330

ولعلك لم تنس أنه قد سبق لي أن وصفتهم بكرم الخلق والتواضع، وشدة التوافي للناس، حتى لمن لا تربطهم بهم إلا «المعرفة» البسيطة في أضيق الحدود والآن فاسمع أعانني وأعانك الله: لقد تكون جالسا في مقهى عام كالنيوبار، أو الإسبلنددبار، أو بار اللواء، أو في جروبي قديمه وجديده، أو ليمونيا الحلواني في القاهرة، أو في فرعه في مصر الجديدة، فلا يروعك إلا أن يطلع على مدخل المقهى «بطل» من هؤلاء الأبطال، ثم تراه قد ثبت في موقفه لا يتقدم ولا يتأخر، ولا يتزحزح ذات اليمين ولا ذات الشمال، ولا يتحرك منه إلا عنق كاللولب، يتجه إلى هنا ثم يتجه إلى هنا، صنع مروحة الكهربا المتحركة، وقد أرسل «البطل» نظرا حديدا يدور بالضرورة مع رأسه حيثما دار، فلا يزال ينقد الجالسين نقدا، ويفحصهم فردا فردا، فإذا أصاب فيهم بعد طول التفقد والاختبار صديقا أو شبه صديق، ولو كان جالسا فيمن لا يعرفهم - أعني البطل - ولم يرهم من قبل، أسرع فأهوى إليهم «كجملود صخر حطه السيل من عل!»، وبادر فسلم على صديقه أو «بحيث» صديقه في شوق ولهفة، ثم استدار فسلم على أصحابه في تأدب وتظرف، قد تزينهما بعض الضحكات الناعمات!

فإن لم يصب صديقا ولا شبه صديق، «فالمعارف» بفضل الله كثير؛ ومهما يكن من أمر، فإن أدبه وتواضعه ليأبيان عليه إلا أن يمد يده فيمهد له بين الجماعة كرسيا، ولو غفلوا هم عن دعوته، أو تجافى بهم سوء الأدب عن أن يبادروا فيفسحوا له في مجلسهم موضعا، وكذلك تكون مكارم الأخلاق!

ويهبط «الجرسون» ليسأل «البيك» حاجته، فيسرع «البطل» إلى الحلف بأنه لا يستطيع أن يتناول القهوة لأنها تسهد ليله، وتطير نومه، أما «الجاتو»، وأما «الكريم بالفواكه»، وأما ما يؤكل على وجه العموم فلا حظ له فيه، فقد أفرط في غدائه حتى أدركه البشم، ووقاك الله غائلة التخم، فإن كان ولا بد من شيء والأمر لله، فإنه يفضل «الكازوزة» لعلها تسلك من مجرى النفس، ما انسد بكثرة الطعام وما احتبس. •••

ولعل القوم كانوا في حديث يهمهم ويشغلهم فقطعه صاحبنا عليهم، والآن لا بأس عليهم من معاودته، بعد إذ قرت الجنوب، وجاء «الجرسون» بالمشروب، على أن صاحبنا أرفق بهم وأكرم من أن يدعهم حيارى في إيثاره «الكازوزة» على سائر ما يطلب، مما يؤكل وما يشرب، فيصيح فيهم، وقد يهز صاحب النوبة في الحديث، وهذا ليلفتهم إليه، ويعطف استماعهم عليه: تسألونني السر في إيثاري «الكازوزة» على سائر ما يقدم هنا، ولكم كل الحق، وإذا عرف السبب، بطل العجب! وكل ما في الأمر أن الله حباني بطاه لم يسمع في الزمان بمثله، وأين منه محمود القره وغير محمود القره،

1

وحين زار مصر جلالة ملك إيطاليا وتغدى عندي سرا، رجاني في أن يرسل إلي رئيس طهاته في رومة ليتمرن على يدي هذا «الولد» في طهي بعض الأطعمة التي أعجبت جلالته، وصدقوني إذا قلت لكم إنه كان من بينها «الاسباجتي»!

ويصيح الجميع في نفس واحد: «الاسباجتي؟!»

فيجيب «البطل»: نعم يا سادتي، وهذا موضع العجب، وذلك سر لا يعلمه إلا الكنت دي بليانو،

2

وسعيد باشا ذو الفقار، و«أخوكم» بالضرورة.

ناپیژندل شوی مخ