مشى كل من المقاتلين إلى قرنه، والشر تبدو نواجذه الحداد، حتى إذا كان كل منهما على متر من صاحبه وقف، وحلف لئن لاقاه ليصنعن به كيت وكيت! ثم استدار كل منهما وولى صاحبه قفاه ومضى لطيته! مغذا في التسيار، شأن الخائف أن يفوته القطار، أو كأنه على موعد من حبيب طال به الانتظار!
سلمت أمري لله، واستقبلت وجه الطريق في انتظار «الباس» ليبلغ بي مثابة عملي، فلم يرعني إلا أن أرى «الكبري» يتحرك ليفرج مجازا للسفن هابطة وصاعدة!
الله أكبر! إذن لقد كان مشروع هذا المعركة الهائلة مجرد «مناورة» لأسافر إلى مقر عملي عن طريق رأس الرجاء الصالح، لا عن طريق قناة السويس بعد أن استحكم اليأس، من المرور على «كبري» عباس!
التطفيل والطفيليون1
سيداتي، سادتي
بحسبنا ثلاث محاضرات متوالية، كلها في جد القول ومره، في زمت هذا الصيف ووقدة حره، فلنستروح هذه المرة بشيء من التفكيه، لنجعل الراحة لذلك الجد جماما، فنحن على هذا في الجد دائما، حتى إذا انحرفنا يوما إلى شيء من العبث أو ما يشبه العبث، فلنرفه به أنفسنا ونسلي عنها لنعود لشأننا ممدودي الأنفاس مشدوي المتون. وحديثنا الليلة مع هذا يجري في باب من أبواب الأدب العربي، ولا تعجبوا إذا كان من أحاديث الأدب القول في التطفيل والطفيليين! ولست أتجوز بهذا اللفظ فأطلب به المتطفلين في العلم أو في الأدب ونحو ذلك، إنما أقع باللفظة على الحقيقة، وهي تعرض المرء لطعام الناس من غير أن يدعى إليه، أما الداخل في شرابهم من غير دعوة كذلك، فيدعى الواغل، ومثلهما الدعي، وهو الداخل في نسب القوم وليس منهم.
والطفيليون نسبة إلى رجل يدعى «طفيل العرائس»، وقد زعموا أنه أولهم، فإليه كانت نسبتهم، ولكنني أحسب أن التطفيل قديم جدا قدم الشره في الإنسان وهوان نفسه عليه، وتطلعه إلى ما ليس له ولو كان طعاما، وتهافته عليه مشايعة لشهوة البطن، مهما ناله في ذلك من مكروه أدبي أو مادي، وربما كان عقد لواء الأولية في هذا الباب لهذا «طفيل العرائس» لأنه أول من احترفه، فلقد أصبح التطفيل حرفة مقررة مرسومة إلى وقت قريب، أو لأنه أول من شرع آدابه، واستفتح بلطف الحيلة أبوابه، وقعد قواعده وأصل أصوله، وفرع فروعه وفصل فصوله، ومن روائع حكمه، وجوامع كلمه، ما قال يوصي به صحبه: «إذا دخل أحدكم عرسا فلا يلتفت تلفت المريب ويتخير المجالس، وإن كان العرس كثير الزحام فليمض ولا ينظر في عيون الناس، ليظن أهل المرأة أنه من أهل الرجل، ويظن أهل الرجل أنه من أهل المرأة، فإن كان البواب غليظا وقاحا، فيبدأ به ويأمره وينهاه من غير أن يعنف عليه، ولكن بين النصيحة والإدلال.»
ولقد قلت لكم إن التطفيل قديم، ولكن أساليبه وطرائقه تتشكل وتتلون في كل عصر وفي كل إقليم، طوعا لما يجري من العرف والعادة وغير ذلك من الأسباب.
ولا أظن أننا في حاجة إلى القول بأن من أول ما يتصف به الطفيلي، هو الشره والطبع، وحدة الوجه ولؤم النفس، وهوانها على صاحبها وعلى الناس، فما يدفع إلى التطفيل إلا هذه الخلال، أما الصفات الأخرى التي يحتاج إليها الطفيلي والتي هي أهم وسائله، فمنها خفة الروح، فإن أعوزته فالتطرف بالقدر المستطاع، ومنها سعة الحيلة ولطف المدخل، ومنها حسن السمت ونظافة الثوب، ومنها حضور الذهن وتهيؤ البديهة، وقوة اللسن، وبراعة النكتة، فإذا اجتمع إلى هذا وهذا، إلمام بالأدب وبالسير، وإذا ضمت إليهما القدرة على ارتجال الشعر ما دعت مناسبات الطعام، فذلك والله الطفيلي التام.
سيداتي، سادتي
ناپیژندل شوی مخ