246

ثم هذه مراثيه للرشيد، والأمين، وأستاذه والبة بن الحباب وسواهم.

وهذه قصائده ومقطوعاته في العتاب، والزهد، والطرد، والغزل، والوصف، وغير أولئك مما تستهلك الإلمامة به أضعاف القدر المقسوم لهذا المقال، دع أحاديث الخمر والمجون الآن، فسينعطف عليها بعد الكلام.

وبعد، فقد انعقد عند جمهرة الناس هذا الحظ من الشاعرية لأبي نواس بما يجول في عامة شعره من كرائم المعاني، وما تنقطع دون بعضه علائق القريض من معنى مبتكر يجري في لفظ شريف، قد بهج

4

دبجه، وأحكمت صياغته وألحم نسجه، وكذلك مضى الحكم على شاعريته كما مضى على شاعرية لداته من متقدمي الشعراء في ذلك العصر.

وفي رأيي أن شاعرية أبي نواس لم تتجل في حيث يظن هؤلاء، بل لعله إذا كان قد دخل عليها نقص، أو تطرق إليها شيء من الوهن، فمن هذه الناحية أصابه ما أصاب!

لقد كان أبو نواس رجلا موهوبا حقا وعبقريا حقا، كذلك طبعه الله وعلى هذا طواه، حتى لو جاهد نفسه على ألا يكون شاعرا ما استطاع مهما ألح في الجهاد، وهيهات أن يكون لامرئ بتغيير خلق الله يدان!

أبو نواس شاعر كما هو إنسان، وإنك إذا طلبت الرجل المفتن الكامل، قد ملك الفن عليه كل مذاهبه، وطالعه من جميع أقطاره، وجرى في أعراقه مجرى دمه، واعتلج معتلج العواطف في نفسه، فأمسى وهو لا يكاد يشعر إلا به، ولا يتذوق الأشياء إلا من حيث يذيقه، إنك إذا طلبت هذا المفتن التام، فأرجو أن تجده في هذا الشاعر أبي نواس.

أبو نواس شاعر بأبلغ ما تدل عليه هذه الكلمة وأدقه وأجمعه وأكفاه، هو رجل مرهف الحس، نافذ الشعور، خصب الذهن، صافي النفس، جوهري الطبع، وإن شئت قلت: إنه يكاد يكون في أصل خلقه مجموعة معان لولا أن تجسد بعضها فاستحال لحما وعظاما لظل سابحا بكل خلقه في مسابح الأرواح!

هو رجل يشعرك مرسل شعره بأن نظره كان ينفذ إلى صميم الأشياء، بل لقد يشعرك بأن الأشياء كانت تلطف له وتشف ليتناول من صميمهما ما يشاء، وسرعان ما يتنفس بهذا الذي أدرك شعرا إذا كف عنه القلم أو حبس دونه اللسان!

ناپیژندل شوی مخ