لا أعرف أن الدنيا تجمع طائفة من الناس أشد أثرة، ولا أورم أنوفا، ولا أعظم غرورا، ولا أبلغ تتايها على صرف الأيام من سادتنا الشحاذين المصريين! وأقول سادتنا الشحاذين لا على حكم التأدب ولا على جهة التهكم، كما يتبادر إلى ذهنك بادي الرأي! بل لأنه الحق الذي لا شك فيه، فهم سادتنا حقا، ونحن مواليهم حقا، فإن كان ما زال يختلج في نفسك الريب، فاسمع هذه القصة:
من يوم نجمت وجرت علي تكاليف العيش، وأنا أحيي ليالي رمضان بالسهر إلى السحور؛ وإلى أن ينجلي عمود الصبح، أسمع القرآن الكريم في دار أبي، وأجلس مع إخوتي وزوارنا للسمر، ولقد أمضي إلى مسجد السيدة زينب قبيل الفجر لأسمع من الشيخ أحمد ندا سورة طه، يرجعها صوته الفاخر ترجيعا، حتى يخيل إليك أن جبريل عليه السلام إنما يتنزل بها من جديد، فإذا أذن الشيخ بعد هذا بالفجر وقمنا لصلاته، جلسنا إلى حلقة أستاذنا الشيخ محمد أبي راشد فتلقينا علما طريفا تنبسط له النفس، ولا يطاول فيه الفهم، من قصص الأنبياء وكرامات الأولياء ونوادر الصالحين.
وإنني لأرى أنني قد أطلت عليك، وما بعثني إلا أن أثبت أن سهر ليالي رمضان أصبح عندي عادة جرت مني الآن مجرى الطبع.
ولقد كنت قاضيا في الزقازيق سنة 1925، ودخل علينا رمضان المعظم ونحن في صميم الشتاء، وأنا أقطن (وأنف منشورات الحقانية راغم) في القاهرة، ويبعث الله السماء، في ليلة عندي في مصبحها مجلس قضاء، ويتجاوز الطين والماء الطبيين، وبخاصة في أحيائنا «الوطنية»، وأنام تلك الليلة وأنا على شرف من الساعة الرابعة.
ويبعثني أهلي عند انتصاف الساعة السادسة، والجيب أصفر من أن يفيض بأجرة مركبة أو سيارة إذا رضي سائقها بخوض هذا الغمر، في هذه الساعة، إلى حي «البغالة»، فلم تبق هناك وسيلة إلا طلب الترام، والأمر لله!
وأتدلى من داري لم أترو من النوم بعد طول السهر إلا ساعة ونصف الساعة، فأجمع بين يدي أطراف ثيابي، وأزمها مع رزمة من «دوسيهات» القضايا، وأتحامل على هد القوى وتداعي النفس، فأعارك الماء، وأصاول الوحل، وأتحسس في الحلك للتحرف عن البركة، واتقاء العثرة في التلعة، والذهن فوق هذا مذعور بما سألقى في اليوم الأطول من ركوب الترام إلى المحطة، ومن ركوب القطار إلى الزقازيق، ثم من محطتها إلى المحكمة، ثم من معالجة القضايا الكثيرة، ومن مهاترة أصحاب الدعاوى، ومن كيد بعض إخواننا المحامين، وطول جدالهم فيما لا يجدي، طلبا للخروج من العهدة أمام موكليهم، ولو على حساب الحق والكرامة وحرمة مجلس القضاء!
في كل هذا العذاب الذي لا يمكن أن يقدره إلا من عاناه، بلغت بسلامة الله محطة الترام في ميدان السيدة زينب، وتمثلنا جماعة كثيرة في انتظار قدوم أول قطار، وبينا نحن على هذا إذا يد قاسية تزم كتفي، وإذا صوت نكير يصك سمعي حتى كادت تتفرق له نفسي: «فطور العواجز عليك يا رب! من فطر صايم، له أجر دايم، هنيالك يا فاعل الخير!» فانثنيت إلى هذا الوحش وقلت له: أفحسبت أيها الرجل أنني أنام الساعة 4 بعد نصف الليل، وأهب من نومي ، وأصحر لكل هذا البرد، وأشق بهذا الجسم العليل ما شققت من الغمر، وأخوض ما خضت من الوحل، أفحسبت أنني أعاني كل هذا لأهيئ لك فطورك؟!
ثم تعال نتحاسب: إننا الآن على اثنتي عشرة ساعة من وقت الإفطار.
فبأي حق تقتضي «الأمة» أن تهب من الساعة السادسة صباحا، وفي رمضان، لتهيئ لك فطورك، لا يحين أذانه إلا في السادسة مساء! ... فكان جواب الخنزير: «واشمعنى يعني الفقرا مالهمش نفس لخرين يفطروا زي الأغنياء ما يفطروا؟»، فقلت له: يا سيدي، إن طهاة الأمراء، والوزراء، وكبار الحكام، وأعيان الأغنياء، لا يأخذون في عملهم، في شهر رمضان، قبل الساعة الثانية بعد الظهر أفلا تحب من «الأمة» أن تنتظمك على الأقل، في سلك الأمراء والوزراء وكبار الحكام، فتتفضل عليها بطلب طعام الإفطار ابتداء من الساعة الثانية مثلا؟
وهنا أقبل القطار فخالفته إليه، فراح يسبني ويشتمني بكل ما حشى أدب مثله فمه! وما سألني أولا، ولا سبني ثانيا إلا لأنه يقرر ذلك الحق علي، أو على الصحيح، يقرره على الجمهور.
ناپیژندل شوی مخ