28 - وحدثني أحمد بن أيمن كاتب أحمد بن طولون، قال: ((دخلت بالبصرة إلى تاجر ذهب عني اسمه، فرأيت بين يديه ابنين له في نهاية من النظافة، فلما رآني أقبل بنظري إليهما، قال لي: ((أحب أن تعوذهما))، ففعلت، وقلت له: ((استجدت الأم فحسن نسلك!))، فقال: ((ما بالبصرة أقبح من أمهما، ولا أحب إلي منها. ولها معي خبر عجيب))، فسألته أن يحدثنيه، فقال: #48# ((كنت أنزل الأبلة وأنا متعيش، فحملت منها تجارة إلى البصرة فربحت، وحملت من البصرة إلى الأبلة فربحت ولم أزل أحمل من هذه إلى هذه فأربح ولا أخسر، حتى كثر مالي، وتعالم الناس إقبالي، وآثرت السكنى بالبصرة، وعلمت أنه لا يحسن بي المقام بها بغير زوجة، ولم يكن بها أجل قدرا من جد هذين الغلامين. وكانت له بنت قد عضلها، وتعرض لعداوة خطابها. فحدثتني نفسي بلقائه فيها، فجئته على خلوة، وقلت له: ((يا عم! أنا فلان بن فلان التاجر))، فقال: ((ما خفي عني محلك ومحل أبيك!)). فقلت: ((قد جئتك خاطبا لابنتك))، فقال: ((((والله ما بي عنك رغبة، ولقد خطبها إلي جماعة من وجوه البصرة وما أجبتهم، وإني لكاره من إخراجها عن حصني إلى من يقومها تقويم العبيد))، فقلت: ((قد رفعها الله عن هذا الموضع، وأنا أسألك أن تدخلني في عددك وتخلطني بشملك))، فقال: ((ولابد من هذا!))، قلت: ((لابد، وهو زائد في فضلك علي، واصطناعك إياي))، فقال: ((اغد علي برجالك)).
فانصرفت عنه إلى ملأ من التجار ذوي أخطار، فسألتهم الحضور معي في غد، فقالوا: ((إنك لتحركنا إلى سعي ضائع))، قلت: ((لابد من ركوبكم معي)). فركبوا على ثقة من أنه يردهم، وغدونا عليه فأحسن الإجابة وزوجني، وأطعم القوم، ونحر لهم، وانصرفوا.
ثم قال لي: ((إن شئت أن تبيت بأهلك فافعل، فليس لها ما يحتاج إلى التلوم عليه))، فقلت: ((هذا يا سيدي ما أحبه)). فلم يزل يحدثني بكل حسن حتى #49# كانت المغرب، فصلاها بي، ثم سبح وسبحت، ودعا ودعوت، إلى أن كانت العتمة فصلاها بي، وأخذ بيدي، فأدخلني إلى دار قد فرشت بأحسن فرشة، بها خدم وجوار في نهاية من النظافة، فما استقر بي الجلوس حتى نهض، وقال: ((أستودعك الله، وقدم الله لكما الخيرة، وأحرز التوفيق)). واكتنفنني عجائز من شمله، فجلون ابنته علي. فما تأملت طائلا.
وأرخت الستور علينا، فقالت: ((يا سيدي! إني سر من أسرار والدي، كتمه عن سائر الناس وأفضى به إليك، ورآك أملا لستره عليه، فلا تخفر ظنه فيه. ولو كان الذي يطلب من الزوجة حسن صورتها دون حسن تدبيرها وعفافها، لعظمت محنتي. وأرجو أن يكون معي منهما أكثر مما قصر بي في حسن الصورة)) ثم وثبت فجاءت بمال في كيس، فقالت: ((يا سيدي! قد أحل الله لك معي ثلاث حرائر وما آثرته من الإماء، وقد سوغتك تزوج الثلاث وابتياع الجواري من مال هذا الكيس، فقد أوقفته على شهواتك، ولست أطلب منك إلا ستري فقط)).
فقال لي أحمد: فحلف لي التاجر: ((إنها ملكت قلبي ملكا لم تصل إليه حسنة بحسنها، فقلت لها: جزاء ما قدمتيه ما تسمعيه مني: ((والله لا أصبت من غيرك أبدا، ولأجعلنك حظي من دنياي فيما يؤثره الرجل من المرأة!))، وكانت أشفق النساء، وأضبطهم، وأحسنهم تدبيرا فيما تتولاه بمنزلي، فتبينت وقوع الخيرة في ذلك ولحقتني السن، فصارت حاجتي إلى الصواب أكثر منها #50# إلى الجماع. وشكر الله لي ما تلقيت به جميل قولها، وحسن فعلها، فرزقني منها هذين الابنين الرائعين لك، ونحن منقطعون إلى جوده فينا، وإحسانه إلينا)).
مخ ۴۷