8 - وكان بنحو دار العنقود شيخ يتنخس في الدواب -يعرف بابن الزنق- قد لحق بمصر أكابرها، ورأيته في أيام أحمد بن طولون قد علت سنه، وضعف عن التصرف. وكان له ابن أخت -خفيف الروح، مقبول الصورة، حلو الألفاظ، يتنخس في الدواب -فخف على قلب القاسم بن شعبة. وكان شعبة من أكابر أصحاب أحمد بن طولون، ومات في طاعته، فرد إلى القاسم ابنه إحدى الشرطتين بمصر. فانصرف ابن أخت ابن الزنق من عند القاسم وقد خلع عليه دراعة خز من تحتها جبة ملحم، فنظر إليها خاله ابن الزنق، فقال: ((ما هذه الخلعة الرائعة؟))، فقال: ((خلعها علي القائد!))، يريد القاسم بن شعبة. فقال: ((يا بني! إن كنت تصبر على التدلي معه في محنه، كما تتدلى في نعمه، وإلا فاعتزله، ولا تفضحنا بالقعود عنه في نوائبه))، فقال: ((أرجو أن يصونه الله وما أنعم عليه به، من نائبة تلحقه، أو مكروه يقع به))، فقال: ((وأنا أرجو هذا أيضا له، ولكن ينبغي أن لا تنسى نصيبه منك في الشدة، كما عني بك في النعمة)).
واتصل بأحمد بن طولون عن القاسم بن شعبة شيء أنكره، فحبسه ووكل بداره جماعة، واختفى النخاس في دار خاله. فسأله بعد يومين عن سبب ملازمته المنزل، فقال: ((وجدت علة))، إلى أن اتصل الخبر بالشيخ، فدخل إلى ابن أخته فقال: ((قبحك الله! سرقت معروف هذا القائد، وخليته يقارع شجوه بمحنته؟!)). وأسرج حمارا له وركبه، وجيرانه يناشدونه الله ألا يفعل، فقال: والله القتل أحسن مما أتى به هذا الوغد)).
ثم قصد دار القاسم بن شعبة -وعليها جماعة من الموكلين وأصحاب الأخبار، فوقف على الباب فقال: ((كيف حال القائد أبي محمد أيده الله؟))، فقالوا: ((امض يا شيخ))، فقال: ((ما أمضي حتى أبلي عذرا! هذا رجل قد لزمتني له عارفة، وهذا أوان قضائها)). فوقع خبره إلى أحمد بن طولون فأحضره، وقال: ((ما كنت تعمله للقاسم بن شعبة؟))، قال: ((أولاني في بعض أقاربي جميلا، فانتصبت الساعة لما يحتاج إليه؛ وما أحق الأمير أن يفضلني بحسن المكافأة عن طاعة والده ، فقد كان مشهورا بها!)).
فحدثني أبو العباس الطرسوسي. أن أحمد بن طولون قال له في هذا المجلس: ((ما أحسن ما اهتدى هذا الشيخ إلى إذكاري بحق قاسم وعطفني عليه!)). ثم أحضر القاسم بن شعبة وخلع عليه خلعة رضى، وصرفه إلى منزله، وعدل الشيخ ولم يدخل معه داره؛ وانصرف إلى بيته وقد قام بما قعد عنه ابن أخته.
مخ ۱۷