بسم الله الرّحمن الرّحيم
مقدمة التحقيق
الحمد لله حمدا طيبا مباركا، متصلا ما دامت الأرض والسماء. الحمد لله الذى أمد لعباده فى عفوه ولم يأخذهم بما اقترفته أيديهم، إنه-سبحانه-الغفور الرحيم، تعالى عما يصفون. . وسلام على المرسلين. .
وبعد:
لقد فتح الله لأمة نبيه الخاتم ﷺ من أبواب رحمته ما لم يفتح قبله مثله، منذ أن اصطفاهم بخيرة الأنبياء والمرسلين، النبى الأمى محمد بن عبد الله صلوات الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم، وحتى أدخلهم الجنان بمنّه وفضله، وأنعم عليهم النعمة كلها وفضلهم على كثيرا ممن خلق تفضيلا، فالحمد له-تعالى-كما ينبغى لجلال وجهه وعظيم سلطانه.
ومن أبواب الرحمة التى فتحها الله على الأمة الإسلامية-وهى أكثر من أن تحصى أو تعد -أن جعل فيهم القرآن هاديا مرشدا، فيه خبر الأولين ونبأ الآخرين، وحفظه من كل سوء وعبث: ﴿إِنّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنّا لَهُ لَحافِظُونَ﴾ وتلك مزية لم تكن لغيره من الكتب قبله.
وزاد الله فى فضله-وهو سبحانه أهل الفضل-فيسر عليهم فيه، التيسير كله، فأباح لهم قراءته، كل على قدر طاقته تخفيفا عليهم، ورحمة منه، فقرأه الناس على حروفهم ولم يلتزموا حرفا واحدا، وإن التزموا فى العمل وامتثلوا هدى نبيهم ﷺ، فجاءت أفعالهم واحدة، وإن شاب قراءتهم بعض الاختلاف.
فالحمد لله لا نحصى ثناء عليه، هو كما أثنى على نفسه.
وقد اهتم المسلمون بذلك الباب من أبواب رحمة ربهم-نعنى علم القراءات-أيّما اهتمام، وأفردوا له من المجلدات والأسفار الكثير؛ دلالة منهم على شكر النعمة التى أنعم عليهم ربهم ﷿.
1 / 3
فقد صنف فى علوم القرآن وفنونه جماعة من العلماء، منهم قاضى القضاة جلال الدين، أخو شيخ مشايخ الإسلام علم الدين البلقينى سماه «مواقع العلوم من مواقع النجوم» قال فى خطبته: «وأنواع القرآن شاملة وعلومه كاملة فأردت أن أذكر فى هذا التصنيف ما وصل إلى علمى مما حواه القرآن الشريف من أنواع علمه المنيف، وينحصر فى أمور:
الأمر الأول: مواطن النزول وأوقاته ووقائعه وفى ذلك اثنا عشر نوعا:
المكى والمدنى، السفرى والحضرى، الليلى والنهارى، الصيفى والشتائى، القراشى، أسباب النزول، أول ما نزل، آخر ما نزل.
الأمر الثانى: السند، وهو ستة أنواع:
المتواتر، الآحاد، الشاذ، قراءات النبى ﷺ، الرواة، الحفاظ.
الأمر الثالث: الأداء، وهو ستة أنواع:
الوقف، الابتداء، الإمالة، المد، تخفيف الهمزة، الإدغام.
الأمر الرابع: الألفاظ، وهو سبعة أنواع:
الغريب، المعرب، المجاز، المشترك، المترادف، الاستعارة، التشبيه.
الأمر الخامس: المعانى المتعلقة بالأحكام، وهو أربعة عشر نوعا:
العام الباقى على عمومه، العام المخصوص، العام الذى أريد به الخصوص، ما خص فيه الكتاب السنة، ما خصت فيه السنة الكتاب، المجمل المبين، المؤول، المفهوم، المطلق، المقيد، الناسخ، المنسوخ، نوع من الناسخ والمنسوخ، وهو ما عمل به من الأحكام مدة معينة والعامل به واحد من المكلفين.
الأمر السادس: المعانى المتعلقة بالألفاظ، وهو خمسة أنواع:
الفصل، الوصل، الإيجاز، الإطناب، القصر.
قال: ومن الأنواع ما لا يدخل تحت الحصر: الأسماء، الكنى، الألقاب، المبهمات.
وتعقبه السيوطى فقال: تكلم فى كل نوع بكلام مختصر يحتاج إلى تحرير وتتمات وزوائد مهمات فصنفت فى ذلك كتابا سميته «التحبير فى علوم التفسير» ضمنته ما ذكره البلقينى من الأنواع مع زيادة مثلها وأضفت إليه فوائد سمحت القريحة بنقلها.
ومنهم الشيخ الإمام بدر الدين محمد بن عبد الله الزركشى الذى ألف كتابا فى ذلك حافلا يسمى «البرهان فى علوم القرآن» قال فى خطبته: «لما كانت علوم القرآن لا تحصى، ومعانيه لا تستقصى، وجبت العناية بالقدر الممكن، ومما فات المتقدمين وضع كتاب يشمل على أنواع علومه كما وضع الناس ذلك بالنسبة إلى علم الحديث، فاستخرت الله تعالى، وله الحمد فى وضع كتاب فى ذلك جامع لما تكلم الناس فى فنونه، وخاضوا فى نكته وعيوبه،
1 / 4
وضمنته من المعانى الأنيقة، والحكم الرشيقة، ما بهر القلوب عجبا ليكون مفتاحا لأبوابه، عنوانا على كتابه، معينا للمفسر على حقائقه، مطلعا على بعض أسراره ودقائقه، وسميته «البرهان فى علوم القرآن».
ومنهم الحافظ السيوطى صاحب كتاب الإتقان فى علوم القرآن، الذى قال فى خطبته:
«لما وقفت على هذا الكتاب-أى كتاب البرهان-ازدت به سرورا، وحمدت الله كثيرا وقوى العزم على إبراز ما أضمرته وشددت الحزم فى إنشاء التصنيف الذى قصدته فوضعت هذا الكتاب العلى الشأن، الجلى البرهان، الكثير الفوائد والإتقان، ورتبت أنواعه ترتيبا أنسب من ترتيب البرهان، وأدمجت بعض الأنواع فى بعض وفصلت ما حقه أن يبان، وزدته على ما فيه من الفوائد والقواعد والشوارد ما يشنف الآذان، وسميته ب «الإتقان فى علوم القرآن».
الإتقان ٥/ ١،٧.
واعلم أنه ما من نوع من هذه الأنواع إلا ولو أراد الإنسان استقصاءه لاستفرغ عمره ثم لم يحكم أمره.
وفى هذا الكتاب الذى نقدمه اليوم للقارئ المسلم سنقف عند أحد فروع علوم القرآن، ألا وهو علم القراءات القرآنية وعلى وجه الخصوص توجيه القراءات الشاذة، هذا العلم العظيم الشأن الذى أفردت له المؤلفات العظام منذ بدلاية زمن التأليف حتى زمننا هذا، ولأهمية هذا الكتاب أردنا إلا يخلو من تقديمه بمقدمة تليق بهذا الكتاب الذى قام بتأليفه ابن جنى جامعا مادته من عدة مؤلفات سابقة لإئمة هذا الشأن، وستدور المقدمة حول عدة محاور:
أولها: يدور حول القرآن وقراءاته.
وثانيهما: حول ابن جنى ومؤلفاته.
وآخرها: حول كتاب المحتسب.
***
القرآن وقراءاته
القرآن فى جمعه وترتيبه:
قال الدير عاقولى فى فوائده: حدثنا إبراهيم بن بشار، حدثنا سفيان بن عيينة، عن الزهرى عن عبيد، عن زيد بن ثابت، قال: قبض النبى ﷺ ولم يكن القرآن جمع فى شئ.
قال الخطابى: إنما لم يجمع ﷺ القرآن فى المصحف، لما كان يترقبه من ورود ناسخ لبعض أحكامه أو تلاوته، فلما انقضى نزوله بوفاته، ألهم الله الخلفاء الراشدين ذلك وفاء بوعده الصادق بضمان حفظه على هذه الأمة، فكان ابتداء ذلك على يد الصديق بمشورة عمر.
1 / 5
وأما ما أخرجه مسلم من حديث أبى سعيد، قال: قال رسول الله ﷺ: «لا تكتبوا عنى شيئا غير القرآن. . .» الحديث، فلا ينافى ذلك لأن الكلام فى كتابة مخصوصة على صفة مخصوصة وقد كان القرآن كتب كله فى عهد رسول الله ﷺ لكن غير مجموع فى موضع واحد ولا مرتب السور.
قال الحاكم فى المستدرك: جمع القرآن ثلاث مرات:
إحداها: بحضرة النبى ﷺ ثم أخرج بسند على شرط الشيخين عن زيد بن ثابت قال:
«كنا عند رسول الله ﷺ نؤلف القرآن من الرقاع» الحديث.
وقال البيهقى: أشبه أن يكون المراد به تأليف ما نزل من الآيات المفرقة فى سورها وجمعها فيها بإشارة النبى ﷺ.
الثانية: بحضرة أبى بكر.
روى البخارى فى صحيحه عن زيد بن ثابت قال: أرسل إلىّ أبو بكر، مقتل أهل اليمامة، فإذا عمر بن الخطاب عنده، فقال أبو بكر: إن عمر أتانى، فقال: إن القتل قد استحر يوم اليمامة بقراء القرآن، وإنى أخشى أن يستحر القتل بالقراء فى المواطن، فيذهب كثير من القرآن، وإنى أرى أن تأمر بجمع القرآن، فقلت لعمر: كيف نفعل شيئا لم يفعله رسول الله ﷺ؟. قال عمر: هو والله خير، فلم يزل يراجعنى حتى شرح الله صدرى لذلك، ورأيت فى ذلك الذى رأى عمر.
قال زيد: قال أبو بكر: إنك شاب عاقل لا نتهمك، وقد كنت تكتب الوحى لرسول الله ﷺ فتتبع القرآن فأجمعه. فو الله لو كلفونى نقل جبل من الجبال ما كان أثقل علىّ مما أمرنى به من جمع القرآن.
قلت: كيف تفعلان شيئا لم يفعله رسول الله ﷺ؟. قال: هو والله خير، فلم يزل أبو بكر يراجعنى حتى شرح الله صدرى للذى شرح الله له صدر أبى بكر وعمر، فتتبعت القرآن أجمعه من العسب واللخاف وصدور الرجال، ووجدت آخر سورة التوبة مع أبى خزيمة الأنصارى لم أجدها مع غيره: ﴿لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ﴾ حتى خاتمة براءة، فكانت الصحف عند أبى بكر حتى توفاه الله، ثم عند عمر حياته، ثم عند حفصة بنت عمر.
وأخرج ابن أبى داود فى المصاحف بسند حسن عن عبد خير قال: سمعت عليّا يقول:
«أعظم الناس فى المصاحف أجرا أبو بكر، رحمة الله على أبى بكر، هو أول من جمع كتاب الله».
لكن أخرج أيضا من طريق ابن سيرين، قال: «قال على: لما مات رسول الله ﷺ آليت أن لا آخذ علىّ ردائى إلا لصلاة جامعة حتى أجمع القرآن فجمعته».
قال ابن حجر: هذا الأثر ضعيف لانقطاعه، وبتقدير صحته، فمراده بجمعه حفظه فى
1 / 6
صدره، وما تقدم من رواية عبد خير، إن صح عنه، فهو المعتمد.
قال السيوطى: قد ورد من طريق أخرى، أخرجه ابن الضريس فى فضائله. حدثنا بشر بن موسى، حدثنا هودة بن خليفة، حدثنا عون، عن محمد بن سيرين، عن عكرمة، قال: لما كان بعد بيعة أبى بكر قعد على بن أبى طالب فى بيته، فقيل لأبى بكر: قد كره بيعتك:
فأرسل إليه، فقال: أكرهت بيعتى؟ قال: لا والله، قال: ما أقعدك عنى، قال: رأيت كتاب الله يزاد فيه، فحدثت نفسى أن لا ألبس ردائى إلا لصلاة حتى أجمعه. قال أبو بكر: فإنك نعم ما رأيت.
قال محمد: فقلت لعكرمة: ألفوه كما أنزل الأول فالأول، قال: لو اجتمعت الأنس والجن على أن يؤلفوه هذا التأليف ما استطاعوا.
وأخرجه ابن أشتة فى المصاحف من وجه آخر عن ابن سيرين، وفيه: أنه كتب فى مصحفه الناسخ والمنسوخ، وأن ابن سيرين، قال: تطلبت ذلك الكتاب، وكتبت فيه إلى المدينة فلم أقدر عليه.
وأخرج ابن أبى داود من طريق الحسن: «أن عمر سأل عن آية من كتاب الله، فقيل:
كانت مع فلان يوم اليمامة، فقال: إنا لله، وأمر بجمع القرآن، فكان أول من جمع القرآن فى المصحف. . .» إسناده منقطع، والمراد بقوله: فكان أول من جمع، أى أشار بجمعه.
قال السيوطى: ومن غريب ما ورد فى أول من جمعه ما أخرجه ابن أشتة فى كتاب المصاحف من طرق كهمس، عن ابن بريدة، قال: أول من جمع القرآن فى مصحف سالم مولى أبى حذيفة أقسم لا يرتدى برداء حتى يجمعه، فجمعه ثم ائتمروا ما يسمونه، فقال بعضهم: سموه السفر، قال: ذلك تسمية اليهود، فكرهوه، فقال: رأيت بالحبشة يسمى المصحف، فاجتمع رأيهم على أن يسموه المصحف، إسناده منقطع أيضا، وهو محمول على أنه كان أحد الجامعين بأمر أبى بكر.
وأخرج ابن أبى داود من طريق يحيى عبد الرحمن بن حاطب، قال: قدم عمر، فقال: من كان تلقى من رسول الله ﷺ شيئا من القرآن، فليأت به، وكانوا يكتبون ذلك فى الصحف والألواح والعسب، وكان لا يقبل من أحد شيئا حتى يشهد شاهدان.
وهذا يدل على أن زيدا كان لا يكتفى بمجرد وجدانه مكتوبا حتى يشهد به من تلقاه سماعا مع كون زيد كان يحفظ، فكان يفعل ذلك مبالغة فى الاحتياط.
وأخرج ابن أبى داود أيضا من طريق هشام بن عروة، عن أبيه أن أبا بكر، قال: لعمر ولزيد: اقعدا على باب المسجد، فمن جاءكما بشاهدين على شئ من كتاب الله فاكتباه.
قال ابن حجر: وكأن المراد بالشاهدين الحفظ والكتابة.
وقال السحاوى فى جمال القراء: المراد أنهما يشهدان على أن ذلك المكتوب كتب بين
1 / 7
يدى رسول الله ﷺ أو المراد أنهما يشهدان على أن ذلك من الوجوه التى نزل بها القرآن.
قال أبو شامة: وكان غرضهم أن لا يكتب إلا من عين ما كتب بين النبى ﷺ لا من مجرد الحفظ، قال: ولذلك قال: فى آخر سورة التوبة لم أجدها مع أحد غيره، أى لم أجدها مكتوبة مع غيره؛ لأنه كان لا يكتفى بالحفظ دون الكتابة.
قال السيوطى: أو المراد أنهما يشهدان على أن ذلك مما عرض على النبى ﷺ عام وفاته كما يؤخذ مما تقدم آخر النوع السادس عشر.
وقد أخرج ابن أشتة فى المصاحف عن الليث بن سعد، قال: أول من جمع القرآن أبو بكر وكتبه زيد وكان الناس يأتون زيد بن ثابت، فكان لا يكتب آية إلا بشاهدى عدل، وأن آخر سورة براءة لم توجد إلا مع خزيمة بن ثابت، فقال: اكتبوها، فإن رسول الله ﷺ جعل شهادته بشهادة رجلين، فكتبت، وأن عمر أتى بآية الرجم، فلم يكتبها؛ لأنه كان وحده.
وقال الحارث المحاسبى فى كتاب فهم السنن: كتابة القرآن ليست بمحدثة؛ فإنه ﷺ كان يأمر بكتابته، ولكنه كان مفرقا فى الرقاع والأكتاف والعسب؛ وإنما أمر الصديق بنسخها من مكان إلى مكان، وكان مجتمعا، وكان ذلك بمنزلة أوراق وجدت فى بيت رسول الله ﷺ فيها القرآن منتشرا، فجمعها جامع، وربطها بخيط حتى لا يضيع منها شئ.
قال: فإن قيل: كيف وقعت الثقة بأصحاب الرقاع وصدور الرجال؟. قيل: لإنهم قد شاهدوا تلاوته من النبى ﷺ عشرين سنة، فكان تزوير ما ليس منه مأمونا، وإنما كان الخوف من ذهاب شئ من صحفه، وقد تقدم فى حديث زيد أنه جمع القرآن من العسب واللخاف.
وفى رواية: والرقاع، وفى أخرى: وقطع الأديم، وفى أخرى والأكتاف، وفى أخرى:
والأضلاع، وفى أخرى: والأقتاب والعسب جمع عسيب، وهو جريد النخل، كانوا يكشطون الخوص، ويكتبون فى الطرف العريض، واللخاف بكسر اللام وبخاء معجمة خفيفة آخره فاء، جمع لخفة، بفتح اللام وسكون الخاء، وهى الحجارة الدقاق.
وقال الخطابى: صفائح الحجارة والرقاع، جمع رقعة، وقد تكون من جلد أو ورق أو كاغد، والأكتاف جمع كتف، وهو العظم الذى للبعير أو الشاة كانوا إذا جف كتبوا عليه، والأقتاب جمع قتب، وهو الخشب الذى يوضع على ظهر البعير ليركب عليه.
وفى موطأ ابن وهب، عن مالك، عن ابن شهاب، عن سالم بن عبد الله بن عمر، قال:
جمع أبو بكر القرآن فى قراطيس، وكان يسأل زيد بن ثابت فى ذلك، فأبى حتى استعان عليه بعمر، ففعل.
وفى مغازى موسى بن عقبة، عن ابن شهاب، قال: لما أصيب المسلمون باليمامة، فزع أبو بكر، وخاف أن يذهب من القرآن طائفة، فأقبل الناس بما كان معهم وعندهم، حتى جمع على عهد أبى بكر فى الورق، فكان أبو بكر أول من جمع القرآن فى المصحف.
1 / 8
قال ابن حجر: ووقع فى رواية عمارة بن غزية: أن زيد بن ثابت قال: فأمرنى أبو بكر، فكتبته فى قطع الأديم والعسب، فلما توفى أبو بكر، وكان عمر كتب ذلك فى صحيفة واحد، فكانت عنده، قال: والأول أصح، إنما كان فى الأديم والعسب أولا قبل أن يجمع فى عهد أبى بكر، ثم جمع فى الصحف فى عهد أبى بكر كما دلت عليه الأخبار الصحيحة المترادفة.
قال الحاكم: والجمع الثالث: هو ترتيب السور فى زمن عثمان.
روى البخارى عن أنس أن حذيفة بن اليمان قدم على عثمان، وكان يغازى أهل الشام فى فتح أرمينية وأذربيجان مع أهل العراق، فأفزع حذيفة اختلافهم فى القراءة، فقال لعثمان: أدرك الأمة قبل أن يختلفوا اختلاف اليهود والنصارى، فأرسل إلى حفصة أن أرسلى إلينا الصحف ننسخها فى المصاحف، ثم نردها إليك، فأرسلت بها حفصة إلى عثمان، فأمر زيد بن ثابت وعبد الله بن الزبير وسعيد بن العاص وعبد الرحمن بن الحارث بن هشام، فنسخوها فى المصاحف.
وقال عثمان للرهط القريشيين الثلاثة: إذا اختلفتم أنتم وزيد بن ثابت فى شئ من القرآن فاكتبوه بلسان قريش، فإنه إنما نزل بلسانهم، ففعلوا حتى إذا نسخوا الصحف فى المصاحف رد عثمان الصحف إلى حفصة، وأرسل إلى كل أفق بمصحف مما نسخوا، وأمر بما سواه من القرآن فى كل صحيفة أو مصحف أن يحرق.
قال زيد: ففقدت آية من الأحزاب حين نسخنا المصحف قد كنت أسمع رسول الله ﷺ يقرأ بها فالتمسناها، فوجدناها مع خزيمة بن ثابت الأنصارى، فألحقناها فى سورتها فى المصحف.
قال ابن حجر: وكان ذلك فى سنة خمس وعشرين، قال: وغفل بعض من أدركناه، فزعم أنه كان فى حدود سنة ثلاثين، ولم يذكر له مستندا، انتهى.
وأخرج ابن اشتة من طريق أيوب، عن أبى قلابة، قال: حدثنى رجل من بنى عامر يقال له أنس بن مالك، قال: اختلفوا فى القرآن على عهد عثمان حتى اقتتل الغلمان والمعلمون، فبلغ ذلك عثمان بن عفان، فقال: عندى تكذبون به، وتلحنون فيه، فمن نأى عنى كان أشد تكذيبا وأكثر لحنا يا أصحاب محمد، اجتمعوا، فاكتبوا للناس إماما فاجتمعوا، فكتبوا، فكانوا إذا اختلفوا فى أى آية، قالوا: هذه أقرأها رسول الله ﷺ فلانا، فيرسل إليه، وهو على رأس ثلاث من المدينة، فيقال له: كيف أقرأك رسول الله ﷺ آية كذا وكذا؟ فيقول كذا وكذا، فيكتبونها، وقد تركوا لذلك مكانا.
وأخرج ابن أبى داود من طريق محمد بن سيرين، عن كثير بن أفلح، قال: لما أراد عثمان أن يكتب المصاحف جمع له اننى عشر رجلا من قريش والأنصار، فبعثوا إلى الرابعة التى فى
1 / 9
بيت عمر فجئ بها، وكان عثمان يتعاهدهم، فكانوا إذا اختلفوا فى شئ أخروه.
قال محمد: فظننت إنما كانوا يؤخرونه؛ لينظروا أحدثهم عهدا بالعرضة الأخيرة، فيكتبونه على قوله.
وأخرج ابن أبى داود بسند صحيح عن سويد بن غفلة، قال: قال على: لا تقولوا فى عثمان إلا خيرا، فو الله ما فعل الذى فعل فى المصاحف إلا عن ملأ منا، قال: ما تقولون فى هذه القراءة، فقد بلغنى أن بعضهم، يقول: إن قراءتى خير من قراءتك، وهذا يكاد يكون كفرا، قلنا: فما ترى؟ قال: أرى أن يجمع الناس على مصحف واحد، فلا تكون فرقة ولا اختلاف، قلنا: فنعم ما رأيت.
والفرق بين جمع أبى بكر وجمع عثمان، أن جمع أبى بكر كان لخشية أن يذهب من القرآن شئ بذهاب حملته؛ لأنه لم يكن مجموعا فى موضع واحد فجمعه فى صحائف، مرتبا لآيات كل سورة على ما وقفهم عليه النبى ﷺ، وجمع عثمان كان لما كثر الاختلاف فى وجوه القراءة حتى قرؤه بلغاتهم على اتساع اللغات؛ فأدى ذلك ببعضهم إلى تخطئة بعض، فخشى من تفاقم الأمر فى ذلك، فنسخ تلك الصحف فى مصحف واحد مرتبا لسوره، واقتصر من سائر اللغات على لغة قريش محتجا بأنه نزل بلغتهم، وإن كان قد وسع فى قراءته بلغة غيرهم، رفعا للحرج والمشقة فى ابتداء الأمر، فرأى أن الحاجة إلى ذلك قد انتهت، فاقتصر على لغة واحدة.
وقال القاضى أبو بكر فى الانتصار: لم يقصد عثمان قصد أبى بكر فى جمع نفس القرآن بين لوحين، وإنما قصد جمعهم على القراءات الثابتة المعروفة عن النبى ﷺ وإلغاء ما ليس كذلك، وأخذهم بمصحف لا تقديم فيه ولا تأخير ولا تأويل، ولا منسوخ تلاوته، كتب مع مثبت رسمه، ومفروض قراءته، وحفظه خشية دخول الفساد والشبهة على من يأتى بعد.
وقال الحارث المحاسبى: المشهور عند الناس أن جامع القرآن عثمان، وليس كذلك، إنما حمل عثمان الناس على القراءة بوجه واحد على اختيار وقع بينه وبين من شهده من المهاجرين والأنصار، لما خشى الفتنة عند اختلاف أهل العراق والشام فى حروف القراءات، فأما قبل ذلك فقد كانت المصاحف بوجوه من القراءات المطلقات على الحروف السبعة التى أنزل بها القرآن، فأما السابق إلى جمع الجملة، فهو الصديق.
وقد قال على: لو وليت لعملت بالمصاحف التى عمل بها عثمان، انتهى.
فائدة: اختلف فى عدة المصاحف التى أرسل بها عثمان إلى الآفاق المشهورة أنها خمسة.
وأخرج ابن أبى داود من طريق حمزة الزيات، قال: أرسل عثمان أربعة مصاحف، قال ابن أبى داود: وسمعت أبا حاتم السجستانى، يقول: كتبت سبعة مصاحف، فأرسل إلى مكة وإلى الشام وإلى اليمن وإلى البحرين وإلى البصرة وإلى الكوفة، وحبس بالمدينة واحد.
1 / 10
ترتيب الآيات:
الإجماع والنصوص المترادفة على أن ترتيب الآيات توقيفى لا شبهة فى ذلك، أما الإجماع، فنقله غير واحد منهم الزركشى فى البرهان وأبو جعفر بن الزبير فى مناسباته وعبارته: ترتيب الآيات فى سورها واقع بتوقيفه ﷺ وأمره، من غير خلاف فى هذا بين المسلمين، انتهى.
وسنذكر من نصوص العلماء ما يدل عليه، وأما النصوص فمنها حديث زيد السابق: «كنا عند النبى ﷺ نؤلف القرآن من الرقاع».
ومنها ما أخرجه أحمد وأبو داود والترمذى والنسائى وابن حبان والحاكم عن ابن عباس، قال: «قلت: لعثمان ما حملكم على أن عمدتم إلى الأنفال، وهى من المثانى، وإلى براءة، فقرنتم بينهما، ولم تكتبوا بينهما سطر: بسم الله الرحمن الرحيم ووضعتموهما فى السبع الطوال؟.
فقال عثمان: كان رسول الله ﷺ تنزل عليه السورة ذات العدد، فكان إذا نزل عليه الشئ دعا بعض من كان يكتب، فيقول: هؤلاء الآيات فى السورة التى يذكر قصتها شبيهة بقصتها، فظننت أنها منها، فقبض رسول الله ﷺ ولم يبين لنا أنها منها، فمن أجل ذلك قرنت بينهما، ولم أكتب بينهما سطر: بسم الله الرحمن الرحيم، ووضعتهما فى السبع الطوال.
ومنها ما أخرجه أحمد، بإسناد حسن، عن عثمان بن أبى العاص، قال: كنت جالسا عند رسول الله ﷺ إذ شخص ببصره، ثم صوبه، ثم قال: أتانى جبريل، فأمرنى أن أضع هذه الآية هذا الموضع من هذه السورة: ﴿إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ وَإِيتاءِ ذِي الْقُرْبى﴾ إلى آخرها.
ومنها ما أخرجه البخارى عن ابن الزبير، قال: قلت لعثمان: والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا، قد نسختها الآية الأخرى، فلم تكتبها أو تدعها؟ قال: يا ابن أخى، لا أغير شيئا منه من مكانه.
ومنها ما رواه مسلم عن عمر قال: ما سألت النبى ﷺ عن شئ أكثر مما سألته عن الكلالة حتى طعن بإصبعه فى صدرى، وقال: تكفيك آية الصيف التى فى آخر سورة النساء.
ومنها الأحاديث فى خواتيم سورة البقرة.
ومنها ما رواه مسلم عن أبى الدرداء مرفوعا: من حفظ عشر آيات من أول سورة الكهف، عصم من الدجال. وفى لفظ: من قرأ العشر الأواخر من سورة الكهف.
ومن النصوص الدالة على ذلك إجمالا ما ثبت من قراءته ﷺ لسور عديدة كسورة «البقرة» و«آل عمران» و«النساء» فى حديث حذيفة.
1 / 11
و«الأعراف» فى صحيح البخارى أنه قرأها فى المغرب.
و«قد أفلح»، روى النسائى أنه قرأها فى الصبح حتى إذا جاء ذكر موسى وهارون أخذته سعلة فركع.
و«الروم»، روى الطبرانى أنه قرأها فى الصبح.
و«الم تنزيل» و«هَلْ أَتى عَلَى الْإِنْسانِ»، روى الشيخان أنه كان يقرأهما فى صبح الجمعة.
و«ق» فى صحيح مسلم أنه كان يقرؤها فى الخطبة.
و«الرحمن» فى المستدرك، وغيره أنه قرأها على الجن و«النجم» فى الصحيح أنه قرأها بمكة على الكفار، وسجد فى آخرها.
و«اقتربت» عند مسلم أنه كان يقرؤها مع «ق» فى العيد والجمعة.
و«المنافقون» فى مسلم أنه كان يقرأ بها فى صلاة الجمعة.
و«الصف» فى المستدرك عن عبد الله بن سلام أنه ﷺ قرأها عليهم حين أنزلت حتى ختمها. تدل قراءته ﷺ لها بمشهد من الصحابة أن ترتيب آياتها توفيقى، وما كان الصحابة ليرتبوا ترتيبا سمعوا النبى ﷺ يقرأ على خلافه، فبلغ ذلك مبلغ التواتر.
نعم يشكل على ذلك ما أخرجه ابن أبى داود فى المصاحف من طريق محمد بن إسحاق، عن يحيى بن عباد بن عبد الله بن الزبير، عن أبيه قال: أتى الحارث بن خزيمة بهاتين الآيتين من آخر سورة براءة، فقال: أشهد إنى سمعتها من رسول الله ﷺ ووعيتهما.
فقال عمر: وأنا أشهد لقد سمعتهما، ثم قال: لو كانت ثلاث آيات لجعلتها سورة على حدة، فانظروا آخر سورة من القرآن، فألحقوها فى آخرها.
قال ابن حجر: ظاهر هذا أنهم كانوا يؤلفون آيات السور باجتهادهم، وسائر الأخبار تدل على أنهم لم يفعلوا شيئا من ذلك إلا بتوقيف.
قال السيوطى: يعارضه ما أخرجه ابن أبى داود أيضا من طريق أبى العالية، عن أبى ابن كعب أنهم جمعوا القرآن، فلما انتهوا إلى الآية التى فى سورة براءة: ﴿ثُمَّ اِنْصَرَفُوا صَرَفَ اللهُ قُلُوبَهُمْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ﴾ ظنوا أنها آخر ما أنزل، فقال أبى: إن رسول الله ﷺ أقرأنى بعد هذا آيتين: ﴿لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ﴾. . . إلى آخر السورة.
وقال مكى وغيره: ترتيب السور بأمر من النبى ﷺ ولم يأمر بذلك فى أول براءة؛ فتركت بلا بسملة.
وقال القاضى أبو بكر فى الانتصار: ترتيب الآيات أمر واجب، وحكم لازم، فقد كان جبريل يقول: ضعوا آية كذا فى موضع كذا.
وقال أيضا: الذى نذهب إليه أن جميع القرآن الذى أنزله الله وأمر بإثبات رسمه، ولم
1 / 12
ينسخه، ولا رفع تلاوته، بعد نزوله هو هذا الذى بين الدفتين الذى حواه مصحف عثمان، وأنه لم ينقص منه شئ، ولا زيد فيه، وأن ترتيبه ونظمه ثابت على ما نظمه الله تعالى، ورتبه عليه رسوله من آى السور، لم يقدم من ذلك مؤخر ولا أخر منه مقدم، وأن الأمة ضبطت عن النبى ﷺ ترتيب آى كل سورة ومواضعها وعرفت مواقعها كما ضبطت عنه نفس القراءات وذات التلاوة، وأنه يمكن أن يكون الرسول ﷺ قد رتب سوره، وأن يكون قد وكل ذلك إلى الأمة بعده، ولم يتول ذلك بنفسه.
قال: وهذا الثانى أقرب.
وأخرج عن ابن وهب، قال: سمعت مالكا، يقول: إنما ألف القرآن على ما كانوا يسمعون من النبى ﷺ.
وقال البغوى فى شرح السنة: الصحابة رضى الله عنهم جمعوا بين الدفتين القرآن الذى أنزله الله على رسوله من غير أن يزيدوا أو ينقصوا منه شيئا خوف ذهاب بعضه بذهاب حفظته، فكتبوه كما سمعوا من رسول الله ﷺ من غير أن يقدموا شيئا أو يؤخروا أو يضعوا له ترتيبا لم يأخذوه من رسول الله ﷺ.
وكان رسول الله ﷺ يلقن أصحابه ويعلمهم ما نزل عليه من القرآن على الترتيب الذى هو الآن فى مصاحفنا بتوقيف جبريل إياه على ذلك، وإعلامه عند نزول كل آية أن هذه الآية تكتب عقب آية كذا، فى سورة كذا فثبت أن سعى الصحابة كان فى جمعه فى موضع واحد لا ترتيبه فإن القرآن مكتوب فى اللوح المحفوظ على هذا الترتيب، أنزله الله جملة إلى السماء الدنيا، ثم كان ينزله مفرقا عند الحاجة، وترتيب النزول غير ترتيب التلاوة.
وقال ابن الحصار: ترتيب السور ووضع الآيات مواضعها إنما كان بالوحى كان رسول الله ﷺ يقول: ضعوا آية كذا فى موضع كذا، وقد حصل اليقين من النقل المتواتر بهذا الترتيب من تلاوة رسول الله ﷺ ومما أجمع الصحابة على وضعه هكذا فى المصحف.
***
ترتيب السور:
وأما ترتيب السور فهل هو توقيفى أيضا أو هو باجتهاد من الصحابة، ففيه: خلاف فجمهور العلماء على الثانى، منهم مالك والقاضى أبو بكر فى أحد قوليه.
قال ابن فارس: جمع القرآن على ضربين، أحدهما تأليف السور كتقديم السبع الطوال، وتعقيبها بالمئين، فهذا هو الذى تولته الصحابة، وأما الجمع الآخر، وهو جمع الآيات فى السور، فهو توقيفى تولاه النبى ﷺ كما أخبر به جبريل عن أمر ربه مما استدل به، ولذلك اختلفت مصاحف السلف فى ترتيب السور، فمنهم من رتبها على النزول، وهو مصحف علىّ، كان أوله: اقرأ، ثم المدثر، ثم نون، ثم المزمل، ثم تبت، ثم التكوير، وهكذا إلى آخر
1 / 13
المكى والمدنى، وكان أول مصحف ابن مسعود: البقرة، ثم النساء، ثم آل عمران، على اختلاف شديد، وكذا مصحف أبى وغيره.
وأخرج ابن أشتة فى المصاحف من طريق إسماعيل بن عباس، عن حبان بن يحيى، عن أبى محمد القرشى، قال: أمرهم عثمان أن يتابعوا الطوال، فجعلت سورتا الأنفال التوبة فى السبع، ولم يفصل بينهما ب «بسم الله الرحمن الرحيم».
وذهب إلى الأول جماعة منهم القاضى فى أحد قوليه. قال أبو بكر بن الأنبارى: أنزل الله القرآن كله إلى السماء الدنيا، ثم فرقه فى بضع وعشرين، فكانت السورة تنزل لأمر يحدث، والآية جوابا لمستخبر، ويوقف جبريل النبى ﷺ على موضع الآية والسورة، فاتساق السور كاتساق الآيات والحروف كله عن النبى ﷺ فمن قدم سورة أو أخرها فقد أفسد نظم القرآن.
وقال الكرمانى فى البرهان: ترتيب السور هكذا هو عند الله فى اللوح المحفوظ على هذا الترتيب، وعليه كان ﷺ يعرض على جبريل كل سنة ما كان يجتمع عنده منه، وعرضه عليه فى السنة التى توفى فيها مرتين، وكان آخر الآيات نزولا: ﴿وَاِتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللهِ﴾ فأمره جبريل أن يضعها بين آيتى الربا والدين.
وقال الطيبى: أنزل القرآن أولا جملة واحدة من اللوح المحفوظ إلى السماء الدنيا ثم نزل مفرقا على حسب المصالح، ثم أثبت فى المصاحف على التأليف والنظم المثبت فى اللوح المحفوظ.
قال الزركشى: والخلاف بين الفريقين لفظى؛ لأن القائل بالثانى يقول: إنه رمز إليهم ذلك لعلهم بأسباب نزوله ومواقع كلماته، ولهذا قال مالك: إنما ألفوا القرآن على ما كانوا يسمعونه من النبى ﷺ مع قوله بأن ترتيب السور باجتهاد منهم، فآل الخلاف إلى أنه: هل هو بتوقيف قولى أو بمجرد إسناد فعلى بحيث يبقى لهم فيه مجال للنظر، وسبقه إلى ذلك أبو جعفر بن الزبير.
وقال البيهقى: فى المدخل كان القرآن على عهد النبى ﷺ مرتبا سوره وآياته على الترتيب إلا الأنفال وبراءة لحديث عثمان السابق، ومال ابن عطية إلى أن كثيرا من السور كان قد علم ترتيبها فى حياته ﷺ كالسبع الطوال والحواميم والمفصل، وأن ما سوى ذلك يمكن أن يكون قد فوض الأمر فيه إلى الأمة بعده.
وقال أبو جعفر بن الزبير: الآثار تشهد بأكثر مما نص عليه ابن عطية ويبقى منها قليل يمكن أن يجرى فيه الخلاف كقوله اقرأوا الزهراوين: البقرة وآل عمران. رواه مسلم.
وكحديث سعيد بن خالد: قرأ ﷺ بالسبع الطوال فى ركعة. رواه ابن أبى شيبة فى مصنفه، وفيه أنه ﵊ كان يجمع المفصل فى ركعة.
1 / 14
وروى البخارى عن ابن مسعود أنه قال: فى بنى إسرائيل والكهف ومريم وطه والأنبياء:
إنهن من العتاق الأول، وهن تلادى، فذكرها نسقا كما استقر ترتيبها.
وفى البخارى أنه ﷺ كان إذا أوى فراشه كل ليلة جمع كفيه ثم نفث فيهما فقرأ: ﴿قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ﴾ و«المعوذتين».
وقال أبو جعفر النحاس: المختار أن تأليف السور على هذا الترتيب من رسول الله ﷺ لحديث واثلة: أعطيت مكان التوراة السبع الطوال.
قال: فهذا الحديث يدل على أن تأليف القرآن مأخوذ عن النبى ﷺ وأنه من ذلك الوقت، وإنما جمع المصحف على شئ واحد؛ لأنه جاء فى هذا الحديث بلفظ يدل على تأليف القرآن بتوقيفه ﷺ.
وقال ابن الحصار: ترتيب السور ووضع الآيات موضعها إنما كان بالوحى.
وقال ابن حجر: ترتيب بعض السور على بعضها أو معظمها لا يمتنع أن يكون توقيفيا، قال: ومما يدل على أن ترتيبها توقيفى، ما أخرجه أحمد وأبو داود، عن أوس ابن أبى أوس، عن حذيفة الثقفى، قال: كنت فى الوفد الذين أسلموا من ثقيف، الحديث، وفيه: فقال لنا رسول الله ﷺ: طرأ علىّ حزب من القرآن، فأردت أن لا أخرج حتى أقضيه، فسألنا أصحاب رسول الله ﷺ قلنا: كيف تحزبون القرآن؟ قالوا: نحزبه ثلاث سور، وخمس سور، وسبع سور، وتسع سور، وإحدى عشر، وثلاث عشرة، وحزب المفصل من «ق» حتى نختم، قال: فهذا يدل على أن ترتيب السور على ما هو فى المصحف الآن كان على عهد رسول الله ﷺ.
قال: ويحتمل أن الذى كان مرتبا حينئذ حزب المفصل خاصة بخلاف ما عداه.
قال السيوطى: وما يدل على أنه توقيفى كون الحواميم رتبت ولاء، وكذا الطواسين، ولم ترتب المسبحات ولاء، بل فصل بين سورها، وفصل بين «طسم» الشعراء و«طسم» القصص ب «طس» مع أنها أقصر منهما ولو كان الترتيب اجتهاديا لذكرت المسبحات ولاء، وأخرت «طس» عن القصص.
والذى ينشرح له الصدر، ما ذهب إليه البيهقى، وهو أن جميع السور ترتيبها توقيفى إلا «براءة» و«الأنفال» ولا ينبغى أن يستدل قبل «آل عمران» لأن ترتيب السور فى القراءة ليس بواجب، ولعله فعل ذلك لبيان الجواز.
وأخرج ابن اشتة فى كتاب المصاحف من طريق ابن وهب سليمان بن بلال، قال: سمعت ربيعة يسأل: لم قدمت «البقرة» و«آل عمران» وقد نزل قبلهما بضع وثمانون سورة بمكة، وإنما أنزلتا بالمدينة، فقال: قدمتا وألف القرآن على علم ممن ألفه به، ومن كان معه فيه، واجتماعهم على علمهم بذلك، فهذا مما ينتهى إليه ولا يسأل عنه.
1 / 15
والثابت أن: السبع الطوال أولها «البقرة» وآخرها «براءة» كذا قال جماعة.
لكن أخرج الحاكم والنسائى وغيرهما عن ابن عباس، قال: السبع الطوال: البقرة وآل عمران والنساء والمائدة والأنعام والأعراف.
قال الراوى: وذكر السابعة فنسيتها، وفى رواية صحيحة عن ابن أبى حاتم وغيره عن مجاهد وسعيد بن جبير أنها: يونس، وتقدم عن ابن عباس مثله فى النوع الأول.
وفى رواية عند الحاكم أنها الكهف، والمئون ما وليها سميت بذلك؛ لأن كل سورة منها تزيد على مائة آية أو تقاربها، والمثانى ما ولى المئين؛ لأنها ثنتها، أى كانت بعدها فهى لها ثوان، والمئون لها أوائل.
وقال الفراء: هى السورة التى آيها أقل من مائة آية؛ لأنها تثنى أكثر مما يثنى الطوال والمئون، وقيل لثنية الأمثال فيها بالعبر والخبر حكاه النكزاوى.
وقال فى جمال القراء: هى السور التى تثنت فيها القصص، وقد تطلق على القرآن كله وعلى الفاتحة كما تقدم، والمفصل ما ولى المثانى من قصار السور، سمى بذلك لكثرة الفصول التى بين السور بالبسملة وقيل لقلة المنسوخ منه، ولهذا يسمى بالمحكم أيضا كما روى البخارى عن سعيد بن جبير، قال: إن الذى تدعونه المفصل هو المحكم وآخره سورة الناس بلا نزاع.
واختلف فى أوله على اثنى عشر قولا: أحدها: «ق» لحديث أوس السابق قريبا. الثانى:
«الحجرات» وصححه النووى. الثالث: «القتال» عزاه الماوردى للأكثرين. الرابع: «الجاثية» حكاه القاضى عياض. الخامس: «الصافات». السادس: «الصف». السابع: «تبارك» حكى الثلاثة ابن أبى الصيف اليمنى فى نكته على التنبيه. الثامن: «الفتح» حكاه الكمال الذمارى فى شرح التنبيه. التاسع: «الرحمن» حكاه ابن السيد فى أماليه على الموطأ. العاشر:
«الإنسان». الحادى عشر: «سبح» حكاه ابن الفركاح فى تعليقه عن المرزوقى. الثانى عشر:
«الضحى» حكاه الخطابى، ووجهه بأن القارئ يفصل بين هذه السور بالتكبير وعبارة الراغب فى مفرداته المفصل من القرآن السبع الأخير.
فائدة: للمفصل طوال وأوساط وقصار، قال ابن معن: فطواله إلى «عم» وأوساطه منها إلى «الضحى»، ومنها إلى آخر القرآن قصاره هذا أقرب ما قيل فيه.
تنبيه: أخرج ابن أبى داود فى كتاب المصاحف، عن نافع، عن ابن عمر أنه ذكر عنده المفصل، فقال: وآى القرآن ليس بمفصل، ولكن قولوا قصار السور، وصغار السور.
وقد استدل بهذا على جواز أن يقال سورة قصيرة وصغيرة، وقد كره ذلك جماعة منهم أبو العالية، وأخرج عن ابن سيرين وأبى العالية، قالا: لا تقل سورة خفيفة، فإنه تعالى يقول:
﴿إِنّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا﴾ ولكن سورة يسيرة.
1 / 16
فائدة: قال ابن أشتة: فى كتاب المصاحف أنبأنا محمد بن يعقوب، حدثنا أبو داود حدثنا أبو جعفر الكوفى، قال: هذا تأليف مصحف أبى: الحمد ثم البقرة ثم النساء ثم آل عمران ثم الأنعام ثم الأعراف ثم المائدة ثم يونس ثم الأنفال ثم براءة ثم هود ثم مريم ثم الشعراء ثم الحج ثم يوسف ثم الكهف ثم النحل ثم الأحزاب ثم بنى إسرائيل ثم الزمر. . . أولها، أخرجه أحمد فى المسند، ثم طه ثم الأنبياء ثم النور ثم المؤمنون ثم سبأ ثم العنكبوت ثم المؤمن ثم الرعد ثم القصص ثم النمل ثم الصافات ثم صدوق ثم يس ثم الحجر ثم حمعسق ثم الروم ثم الحديد ثم الفتح ثم القتال ثم الظهار ثم تبارك الملك ثم السجدة ثم إنا أرسلنا نوحا ثم الأحقاف ثم ق ثم الرحمن ثم الواقعة ثم الجن ثم النجم ثم سأل سائل ثم المزمل ثم المدثر ثم اقتربت ثم حم الدخان ثم لقمان ثم حم الجاثية ثم الطور ثم الذاريات ثم الحاقة ثم الحشر ثم المرسلات ثم عم يتساءلون ثم لا أقسم بيوم القيامة ثم إذا الشمس كورت ثم يا أيها النبى إذا طلقتم النساء ثم النازعات ثم التغابن ثم عبس ثم المطففين ثم إذا السماء انشقت ثم والتين والزيتون ثم اقرأ باسم ربك ثم الحجرات ثم المنافقون ثم الجمعة ثم لم تحرم ثم الفجر ثم لا أقسم بهذا البلد ثم إذا السماء انفطرت ثم والشمس وضحاها ثم والسماء والطارق ثم سبح اسم ربك ثم الغاشية ثم الصف ثم التغابن ثم سورة أهل الكتاب، وهى لم يكن، ثم الضحى ثم ألم نشرح ثم القارعة ثم التكاثر ثم العصر ثم سورة الخلع ثم ويل لكل همزة ثم إذا زلزلت ثم العاديات ثم الفيل ثم لإيلاف قريش ثم أرأيت ثم إنا أعطيناك ثم القدر ثم الكافرون ثم إذا جاء نصر الله ثم تبت ثم الصمد ثم الفلق ثم الناس.
قال ابن أشتة أيضا: وأخبرنا أبو الحسن بن نافع أن أبا جعفر محمد بن عمرو بن موسى حدثهم، قال: حدثنا محمد بن إسماعيل بن سالم، حدثنا على بن مهران الطائى، حدثنا جرير بن عبد الحميد، قال: تأليف مصحف عبد الله بن مسعود، الطوال: البقرة والنساء وآل عمران والأعراف والأنعام والمائدة ويونس. والمئين: براءة والنحل وهود ويوسف والكهف وبنى إسرائيل والأنبياء وطه والمؤمنون والشعراء والصافات. والمثانى: الأحزاب والحج والقصص وطس النمل والنور والأنفال ومريم والعنكبوت والروم ويس والفرقان والحجر والرعد وسبأ والملائكة وإبراهيم وص والذين كفروا ولقمان والزمر. والحواميم: حم المؤمن والزخرف والسجدة وحمعسق والأحقاف والجاثية والدخان. والممتحنات: إنا فتحنا لك والحشر وتنزيل السجدة والطلاق ون والقلم والحجرات وتبارك والتغابن وإذا جاءك المنافقون والجمعة والصف وقل أوحى وإنا أرسلنا والمجادلة والممتحنة ويا أيها النبى لم تحرم. والمفصل:
الرحمن والنجم والطور والذاريات واقتربت الساعة والواقعة والنازعات وسأل سائل والمدثر والمزمل والمطففين وعبس وهل أتى والمرسلات والقيامة وعم يتساءلون وإذا الشمس كورت وإذا السماء انفطرت والغاشية وسبح والليل والفجر والبروج وإذا السماء انشقت واقرأ باسم ربك والبلد والضحى والطارق والعاديات وأرأيت والقارعة ولم يكن والشمس وضحاها
1 / 17
والتين وويل لكل همزة وألم تر كيف ولإيلاف قريش وألهاكم وإنا أنزلناه وإذا زلزلت والعصر وإذا جاء نصر الله والكوثر وقل يا أيها الكافرون وتبت وقل هو الله أحد وألم نشرح وليس فيه الحمد ولا المعوذتان.
***
عدد سوره وآياته وكلماته وحروفه:
أما سوره فمائة وأربع عشرة سورة بإجماع من يعتد به، وقيل: وثلاث عشرة: بجعل الأنفال وبراءة سورة واحدة، أخرج أبو الشيخ عن أبى، قال: الأنفال وبراءة سورة واحدة.
وأخرج عن أبى رجاء، قال: سألت الحسن عن الأنفال وبراءة سورتان أم سورة؟ قال:
سورتان، ونقل مثل قول أبى عن مجاهد.
وأخرجه ابن أبى حاتم عن سفيان.
وأخرج ابن أشتة عن ابن لهيعة، قال: يقولون: إن براءة من يسألونك، وإنما لم تكتب فى براءة بسم الله الرحمن الرحيم، لأنها من يسألونك وشبهتهم اشتباه الطرفين وعدم البسملة ويرده تسمية النبى ﷺ كلا منهما، ونقل صاحب الإقناع أن البسملة ثابتة لبراءة فى مصحف ابن مسعود، قال: ولا يؤخذ بهذا
وأخرج القشيرى فى الصحيح أن التسمية لم تكن فيها لأن جبريل ﵇ لم ينزل بها فيها.
وفى المستدرك: عن ابن عباس، قال: سألت على بن أبى طالب: لم تكتب فى براءة بسم الله الرحمن الرحيم؟ قال: لأنها أمان وبراءة، نزلت بالسيف.
وعن مالك أن أولها لما سقط سقطت معه البسملة، فقد ثبت أنها كانت تعدل البقرة لطولها.
وفى مصحف ابن مسعود مائة واثنتا عشرة سورة؛ لأنه لم يكتب المعوذتين.
وفى مصحف أبى ست عشرة، لأنه كتب فى آخره سورتى القدر والخلع.
وأخرج أبو عبيد عن ابن سيرين، قال: كتب أبى بن كعب فى مصحفه فاتحة الكتاب والمعوذتين واللهم إنا نستعينك واللهم إياك نعبد، وتركهن ابن مسعود، وكتب عثمان منهن فاتحة الكتاب والمعوذتين.
وأخرج الطبرانى فى الدعاء من طريق عباد بن يعقوب الأسدى، عن يحيى بن يعلى الأسلمى، عن ابن أبى هبيرة، عن عبد الله بن زرير الغافقى، قال: قال لى عبد الملك بن مروان:
لقد علمت ما حملك على حب أبى تراب إلا إنك أعرابى جاف، فقلت: والله لقد جمعت القرآن من قبل أن يجتمع أبواك، ولقد علمنى منه على بن أبى طالب سورتين علمهما إياه
1 / 18
رسول الله ﷺ ما علمتهما أنت ولا أبوك: اللهم إنا نستعينك ونستغفرك ونثنى عليك ولا نكفرك ونخلع ونترك من يفجرك، اللهم إياك نعبد ولك نصلى ونسجد وإليك نسعى ونحفد، نرجو رحمتك ونخشى عذابك، إن عذابك بالكفار ملحق.
وأخرج البيهقى من طريق سفيان الثورى، عن ابن جريج، عن عطاء، عن عبيد بن عمير، أن عمر بن الخطاب قنت بعد الركوع، فقال: بسم الله الرحمن الرحيم، اللهم إنا نستعينك ونستغفرك، ونثنى عليك ولا نكفرك، ونخلع ونترك من يفجرك، اللهم إياك نعبد ولك نصلى ونسجد، وإليك نسعى ونحفد، نرجو رحمتك ونخشى نقمك، إن عذابك بالكافرين ملحق.
قال ابن جريج: حكمة البسملة إنهما سورتان فى مصحف بعض الصحابة.
وأخرج محمد بن نصر المروزى فى كتاب الصلاة عن أبى بن كعب أنه كان يقنت بالسورتين، فذكرهما، وأنه كان يكتبها فى مصحفه.
وقال ابن الضريس: أنبأنا أحمد بن جميل المروزى، عن عبد الله بن المبارك، أنبأنا الأجلح، عن عبد الله بن عبد الرحمن، عن أبيه، قال: فى مصحف ابن عباس قراءة أبى وأبى موسى:
بسم الله الرحمن الرحيم: اللهم إنا نستعينك ونستغفرك، ونثنى عليك الخير ولا نكفرك، ونخلع ونترك من يفجرك، وفيه: اللهم إياك نعبد ولك نصلى ونسجد وإليك نسعى ونحفد، نخشى عذابك ونرجو رحمتك، إن عذابك بالكفار ملحق.
وأخرج الطبرانى بسند صحيح عن أبى إسحاق قال: أمنا أمية بن عبد الله بن خالد ابن أسيد بخراسان، فقرأ بهاتين السورتين: إنا نستعينك ونستغفرك.
وأخرج البيهقى وأبو داود فى المراسيل، عن خالد بن أبى عمران: أنه نزل بذلك على النبى ﷺ وهو فى الصلاة مع قوله: ﴿لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ﴾ الآية، لما قنت يدعو على مضر.
تنبيه: كذا نقل جماعة عن مصحف أبى أنه ست عشرة سورة، والصواب أنه خمس عشرة فإن سورة الفيل وسورة لإيلاف قريش فيه سورة واحدة، ونقل ذلك السخاوى فى جمال القراء عن جعفر الصادق وأبى نهيك أيضا.
قال السيوطى: ويرده ما أخرجه الحاكم والطبرانى من حديث أم هانئ أن رسول الله ﷺ قال: فضل الله قريشا بسبع. . . الحديث، وفيه: وأن الله أنزل فيهم سورة من القرآن لم يذكر فيها معهم غيرهم لإيلاف قريش، وفى كامل الهذلى عن بعضهم أنه قال: الضحى وألم نشرح سورة واحدة، نقله الإمام الرازى فى تفسيره عن طاوس وغيره من المفسرين.
فائدة: قيل الحكمة فى تسوير القرآن سورا تحقيق كون السورة بمجردها معجزة وآية من آيات الله والإشارة إلى أن كل سورة نمط مستقل، فسورة يوسف تترجم عن قصته وسورة إبراهيم وبراءة تترجم عن أحوال المنافقين وأسرارهم إلى غير ذلك، والسور سورا طوالا
1 / 19
وأوساطا وقصارا تنبيها على أن الطول ليس من شرط الإعجاز، فهذه سورة الكوثر آيات، وهى معجزة إعجاز سورة البقرة، ثم ظهرت لذلك حكمة فى التعليم وتدريج الأطفال من السور القصار إلى ما فوقها تيسيرا من الله على عباده لحفظ كتابه، قال الزركشى فى البرهان:
فإن قلت: فهلا كانت الكتب السالفة كذلك؟ قلت: لوجهين، أحدهما أنها لم تكن معجزات من جهة النظم والترتيب، والآخر: أنها لم تيسر للحفظ.
لكن ذكر الزمخشرى ما يخالفه، فقال فى الكشاف: الفائدة فى تفصيل القرآن وتقطيعه سورا كثيرة، وكذلك أنزل الله التوراة والإنجيل والزبور، وما أوحاه إلى أنبيائه مسورة وبوّب المصنفون فى كتبهم أبوابا موشحة الصدور بالتراجم منها الجنس إذا انطوت تحته أنواع، وأصناف كان أحسن وأفخم من أن القارئ إذا ختم سورة أو بابا من الكتاب، ثم أخذ فى آخر كان أنشط له، وأبعث على التحصيل منه لو استمر على الكتاب بطوله، ومثله المسافر إذا قطع ميلا أو فرسخا نفس ذلك منه، ونشط للسير ومن ثم جزئ القرآن أجزاء وأخماسا، ومنها أن الحافظ إذا حذق السورة اعتقد أنه أخذ من كتاب الله طائفة مستقلة بنفسها، فيعظم عنده ما حفظه. ومنه حديث أنس: كان الرجل إذا قرأ «البقرة» و«آل عمران» جد فينا.
ومن ثم كانت القراء فى الصلاة بسورة أفضل ومنها أن التفصيل بسبب تلاحق الأشكال والنظائر وملائمة بعضها لبعض وبذلك تتلاحظ المعانى والنظم إلى غير ذلك من الفوائد، انتهى.
وما ذكره الزمخشرى من تسوير سائر الكتب هو الصحيح أو الصواب، فقد أخرج ابن أبى حاتم عن قتادة، قال: كنا نتحدث أن الزبور مائة وخمسون سورة كلها مواعظ وثناء ليس فيه حلال ولا حرام ولا فرائض ولا حدود، وذكروا أن فى الأنجيل سورة تسمى سورة الأمثال.
***
فى عدد الآى:
أفرده جماعة من القراء بالتصنيف، قال الجعبرى: حد الآية قرآن مركب من جمل، ولو تقديرا له مبدأ ومقطع مندرج فى سورة، وأصلها العلامة، ومنه أن آية ملكة لأنها علامة للفضل والصدق والجماعة؛ لأنها جماعة كلمة.
وقال غيره: الآية طائفة من القرآن منقطعة عما قبلها وما بعدها.
وقيل هى الواحدة من المعدودات فى السور سميت به لأنها علامة على صدق من أتى بها، وعلى عجز المتحدى بها، وقيل: لأنها علامة على انقطاع ما قبلها من الكلام وانقطاعه مما بعدها.
قال الواحدى: وبعض أصحابنا، قال: يجوز على هذا القول تسمية أقل من الآية آية، لولا أن التوقيف ورد بما هى عليه الآن.
1 / 20
وقال أبو عمرو الدانى: اعلم كلمة هى وحدها آية إلا قوله: مدهامتان.
وقال غيره: بل فيه غيرها مثل والنجم والضحى والعصر وكذا فواتح السور عند من عدها، قال بعضهم: الصحيح أن الآية إنما تعلم بتوقيف من الشارع كمعرفة السورة، قال:
فالآية طائفة من حروف القرآن علم بالتوقيف انقطاعها معنى عن الكلام الذى بعدها فى أول القرآن، وعن الكلام الذى قبلها فى آخر القرآن وعما قبلها وما بعدها فى غيرهما، غير مشتمل على مثل ذلك، قال: وبهذا القيد خرجت السورة.
وقال الزمخشرى: الآيات علم توقيفى لا مجال للقياس فيه؛ ولذلك عدوا «الم» آية حيث وقعت و«المص» ولم يعدوا «المر» و«الر» وعدوا «حم» آية فى سورها و«طه» و«يس» ولم يعدوا «طس».
قلت: ومما يدل على أنه توقيفى، ما أخرجه أحمد فى مسنده من طريق عاصم بن أبى النجود، عن زر، عن ابن مسعود، قال: أقرأنى رسول الله ﷺ سورة من الثلاثين من «حم» قال: يعنى الأحقاف.
وقال: كانت السورة إذا كانت أكثر من ثلاثين آية سميت الثلاثين، الحديث.
وقال ابن العربى: ذكر النبى ﷺ أن الفاتحة سبع آيات وسورة الملك ثلاثون آية وصح أنه قرأ العشر الآيات الخواتم من سورة آل عمران، قال: وتعديد الآى من معضلات القرآن، وفى آياته طويل وقصير، ومنه ما ينقطع، ومنه ما ينتهى إلى تمام الكلام، ومنه ما يكون فى أثنائه.
وقال غيره: سبب اختلاف السلف فى عدد الآى أن النبى ﷺ كان يقف على رءوس الآى للتوقيف، فإذا علم محلها وصل للتمام، فيحسب السامع حينئذ أنها ليست فاصلة.
وقد أخرج ابن الضريس من طريق عثمان بن عطاء، عن أبيه، عن ابن عباس، قال: جميع آى القرآن ستة آلاف آية وستمائة آية وست عشرة آية وجميع حروف القرآن ثلاثمائة ألف حرف وثلاثة وعشرين ألف حرف وستمائة حرف وأحد وسبعون حرفا.
قال الدانى: اجمعوا على أن عدد آيات القرآن ستة آلاف آية، ثم اختلفوا فيما زاد على ذلك، فمنهم من لم يزد، ومنهم من قال: ومائتا آية وأربع آيات، وقيل وأربع عشرة، وقيل وتسع عشرة، وقيل وخمس وعشرون، وقيل وست وثلاثون.
قال السيوطى: أخرج الديلمى فى مسند الفردوس من طريق الفيض بن وثيق، عن فرات بن سلمان، عن ميمون بن مهران، عن ابن عباس مرفوعا: درج الجنة على قدر آى القرآن بكل آية درجة، فتلك ستة آلاف آية ومائتا آية وست عشرة آية بين كل درجتين مقدار ما بين السماء والأرض.
قال فيه ابن معين: كذاب خبيث.
وفى الشعب للبيهقى من حديث عائشة مرفوعا: عدد درج الجنة عدد آى القرآن، فمن
1 / 21
دخل الجنة من أهل القرآن، فليس فوقه درجة.
قال الحاكم: إسناده صحيح، لكنه شاذ.
وأخرجه الأجرى فى حملة القرآن من وجه آخر عنها موقوفا.
قال أبو عبد الله الموصلى فى شرح قصيدته «ذات الرشد فى العدد»: اختلف فى الآى أهل المدينة ومكة والشام والبصرة والكوفة، ولأهل المدينة عددان، عدد أول وهو عدد أبى جعفر يزيد بن القعقاع وشيبة بن نصاح، وعدد آخر وهو عدد إسماعيل بن جعفر بن أبى كثير الأنصارى.
وأما عدد أهل مكة، فهو مروى، عن عبد الله بن كثير، عن مجاهد، عن ابن عباس، عن أبى بن كعب، وأما عدد أهل الشام، فرواه هارون بن موسى الأخفش وغيره، عن عبد الله بن ذكوان وأحمد.
***
القراءات القرآنية
تعريف القراءة:
فى اللغة: قال أبو الحسن اللحيانى يقال: قرأت القرآن، وأنا أقرؤه قرءا وقراءة وقرآنا، وهو الاسم، وأنا قارئ من قوم قراء وقرأة وقارئين، وأقرأت غيرى، أقراته إقراء، ومنه قيل:
فلان المقرئ. ويقال: اقرأت من سفرى، أى: انصرفت، واقرأت من أهلى، أى: دنوت، وأقرأت حاجتك وأقرأ بأمرك. ويقال أعتم فلان قراه وأقرأه، أى حبسه. ويقال قرأت: إذا صرت قارئا ناسكا، وتقرأت بهذا المعنى، وقال بعضهم: تقرأت: تفقهت.
ويقال: أقرأت فى الشعر. وهذا الشعر على قرء هذا الشعر، أى على طريقته ومثاله.
وقال ابن بزرج: هذا الشعر على قرى هذا الشعر وغراره.
وقال اللحيانى: يقال: قارأت فلانا مقارأة، أى دراسته، واستقرأت فلانا. (انظر تهذيب اللغة «قرأ» ٢٧٥/ ٩).
فى الاصطلاح: هى اختلاف ألفاظ الوحى فى الحروف، وكيفيتها من تخفيف وتشديد وغيرهما. (انظر الإتقان ٨٠/ ١).
***
أنواع القراءات وشروطها:
اعلم أن القاضى جلال الدين البلقينى، قال: القراءة تنقسم إلى متواتر وآحاد وشاذ، فالمتواتر القراءات السبعة المشهورة، والآحاد قراءات الثلاثة التى هى تمام العشر وتلحق بها
1 / 22