297

3

وما يعجل بالطهي وما ينظر حتى يذبل إلخ، حتى ليخيل إليك أن بصيرة هذا الرجل تقتحم كل بيت، وتنفذ إلى كل مطبخ، وأن عينه تسلك كل قدر، وأنفه يجول في كل برمة!

وهو إذ يحدثك في هذا ترى شدقه دائم الاختلاج، وشفتيه لا تفتران عن التحلب، شأن من ألح عليه الجوع، وهو يرى أشهى الطعام بين يديه، ولكن لا سبيل له ألبتة إليه!

ولقد يجول الشيخ غندر في غير حديث الطعام، فيبدع في حديثه، ويلون في سمره، ويفتن في إيراد النكتة كلما دعت مناسبات الكلام، وبهذه الخلال فيه كان أثيرا عند كثرة الخاصة، محببا إلى نفوسهم، يشتهون مجالسته بقدر ما يشتهي هو مؤاكلتهم والاستواء إلى موائدهم، حتى إذا انتظمهم الخوان في عرس أو نحوه، لم يتبرموا بتدسسه - في سر من رب الدار - بينهم، بل ربما فسحوا له وكفوا سطوة رب الدار عنه، وأنت خبير بأن هؤلاء في العادة، إنما يجيبون دعوة الداعي لإرضائه، وإظهار الاحتفال لشأنه، لا ليصيبوا عنده دسما، ولا ليشبعوا من طعامه نهما، فلا بأس عليهم بأن يختار هذا الطفيلي الظريف الطعام دونهم، ويملكه كله عنهم، بل إن تقبيحه في طعامه، وشهودهم لافتراسه والتقامه، لمما يعجبهم ويدخل السرور عليهم!

وكيفما كان الأمر، فإن هذا الرجل ما يزال إنسانا وديعا أنيس المحضر، ظريف المجلس، حتى يحضر الطعام، فإذا حضر جن جنونه، وثار ثائره، وخيف بوادره، وتغير خلقه، وتنكرت صورته، وأمسى منظره مفزعا مرعبا، ولو قد رأيته وهو يفري الفري، ويلتهم اليابس والطري، لخلت أن كل شيء فيه قد استحال فما : فهو يأكل بفمه، ويأكل بعينه، ويأكل بأنفه، لا تراه يلوك لقمة أو يحرك للمضغ ضرسا، بل إنه ليكورها ثم يقذف بها في حلقه، فتكاد تسمع رنينها في قرارة بطنه، فإذا فرغ من شأنه - وما بيده أن يفرغ - لبث يتلمظ ساعة، ثم ارتد إنسانا وادعا ظريفا يلون السمر، ويفنن الحديث تفنينا. •••

وبعد، فسترى من هذا الرجل في أسباب تطفيله العجب العاجب: لقد كانت له ضيعة في ضواحي القاهرة لا تقل عن مائة وسبعين فدانا، وكانت له بنيات (منازل ودكاكين) في قلب المدينة يجبي ريعها، وقد أتلف هذه الثروة الضخمة، وأتى عليها تمزيقا وتبديدا، حتى خرج في مؤخرات أيامه عنها كلها، كما خرج بالموت عن الدنيا كلها!

لم يكن الشيخ غندر مقامرا ولا مضاربا، ولم يكن سكيرا ولا طلب نساء، ولم يدخل في «مقاولة» أو يجازف في تجارة، ولم يداخل طوال حياته سببا من الأسباب التي تأتي في العادة، على رءوس أموال الناس! إذن فاحزر، وما أراك بعد بقادر!

لقد أتلف الرجل ثروته كلها، وأتى عليها جميعها في سبيل التطفيل وحده لا في أي سبيل آخر!

أليس من أعجب العجب أن يتلف امرؤ جلائل الأموال في سبيل الإصابة من طعام الناس بالمجان؟ وأي شيء يكون التطفيل غير الارتصاد لإصابة جيد الطعام بالمجان؟

إذن فإليك السبب، وإذا عرف السبب، بطل - كما يقولون - العجب!

ناپیژندل شوی مخ