264

لا تنتظروا مني أن أحدثكم عن نشأة الرجل، وكيف درس فن النغم، وعمن أخذ، وكيف تهيأ له أن يجدد ويبتكر، وبماذا صارت له هذه العبقرية الفخمة، فذلك ما لا أعرف منه كثيرا، على أن الوقت المقسوم لي الليلة، أضيق من أن يسع لهذا القليل الذي أعرف، وكيفما كانت الحال، فالمواهب مغروزة في أصحابها، والعبقرية كامنة في نفوسهم، لا تحتاج في ظهورها وإيتائها آثارها الضخام إلا إلى قليل من التلقين والتوجيه والإرشاد، وما أحسبهم جاءوا سيدا بأقطاب أهل الفن من أعلى معاهد الموسيقى في العالم، حتى تمت له كل هذه البراعة، بل لقد أخذ الموسيقى عمن أخذ عنهم كثير غيره، فإذا كان هناك فرق بينه وبينهم، فإنه كان أقصر منهم مدة تعليم وتمرين، وقد تقدم وتأخروا، وبرع وجمدوا، ونبه وخملوا، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء، والله ذو الفضل العظيم!

إذن فلنقصر الكلام على أسلوب الرجل وصنعته، وما أحدث من الأحداث في الموسيقى المصرية في هذا العصر الحاضر.

كان سيد درويش، عليه رحمة الله، متمكنا من فن الموسيقى أيما تمكن، واثقا من نفسه أيما ثقة، وأكبر آيات هذه الثقة بالنفس أنه تقدم إلى هذا التجديد، وهو لما يزل مغمورا منكور المحل، والتجديد ابتداع ومطالعة للجماهير بغير المألوف، وقل أن يعمد المرء إلى هذا قبل أن يذهب له في فنه صيت وذكر يتكئ عليهما في جديده، ويصد بهما صولة التعصب للقديم.

وليس كل خطر الرجل في أن يكون متمكنا في فنه، عالما بأصوله وفروعه، وليس كل خطر الموسيقى بنوع خاص، في أن تهديه كفايته وعظم مقدرته إلى أن يطلع على الناس بجديد فحسب، مهما كان هذا الجديد جاريا على أحكام الفن موصولا بأسبابه، بل إن الكفاية كل الكفاية، والبراعة حق البراعة أن لا ينشز جديده على الآذان ولا تصطك به الأذواق، وكذلك كان جديد سيد درويش، كما كان جديد عبده الحامولي من قبله، كلاهما أضاف إلى الموسيقى المصرية جديدا، وكلاهما تصرف فيها تصرفا طريفا، فما نبا سمع، ولا تعثر طبع، بل لكأن ما جاءا به إنما كان دسيسا في الطبع، كامنا في قرارة النفس، حتى لتحسب أن كل ما لهما فيه من فضل، إنما هو في مجرد الغوص عليه واستخراجه من مطاوي الطباع، وتجليته على الأسماع!

نعم لقد اتسعت الموسيقى المصرية وأثرت، وأصابت صدرا محمودا من موسيقات الأمم الأخرى شرقية وغربية، ولقد تم هذا الانقلاب الخطير، وإن شئنا قلنا تمت هذه الثورة الكبيرة دون أن تراق قطرة دم واحدة، تم ذلك كله بفضل ذلكم الرجل العظيم الذي نحتفل بذكراه اليوم.

ذلكم بأنه عرف كيف يتبسط بموسيقى قومه، وكيف يسلس لها ما أصاب من موسيقى غيرهم، فأساغته في يسر، حتى أصبح موسوما بالطابع المصري، لا نشوز فيه على سمع المصري ولا التواء!

سيداتي، سادتي

وبعد، فإن فن هذا الرجل، فوق ما له من القدرة القادرة على الاقتباس والابتكار، يمتاز بخلال أربع: أولاها القوة، فلا حظ في تلاحينه للتفكك ولا للانخذال، وثانيتها البراعة في التصرف، فهو يتنقل بسامعه من فن إلى فن، ويتحول به من نغم إلى نغم، في اتساق وانسجام، كأنه يتنزه في روضة نسقت أغصانها يد بستاني صناع، وثالثهما شيوع الطرب في تلاحينه، فمهما استحدث جديدا يوجب الإعجاب، فإنه بالغ الغاية، ولو عن طريق الشجا من الإطراب.

أما رابعة هذه الخلال، والحديث الآن متجه بنوع خاص إلى سادتنا الملحنين والمغنين، فهي الذوق، والذوق البارع النافذ، فما إن لحن سيد درويش فكان المعنى شديدا إلا قوى لحنه، ودعم ركنه، وشد بالصنعة متنه، فسمعت له مثل قعقعة النبال، إذا استحر القتال، أو مثل زئير الآساد إذا تحفزت للصيال، وإذا جنح الكلام إلى اللين كان لحنه أرق من نسج الطيف، وألطف من النسمة في سحرة الصيف، وما كان القول في بر الحبيب بوعده، ووفائه بعد طول جفائه وصده، إلا طبع الكلام، في أمرح الأنغام، حتى ليكاد الغناء يتمثل لك عصفورا يثب في الروض بين أغصانه، ويستقل ما شاء من ذرى أفنانه، وقد ينع بين يديه الثمر، وضحك من حوله الزهر، وما كان الحديث في التوسل والاستعطاف، إلا أتى بما يلين أقسى الكبود، ويكاد يقطر الماء من الحجر الجلمود، ولا كان في وصف القطيعة وما فعلت تباريح الهوى، إلا وخز الحشا، وأشاع الأسى، وأذكى الشجون، فتبادرت الدموع من الجفون، وهكذا! ...

وبعد، فالفن كله ذوق، والعلم كله ذوق، والحياة كلها ذوق، فمن أخطأه الذوق فقد أخطأه كل خير! (وهنا أورد المحاضر بعض الأمثلة على ما يقع أحيانا من قلة الذوق سواء في التلحين أو في الأداء.)

ناپیژندل شوی مخ