وفي هذه الأثناء توفي والده فساءت حاله، وترك المدرسة، وراح يعالج حرفة النجارة، على أن العيش لم يطب له فيها فلم يلبث فيها طويلا، بل انصرف عنها وألف من فوره فرقة تعاونه على إنشاد المولد النبوي الشريف.
ثم جعل يغني في بعض المجالس الخاصة، وتعلم ضرب العود على رجل يدعى الشيخ حنفي، ثم أقبل على الغناء للجمهور فيما أسميه على سبيل التجوز «قهوة»، يعاونه الشيخ حنفي هذا ضربا على العود.
ثم تحول بفرقته إلى «قهوة» لنيوناني قريبة من المحطة، ثم انتقل إلى مقهى صريح يقع على البحر بالقرب من «شادر» البطيخ، وكان ذلك في سنة 1916 ثم انتقل إلى مقهى آخر كان يقع على ميدان المنشية الكبرى، وهو في كل تلك الأثناء يزيد عناية بالفن وتجويدا له، كما يزيد إقبال الجمهور عليه وإعجابه به ... لقد دلت هذا الفتى موهبته الكامنة، وهداه حسه المرهف الدقيق، إلى أن هذه الضروب التي تتغاير على سمعه من الغناء، والتي تتهاتف بها الحناجر في محيطه، لا تسمن ولا تغني، أو بعبارة أخرى إنها دون مطالب الفن الرفيع بكثير، لقد سمع سيد كما يسمع سائر الناس ألوانا من الموسيقى الغربية والتركية وغيرهما مما تتقلب فيه الحلوق في الشرق القريب والبعيد، ولا بد أن نبرات في بعض هذا الذي كان يسمع قد لذت لسمعه، وأصابت مدخلا بديعا إلى أطواء حسه، وحركت دفين الطرب في قرارة نفسه، ولا يجد لها أشباها فيما يسمع من إخوانه المصريين، وللرجل كما تعلمون أذن موسيقية، وله حس مرهف، وفيه ذوق تام دقيق.
إذن لقد بان له، على الجملة، أن في الموسيقى المصرية - على الحال التي شهدها - قصورا، وأنها تتخاذل عن الكثير مما ينعم الذوق، وينفذ بالحس، ويترجم عن شتى العواطف التي تعتلج في الصدور.
وليت شعري: كيف له بأن يواتي طلبته، ويحذق هذا الفن كما ينبغي أن يحذق، ومصر أضيق من أن تتسع لهمه أو تدنيه من مطمحه.
ولقد سافر في سنة 11 إلى الشام وأقام دهرا في حلب، وهناك أخذ عن أقطاب الموسيقى ما أذكى موهبته، ووسع في أقطار فنه، وقيل: إنه مضى إلى الآستانة في هذه الرحلة، وهذا ما لا أقطع به.
ولقد عاد الشيخ سيد درويش إلى مصر بعد أن تزود لشأنه أكرم زاد، وادرع للميدان بأمتن العدة وأحسن العتاد، وكان من أوالي بدعه في جد تلاحينه «دور: ياللي قوامك يعجبني» وقد صاغه من نغمة «النكريز»، وأكبر الظن أنه لم يكن لموسيقار مصري عهد بهذه النغمة من قبل، وقد أجاد سيد في تلحين هذا «الدور» وخلب وراع، فوق أنه طبعه على غير غرار معروف في مصر، وصاغه على غير مثال قديم فيها أو جديد!
وظل رحمه الله من ذلكم العهد يبتكر ويبتدع ويجدد، ويسلك بالموسيقى المصرية شعوبا، ويستحدث فيها طروقا، حتى كان لا تغيب شمس أو تشرق شمس إلا أتى بجديد، وطلع على الأسماع بطريف، وكله من الطراز الفاخر الثمين.
الشيخ أحمد ندا1
عزيز علي، وعزيز على من شهدوا من أهل مصر هذا الجيل، ومن شهدوا فيها أواسط الجيل الماضي أو أعقابه، عزيز علينا جميعا أن يرسل علينا نعي المرحوم المغفور له الشيخ أحمد ندا، وأنت دائما إذا ذكرت الشيخ ندا في هؤلاء، تمثلوا فيه شيئا جليلا عظيما، تمثلوا فيه عنصرا كبيرا مما تتسق به الحياة في مصر، وما تنتظم به ثروتها الأدبية، كذلك كان أحمد ندا، وكذلك يتمثله القائمون من هؤلاء في الحياة ما داموا في هذه الحياة.
ناپیژندل شوی مخ