وقد فشا فيهم حتى اتخذوه صناعة، يوجد عند كبيرهم وعند صغيرهم، فأظهر الله على يدي موسى عليه السلام من العلامات والشواهد والمعجزات، ما دوخ به أمر جميع السحرة، وأعجزهم عن الإتيان بمثله، وأعلمهم أنه ليس من جنس ما يأتون به من السحر بوجه ولا سبب، من انقلاب العصا حية تسعى، وثعبانا مبينا حتى استرطت (¬1) جميع حبالهم، وابتلعت جميع عصيهم، فذهبت ولم يوجد لها أثر، مع ما جاء به من اليد، إذا هو أخرج يده صارت بيضاء صافية من غير برص ولا سوء، وما كان من رجوع مياههم دما، وما سلط عليهم من الجراد والقمل والضفادع، وفلق البحر حتى صار برا يابسا، ونقعا ساطعا، فشقه موسى ومن معه، فخرجوا منه سالمين، فأتبعهم فرعون بجنوده على أثرهم فظلوا فيه غارقين، في سائر تلك الآيات المشهورة على يدي موسى عليه السلام، فتبين للسحرة عند ذلك أن الذي جاء به موسى ليس من فعله، ولا من فعل أحد من البشر، لمعرفتهم بنهاية السحر ومبلغه، فاتضحت لهم الحجة، فآمنوا بموسى وبما جاء به، وكفروا بفرعون وما يدعو إليه، فإيمان السحرة حجة على فرعون ومن معه، وقطع لمعاذيرهم، ومعاذير جميع المبطلين المكذبين بالرسالة (¬2) ، وبعث الله عيسى عليه السلام، والغالب على أهل زمانه الطب والتداوي، وبه يفتخرون وفيه يتنافسون، فآتاهم عيسى عليه السلام من عند الله بإحياء موتاهم، ويبرئ لهم الأكمة والأبرص، ويخلق من الطين كهيئة الطير، فينفخ فيه فيكون طائرا بإذن الله، فأول ذلك: أنه لما أبرأ لهم الأكمة (¬3)
¬__________
(¬1) - سرط الشيء بلعه ، وبابه فهم، واسترطه ابتلعه، وفي المثل: لا تكن حلوا فتسترط، ولا مرا فتعفى، أي ترمى من الفم للمرارة.
(¬2) - قال تعالى على لسان السحرة: {قالوا آمنا برب العالمين رب موسى وهارون} (سورة الأعراف:121).
(¬3) - المعروف عند العرب من معنى "الكمه" العمى. يقال: منه كمهت عينه فهي تكمه، وأكمهتها أنا إذا أعميتها، كما قال سويد بن أبي كاهل:
كمهت عينيه حتى أبيضتا ... ... فهو يلحي نفسه لما نزع
ومنه قول رؤبة:
مخ ۵۴