وبعد، فقد طال المقال وما زال في النفس كلام عن أبي نواس كثير، وما دام الحديث عن مثل أبي نواس لا تستوفيه إلا الأسفار الضخام، فطول المقال وقصره لعمري في ذاك بمنزلة سواء، «والغمر فيه تستوي الأعماق»!
رجال ينبغي أن يذكروا1
ونقتصر اليوم على ذكر اثنين من هؤلاء الرجال، وهما المرحومان: الشيخ سلامة حجازي، ومحمد أفندي العقاد، ولسنا نعرض في هذا المقال للشيخ سلامة حجازي ممثلا، على معنى أن نبحث عن درجة كفايته من هذه الناحية، ولا أثره في التمثيل العربي، فلهذا مقام آخر، وإنما نعرض له باعتباره رجلا من رجال الموسيقى في هذا العصر الذي نعيش فيه.
وقبل أن نخوض في حديث الشيخ سلامة حجازي نذكر مع الأسف العظيم، أن تاريخ الموسيقى في مصر في العهد الذي انتهى بالحملة الفرنسية فولاية محمد علي مجهول تماما، فليس يدري أحد فيما نعلم، كيف كانت الموسيقى عند المصريين في ذلك الزمن، وكيف كانوا يؤدونها، والنغم التي كانت تتصرف فيها، ومن هم أشهر رجالها، فإن ذلك فيما نعلم، ما لم يستقصه أحد ولم يتتبعه!
ولعل السبب في ذلك يرجع إلى أن «النوتة» لم تكن في ذلك العصر معروفة للمصريين، فلم يتهيأ لهم أن يدونوا بها أغانيهم وترانيمهم ليتعرفها خلفهم، فذهبت كما ذهبت مع الأسف أغاني العرب وأصواتهم، وضاعت صنعة معبد وابن سريح ومخارق وابن عائشة وإبراهيم بن المهدي وإبراهيم الموصلي وابنه إسحق وغيرهم، ولم يعد يغني في معرفتها أن هذا الصوت لفلان من خفيف الرمل، وأن هذا كان لحنه من ثقيله، ولا نعرف كيف كان ما يجري في مجرى البنصر، ولا ما تتظاهر عليه السبابة والوسطى، إلخ. تلك المصطلحات التي تشيع في كتاب «الأغاني»، وكذلك انقطع علمنا تمام الانقطاع بأغاني العرب وتلاحينهم، وسنظل كذلك حتى يعثرنا الله «بحجر رشيد» آخر تحل به رموز الموسيقى العربية، كما حل شمبليون «بحجر رشيد» الأول رموز اللغة الهولغريفية!
نعم، لقد ظلت الموسيقى المصرية مجهولة تماما من العصر القديم إلى الحملة الفرنسية، فولاية محمد علي في جميع صورها وأشكالها وتلاحينها، برغم ما يحدثك به المقريزي وغيره من أن الخليفة الفاطمي كان يخرج في يوم وفاء النيل بالطبل الكبير، ويخرج في مهرجان كذا بالطبل الصغير، إلى أن كان الشيخ شهاب الدين صاحب كتاب «السفينة»، وقد فرغ من تأليفه من نحو تسعين سنة خلت، فجمع فيه طائفة جليلة مما كان يتغنى فيه عصره وقبيل عصره من الموشحات والموالي وغيرها، وكشف عن تلاحينها، وضبط أصواتها، ومذاهب النغم التي كانت تجري فيها، على أنه وإن لم يضبط شيئا منها «بالنوتة»، لأنه لم يكن يعرفها، إلا أن أكثرها معروف اليوم بالسماع والتلقي لقرب العهد، ولا زالت المصطلحات الفنية التي أوردها في سفينته معروفة عند كل من يجري من صنعة الغناء على عرق.
ومما لا ينبغي أن تفوت الإشارة إليه في هذا المقام أن بعض من هبطوا مصر حوالي ذلك العهد من علماء الإفرنج قد عنوا بضبط بعض ما سموه من الأغاني المصرية «بالنوتة»، ومنه الأذان.
ومهما يكن من شيء فإنه لا الشيخ شهاب الدين ولا هؤلاء الباحثون من الإفرنج دل أحد منهم على مبدأ تلك الأغاني، ولا كشف عن أول عهد مصر بتلك التلاحين التي هي أصل ما نتغنى فيه اليوم.
على أن مما لا يتقبل الشك أن الموسيقى التي انتهت إلى هذا العصر الذي نعيش فيه هي مزج من موسيقى أهل العراق والشام والترك، وإذا قلت الموسيقى العراقية أدخلت أثرا من الفارسية، وإذا قلت الموسيقى التركية، فقد ألممت بالرومية والفارسية أيضا، بل لقد تأثرت الموسيقى المصرية في هذه الأيام بالموسيقى الغربية، ولعل أكبر الفضل في اتساع موسيقانا باستعارتها كثيرا من تناغيم غيرنا في هذا العصر الحديث يرجع إلى رجلين: أولهما المرحوم عبده أفندي الحامولي، فقد أدخل عليها كثيرا من تلاحين أهل الشام وأهل حلب على الخصوص، كما أدخل عليها كثيرا من نغم الأتراك.
أما ثاني الرجلين فهو المرحوم الشيخ سيد درويش، فلقد خطا بالموسيقى المصرية خطوة موفقة نحو الموسيقى الغربية، وأقول خطوة موفقة لأنه كان حاذقا لبقا لم يصك جديده الأسماع، ولم ينشز طريفه على الطباع؛ على بعد ما بين أذواقنا وأذواق القوم، وشطح ما بين ما تستريح إليه آذاننا وما تستريح به آذانهم، وذلك على خلاف ما بيننا وبين أهل الشرق القريب من عراقيين وسوريين، ومن ترك ففرس، فإن الفرق بيننا وبينهم في هذا غير بعيد. •••
ناپیژندل شوی مخ