وقد انقسموا إلى فصيلتين، أقامت إحداهما في جنوب سورية في الخليل ونواحيها، ولم تكن لهذه الفصيلة ما كان من السطوة والسؤدد للفصيلة الثانية التي كانت مساكنها في شمالي سورية، ويظهر من هيئات صورهم في الآثار المصرية أن لون وجوههم كان أبيض ضاربا إلى الحمرة، ولا يطلقون لحاهم بل يحلقون شعور رءوسهم أيضا، ويتركون في أعلاها ناصية، ولباسهم قميص مستطيل وأحذيتهم معكفة أو معطفة إلى فوق كما كانت الأحذية في القرون الوسطى، وبقي شيء منها في بلادنا إلى عهد قريب، وكان أكابر رجالهم يتحلون بحلقة في أذنيهم، وكان أعظم مدنهم كركميش المسماة الآن إيرابولس وقادس على بحيرة حمص، وكانت بينهم وبين الروثانو أو اللودانو، وهم الآراميون أو اللوديون سكان بلاد دمشق مغالبات، فتغلب الحثيون عليهم أولا، ثم تغلب الآراميون على هذه البلاد بعد إذلال الآشوريين للحثيين في القرن الثامن قبل الميلاد. (2) في ما يؤخذ من الآثار المصرية من تاريخ الحثيين
تبين من الآثار المصرية أن توتمس الأول أحد فراعنة الدولة الثامنة عشرة أخضع سورية في القرن السابع عشر قبل الميلاد وبلغ إلى الفرات، وأقام عليه بقرب كركميش مدينة الحثيين نصبا يذكر الخلف بغزوته، وتوتمس الثالث غزا سورية مرات، وبعد غزوته لها في السنة 33 من ملكه نقش على جدران الكرنك ذكر تقادم الملوك، وجزيات الشعوب الذين غزاهم ودانوا لسلطته، فكان في جملتها جزية سكان بلاد الحاتاس (كذا تسمي الآثار الحثيين) الفسيحة كانت هذه السنة ثماني حلقات من فضة وزنها 301 ليبرا، وحجرا ثمينا كريما أبيض، ومركبات وأخشابا، وعاد توتمس ثانية إلى سورية، وكتب في تواريخه «من ملك بلاد الحاتاس الفسيحة أربعون ليبرا ذهبا وواحد وعشرون عبدا وأمة وثيران وبقر»، وقد غزا توتمس الرابع أيضا الحثيين، ووجدت صحيفة في هيكل آمون كتب عليها «غزوة توتمس الرابع لبلاد الحثيين».
وغزا رعمسيس الأول من ملوك الدولة التاسعة عشرة سورية في القرن السادس عشر قبل الميلاد، فدخل فلسطين فلم يصادف شديد مقاومة، لكنه لم يبلغ نهر العاصي إلا والتقته جيوش لم تكن له في الحسبان يقودها سابالت ملك الحثيين، وهو أول من يعرف من ملوكهم، وقد أضرب المصريون عن ذكر تفاصيل هذه الحرب؛ لأنها لم تكن مشرفة لهم، والظاهر من آثارهم أن رعمسيس ألجئ أن يعقد مع ملوك الحثيين معاهدة صلح تعهدت بموجبها كلتا الدولتين بالمهاجمة والدفاع لكل من يناوي إحداهما.
وقد غزا ساتي الأول ابن رعمسيس المذكور العرب، فشتت شملهم ثم حمل على سورية فقل من ناواه فيها إلى أن بلغ قلعة قادس مدينة الحثيين، فتسعرت نار الحرب وطال أجيجها، وتوافرت المواقع ففتح المصريون قادس ... ولم يكن فتحها ختام الدفاع، بل كان الحثيون ينازعون المصريين كل قدم من أرضهم حتى أعيوا ساتي، فاضطر أن يوقع على معاهدة صلح مع موتنار ملكهم ضمنت لهم سلامة أملاكهم حتى ردت عليهم قادس، ولم يلزم الحثيون أنفسهم إلا بالانعكاف عن الاعتداء على الأعمال المصرية، وهذا ظاهر من الصور والخطوط المنقوشة على هيكل آمون في الكرنك، فنجاح الحثيين بهذه الحرب زادهم جراءة وبسالة، فقطعوا على المصريين طريق الفرات الذي كانت عساكرهم تمر به، وأمست أملاك مصر بسورية مقصورة على فلسطين وفونيقي التي لم يكن لأهلها هم إلا بأرباح تجارتهم بمصر، واضطر ساتي أن يكتفي بالمحافظة على أملاكه، وبعدم التحرش لحرب الحثيين.
وبعد أن رقي رعمسيس الثاني ابن ساتي إلى منصة الملك في أواخر القرن السادس عشر حمل على سورية حملتين: بلغ في أولاها إلى بيروت، ونقش صورته على صخر بنهر الكلب، وكان الحثيون قد رعوا معاهدة الصلح مع أبيه ما دام حيا، وأخذوا بعد موته يتأهبون لثورة هائلة، وكانت أملاكهم منبسطة من قادس إلى أطراف آسيا الصغرى، ومن لبنان إلى الفرات، وأنبأتنا آثار رعمسيس أنه تألب معهم لمناوأته سكان حلب وكركميش والآراميون سكان سورية المجوفة والأرواديون، وأما أهل صيدا وجبيل، فكانوا يمالئون رعمسيس وكان عدد مركباتهم لا يقل عن ألفين وخمس مائة مركبة، فزحف إليهم للسنة الخامسة لملكه بعسكر جرار، وبلغ إلى شبطون في حصن الأكراد، وكان موتنار ملك الحثيين يؤثر الحيلة على استعمال القوة، فأرسل إلى رعمسيس أعرابيين متنكرين قالا له: إن رؤساء العشائر المتحدة مع ملك الحثيين الخسيس الذي انزوى الآن بحلب خيفة من بطش الملك، فاغتر رعمسيس وقام إلى قادس بعدد قليل من جنده، ولم يعلم بالمكيدة إلا عند وصوله إليها، وبينما هو على عدوة العاصي يفكر بما يتوسل به لنجاته، إذ وثب ملك الحثيين بغتة على قلب جيشه، فشتته وشطر جنود رعمسيس شطرين، ولم تنج رعمسيس إلا شدة شجاعته، وقد كتب في آثاره أنه اخترق صفوف العدو ثماني مرات إلى أن أقدرته العناية على جمع شمل جيشه، وإصلاء نار الحرب على أعدائه النهار بطوله ... إن بنتأور الشاعر المصري نظم تاريخ هذه الموقعة، ونقش شعره على جدار هيكل الكرنك، وكتبت أخبارها على بابير محفوظ الآن في المتحف البريطاني.
واستؤنف القتال في اليوم التالي، ودارت فيه الدوائر على الحثيين، فقتل منهم خلق كثير وغرق بعضهم وفي جملتهم ملك حلب، فإنه يرى في هذه الموقعة معلقا برجليه، ويندفق من فيه الماء الذي كان يظن أنه ابتلعه، فأرسل ملك الحثيين يلتمس الأمن والصلح متذللا على ما في الآثار المصرية، فأجابه رعمسيس إليه وعاد ظافرا إلى مصر.
على أن ذلك الصلح لم يكن إلا هدنة، فإن ملك الحثيين هيج الكنعانيين على رعمسيس، فحاربتهم عساكره عند بحيرة الحولة وفي جبل طابور، وفي السنة الحادية عشرة لملكه تقوى السوريون على المصريين، حتى خيل أنهم حصروهم بمصر ثم تقوى رعمسيس فاسترد عسقلان وأورشليم والكرمل، ثم اتصل إلى طرد عساكر المتحدين من فلسطين وفونيقي، وبلغ إلى قادس ... ودامت هذه الحرب نحو خمس عشرة سنة، ولم تخمد إلا بعد أن قتل موتنار ملك الحثيين في إحدى مواقع الحرب، وتمثل هذه الحروب صور منقوشة في تاب، وبعد موت ملك الحثيين خلفه أخوه المسمى كيتامار، وكانت الدولتان المتحاربتان كلتا من القتال، فعقدتا عهدة صلح نقش نصها على ظاهر جدار الكرنك، ولخصناه في تاريخ سورية، ومؤداها امتناع كل من الدولتين عن السطو على بلاد الأخرى، وإلزام كل منهما بنجدة الأخرى لدى الاقتضاء، ويظهر منها أن كل ما كان من جبيل نحو الغرب والجنوب كان يخص المصريين، وكل ما كان منها نحو الشمال والشرق خص الحثيين؛ ولكي يوطد رعمسيس وثاق الصلح بينه وبين الحثيين تزوج بابنة كيتامار ملك الحثيين، فدعاه لزيارته بمصر فسار إليها وأقام رعمسيس في تاب نصبا نقش عليه صورته وصورة حميه وامرأته.
ودام السلم بين الحثيين والمصريين أعواما، ولا نجد في أثر مصري ما يدل على حرب بين الدولتين إلا ما كتبه رعمسيس الثالث أحد فراعنة الدولة العشرين على هيكل النصر في أن شعوبا من آسيا الصغرى، وجزر اليونان تألبوا عليه، وأذلوا شعوب الحثيين، فاضطروهم أن يصحبوهم لقتال المصريين، ولما انكسر هؤلاء انكسر معهم ملك الحثيين ... وقد نقشت أسماء من أذلهم رعمسيس الثالث على جدار مدينة أبو، فكان من جملتهم «ملك الحثيين المنكود الحظ الذي أسر حيا». (3) في ما يؤخذ من تاريخ الحثيين عن آثار الآشوريين
تجلت فلاصر أن هذا الملك كان نحو سنة 1130 قبل الميلاد، وحارب الحثيين وخلد أخبار حربه لهم وانتصاره عليهم في ما كتبه على نصب أقامه، وهو ذا ملخص ما كتبه «أنا تجلت فلاصر المحارب الشريف، ذللت بلاد سوبير الفسيحة، وقد استحوذ أربعة آلاف رجل من فصائل الحثيين العصاة على مدينة سوبرتا فروعتهم مخافة سلاحي، فأذعنوا وذلت رقابهم لنيري فغنمت أموالهم، وأخذت مائة وعشرين من مركباتهم ووهبتها لرجال بلادي، وجيشت جنودي المظفرة، وزحفت إلى بلاد آرام وسرت حتى مدينة كركميش في بلاد الحثيين، فعبرت الفرات وصنعت بهم ملحمة كبرى، وغنمت من عبيدهم وأموالهم ما لا يدركه عد، وافتتحت بعض مدنهم ونهبتها وحرقتها»، (يظهر من كلامه أنه لم يفتح كركميش)، وقال: إنه سار في بلاد الحثيين حتى بلغ جبل أمانوس (اللكام)، فنكل بأهله ونهب أموالهم فدانوا له صاغرين، وعاد لكنه لم يبلغ نينوى إلا واحتشد عشرون ألف مقاتل من أهل هذا الجبل الحثيين مؤثرين الموت على الذل، فعادت إليهم جيوشه فبسلتهم وشتت شملهم، ودكت مدينتهم هاتوسا إلا بيتا صغيرا ترك ذكرا.
آشورنسير بال تولى الملك من سنة 883 إلى سنة 858 قبل الميلاد، وقد اكتشف لايرد على تمثاله في أسوار حصن نمرود، وهو الآن في المتحف البريطاني مكتوبا على صدره «آشورنسير بال الملك العظيم الملك القدير ملك البلاد من ضفة دجلة إلى بلاد لبنانا (لبنان)، وأخضع لسطوته البحار الكبيرة، وكل البلاد من مشرق الشمس إلى مغربها»، وقد حمل على سورية ونقش تاريح حملته على صخر، وهذا مآله «غادرت كالح وعبرت دجلة قاصدا مدينة كركميش في بلاد الحثيين، واجتزت الفرات على قطع من أديم، واقتربت من كركميش ... وفرضت على سنغار ملك بلاد الحثيين عشرين وزنة من فضة وحلي كثيرة من الذهب، ومائة وزنة من النحاس، ومائتين وخمسين وزنة من الحديد والقصدير، وآلات من حديد ونحاس، وغنائم بلاطه وأثاثه شيئا كثيرا لا مثيل لظرافته، وأثاثا من أبنوس وأعراشا من خشب السنديان، ومائتي امرأة رقيقة وأنسجة من صوف وبرفير، ومركبات مرصعة بالعاج وتماثيل من ذهب»، وتسمية سنغار ملك الحثيين لا ملك كركميش مؤذنة بانبساط ملكه بسورية كلها، أو بالسواد الأعظم منها، ويدل على ذلك أيضا استسلام باقي الملوك إلى الغازي في كركميش، فإنه كتب «إن ملوك هذه الأعمال ذلت أعناقهم لنير سلطتي بعد أن تهيئوا لمناوأتي، فأخذت رهائن منهم وتركت كركميش وسرت قاصدا لبنان ... فجسر أمير كان يلي السهول المجاورة نهر عفرين، وأصحاب بعض المدن الشهيرة منها إعزاز أن يعترضوا مروري، ولما دنوت منهم ذلوا وقدموا إلي أثمن ما كانوا يملكون، فدوخت أمانوس (اللكام)، وسرت بجيشي على جانبي العاصي أياما إلى أن بلغت لبنان، وملكت سفحيه أي: من جهة البحر وجهة بعلبك والبقاع، وقد عدت لملوك الذين أخذ الجزية منهم، فكان منهم ملوك صور وصيدا وجبيل وأرواد»، ولم يذكر قادس فكأنها كانت قد خربت أو تقهقرت وقال: إنه أكب على الصيد بلبنان أياما فذكر ما اصطاده من الطير والوحش.
ناپیژندل شوی مخ