في تاريخ سورية الدنيوي في القرن الحادي عشر
(1) في الخلفاء الفاطميين الذين تولوا سورية بهذا القرن وما كان في أيامهم
وقد تغلب على سورية من أواسط القرن العاشر الخلفاء الفاطميون، وانحسرت ولاية الخلفاء العباسيين واقتصرت على الخلافة الدينية، فبعد وفاة العزيز بالله المار ذكره خلفه ابنه المنصور الملقب الحاكم بأمر الله سنة 997، وكان عمره إحدى عشرة سنة فقام بتدبير الملك أرجوان خادم أبيه، ولما شب الحاكم قتل أرجوان المذكور واستبد بملكه، وفي سنة 1003 استعمل على دمشق أبا محمد الأسود.
وفي سنة 1012 ملك صالح بن مرداس حلب، وذلك أن ولاية حلب كانت مدة لبني حمدان وكان منهم سيف الدولة ممدوح المتنبي، ثم ابنه سعد الدولة المكنى أبا المعالي المار ذكرهما، وخلف أبا المعالي ابنه المكنى أبا الفضائل، وقام بتدبير ملكه لؤلؤ أحد موالي أبيه، ثم أخذ نصر بن لؤلؤ حلب من مولاه أبي الفضائل وخطب فيها للحاكم بأمر الله، وكانت وحشة بين نصر المذكور وصالح بن مرداس الكلابي أدت بينهما إلى حرب، فسلم الحاكم بأمر الله حلب إلى نواب من قبله، وبقيت على ذلك إلى بعد مقتله حين ولي على حلب ابن تعبان، فقصده صالح بن مرداس المذكور، فولاه الحلبيون مدينتهم لاستيائهم من المصريين وملك معها من بعلبك إلى عانة، فكان أصلا لدولة بني مرداس بحلب؛ ولكي لا نبسط الكلام فيهم في تاريخ السنين جمعناه هنا كلفا بزيادة الوضوح، كما فعل أبو الفداء في تاريخه الذي نلخص كلامه:
إن صالح بن مرداس ولي حلب سنين متطاولة، وفي سنة 1030 جهز الضاهر الفاطمي جيشا لقتال ابن مرداس وحسان أمير بني طي والي الرملة، فاتفق صالح وحسان على قتال الجيش المصري، وكان بين الفريقين قتال هلك به صالح وابنه الأصغر، ونجا ولده نصر فسار إلى حلب وملك فيها مكان أبيه، ولقب شبل الدولة، وفي سنة 1039 جهز المستنصر بالله الفاطمي العساكر لقتال شبل الدولة، فالتقوا عند حماة، فقتل شبل الدولة، وملك الدزبري قائد هذا الجيش حلب والشام، وعظم أمره وتوفي سنة 1044.
وكان لصالح بن مرداس ولد يكنى أبا علوان، ويلقب معز الدولة، فبعد وفاة الدزبري ملك حلب، وبقي على ملكها إلى سنة 1049، وأرسل إليه المصريون جيشهم فهزمهم مرات، ثم نزل لهم عن حلب فأرسلوا إليها رجلا يقال له: الحسن بن ملهم ولقبوه مكين الدولة، وسار معز الدولة إلى مصر وكان لشبل الدولة الذي قتله الدزبري ابن اسمه محمود اتفق معه أهل حلب، وحصروا ابن ملهم سنة 1061، فأرسل المصريون عسكرا لنجدة ابن ملهم ففر محمود من حلب، وقبض ابن ملهم على جماعة من الحلبيين وأخذ أموالهم، وسار العسكر في أثر محمود فعاد عليهم وهزمهم، وحاصر حلب فملك المدينة والقلعة واستقر محمود مالكا فيها، فجهز المصريون عسكرا أمروا عليه معز الدولة لقتال ابن أخيه محمود، فهزمه وعاد معز الدولة إلى ملك حلب سنة 1062.
ثم توفي معز الدولة سنة 1063 وأوصى بملك حلب لأخيه عطية، فتسلمه فجمع محمود عسكرا وهزم عطية من حلب واستمر محمود مالكا في حلب إلى أن مات سنة 1076، وخلفه ابنه نصر فقتله التركمان سنة 1077، وملك بعده أخوه سابق بن محمود واستمر مالكا إلى سنة 1080، حين أخذ حلب منه شرف الدولة مسلم بن قريش صاحب الموصل (عن أبي الفداء جزء 2 صفحة 147).
ولنعد إلى الكلام في الحاكم بأمر الله، فنقول: كانت سيرته في أموره وأحكامه من أعجب السير وأغربها، وأعماله متناقضة يأمر بشيء ثم ينهى عنه يجود على رجل بمال ثم يقطع رأسه، يولي حاكما ثم يقتله، وهدم كنيسة القيامة بأورشليم، ثم أعاد بناءها وأمر المسيحيين أن يلبسوا السواد شعار العباسيين احتقارا لهم، قال القرماني قال ابن الجزري: «ادعى الحاكم بالربوبية، وكان قوم إذا رأوه قالوا: «يا واحد يا أحد يا محيي يا مميت».» وصنف له بعض الباطنية كتابا ذكر فيه أن روح آدم انتقلت إلى الحاكم، وقرئ هذا الكتاب بجامع القاهرة، فقصد الناس قتل مصنفه، فسيره الحاكم إلى جبال الشام، فنزل بوادي التيم وناحية بانياس فاستمال قلوب الناس وأباح لهم الخمر ... وأقام عندهم يدعوهم فأضل منهم خلقا كثيرا، وفي وادي التيم ونواحي الشوف إلى يومنا هذا قوم يدعون الدروز، يعتقدون خروج الحاكم ولهم كتب يتدارسونها في ما بينهم ويعتقدون أن لا بد أن يعود الحاكم ويمهد الأرض، وقال الجعفري: «قدم إلى مصر رجل يقال له: محمد بن إسماعيل الدرزي من دعاة الطائفة الباطنية، ودخل في خدمة الحاكم ووافقه على دعواه بالربوبية، وكتب كتابا يقول فيه: إن نفس آدم جازت إلى علي ومنه إلى أسلاف الحاكم حتى انتهت إلى الحاكم، وهو خالق الكون، وقرئ كتابه في أحد الجوامع، فهجم الناس عليه؛ ليقتلوه ففر منهم فأرسله الحاكم إلى بر الشام فنزل بوادي التيم، ونادى بإلهية الحاكم وانقاد الأمراء التنوخيون لدعوة الدرزي.» وكان عند الحاكم رجل آخر اسمه حمزة وهو عجمي ادعى إثبات إلهية الحاكم، ويقال: إن الدروز يكرمون حمزة ويلعنون الدرزي، وأصبحت كتب الدروز كثيرة بين أيدي الناس لكنها غامضة، ورمزية لا يمكن القطع بالمعنى المقصود بها.
وفي سنة 1021 خرج الحاكم يطوف ليلا على عادته، فقتل وكان قد أحرق بعض مصر، ونهب بعضها ونكل بأهلها، وأوحش أخته المسماة سيدة الملك وتهددها بالقتل، فكادت عليه وقتلته بواسطة ابن دواس أحد قادته وأقامت مكانه ابنه عليا، وقتلت ابن دواس قاتل أخيها.
إن عليا ابن الحاكم الذي بويع بالخلافة بعد مقتل أبيه سمي الظاهر لإعزاز دين الله، ودبرت عمته سيدة الملك شئون المملكة لصغره أربع سنين، ثم توفيت، ومما كان في أيامه بسورية أن رومانس الثالث ملك الروم جهز أسطولا سنة 1028، وسيره إلى أنطاكية التي كانت حينئذ بيد الروم؛ ليسطو على شواطئ سورية فأتلف المسلمون كثيرين من عساكر الأسطول، ومن حامية مدن سورية التي كان نيقوفر ويوحنا سمسق قد أخذاها من يدهم، فسار رومانس بنفسه لقتال المسلمين، فأراعت حملته الأمراء ولاة سورية، وأرسل أمير حلب من بني مرداس إليه وفدا طالبا الصفح عما مضى، وواعدا أن يبقي الجزية السنوية المضروبة على إمارته، فأبى الملك قبول ما وعده أمير حلب، وتوغل بسورية إلى مسيرة يومين فالتقته جيوش من العرب كانت مشتتة بالسهول، وأحاطوا بجيشه وقتلوا منه كثيرين وهزموا الباقين، فارتاع الملك وعظمت شجاعة المسلمين، وكادوا يأسرون الملك فسار بمن بقي من جيشه إلى أنطاكية، وعاد منها كئيبا خجلا إلى القسطنطينية، وأبقى بعض عساكره بأنطاكية فكان لقادته بعض النصر، واستردوا بعض المدن التي كانت قد أخذت منهم وفي جملتها أفامية المسماة أباميا في جهة حماة، وتعرف الآن بقلعة المضيق وتوفي الظاهر لإعزاز دين الله سنة 1037.
ناپیژندل شوی مخ