278

إنما أريد ذلك النوع الذي تلهمه دقة التفطن، وسرعة الخاطر، وحضور البديهة، والقدرة القادرة على لطف التصوير والتخيل، ولقد يكون للنكتة من هذا اللون مغزى بعيد قد تعيي إصابته على الرجل الحكيم، وقد يكون لها من قوة الأثر، ما لا يكون لمقالة الكاتب مهما أطال وأسهب، ولا لقصيدة الشاعر مهما أضفى وأسبغ.

سيداتي، سادتي

لعلكم عرفتم من هذا، أن البراعة في النكتة على هذا، تحتاج في المرء إلى خلال: منها الذكاء اللماح، وسرعة الخاطر، وقوة اللسن، وأعني بها هنا القدرة على دقة التصوير والتخييل باللسان، والعلم بأحوال الزمان والبيئة والأشخاص، وشيء من الجراءة، ولا أحب أن أقول: شيء من قلة الحياء، وأخيرا لا بد لها من خفة الروح، فلا خير في نكتة تجيء على لسان ثقيل.

والرجل الذي أوتي هذه المواهب يلحظ الانحراف مهما دق، في خلق المرء أو في خلقه، أو في بعض عمله أو حديثه، أو في أي شيء من الأشياء على جهة العموم، فسرعان ما يسوي له بخياله صورة مكبرة، مهما تبعد في شكلها عن الأصل، فهي متصلة به بسبب أو بأسباب، ولقد يخلق الحديث خلقا، ولكنه إنما يترجم به عن حال من يتندر عليه، ولقد تجيء النكتة في صورة جواب مسكت استنادا إلى حال واقعة، أو في شكل ملاحظة لطيفة، ولقد تجيء بالاشتقاق اللفظي، أو من تحريف اللفظ عن جهته، كما روي عن البابلي رحمه الله أنه سمع المغني يقول: «أهل السماح الملاح دول فين أراضيهم؟» فأجاب من فوره: «في البنك العقاري!» وقد تقع بالمقابلة والطباق، فقد اخترع رجل طريقة سهلة لترويق الماء، وكان البابلي يستثقل ظله، فقال: بقى يا إخواننا، الراجل ده يروق الميه ويعكر دمنا!

وعندي أن النكتة على العموم ضرب من التصوير «الكاريكاتوري» أو على الأصح، أن التصوير «الكاريكاتوري» ضرب من النكتة، لأن صاحب هذه يملك ما لا يملك المصور من الاسترسال في التصوير والتخييل، بالاشتقاق والتوليد، فلا يزال يقلب الصور ويلونها، ويخرجها واحدة بعد أخرى في أشكال وأوضاع مختلفة؟ حتى يأتي على جميع المعاني التي يحتملها المقام.

وهنا يجب أن يعرف أن النكتة قد تكون بارعة رائعة، حتى لتهز مجلس السمر هزا، بل لقد ترج البلد كله من الإعجاب والضحك رجا، ومع هذا إذا تناولها المتناول، بعد عام أو عامين أو أقل من ذلك أو أكثر، لم يجدها شيئا، ذلك بأن للظروف والأشخاص، والمناسبات والملابسات، أثرا قويا في براعة النكتة، فإذا حال شيء من ذلك وتغير، ضعف بقدره أثر الكلام، وإذا كان هذا مما يلحق الشعر الجيد، والنثر المصفى المتخير، فإنه في باب التطرف والتندر أظهر وأبين.

ولقد كانت البيئات الراقية، مصرية ومتمصرة، تحتفل للنكتة البارعة وتكلف بها، فإذا أعوزها من يتندر بين يدي المجلس، راحت تتناقل ما قال بالأمس فلان وما أعاد فلان.

وإياكم أن تظنوا أن من ذهب لهم في هذا الباب صيت وذكر، كانوا من جماعات المتبطلين أو الجهال، أو الذين يتعرضون بهذا لمعروف الناس - أستغفر الله - فلقد كان فيهم الأديب الكبير، والكاتب العظيم، والشاعر الفحل، والسري المليء، وفيهم من برعوا في أشرف المهن وأعودها بالكسب، وحسبكم أن تعرفوا أنه كان في الصدر من هؤلاء المرحومون: الدكتور بكير الحكيم، وحسن بك رضا المحامي، ورشاد بك القاضي فالمحامي، ومحمد بك رأفت الطبيب، والسيد محمد بك البابلي، وهو إمامهم غير مدافع ، والسيد محمد بك المويلحي، وحافظ بك إبراهيم، وساويرس بك ميخائيل المحامي، ونعمان باشا الأعصر، وخليل بك خير الدين، وكلاهما من الأعيان الموسرين.

على أنهم لم يتخذوا هذا ويصطنعوه، رغبة في إضحاك الناس، بل ليتضاحكوا هم به على الناس، والويل كل الويل لمن تزل به القدم بين أيدي هؤلاء، فإنهم يتطارحونه، مهما جل قدره، كما تتطارح الكرة بصوالج الجبارين من اللعباء، تولاهم الله برحمته ورضوانه، وشملهم بفضله وإحسانه.

إمام العبد

ناپیژندل شوی مخ