16 - وكان نجاح بن سلمة -مع ما يؤثر عنه من زعارة أخلاقه، وقبح تسلطه- يحب التبسط على طعامه، ويحسن المكافأة عليه. فحدثني يعقوب بن إسحاق بن تميم، قال:
أقام إسحاق والدي ببغداد خمسا وعشرين سنة في رفع حسابه، ينقض الكتاب جماعاته ويسلطون الإعنات عليه، قال لي يعقوب، فحدثني أبي: أن أغلظ الكتاب بأسرهم كان عليه، نجاح بن سلمة. قال: فلما أفرط علي سوء تحكمه، جلست في منزلي، فمر به اسمي، فقال: ((قد عزم إسحاق بن تميم على أن يتربص بنا كما كان يتربص بمن كان قبلنا؟)). ثم نظر إلى بعض المضمومين إليه فقال: ((بكر إلى إسحاق بن تميم فأحضره الدار إلى أن أنصرف)). قال: فباكرني فظ من الجند لم أملك نفسي معه حتى صار [بي] إلى دار نجاح، فوجدناه قد ركب.
فحصلني على الباب وجلس معي، وتعالى النهار واشتد جوعي، فقلت #30# له: ((امض معي إلى المنزل لنأكل جميعا ونرجع!)) فأبى فقلت لحاجب نجاح -ورأيته متمكنا من داره: -وأصلحك الله، إني قليل الصبر على الجوع، وأخاف أن يتأخر الأستاذ وأضعف عن حجتي في حضوره لغلبة الصفراء علي، وقد سألت هذا الرجل أن يطلق لي الذهاب إلى منزلي لآكل وأرجع فأبى))، قال: ((لم لا تأكل هاهنا؟)). وأجلسني في بشخانة فيها، واستحضر الطعام، فأحضرت مائدة نجاح بن سلمة، ولم يبق حلو ولا حامض ولا حار ولا بارد إلا نقل علينا. حتى إذا بلغت إلى الحلواء من الطعام، دخل الدار نجاح فجلس في المجالس، ورآني في دخوله، ومكاني من البشخانة، فبعث إلي غلاما له [يقول]: ((بحياتي استتم أكلك ولا تتجوز فيه)). فأقمت حتى فرغ الطعام، وجاؤوني بالغسل والبخور، ثم قمت. فلما رآني ضحك إلي وقال: ((من علمك على هذا؟))، قلت: ((التوفيق))، قال: ((أجل!))، ثم قال لي: ((ارفع حسابك كيف شئت واحشه، فقد أمنك الله من اعتراضك بشيء تكرهه)).
قال يعقوب: قال لي أبي: ((فغدوت إليه بحسابي، فوالله ما زاد على التوقيع في الجماعات بإمضائها وتخليدها. ثم قال: ((متى تعزم على بلدك؟))، فقلت: ((يا سيدي إنما أنتظر فيه إذنك، فكل شيء لي مفروغ منه))، فقال: ((اجعله بعد صلاة الجمعة))، قلت: ((أفعل)). ثم قال لي: ((تروح إلي لألقاك في حوائج لي؟))، فقدرت أن يحملني في الحوائج غرم الألف الدينار.
فلما رحت إليه. دخلت وهو خال، فقال لي: ((إنك ترجع إلى بلد قد يئس منك فيه أهله، فأدخل الجار من جيرانك الخشبة في حائطك، والجار في البستان قد تحيف حدودك، فهب لي ما بينك وبينهم)). قلت: ((أفعل)).
قال: ((وترى ببلدك جماعة قد ارتفعوا، أبناء خاملين، فلا تنهرهم بدقة أصولهم، وانصرف عما كان عليه سلفهم، فإنه يزرع لك المقت في قلوبهم)). قلت: ((أفعل)).
قال: ((وأصحاب البريد، فاحذر أن يرد في كتبهم ذكر لك بخير ولا شر)). قلت: ((أفعل)).
ثم أومى إلي يعانقني، قلت: ((يا سيدي! حوائجك؟)). قال: ((هي ما عددته عليك، إنك قد حللت مني بانبساطك محل القرابة الذي أسر بصوابه، ويغمني زلله، فإن حزبك أمر في بلدك فلا تعدل به عني، وأنا أستودعك الله)).
((فانصرفت عنه وأنا على غاية من الشكر)).
مخ ۲۹