب فقط. «لقد فات الأوان، ولكن عندما تحين الفرصة ...» (23) هي
توشك الشمس أن تغيب أمام إحدى الساحات، يمشي الأحمق في تلك الساحة بجسد به قليل من الحمى، تلمع أضواء كهربائية لنوافذ عدد من البنايات الكبيرة بلون فضي باهت في سماء صافية.
توقف الأحمق عن السير على قارعة الطريق، وقرر انتظارها، بعد أن مرت خمس دقائق فقط ، اقتربت تجاهه بوجه شاحب وجسد هزيل نوعا ما، ولكنها ما إن رأت وجه الأحمق حتى ابتسمت وقالت: «لقد تعبت.» سار الاثنان كتفا بكتف في الساحة المعتمة، وكان ذلك يحدث لأول مرة بينهما، وفكر الأحمق أنه على استعداد للتخلي عن أي شيء من أجل أن يظل معها.
بعد أن ركبا معا الدراجة الهوائية، ظلت الفتاة تتأمل في وجهه ثم قالت: «ألن تندم؟» أجاب الأحمق بحسم: «لن أندم» ضغطت هي على يده وقالت: «عامة أنا لن أندم.» كان وجهها في مثل ذلك الوقت أيضا وكأنه يسطع في ضوء القمر. (24) ولادة
ظل الأحمق واقفا على الجهة الأخرى من الباب يتأمل «القابلة» التي ترتدي زي العمليات الأزرق وهي تغسل جسد الوليد، يكرر الوليد التذمر بتجعيد وجهه كلما لمس الصابون عينيه، ليس هذا فقط بل إنه استمر في البكاء بصوت عال، ومع إحساس الأحمق برائحة قريبة من رائحة أطفال الفئران، لم يكن بوسعه إلا أن يفكر مليا كما يلي: «لماذا ولد هذا الطفل في هذا العالم الممتلئ بالمعاناة؟ لماذا يحمل هذا الطفل عبء أن أكون أنا بالذات أبوه؟»
والأدهى أن ذلك كان أول ولد تنجبه زوجته له. (25) ستريندبرغ
كان الأحمق يقف عند الباب وسط ضوء القمر الذي يسطع على شجرة الرمان المزهرة، يتأمل عددا من الصينيين القذرين يلعبون الماجونغ، وعندما عاد إلى غرفته بعد ذلك، بدأ يقرأ تحت إضاءة المصباح المنخفض كتاب «اعترافات مجنون»، ولكن قبل أن ينتهي من قراءة صفحتين، فلتت منه دون وعي ضحكة مريرة ... إن ستريندبرغ أيضا كتب في رسالة إلى عشيقته الكونتسة كذبا لا يختلف عما يكتبه الأحمق. (26) الأزمنة الغابرة
لقد انسحق الأحمق تقريبا تحت ضغط البوذات وسكان السماء والأحصنة وزهور اللوتس التي نزعت عنها الألوان، وقد نسي كل شيء وهو ينظر نحوها عاليا، حتى سعادته هو نفسه وقد أفلت من يد ابنة المجنون. (27) تدريب على طريقة إسبرطة
كان الأحمق يسير مع صديقه في أحد الأحياء الشعبية. وعندها اقتربت نحوهما مباشرة عربة ريكشا عليها غطاء علوي، بل والعجيب أن من كانت تركب تلك العربة هي فتاة الأمس. حتى في مثل هذا الوقت من الظهيرة كان وجهها وكأنه يسطع تحت ضوء القمر. بالطبع لم يتبادلا حتى التحية أمام صديقه.
قال الصديق للأحمق: «جميلة فعلا.»
أجاب الأحمق بدون أدني تردد وهو يتأمل جبل الربيع المعتاد في نهاية الطريق أمامه: «أجل، إنها جميلة جدا!» (28) جريمة قتل
يصعد الأحمق طريقا ريفيا، بينما تفوح رائحة براز البقر النتنة وسط أشعة الشمس على أطراف قدميه وهو يمسح عرقه. تنبعث رائحة زكية للقمح الناضج على جانبي الطريق. «اقتله، اقتله ...»
في غفلة منه كان الأحمق يردد تلك الكلمة في فمه. من؟ ... كان ذلك في منتهى الوضوح. تذكر الأحمق رجلا يحلق رأسه بطول سنتيمتر تقريبا فيبدو في منتهى الوضاعة.
وعند هذا الحد ظهر في غفلة من الزمن سقف دائري مقبب لإحدى الكنائس الكاثوليكية لبابوية روما على الجانب الآخر لحقول القمح الصفراء. (29) شكل
كانت تلك قنينة ساكي حديدية، في وقت ما، كان أحدهم يدرس للأحمق جمال «الشكل» على تلك القنينة المزينة بتصميم الخيوط. (30) أمطار
كان الأحمق يتحدث في أمور عديدة معها فوق السرير، وكان الجو خارج نافذة غرفة النوم ممطرا، وعلى ما يبدو أن زهور النبق قد تعفنت وسط تلك الأمطار، كان وجهها يبدو كالمعتاد وكأنه يسطع تحت ضوء القمر، ولكن ليس معنى ذلك أن الأحمق لم يصبه الضجر من محتوى حديثها، أشعل سيجارة بهدوء وهو يزحف على بطنه على السرير، وتذكر أنه مرت سبع سنوات على معيشته معها.
سأل الأحمق نفسه: «ترى هل أحب هذه المرأة؟»
كانت الإجابة مفاجئة وعلى غير ما توقعت له نفسه التي ظلت
(31) زلزال طوكيو الكبير
أحس الأحمق وهو يمشي في أطلال الحرائق، بتلك الرائحة الخفيفة، رائحة قريبة من رائحة المشمش الناضج نضوجا شديدا، فكر أن رائحة الجثث المتعفنة من شدة الحرارة ليست سيئة على غير المتوقع، ولكنه عندما جرب أن يقف أمام البركة التي تراكمت بها الجثث تراكما مهولا، اكتشف أن كلمة «فظيع» ليست مبالغة مطلقا لذلك الإحساس. وما حرك مشاعره بصفة خاصة ، كانت جثث الأطفال في الثانية أو الثالثة عشرة من عمرهم، لقد أحس الأحمق وهو ينظر إلى تلك الجثث بما يشبه إحساس الغيرة، وتذكر كذلك الجملة التي تقول: «إن الأشخاص المحبوبين من الآلهة يموتون صغارا.» لقد احترق بيت شقيقته الكبرى وبيت أخيه الأصغر غير الشقيق، كان زوج أخته الكبرى قد حكم عليه مع وقف التنفيذ بتهمة ارتكاب جريمة شهادة الزور.
لم يكن الأحمق وهو يقف بهدوء أمام أطلال الحرائق إلا أن يقول
(32) عراك
تعارك الأحمق مع أخيه الأصغر غير الشقيق عراكا عنيفا. لا شك أن أخاه يقع عليه ضغط بسببه، وفي نفس الوقت لا شك أن الأحمق فقد حريته بسبب شقيقه الأصغر. استمر أقرباء الأحمق يقولون لأخيه الأصغر: «تعلم منه.» ولكن ذلك يشبه أن يقيد يدي الأحمق نفسه ورجليه. ظل الاثنان يتعاركان حتى تدحرجا إلى حافة الحديقة، عند حافة الحديقة هناك شجرة بنفسج هندية ... ما زال الأحمق يتذكر ذلك حتى الآن ... تحت السماء الممطرة كانت زهور البنفسج زاهية تحت الضوء الأحمر. (33) بطل
كان الأحمق ينظر عاليا إلى الجبل المرتفع من نافذة بيت فولتير، فوق قمة الجبل المرصعة بنهر جليدي، حتى لقد بدت وكأنها ظل لنسر أصلع، ولكن استمر روسي قصير القامة في صعود طريق الجبل بإلحاح. يكتب الأحمق مثل ذلك الشعر المؤدلج حتى بعد مجيء الليل في بيت فولتير، تحت مصباح شديد الإضاءة، وهو يتذكر منظر ذلك الروسي الذي يتسلق الجبل.
أنت يا من كنت الأكثر محافظة على الوصايا العشر،
كنت أكثر من خالف الوصايا العشر. •••
أنت يا من كنت الأكثر حبا للشعب،
كنت أكثر من احتقر الشعب. •••
أنت يا من كنت الأكثر شوقا للمثاليات،
كنت الأكثر معرفة بالواقع. •••
إنك عربة قطار كهربائية أنجبها شرقنا،
تفوح منها رائحة الأعشاب والزهور. (34) ألوان
في غفلة من الزمن كان الأحمق الذي أصبح في الثلاثين من عمره يحب أرض فضاء، كانت تلك الأرض ليس بها علاوة على الطحالب العفنة إلا أحجار طوب وقطع من القرميد متناثرة هنا وهناك، ولكن لم يكن ذلك المنظر يختلف في عين الأحمق عن مناظر لوحات سيزان.
تذكر الأحمق فجأة شغفه قبل سبع أو ثماني سنوات، وفي نفس الوقت، اكتشف أنه من سبع أو ثماني سنوات لم يكن يعرف الألوان. (35) دمية المهرج
كان الأحمق ينوي أن يعيش حياة عنيفة بحيث لا يندم حين يأتيه الموت في أي وقت، ولكنه كان بلا أي تغيير يعيش حياة تميل إلى مراعاة خالته وأبويه بالتبني، وكان ذلك يخلق لحياته وجهها المظلم ووجهها المشرق، عندما رأى دمية المهرج تقف في أحد محلات الملابس الغربية، فكر: منذ متى تشبه حياته دمية المهرج؟ ولكن خارج وعيه كان الأحمق ذاته، يمكن القول ذاته الثانية، تتداخل في قصة قصيرة تشبه هذا الحكي. (36) فتور
كان الأحمق يسير وسط حقول الغاب مع طالب جامعي: «على ما يبدو أنكم ما زلتم تملكون الرغبة الشديدة في الحياة.» «أجل، ... فحتى أنت ...» «ولكن أنا لا أملك أية رغبة، مع أنني أملك رغبة الإبداع فقط.»
كانت تلك هي مشاعر الأحمق الحقيقية، فلقد فقد الأحمق في غفلة من الزمن اهتمامه بالحياة. «ولكن رغبة الإبداع هي إحدى رغبات الحياة، أليس كذلك؟»
لم يجب الأحمق بأية إجابة. كشفت حشائش الغاب فجأة عن جبل بركاني منفجر بوضوح فوق سنابل حمراء، أحس الأحمق بشيء ما قريب من الغيرة تجاه ذلك الجبل البركاني المتفجر، ولكن لم يكن سبب ذلك معروفا حتى له هو شخصيا. (37) فتاة الشمال
لقد التقى الأحمق بامرأة تستطيع التنافس معه في قوة الموهبة، ولكنه استطاع الإفلات من تلك الأزمة بصعوبة، عندما ألف قصيدة عاطفية مثل «فتاة الشمال»، ثمة شعور مؤلم للقلب كثلوج متألقة تجمدت فوق جذع شجرة.
قبعة قش تتراقص مرتفعة مع الريح،
ثم لسبب مجهول، لا تسقط في الطريق،
لم يجب المبالاة بسمعتي؟!
ما أبالي به هو سمعتك أنت فقط. (38) انتقام
كان المكان قاعة مكشوفة في فندق على حديقة وسط براعم أشجار نابتة، يرسم الأحمق إحدى اللوحات، وهو يلاعب صبيا، إنه الابن الوحيد لابنة المجنون الذي قطع علاقته بها تماما منذ سبع سنوات. أشعلت ابنة المجنون سيجارة وهي تتأمل لعبهما معا، ظل الأحمق يرسم قطارا وطائرة بمشاعر كئيبة، من حسن حظه أن الطفل لم يكن ابنه، ولكن كان أكثر ما عاناه هو مناداة الطفل له بكلمة «عمي».
بعد أن ذهب الصبي إلى مكان ما، تحدثت ابنة المجنون إلى الأحمق بدلال وهي تدخن السيجارة: «ألا ترى أنه يشبهك؟» «لا يشبهني. فأولا ...» «ولكن أليس هناك ما يسمى تعليم الجنين؟»
صمت الأحمق وأبعد عينيه عنها، ولكن لا ينفي ذلك شعور الأحمق برغبة متوحشة داخل أعماق قلبه في أن يشنقها بيديه. (39) مرآة
كان الأحمق يتحدث مع صديق له في ركن بأحد المقاهي. كان الصديق يأكل تفاحا مشويا ويتحدث عن برودة الجو في تلك الأيام، وشعر الأحمق فجأة بالتناقض في مثل ذلك الحديث. «أنت ما زلت أعزب، أليس كذلك؟» «بلى، سأتزوج الشهر القادم!»
سكت الأحمق فجأة، كانت المرآة الموضوعة على حائط المقهى تعكس صورته شخصيا مرات لا نهائية، صورة باردة وكأنها تهديد لشيء ما. (40) حوار
لماذا تهاجم النظام الاجتماعي المعاصر؟
لأنني أرى الشر الذي تسببت فيه الرأسمالية؟
شر؟ لقد كنت أعتقد أنك لا تعرف الفرق بين الخير والشر. حسنا، ماذا عن حياتك أنت؟ ... هكذا دار الحوار بين الأحمق والملاك. الملاك الذي يعتمر قبعة حريرية لا يمكن مطلقا أن يخجل منها أحد. (41) مرض
بدأ الأرق يهجم على الأحمق، ليس هذا فقط، بل وبدأ جسده يضعف، فحصه عدد من الأطباء وشخص كل منهم مرضه تشخيصا مختلفا ... زيادة حموضة المعدة، ارتخاء المعدة، التهاب غشاء الرئة الجاف، الوهن العصبي، التهاب مزمن لغشاء باطن الجفن، الإرهاق العقلي.
ولكن كان الأحمق يعرف سبب مرضه بنفسه، كان ذلك إحساس الخوف منهم ممزوجا بإحساس الخجل من نفسه. منهم ومن المجتمع الذي يحتقره الأحمق!
في ظهيرة يوم غائم بغيوم ثلجية، جلس الأحمق في ركن بأحد المقاهي يضع في فمه سيجارا مشتعلا ويسمع موسيقى فونوغراف على الجانب الآخر، كانت تلك الموسيقى تتسلل إلى داخل أحاسيسه بغرابة، وقرر الأحمق أن ينتظر حتى تنتهي تلك الموسيقى، ثم اقترب من آلة الفونوغراف لفحص بطاقة الاسم الملصقة على الأسطوانة.
Magic Flute - Mozart.
فهم الأحمق الأمر على الفور، لا ريب أن موتسارت الذي خرق الوصايا العشر، قد تألم وعانى. مثله تماما ... عاد الأحمق إلى مقعده في هدوء وهو محني الرأس. (42) أصوات ضحك الآلهة
كان الأحمق الذي بلغ من العمر خمسة وثلاثين عاما يسير وسط غابة صنوبر تسطع عليها شمس الربيع، وهو يتذكر كلمات كتبها بنفسه منذ سنتين أو ثلاث سنوات تقول: «ومن التعاسة أن الآلهة لا تستطيع الانتحار مثلنا.» (43) ليل
بدأ الليل يقترب مرة أخرى، ويرسل البحر الهائج رذاذه العالي المتطاير في العتمة بلا انقطاع. تحت هذه السماء، تزوج الأحمق من زوجته للمرة الثانية، وكانا سعيدين بذلك، ولكن في نفس الوقت كانا في معاناة أيضا. كان أطفالهما الثلاثة يتأملون معهما البرق فوق سماء البحر. احتضنت زوجته أحد الأطفال، وبدا أنها تقاوم الدموع. «ترى على البعد سفينة، أليس كذلك؟» «أجل!» «السفينة التي كسرت ساريتها إلى نصفين.» (44) موت
لحسن حظه كان الأحمق ينام وحده، فقرر أن يحاول الموت بشنق نفسه بربط حزام في أسياخ النافذة الحديدية، ولكنه عندما وضع الحزام حول عنقه، بدأ فجأة يخاف من الموت، لم يكن خوفه بسبب المعاناة من لحظة الموت مطلقا. في المحاولة الثانية حمل الأحمق ساعة الجيب، وقرر أن يجرب قياس وقت شنقه لنفسه، وعندها، بعد أن اختنق قليلا، بدأ كل شيء يصير ضبابيا. إن تخطى فقط تلك المرحلة مرة، لا ريب أنه سيدخل عالم الموت، فحص عقارب الساعة، فاكتشف أن إحساسه بالاختناق كان لمدة دقيقة وعشرين ثانية. كان المكان خارج النافذة الحديدية غارقا في ظلام حالك، ولكن في وسط ذلك الظلام سمع أيضا صوت دجاج صاخب. (45) الديوان
Divan
مرة أخرى كان كتاب الديوان على وشك أن يعطي لقلب الأحمق قوة جديدة، كان ذلك «غوته الشرقي» الذي ظل الأحمق لا يعرف عنه شيئا، نظر الأحمق إلى غوته الذي يقف بشجاعة على الجانب الآخر من مختلف أنواع الخير والشر ، فشعر بغيرة قريبة من اليأس، كان غوته الشاعر في عين الأحمق أكثر عظمة من المسيح الشاعر، لقد تفتح في قلب ذلك الشاعر حتى الورد العربي بخلاف أكروبوليس وجبل الجمجمة. آه لو كان الأحمق يملك قدرا من القوة والطاقة لكي يتبع خطوات أقدام ذلك الشاعر! أنهى الأحمق قراءة الديوان، وبعد أن هدأت مشاعر التأثر العنيف، لم يستطع إلا أن يصب احتقاره على ذاته التي ولدت غارقة في الحياة المعيشية مثل الخصيان. (46) كذب
لقد سبب انتحار زوج شقيقة الأحمق له صدمة نفسية مفاجئة؛ فقد كان يجب عليه أن يرعى كذلك شئون عائلة شقيقته، كان المستقبل على الأقل بالنسبة له معتما مثل غروب الشمس، ومع ذلك ظل الأحمق بلا أي تغيير مستمرا في قراءة أنواع مختلفة من الكتب، وهو يشعر بما يقرب من ابتسامة برود تجاه انهياره النفسي (إن الأحمق يعلم تماما العلم بكل ضعف وكل شر داخله)، ولكن حتى كتاب روسو الاعترافات كان يمتلئ تماما بالكذب البطولي، وبصفة خاصة عندما وصل إلى قراءة «حياة جديدة»،
6
لم يسبق للأحمق أن قابل منافقا عتيد النفاق مثل بطل رواية «حياة جديدة»، ولكن شخصية فرانسوا فيون فقط هي التي استطاعت أن تتسلل إلى أعماق قلبه. اكتشف الأحمق وسط عدد من قصائد الشعر «ذكرا جميلا».
ولقد ظهر للأحمق في الحلم منظر فيون وهو ينتظر حكم الإعدام شنقا، لقد كان الأحمق على وشك الوقوع عدة مرات في قاع الدنيا مثل فيون، ولكن لم تكن ظروفه ولا قدراته الجسدية تسمح له بذلك، استمر جسد الأحمق يذبل ويضعف. بالضبط مثل أغصان الأشجار الواقفة الذابلة التي رآها سويفت في الماضي. (47) اللعب بالنار
كان لها وجه وضاء، بالضبط مثل سقوط أشعة شمس الصباح على جليد رقيق، كان الأحمق يحمل تجاهها مشاعر طيبة، ولكنه لم يشعر بالحب، ليس هذا فقط بل إنه لم يلمس جسدها بإصبع. «لقد سمعت أنك تريد أن تموت، حقا؟» «أجل ... كلا، لا أريد الموت، بل إنني مللت الحياة.»
من خلال هذا الحوار تواعد الاثنان على الموت معا. «إنه
(انتحار أفلاطوني).» «بل هو
Double Platonic Suicide (انتحار أفلاطوني ثنائي).»
كان الأحمق غير قادر إلا على التعجب من حالة الهدوء التي هو نفسه عليها. (48) موت
لم يمت الأحمق معها، ولكنه كان يحس بالرضا أنه حتى الآن لم يلمس جسدها بإصبع، كانت تتحدث من وقت لآخر معه وكأن شيئا لم يكن، ليس ذلك فقط بل إنها سلمته زجاجة سيانيد البوتاسيوم التي بحوزتها قائلة: «إن وجود هذه فقط يجعل كل منا يشد من عضد الآخر.»
ولا شك أن ذلك جعل قلبه سليما معافى فعلا، جلس الأحمق وحيدا على مقعد من الخيزران، يتأمل أغصان شجرة البلوط الفتية، ولم يستطع إلا أن يفكر مرة بعد مرة في موته الذي سيجلب له السلام. (49) بجعة محنطة
قرر الأحمق بذل آخر ما به من قوة، لكتابة سيرته الذاتية، ولكنه لم يستطع ذلك بالسهولة التي توقعها بنفسه، وكان سبب ذلك بقاء كبرياء وشكوك وحسابات المنافع والأضرار داخله حتى الآن، ولم يكن بوسعه إلا أن يحتقر ذاته تلك، ولكن من جهة أخرى لم يكن بوسعه إلا الاعتقاد بفكرة «أنه لو نزع كل شخص قشرته الخارجية سيبدو جميع البشر متشابهين»، كان عنوان كتاب «الشعر والحقيقة»
7
يجعل الأحمق يميل إلى التفكير بأسماء العديد من السير الذاتية، ليس هذا فقط بل كان يفهم بوضوح أنه ليس بالضرورة أن يتأثر الجميع بالأعمال الأدبية. لا يفترض وجود أشخاص آخرين يريد أن تصلهم مؤلفاته إلا القريبين منه الذين عاشوا حياة تشبه حياته ... كانت تلك الرغبة تعمل أيضا عملها معه، ومن أجل ذلك قرر الأحمق أن يحاول كتابة «الشعر والحقيقة» الخاصة به بشكل مختصر.
بعد أن انتهى الأحمق من كتابة «حياة أحد الحمقى» عثر عن طريق الصدفة البحتة على بجعة محنطة في أحد محلات الأنتيكات، كانت تلك البجعة تقف رافعة عنقها، ولكن كانت الديدان تنخر حتى في أجنحتها الصفراء، فكر الأحمق في حياته، وأحس بقرب ظهور دموعه وابتسامته الباردة، فلم يكن أمام الأحمق إلا الجنون أو الانتحار. مع سيره وحيدا تماما في طريق خيم عليه الغروب، حسم قراره بأن ينتظر قدره المحتوم الذي يأتي ببطء ليمحوه. (50) أسير
جن أحد أصدقاء الأحمق، وكان الأحمق يشعر دائما بالألفة تجاهه، وسبب ذلك أنه يعرف شعور ذلك الصديق بالوحدة معرفة حقيقية تفوق معرفة الآخرين ... الوحدة المختفية تحت قناع الرشاقة والمرح. بعد أن جن صديقه هذا، زاره الأحمق مرتين أو ثلاث مرات. «لقد طغت الأرواح الشريرة علينا أنا وأنت، أرواح نهاية القرن
8
الشريرة».
قال الصديق هذا القول للأحمق وهو يخفض من صوته، ولكنه بعد بضعة أيام من ذلك سمع أن صديقه كان يأكل حتى بتلات الورود في طريق ذهابه إلى أحد ينابيع المياه الساخنة. تذكر الأحمق في أحد الأوقات تمثال التراكوتا النصفي الذي أهداه إلى ذلك الصديق بعد دخوله المستشفى. كان تمثالا نصفيا لمؤلف «المفتش العام» الذي يعشقه صديقه، ثم تذكر الأحمق أن غوغول نفسه قد مات مجنونا، ولم يكن يسعه إلا التفكير في أن قوة ما تسيطر عليهم جميعا.
وفي نهاية تعبه الشديد قرأ فجأة كلمات راديجيه وهو يحتضر، وشعر مرة أخرى بصوت ضحكات الآلهة، كانت تلك الكلمات هي: «لقد جاء جنود الإله للإمساك بي.» كان الأحمق يحاول قتال خرافاته ومذهبه الوجداني، ولكن كان مستحيلا عليه جسديا أن يقاتل أي قتال، لا ريب أن «الأرواح الشريرة لنهاية القرن» كانت تعذبه في الواقع، أحس الأحمق بالغيرة تجاه أهل العصور الوسطى الذين استعانوا بقوة الإله، ولكن لم يستطع الأحمق مطلقا الإيمان بالإله - الإيمان بحب الإله، ذلك الإله الذي آمن به كوكتو! (51) هزيمة
بدأت يد الأحمق التي تمسك بالقلم تهتز، ليس هذا فقط بل لقد سال حتى اللعاب من فمه، لم يرجع لوعيه ولو مرة واحدة منذ أن فاق مرة بعد استخدامه منوم فيرونال 0,8٪، بل إن وقت إفاقته لم يزد على نصف ساعة أو ساعة على الأكثر. فقد كان يعيش طوال اليوم في ذلك الظلام المعتم، إن جاز التعبير أثناء استخدامه سيفا رفيعا على أنه عصا، صدأ النصل. ••• (الشهر السادس من العام الثاني من عصر شوا [يونيو 1927م]، مخطوطة تركها المؤلف قبل موته.)
ناپیژندل شوی مخ