ويقوم في ذلك العهد العالم الكاتب الأديب المجدد حقا أعني به المرحوم الشيخ حسن المرصفي فيلفت جمهرة الأدباء عن ذلك الأدب الضامر، ويوجه أذهانهم وأذواقهم جميعا إلى الخالص المنتخل من أدب العرب في جاهليتهم وفي إسلامهم، ويبعث لهم شعر أبي نواس وأبي تمام والبحتري وغيرهم من فحول الشعراء، كما يدل على بيان ابن المقفع والجاحظ والصولي وأحمد بن يوسف وأضرابهم من متقدمي الكتاب، فسرعان ما يصفو البيان ويحلو، وسرعان ما يجزل القول ويعلو، وسرعان ما تنفرج آفاق الكلام وتتبسط أسلات الأقلام في كل مقام، وناهيك بغرس يخرج من ثماره إبراهيم المويلحي في الكتاب ومحمود سامي البارودي في الشعراء!
وفي أعقاب نهضة المرصفي يقبل العالمان الأديبان اللغويان الشيخ حمزة فتح الله والشيخ إبراهيم اليازجي، فيكشفان عن مجفو العربية، ويستظهران من أوضاعها وصيغها ما يدل على الكثير من الأسباب الدائرة، ويتعقبان الأخطاء الشائعة، ويدلان على الصحيح الناصح من كلام العرب، فيأخذ الكتاب والشعراء أنفسهم بالتحري في التماس الصحيح حذر النقد والتشهير، وكذلك تصفو اللغة وتشرق ديباجتها، ولا شك في أن للصحف السيارة في هذا الباب فضلا غير منكور.
وظلت لغة الآداب في رقيها واطرادها في سبيل كمالها إلى اليوم، أما لغة العلم فلقد دهاها من السياسة ما دهى، فإن «دنلوب» ما كاد يقبض على زمام التعليم في المعارف وينفرد بالسلطان فيها حتى جعل يحيل لغة العلوم إلى الإنجليزية وتم له من هذا في المدارس الثانوية فما فوقها كل ما أراد، ولو قد تهيأ له أن يدرس الطلاب قواعد العربية نفسها بالإنجليزية لما أعوزه الإقدام!
وطالت هذه الحال، وخرجت كتب الدراسة في العلوم في الإنجليزية، وتقلبت فيها ألسنة الطلاب في دور التعليم، وجعلت لغة العرب تتقلص عن أداء الصيغ والمصطلحات في شتى العلوم والفنون، حتى تم التناكر والقطيعة بينها وبين تلك أو أشرف على التمام.
إذن لقد كان بعض اللغة - أعني لغة الآداب - في تبسط وازدهار، إذ بعضها وهو ما يتصل بالعلوم في تقلص وإقفار!
ويشاء القدر الحاني على لغة الكتاب أن يتولى المرحوم سعد زغلول باشا نظارة المعارف، وهو من هو في وثاقة علمه بالعربية، ونفوذه إلى دقائق أسرارها، وقوة يقينه بأنها زعيمة، لو قد مرنت بالعلاج، بأن تسع علم الآخرين كما وسعت علم الأولين، فتقدم من فوره بدراسة العلوم، بكل ما يتسع له الذرع، باللغة العربية، فشمر الأساتيذ لهذا، وأقبل العالمون على رفد العربية بالعلوم المختلفة من كلتا الطريقتين: الترجمة والتأليف، وخلفه على نظارة المعارف المرحوم أحمد حشمت باشا، وحذا حذوه في حياطة هذه اللغة وحضانتها، وكان من توسعه في هذه الناحية أن أنشأ في نظارة المعارف قلما للترجمة لينقل إلى العربية ما يتدارسه الطلاب في شتى العلوم والفنون، وإذا كان هذا «القلم» لم يغن في هذا المطلب جليلا فلأنه كان حق عسير، وألف لهذه الغاية أيضا لجنة دعاها «لجنة الاصطلاحات العربية» وعقد رياستها له ودعا إلى عضويتها بعنق من المشهود لهم بسعة العلم وجزالة الفضل، والتضلع في فقه العربية مع المشاركة في مختلف العلوم.
العربية لغة علم وأدب
وبعد، فالحق أن اللغة العربية إذا كانت في هذا العصر الذي نعيش فيه قد أزهرت وأشرقت وأضحت تواتي في يسر حاجة الآداب، فإنها ما برحت تثقلها مطالب العلوم، بل لا غرو علي إذا زعمت أنها ما برحت تحس العجز الشديد، فلقد ازدحمت مصطلحات العلوم في هذه الأربعين سنة الأخيرة، على وجه خاص، ازدحاما هائلا مروعا بما أخرجت القرائح فيها من فنون المخترعات والمستحدثات في مختلف وسائل الحياة، وإن إحساس أبناء العربية، وبخاصة من يتولون منهم شأن التعليم والتأليف، بهذا العجز هو الذي كان يبعث أعيان أصحاب العلم والبيان في مصر الفترة بعد الفترة على الدعوة إلى تأليف المجامع اللغوية لعلاج لغتنا، ومدها بالوسائل المختلفة، حتى تواتي حاجات العلوم والفنون، ولم يقدر لشيء منها النجاح، لأنها كانت تعوزها بعض وسائل الحياة، ومن أهمها المال والسلطان.
وأخيرا أنشئ «مجمع اللغة العربية» وفوق أنه فرض صدرا عظيما من جهده لاستظهار ألوان الصيغ والمصطلحات في شتى العلوم والفنون، فقد راح يتبسط في قواعد العربية ما أسعدته على هذا التبسط مذاهب السلف الأكرمين، إلانة للغة، وتيسيرا لما كان يتعاصى في هذا المطلب على جمهورة المعلمين والمؤلفين، وقد قطع في هذا الشوط الخطا العراض، والأمل معقود بأن هذا المجمع في ظل نظامه الجديد سيبلغ العربية منيتها إن شاء الله في وقت غير طويل.
هذا كفاح العربية في مائة عام، وإن لغة ترزق هذا الصبر وهذا الجلد في الكفاح، وهذه الجدات على كثرة دواعي البلى، لحقيقة في النهاية بالظفر والعزة في الدنيا على طول الزمان.
ناپیژندل شوی مخ