فقد خرج لنا من هذا أن رشدي من يوم تدلى إلى الدنيا تدلى إليها بخلتين لا يد فيهما لتعليم ولا تدريب، إنما هما من صنعة الله الذي يقول للشيء: كن فيكون، وهما: العزم الجبار، والذكاء العجيب!
ذكاؤه وفطنته
لقد كان هذا الرجل إلى يوم قبض إلى رضوان الله متسعر الذهن، ملتهب الذكاء، ولعله كان أذكى من نبهوا من المصريين جميعا، وكان حاد الفطنة مرهف الحس، ولقد كنت تطرح عليه القضية تحتاج إلى تسريح النظر وإجالة الفكر، وترتيب مقدمات القياس بحيث تتمكن كل واحدة منها في موضعها المقسوم حتى يتهيأ تحلب النتيجة المنطقية، وكل هذا يحتاج إلى جهد، وكل هذا يحتاج إلى بسطة في الزمن ومطاولة في التفكير والتدبير، ولكن رشدي كان ينحط بك إلى النتيجة الصحيحة السليمة قبل أن تتم لفظك وتفرغ من قولك.
ولقد مضيت يوما أتفرج في «الجمعية التشريعية» وكان رشدي على ما أذكر وزيرا للحقانية، وطرح على الجمعية مشروع قانون وضعته الحكومة لردم البرك، وكان الكلام في جزاء من يتخلف من الأهلين عن ردم بركة تدخل في ملكه، وفي أن الحكومة في هذه الحال تردمها بالقوة عنه، وترجع بوجوه النفقات عليه؛ فانبعث المرحوم عبد اللطيف المكباتي بك وقال: فإذا كان للحكومة بركة فتعذرت على ردمها فحينئذ يحق للأهلين أيضا، فلم يدعه رشدي يتم تشريعه، بل لقد وثب من مجلسه وثبة عنيفة، وصاح ملء لهاته: هذه ثورة! ... فانتفض المجلس كله انتفاضة عنيفة واحتج على الوزير ، واقتضاه أن «يسحب» هذه الكلمة، كلمة: الثورة «فسحبها» وهو - ولا ريب - يعلم أن قوله الحق، وأن القوم لم يلحقوه، أو أدركوه، ولكن لم يريدوا أن يسجل على جمعيتهم أنها تطلب الثورة، «فسحبها!»، ولست أشك في أنه فعل مصانعة لسكينة القوم، وإلا فأية ثورة أشنع وأخبث من أن الحكومة إذا ونت في عمل من أعمالها نفذ الأهلون ذلك بالقوة عليها، ورجعوا عليها بما بذلوا في ذلك من النفقات؟!
الواقع أن رشدي باشا كان رجلا حديد الفطنة، فلم تكن فطنته بأية حاجة إلى أن تتسكع على مقدمات القياس فتجس كلا منها، حتى إذا استوثقت من سلامته أقرته في موضعه، ثم خلصت بعد كل هذا إلى النتيجة فاستخرجتها في هوادة ومطمئن أناة، بل لقد كان يمر بذهنه على هذا كله مر البرق الخاطف، فيقبض على النتيجة الصحيحة في أسرع من رد الطرف، إذ أنت تحسبه يذكو ذكاء القرود، لا يلمح في طريقه أو لا يعني في طريقه إلى النتيجة، بوجوه الأسباب والعلل، في حين قد لمحها جميعا وعني بها جميعا، وبلغ المدى بذلك الذهن «الإكسبريس» الذي لا يقف على صغار المحطات، على أنه حتما يجوز بها في سبيله جميعا!
ولعل حدة الذهن هذه، ولعل صولة العقل هذه في حسين رشدي قد حطت من شأنه عند كثير من أولئك الذين لم تهبهم الطبيعة ما وهبته، فكانوا أعجز عن أن يطيروا في الفهم مطاره، إذ هو بعد رجل عصبي جائش سريع لماع الذهن، تقاوله في الأمر فيقذفك بحجته على نحو ما يصل هو، ويدعك لذهنك المطمئن المعتاد، فلا يسعك، وأنت بعض معذور، إلا أن تظن بالرجل عبثا، هذا إذا لم تكن رزين الذهن فتحسب أن الرجل قد خرف واهتر!
4
عبقريته
لقد كان رشدي باشا عبقريا بقدر ما يمكن أن تأذن به هذه الكلمة، ولقد سلف عليك أنه كان في صدر أيامه شابا لعوبا يعطي شبابه مدى أشره، فلم يكن كل ما تهيأ لرشدي من العلم الفحل في القانون، بمختلف فنونه، ابن التعليم ولا طول المراجعة وحفظ القضايا المرسومة، إنما كان ابن الاستعداد، ابن العبقرية، وفي النهاية ابن تلك اللطيفة الروحانية التي يهبها الله المتخيرين من عباده، فندركها فيهم لا نملك لها تعليلا، ولا نستطيع لسببها تأويلا، كان رشدي في هذا البلد ملك القانون غير مدافع، سلم له بهذا سعد، وهو من تعرف شدة عقل، وكفاية لا يترامى إليها حد، وسلم له بها عدلي، وعدلي إذا ذكر أحضرك المثل الأعلى لسلامة الفهم والبصر بالأمور، والرأي النصيح تتقطع من دونه جهود التفكير، وسلم له بهذا ثروت، وإذا قلت ثروت قلت كل بليغ في الفضل وكل عظيم، وسلم له بها من يلي هؤلاء علما وبصيرة وجلالة محل وشدة خطر، إذ رشدي في الحق لم يقرأ أكثر مما قرأ غيره، ولم يتوفر أبلغ من سواه على الدرس والتحصيل، وما شاء الله كان!
ولقد أذكر أنه في إحدى جلسات لجنة الدستور، وكنت من سكرتيريها، اقترح أحد الأعضاء مبدأ دستوريا لا يحضرني موضوعه الآن، فصده رشدي في عنف، وقال: إن هذا مبدأ غير مستقيم، ولا يمكن أن يؤذن به في قواعد دستور، فقال ذلك العضو، وهو من الأذكياء المتفقهين: ولكنه قد أخذ به في دستور كذا، وسمى دولة لعلها من تلك الدولات التي انصدعت عن روسيا ووضعت دساتيرها بعد إذ ضرب الفالج رشدي وصرفه عن درس القوانين، فأكد رشدي أنه، وإن لم ير ذلك الدستور، يقرر أن ما زعمه العضو لا يمكن أن يكون! وتحاجا ساعة، ثم انتهيا إلى أن يأتي العضو من غده بنسخة ذلك الدستور، ولكنه في اليوم الثاني إنما جاء معتذرا بأنه بعد إذ راجع المادة أدرك أن العجلة زلت به أول الأمر عن تفهم الكلام، وهكذا كان مخ رشدي نيرا سليما مطبوعا على القانون وللقانون، صادق الحكم فيما قرأ وما لم يقرأ من أحكامه ومبادئه.
ناپیژندل شوی مخ