لكان ينبغي أن يكون الله جل جلاله في أول ما جلس على العرش لم يكن متمكنا، فهو إذن يعجز عن حسن الجلسة، حتى يريد أن يتأتى له، ويمكن نفسه، وما يخلو المتوهم بهذا أو القائل به من أن يكون غبيا منقوصا، أو معاندا عابثا، تعالى الله عن جميع ما قالوا علوا كبير.
القول في المجيء:
فإن قالوا: ما معنى قوله: {وجاء ربك والملك صفا صفا} (¬1) ؟ قلنا لهم: وقد قال أيضا: {ولقد جئناهم بكتاب فصلناه على علم} (¬2) ، أتقولون: إنه جاء إليهم في الأرض وهو في السماء بزعمكم؟ وقال: {فأتى الله بنيانهم من القواعد} (¬3) أفتقولون: إنه ظهر لهم من تحت الأرض؟ وقال: {ذهب الله بنورهم} (¬4) أفتقولون ذهب به من الأرض إلى السماء، أو ما تقولون في أمثال هذا من أخبار الله تعالى عن نفسه بالإتيان والذهاب، وهو كثير؟ فإن قلتم: إنما جاءهم الكتاب من عند الله ولم يأتهم الله بنفسه، وقلتم : إن معنى قوله: {فأتى الله بنيانهم من القواعد} (¬5) أي: أبطل مكرهم بالنبي -صلى الله عليه وسلم- وكيدهم له، {ذهب الله بنورهم} (¬6) أي أذهب نورهم، قلنا لهم: قد صرتم إلى المجازات وتركتم قطع الشهادات، فكذلك قولنا في قوله: {وجاء ربك والملك صفا صفا} (¬7) أي جاء أمره وثوابه وعقابه (¬8) ،
¬__________
(¬1) سورة الفجر آية رقم 22.
(¬2) سورة الأعراف آية رقم 52.
(¬3) سورة النحل آية رقم 26.
(¬4) سورة البقرة آية رقم 17.
(¬5) سورة النحل آية رقم 26.
(¬6) سورة البقرة آية رقم 17، قد جاءت في المطبوعة محرفة؛ حيث قال: "وذهب" بزيادة (الواو).
(¬7) سورة الفجر آية رقم 23.
(¬8) ساق الفخر الرازي في هذا المعنى فصلا مشبعا في قوله تعالى: {يأتيهم الله}، وقوله: {وجاء ربك} أخبار عن حال القيامة، ثم ذكر هذه الواقعة بعينها في سورة النحل فقال: هل ينظرون إلا أن تأتيهم الملائكة أو يأتي أمر ربك..فصار هذا الحكم مفسرا لذلك المتشابه؛ لأن كل هذه الآيات لما وردت في واقعة واحدة لم يبعد حمل بعضها على بعض، وقال تعالى: {وقضى الأمر} ولا شك أن الألف واللام للمعهود السابق، فلا بد وأن يكون قد جرى ذكر أمر قبل ذلك حتى تكون الألف واللام إشارة إليه، وما ذاك إلا الذي أضمرناه من أن قوله: {يأتيهم الله} أي يأتيهم أمر الله.
مخ ۱۳۲