ولكن محمد علي ما لبث أن وزن طاهرا، فلم يجده كفؤا للقيام بالدور؛ لأن طاهرا بدا رجلا سليبا مهووسا، يميل إلى السلباء والمجاذيب والدراويش؛ عمل له خلوة في الشيخونية، كان يبيت فيها كثيرا، ويصعد مع الشيخ عبد الله الكردي إلى السطح في الليل، ويذكر معه، أو يجتمع بأشكال من الناس مختلفي الصور، فيذكر معهم ويجالسهم، ويظهر الاعتقاد فيهم، فأدى ذلك إلى أن كثيرين من الأوباش تزيوا بما سولت لهم نفوسهم من الأزياء المستغربة، ولبسوا طراطير طوالا ومرقعات ودلوقا، وعلقوا جلاجل وبهرجانات وعصيا مصبوغة فيها شخاشيخ وشراريب، وطبلات يدقون عليها، وأخذوا يصرخون ويزعقون، ويتكلمون بكلمات مستهجنة وألفاظ موهمة بأنهم من أرباب الأحوال، حتى كادت العاصمة تصبح عاصمة مجانين، وشوارعها ودروبها طرقات بيمارستان عظيم. ويقول الجبرتي: إنه لو طال عمر طاهر باشا هذا لأهلك الحرث والنسل.
ولم يكن الجند العثماني قد اشترك مع الألبانيين في ثورتهم على خسرو، ولو أنه كانت لهم متأخرات هم أيضا، فاستعملهم محمد علي من وراء ستار؛ لإزاحة طاهر من السبيل، وحمل من أوعز إليهم مطالبته بتلك المتأخرات، المرة بعد المرة، فماطلهم طاهر في بادئ الأمر، ولكنه صرح لهم في النهاية بأنه غير مسئول عن مرتبات الجند إلا منذ يوم قيامه على سدة الأحكام، وأنه يجب على المطالبين إذا توجيه طلباتهم إلى سلفه، فلم يقنعهم القول، ولما كان يوم 25 مايو، ذهب ضابطان عثمانيان إلى سرايه، وطلبا إليه مرة أخرى النظر في أمر المتأخرات فرفض؛ فحمي وطيس الجدال بينهم، وعلت تهديدات طاهر، فانقض الضابطان عليه، وطعناه بيطقاناتهما (نوع من السيوف الألبانية)، ثم قطعا رأسه وقذفا به من النافذة التي كان جالسا بجانبها، فما رأى الألبانيون رأس زعيمهم مقطوعا إلا وجنوا غيظا، وهبوا للانتقام من العثمانيين، فدارت بين الفريقين معركة هائلة جرت فيها الدماء أنهارا، وانتهت بإحراق السراي. ثم اجتمع زعماء العثمانيين للنظر في الأمر، فقرروا تقليد الولاية رجلا يقال له أحمد باشا كان، مارا بالقطر المصري في طريقه إلى جدة، فلم يستطع الرفض، ولكنه لشعوره هو وقومه بالقوة الخفية المسيرة الأمور أرسل في المساء أكابر المشايخ ليحملوا (محمد علي) على الرضاء به. وكان اعتدال محمد علي الظاهري قد أمال القلوب إليه وزاده ما انضم إلى جنده من جند طاهر باشا بعد قتله عزيمة واقتدارا، فرأى أنه يستطيع القضاء على حزب العثمانيين، فرفض بلطف وثبات معا استماع أقوال رسل أحمد باشا، واغتنم قرب معسكره من معسكر المماليك الذين استدعاهم طاهر باشا، لإبرام محالفة معهم، فلما وقعوها وتآخى محمد علي مع البرديسي، بأن جرح كل منهما نفسه وشرب من دم أخيه، أرسلوا - جميعهم معا - رسالة إلى أحمد باشا يكلفونه فيها بالانسحاب ومغادرة القطر، فامتثل الرجل على شرط أن يعطى من الوسائل ما يمكنه من السفر إلى جدة، ولكنه تحصن مع ذلك هو وجماعته في مسجد الظاهر، الذي كان الفرنساويون حولوه مدة إقامتهم في مصر إلى حصن دعوه سولكفسكي، فسير إليه المتحالفون ألفي ألباني استولوا عليه عنوة، أما أحمد باشا فإنه أبقي أسيرا، وأما الضابطان اللذان قتلا طاهر باشا، ثم انضما إلى أحمد باشا ليفرا من ثأر الألبانيين لقائدهم المغدور به؛ فقطع رأساهما.
أمين بك المملوك الشارد.
بعد ذلك أعلن عفو عام باسم محمد علي وإبراهيم بك وعثمان بك البرديسي - وأما الألفي فكان قد توجه إلى إنجلترا مع الجيش الإنجليزي - واستولى المماليك على القلعة واحتل الألبانيون القاهرة.
وما استتب الأمر للمتحالفين إلا وأخذوا يتجهزون للقضاء النهائي على خسرو باشا. وكان هذا الوالي - وقد طارده طاهر باشا حتى ألجأه إلى الاعتصام بدمياط - غادر هذا الثغر وسار إلى مصر أول ما بلغته أنباء الثورة على طاهر. ولكنه علم وهو في الطريق انكسار أحمد باشا ودخول المماليك العاصمة، فارتد على عقبيه. وما عتمت قوى المتحالفين تحت قيادة محمد علي والبرديسي أن أتت وعددها عشرة آلاف مقاتل، وشددت عليه الحصار، فاستولت على دمياط عنوة ونهبتها، فلجأ خسرو إلى حصن عند مصب النيل، ولكنه ما لبث أن نزل على حكم أعدائه ووقع في أسرهم، فأرسله الفائزون إلى مصر وأقاموا إبراهيم بك عليه حارسا.
في هذه الأثناء وردت أوامر الأستانة التي كان طاهر باشا بعث يطلبها بعد المناداة به قائمقاما، فهل تظن أيها القارئ أنها تضمنت توبيخا على ما اقترف ضد خسرو باشا، واليها الرسمي، أو أية إشارة كانت إليه؟ ولا في المنام! ولكنها قضت بالاعتراف بولاية أحمد باشا، الذي كان إذ ذاك في السجن يندب سوء طالعه.
على أن الأستانة، لما بلغتها تفاصيل الحوادث كلها، أحست بأنها إن هي سكتت على تحالف المماليك والألبانيين ضاعت مصر عليها، فلملافاة هذا الخطر المداهم رأت أن ترسل واليا جديدا من لدنها، وتعززه بألف رجل، كأن ألف رجل قوة يؤبه لها أمام أربعة آلاف ألباني وخمسة آلاف أمير مملوك.
وكان اسم الوالي الجديد علي باشا الجزائرلي. وهذا اللقب أتاه من أنه بدأ حياته العملية بصفة مملوك باي الجزائر.
وأما الأعمال التي استحق من أجلها أن يرفعه الباب العالي إلى منصب ولاية مصر الرفيع، فهي أنه فر من قصر باي الجزائر لدى موت مولاه إلى سفينة حسن باشا أمير الأسطول العثماني، مهدى إليه من صهر باي الجزائر، الذي أبى الاحتفاظ به لأن أخا علي المدعو سعيدا كان في حيازته، واشمأز صهر الباي هذا من الجمع بين الأخين، فلما كبر علي جعل مولاه الجديد الديوان يعينه واليا على طرابلس الغرب - وكانت في قبضة أخي حمودة باشا والي تونس - فذهب علي إليها وحاصرها واستولى عليها بولس من أهلها، فكافأهم على خدمتهم له بنهبها وسلبها وارتكاب كل أنواع الفظائع فيها. ولكن أخا حمودة باشا عاد إليها بقوة، فلم يجسر علي على مقابلته، وفر بخزي مصطحبا معه غلامين بصفة رهينتين. ولخوفه من الذهاب إلى الأستانة، لتوقعه عقابا صارما فيها، توجه إلى مصر، والتجأ إلى مراد بك، زعيم المماليك في تلك الأيام، فما استقر لديه إلا ووردت أوامر الديوان بنفيه إلى قلعة أبريم في النوبة. ولكن عليا، بدل الذهاب إليها، قصد مكة المكرمة لأداء فريضة الحج، ومعه غلاماه، فعرفه بعض حجاج طرابلسيين. وتربصوا به حتى ضبطوه وهو متلبس بفاحشة مع الغلامين في دائرة الحرم، فحكم عليه أمير الحج الدمشقي بالضرب بالسياط حتى يموت. ولكن بعض الأمراء المصريين توسطوا له، وهو تحت العصا، وحملوا الأمير على إبدال بقية الحكم بحلق لحية الجاني؛ تخجيلا له وتحقيرا؛ لأن اللحية كان ينظر إليها أهل ذلك العصر بأنها علامة الرجولة؛ فنجا علي من الموت بذلك، وعاد إلى كنف مراد. فلما داهمت الحملة الفرنساوية مصر خرج مع مراد للقتال، ولكنه هابه ونجا بنفسه مع من فر من المماليك إلى سوريا، وأقام هناك إلى أن عاد برفقة الصدر الأعظم يوسف باشا، فأرسله هذا الصدر - بعد هزيمته في عين شمس - إلى الأستانة، ونال له صفحا عما مضى، فأقام علي في الأستانة، تحت رعاية الوزير، لا يدري التاريخ له عملا، حتى عينته هذه الرعاية واليا على مصر، في ظروف كانت تقتضي منتهى التبصر في التعيين.
إبراهيم باشا بلباسه العسكري.
ناپیژندل شوی مخ