مقدمة المؤلف
سياسي صادق
انفصال الباكستان
الرواد والآباء
العالم الإسلامي
الملتقى
أسرته وطفولته
حياته العامة
الثقة
المرحلة الثانية
حياته الخاصة
الباكستان بين الماضي والحاضر
موازنة بين غاندي وجناح
مقدمة المؤلف
سياسي صادق
انفصال الباكستان
الرواد والآباء
العالم الإسلامي
الملتقى
أسرته وطفولته
حياته العامة
الثقة
المرحلة الثانية
حياته الخاصة
الباكستان بين الماضي والحاضر
موازنة بين غاندي وجناح
القائد الأعظم محمد علي جناح
القائد الأعظم محمد علي جناح
تأليف
عباس محمود العقاد
مقدمة المؤلف
كتبت عن القائد الأعظم كلمة تقدير يوم سمعت بنعيه منذ ثلاث سنوات، اعتمدت فيها على المعلومات المتفرقة التي تناثرت إلينا من أخبار الصحافة والإذاعة، وكلها نتف قصيرة لا تجتمع منها سيرة وافية تكفي للتعريف بالرجل العظيم.
ولكن هذه المعلومات كانت كافية للتنويه بعظمة الرجل، وإن لم تكن كافية لتأليف كتاب في سيرته، وقد كان تأليف كتاب عن «جناح» من الموضوعات التي أعقد النية عليها في سياق متابعتي للحوادث العصرية، ثم أترك تحقيقها لحينه كلما استطعت التفرغ لموضوع بعد موضوع.
وقد كان محمد علي جناح وفاق شرط العظمة عندي بين زعماء الأمم ودعاة الأمم المغلوبة إلى الاستقلال.
وشرط العظمة عندي في هؤلاء الزعماء: همة الجبابرة من رجال العمل، وطموح المثاليين من المؤمنين بالفكرة ... وهما خلصتان لا تخفيان من أقل الأخبار التي تروى عن جناح في إبان جهاده، فإنه رجل تصدى بهمته العالية لتحقيق فكرة مثالية، سمع بها «الخبراء» فأجمعوا - أو كادوا يجمعون - على أنها مستحيلة، وأن جناحا يتخبط في الظلام وراء خيال لا يطلع عليه النور.
وطلع النور على الخيال، فإذا هو «خيال» ثابت كالجبال: كان جناح وفاق شرط العظمة بهذا وبما يزيد عليه، وهو الخلق المكين الذي يقاوم كل إغراء ولا يتخاذل أمام الوعيد.
والتمست المراجع الوافية عنه فلم أجدها، ثم تتبعت هذه المراجع سنة بعد سنة، واطلعت منها على الكتب وعلى الفصول، ومنها ما كتبه أبناء الباكستان، وما كتبه المنصفون من الغربيين في عرض الكلام على السياسة الشرقية، ومنها ما كتبه من أبناء الغرب والشرق أناس غير منصفين، ولكنهم يروون على الرغم منهم أخبار الرجل فتعليه وتزكيه من حيث يريدون انتقاصه والقدح فيه، ورب واقعة يسوقها العدو فيسجل بها شهادة لا تتهم؛ لأنها تكشف من مواطن للثناء لا يقصدها الأعداء.
وتجمعت المراجع التي تكفي لتأليف كتاب عن القائد الأعظم فألفت هذا الكتاب. •••
قال لي بعض أصحابي حين علموا أنني أكتب كتابا عن جناح: «لا جرم وقد كتبت عن غاندي ألا تفوتك الكتابة عن جناح!»
خاطر طبيعي لا غرابة في سبقه إلى الأذهان؛ لأن السبب الذي تخيلوه للكتابة عن محمد علي جناح سبب وجيه، فمن حق الباكستان علينا ألا نسكت عن زعيمها وقد أعطينا الهند حقها في زعيمها، ومقام القائد الأعظم في الشرق قرين لمقام «المهاتما» الذي سميناه بالروح العظيم.
على أن هذا السبب «الوجيه» لم يكن هو في الواقع سبب تأليف الكتاب.
لأنني «أولا» لم أؤلف كتابي عن غاندي رعاية لدولة الهند، ولا لمرجع من مراجع السياسة، ففي الكتاب ما لا يوافق الهند ولا يوافق الباكستان.
إنما ألفت الكتاب عن غاندي «بحقه الشخصي» أو بحق عظمته، ومغزى هذه العظمة في تاريخ الإنسان.
ولأنني «ثانيا» قد نويت الكتابة عن جناح وعن غاندي في وقت واحد، ولكنني وجدت المراجع لكتاب غاندي متوافرة متكاثرة، ولم أجد المراجع لكتاب القائد الأعظم كاملة أو قريبة من الكاملة، إلا منذ بضعة أشهر.
وكتبت عن جناح كذلك «بحقه الشخصي» وحق عظمته ومغزاها الخالد في تاريخ الإنسان.
فالكتابة عن القائد الأعظم واجبة؛ لأنها تجلو للناس، وللشرقيين خاصة، صورة من صور العظمة الإنسانية.
وهي عدا هذا واجبة لدلالتها في تفسير أطوار الأمم وأسرار التاريخ، والزاد الذي يتزوده الدارسون من سيرة جناح في هذا الباب أوفر من زادهم في سير عشرة من العظماء.
وهذا الذي عنينا به عناية خاصة في وصف عظمة الرجل، ووصف العظات التي يخرج بها نقاد التاريخ من نشأة الباكستان.
وبين يدي القارئ صورة من صور العظمة الإنسانية، ودرس لا نظير له في فلسفة التاريخ، أو فيما نسميه العوامل التي نتطلع إليها من وراء حركات التاريخ.
عباس محمود العقاد
محمد علي جناح.
سياسي صادق
نادر المثال
قرأت أكثر من مائتي بيان للقائد الأعظم زعيم الباكستان محمد على جناح ... منها الخطب في المحافل، والرسائل إلى الأصدقاء والخصوم، والتصريحات في الصحف، والمناقشات والمساجلات: ما هو مكتوب منها وما هو ملفوظ مرتجل، فخرجت منها بعقيدة راسخة عن عظمة هذا الرجل. إن القائد الأعظم ولا شك رجل عظيم نادر المثال بين عظماء الرجال.
لم أتبين هذه العظمة من بلاغة أسلوبه، فإن الزعماء الذين هم أبلغ منه كثيرون ...
ولم أتبينها من سعة معلوماته، فإن سعة المعلومات والعظمة لا تتلازمان في جميع الأحيان ...
ولم أتبينها من قوة العقل، فقد يكون العقل قويا وصاحبه غير عظيم، بل قد يكون العقل قويا في الشر والأذى فلا يحسب صاحبه من عظماء الأمم، ولا من عظماء الإنسانية ...
لكنني تبينتها من خصلة نادرة جدا في قادة الشعوب، وهي «الصدق الصريح في جميع الأقوال وجميع الأحوال»!
فمن المألوف في قادة الشعوب أن تكثر في أقوالهم الوعود الطنانة والكلمات البراقة، وأن يكون خطابهم للجماهير كالتنويم الذي يسوقها إلى الطريق التي يهواها الخطيب.
ويتفق كثيرا أن يكون الزعيم مخلصا غيورا على مصلحة قومه وهو يتصرف بتلك الأساليب ... ولكنه يخاطب الناس بما تعودوه، ولا يبالي أن يقنعهم بالوسيلة التي يرضاها ما دام إقناعهم للخير والفلاح، وما دامت قيادتهم لا تتأتى بغير هذه الوسيلة، ولو أنني وجدت في كلمات القائد الأعظم مسحة من هذه الألوان الخطابية لما أصغرته من أجلها، ولا اتهمته في إخلاصه وصدق دعوته، ولكنني أكبره لا محالة إذا خلا كلامه منها، وبلغ مع هذا غايته وغاية قومه على أقوم منهاج.
تحدث القائد الأعظم بهذه الأقوال أو كتبها خلال أربعين سنة من عنفوان صباه إلى أن علت به السن وجاوز السبعين، فلم تختلف في واحدة منها تلك المزية التي تكبره وترفعه للناس مثلا بين زعماء السياسة وقادة الشعوب ... وهي مزية الصدق الصريح، بل مزية الصدق البسيط الواضح الذي لا يشوبه مرة واحدة تزويق أو تنميق.
كل ما قرأته له من تلك البيانات التي جاوزت المائتين صالح لأن يقال أمام هيئة علمية محققة، أو أمام هيئة قضائية بعد حلف اليمين.
وعد في حدود الإمكان والنفاذ، وصدق تتساوى فيه الروية والارتجال، وخطاب للجماهير يصارحهم فيه بعيوبهم أحيانا، ولا يتملقهم حينا واحدا بقول لا يقوله بينه وبين نفسه على انفراد.
إن هذا الرجل عجيب ... إن هذا الرجل عظيم ...
وأدعى إلى العجب منه والإيمان بعظمته أنه نشأ على مذهب الإسماعيلية المعتدلين، ومذهبهم يبيح للمعلم أن يصطنع التقية، وأن يخاطب الناس على درجات في الفهم والإقناع، ولكن الرجل لم يتقيد بهذا المذهب في هذه الخصلة، ولا في غيرها من الخصال، ولم يفارق سجيته التي فطر ودرج عليها ومات عليها، شبابه فيها وشيخوخته سواء.
موقفه من الطلبة والعمال
كان الزعماء جميعا يخطبون ود الطلبة الذين يتعلمون في البلاد الإنجليزية، ويعلمون أنهم عماد المستقبل، وأن من يكسبهم في حاضرهم يكسب الجيل المقبل في السياسة وفي القيادة الشعبية، ولكنه كان يؤمن بأن الطالب يحق له الاهتمام بأمراض قومه، ولكنه لا يحق له أن يتصدى لمعالجتها، ولما دعي لمخاطبتهم في سنة 1913 قال لهم وكان يومئذ في مقتبل حياته السياسية:
إن موقف الطلبة في هذا البلد فرد بغير نظير؛ لأنهم نموذج مختار من صفوة أبناء الأمة الهندية، وخيرة من تستطيع إخراجهم وتربيتهم، إنهم هنا الأمناء على سمعة بلادهم، ويسوءني أن أقول: إنهم في الوقت الحاضر من حيث العلاقة بالمجتمع البريطاني لا يظفرون بسمعة حسنة ولا بسيرة طيبة، فهم بدلا من سلوك مسلك الطلبة في التعلم والانتفاع بأفضل ما في الحضارة البريطانية التي لم يكسبها القوم إلا بعد رياضة العصور المتعاقبة يغفلون هذا الواجب ويقصرون حياتهم العامة على التراشق بالعبارات النابية في خصومات السياسة، دعوني أذكركم أنكم لم تدركوا بعد مرتبة الكفاية لتناول المسائل السياسية التي تتمثل في بلادكم، وما من أحد يقدر غيرتكم فوق قدري لها، ويفهم الأسباب التي حملتكم على ما تصنعون خيرا مما أفهمها، ولكن الوقت قد حان لإعادة النظر في موقفكم بعين الجد والسداد ... وتسألونني ما هو المطلب الذي يراد من جماعتنا، فاعلموا أننا في دور الاستعداد لتنشئة الأحوال التي تمتد بها نظرتنا القومية إلى نطاق أوسع وأكمل، واعلموا أن الرجال الذين يساهمون اليوم بالنصيب الأوفى في السياسة الهندية هم أناس تعلموا في إنجلترا وعادوا إلى بلادنا لخدمتها، فاختلطوا بالبيئات الإنجليزية واتخذوا الأصحاب منها، وليكن واجبكم الأول قبل هذا أن تلتقوا أبناء وطنكم وتعرفوهم حق معرفتهم، فإن مقامكم بإنجلترا هو الفرصة التي تجمعكم بغيركم من أبناء الهند الذين ينتمون إلى جميع أقطارها.
وخاطب الطلاب في كلية عليجرة الهندية؛ وقد مضى أربعون سنة على ذلك الخطاب في إنجلترا فقال:
اجتهدوا أولا في رياضة أنفسكم على الشعور بالتبعة والواجب، وليكن همكم بناء أخلاقكم فهو خير من الشهادات والإجازات، إن العناء في تحصيل الشهادات والإجازات بغير خلق ضائع، وعليكم أن تربوا في أنفسكم روح الكرامة والاستقامة والقيام بما هو مفروض عليكم، وما نحن دون غيرنا من الأمم مقدار ذرة، وإنما كانت آفتنا من إهمالنا لهذه الصفات ونحن قادرون عليها، وصدقوني عن يقين: إن الباكستان لكم خالصة يوم تتمكن هذه الصفات منكم.
وكان القائد الأعظم يزور كلكتا في شهر مارس (سنة 1946) داعيا للعصبة الإسلامية؛ فوجه إليه وفد من العمال بعض الاعتراضات على تكوين العصبة وقال له أحدهم: يقول الناس: إن العصبة الإسلامية طائفة من الأغنياء لا محل بينها للفقراء.
فأجابه القائد الأعظم قائلا في صراحته التي لا التواء فيها: «من هم أولئك القائمون بالعصبة؟ إنهم ليسوا أغنياء، ودستور العصبة، بعد، دستور ديمقراطي، فإن كان في العصبة أغنياء طماعون فهم هناك لضعفكم أنتم وتهاونكم؛ لأنكم لا تختبرون قائدكم قبل اتباعه، وما للزعماء من قوة غير التي يستمدونها من الشعب ومن الفقراء، فعليكم قبل أن تسلموهم زمام القوة أن تختبروهم؛ فمن وجدتموه غير أهل للأمانة فانبذوه.»
قال أحد العلماء: «إن بعض الرؤساء لا يهتمون اهتماما فعالا بشئون الشعب وشكاياته.» فعاد القائد الأعظم يقول: «إذن عليكم أن تخرجوهم، فإنما أنتم الذين تصنعون الزعماء، فإن لم يعرفوا الأمانة فلا تقلدوهم الزعامة، وعاملوني أنا هذه المعاملة، واتخذوا من مستر تشرشل مثلا تعتبرون به، فإنه على كونه أنجح قادة الحرب قد نبذته أمته.»
شجاعته في معارضة الجماهير
واتفق مرة أن هيئة المؤتمر وهيئة العصبة الإسلامية معا أجمعتا على سياسة واحدة في مسألة الخلافة، ولم يكن جناح على رأيهم في الخطة التي أجمعوا عليها، فوقف وحده يعارض المؤتمر والعصبة ومن ورائهما الجموع الثائرة ... وكان في الاجتماع نحو خمسة عشر ألفا يتلهبون حماسة، ويصفقون للمقترحات المعروضة عليهم تصفيق المأخوذين بنشوة عارمة لا يقف في طريقها معترض يبالي بشهرته، بل بحياته، إلا هذا الرجل الفذ العجيب، فإنه لم يوافق ولم يسكت، ووقف وحده ينقد آراء الخطباء وحماسة المجتمعين، وكان في الهند يومئذ مستر ودجوود مندوب حزب العمال، فكتب يقول: «إن الهند ماضية في طريق الحرية؛ لأن فيها رجلا يستطيع أن يثبت على رأيه في وجه الجموع المخالفة!»
أما مستر جنتر مؤلف الكتب المشهورة عن داخل أوروبا، وآسيا، وأمريكا فقد قال: «إن الرجل حفر قبره بيديه.»
وتؤاتيه هذه الشجاعة إذ يخاطب الغوغاء وهم في غليان التعصب، كما تؤاتيه إذ يخاطب جمهورا من أعضاء المؤتمر والعصبة، فمن مواقفه التي يندر جدا أن يقدم عليها أحد من الساسة موقفه بين المسلمين والسيخيين في خلافهم على موقع تنازعوه، فقال المسلمون: إنه مسجد قديم، وقال السيخيون: إنه ملك لأجدادهم لا ينزلون عنه، وهاجت الفتنة هياجها وتساءل الناس كيف يواجه الرجل هذه الثورة الجائحة، فإذا به يذهب إلى مكان الاجتماع هادئا ساكنا كأنه يذهب إلى مجلس سمر، وتطلع إليه المجتمعون فلم يتكلم ولبث هنيهة يدخن سيجارته حتى فرغ من تدخينها، وبدلا من أن يعديه هياج الجموع أعدى الجموع هدوءه وسكينته فسكنت جائشتهم، وظلوا يترقبون كيف يبدأ الكلام وما عساه يقول، فلما تكلم كان كلامه آخر شيء توقعوه؛ لأنه لم يتملقهم ولم يجاملهم، بل أخذ في تبكيتهم؛ لأنهم يتعرضون لمسألة دينية بوسائل غير دينية، وليست مما ترضاه عقيدة المسلمين ولا عقيدة السيخيين، ومن عجيب قوته أنه أخجلهم ولم يثرهم بذلك التبكيت، ثم مضى يعرض للمسألة المختلف عليها، ويبين لهم أنها من المسائل التي تعرض على القضاء ليفصل فيها بالحجة والبينة؛ لأنها نزاع على عقار، فإن ثبت أنه مسجد قديم فالمسلمون أولى به، وإن لم يثبت فشأنه شأن كل بقعة يملكها غير المسلمين.
وقد أبت صراحته في كل موقف أن يجامل الهيجة الغالبة في وقت من الأوقات، وإن هانت فيه ظواهر المجاملة، فماذا عليه مثلا لو لبس كساء الزي الشائع الذي اصطلح عليه جماعة المغزل من البراهمة والمسلمين اقتداء بالمهاتما المبشر بذلك الكساء؟ لقد كان في اجتماع ناجبور الذي سبقت الإشارة إليه نحو خمسة عشر ألفا يلبسون «الخادي» ولكنه هو وحده حضر الاجتماع بملابسه المعتادة؛ لأنه لم يكن يؤمن بحركة المغزل، فلا يبيح له ضميره أن يلبس «الخادي» ساعة أو سويعات، وهو لا يرى في حركة المغزل حلا للقضية الهندية.
والذين خبروا الرجل من قريب يشهدون له بهذه الصراحة المستقيمة التي تشهد بها أقواله وأفعاله، ومنهم إنجليز وبرهميون، ومنهم مسلمون يخاصمونه ولا يقرون سياسته، ومنهم من اتهم غاندي في صراحته ولم يخطر له قط أن يتهم صراحة جناح، قال بيفرلي نيكولاس
Beverly Nicholas : «إن الفرق بين جناح والسياسي الهندي هو الفرق بين الجراح والساحر.» وقال الديوان شمان لال: «إنه أحد الرجال القلائل الذي لا يخدم مأربا شخصيا ولا يرمي إلى غاية نفعية. إن نزاهته فوق الشبهات.»
ومع هذه الصراحة يشهدون له بقدرته على الإقناع، وتأتي هذه الشهادة ممن لا يشهدون لشرقي بالرجحان على أساطين الغربيين في أمر من الأمور، قال مونتاجو وزير الهند في الحكومة البريطانية: «إن شلمسفورد حاول أن يناقشه فوقع في كتافه، وإنه لرجل بارع جدا، ومن الغبن الصارخ أن رجلا مثله لا تتاح له الفرصة لتدبير أمور بلاده.»
قرأت ما قرأت للرجل، وقرأت ما قرأت عنه، فلم أجد ظلا واحدا يخالط ذلك النهار الواضح من صدقه واستقامته في تعبيره: سياسي لا يبطن غير ما يظهر، ولا يعني القليل وهو يجهر بطلب الكثير، ولا يدخر للصفقة الأخيرة مساومة لم يكشفها من الصفقة الأولى، وهو يقود أتباعه بغير خداع ولا تهويل ولا تهوين ولا تنويم، فكيف أفلح في مسعاه وقد أفلح فيه حقا غاية ما يستطاع من الفلاح؟
لا بد من سر في الرجل، أو لا بد من سر في القضية التي تجرد لها، ولعل السر في الرجل والقضية معا وهو الذي قدرناه ولمسنا شواهده، ولم نزل نلمسها كلما اطلعنا على جديد في سيرة جناح وسيرة الباكستان، وفي الصفحات التالية بيان هذا السر المبين.
انفصال الباكستان
ضرورة لا محيد عنها
كان انفصال الباكستان ضرورة لا محيد عنها ... ضرورة حاول ساسة الهند جميعا أن يتجنبوها فلم يفلحوا، وأن يتجاهلوها فلم يستطيعوا؛ لأنها غير قابلة للتجنب أو التجاهل، فهي الحل الوحيد الذي تستقر عليه مشكلات الهند كما تستقر المادة في موضعها بحكم قوانينها، فهي ختام كل محاولة.
وقد كانت المحاولات كثيرة متعددة، وكان المشتركون فيها كثيرين متعددين، منهم إنجليز ومنهم هنود برهميون، أو بوذيون، أو جينيون، ومنهم هنود مسلمين على مذهب السنة أو على مذهب الشيعة، وقد يكون من حسن الشهادة للزعماء المسلمين أنهم جميعا بدءوا حياتهم السياسية وهم من أنصار الوحدة الهندية التي تشمل أقوام الهند كافة، وأنهم جميعا جربوا كل محاولة قبل المحاولة الأخيرة، ولكنهم كما أسلفنا كانوا يتجاهلون حقيقة لا تقبل التجاهل، فعادوا إلى الاعتراف بها مكرهين، ثم آمنوا بها إيمانا لا يزعزع، لأن التجارب التي استغرقت كل تجربة معقولة قد خلصتها من الشكوك، وختمت بالحسم الفاصل كل محاولة، فلا سبيل إلى محاولة جديدة.
وكان إيمان الجماهير في هذه القضية سابقا لتفكير الزعماء.
كان إيمان الجماهير بوجوب الانفصال شيئا أقوى من الرأي وأقوى من الرغبة وأقوى من الهوى، كان كأنه القابلية المادية التي تتمثل في خصائص الأجسام: جسم لا يقبل الذوبان في جسم آخر، فلا موضع هنا للآراء ولا للرغبات ولا للأهواء.
لهذا تساوى منطق جناح وشعور أتباعه، ولهذا تلاقى تفكيره العملي وغيرتهم القبلية، فلم تكن به حاجة إلى إثارة شعور أو تلبيس حقيقة بطلاء مقبول؛ لأن الكلمة الصريحة المستقيمة هنا كافية بل فوق الكافية؛ إذ هي الكلمة اللازمة دون غيرها، فكل ما عداها ضياع وإسراف وفضول، ومن عجائب القصد في أطوار الطبيعة أن يدخر جناح للنهوض بأعباء هذه القضية؛ لأنها قضية لا تتطلب زعامة تنفق جهودها في التزويق والتأثير، بل تتطلب الزعامة التي تجسمت قوتها كاملة في الصراحة والاستقامة إلى القصد، وتجمعت وسائلها كلها في التنظيم ومضاء العزيمة وصحة التفكير، فكان تفكيره السليم وغيرة أتباعه قوتين متشابهتين في العمل والاتجاه.
كان معظم المتتبعين لمشكلات الهند يتخيلون مسألة الباكستان كأنها مسألة قلة تنشق عن الكثرة في وطنها، وكانوا يحكمون عليها كما تخيلوها فيخطئون غاية الخطأ، ولا يحسنون الاهتداء إلى رأي سديد في تلك المشكلات.
وتصحيح هذا الخطأ هو الخطوة الأولى التي لا بد منها قبل الاستقامة على الطريق السوي، فإذا صحح هذا الخطأ أول الأمر؛ فكل خطوة بعده واضحة لمن يريد أن يبصر بعينيه.
لم تكن الهند قط وطنا واحدا بأي معنى من معاني الوطنية، ولم يكن لها قط اسم واحد قبل دخولها في حوزة الدولة البريطانية، وإنما أطلق عليها هذا الاسم؛ لأنه أيسر من اختراع اسم جديد، وما كانت الهند قبل ذلك تطلق على غير نهر السند ثم واديه، وهو جزء من القارة الهندية كان يجهله كثير من سكانها المتفرقين في أرجائها الفساح.
بل لم تكن قط وحدة جغرافية في زمن من الأزمان؛ إذ كانت المواصلات فيها منقطعة أو متعذرة، فلم تكن أنهارها موصلة إلى جميع أجزائها، ولم تكن وسائل النقل فيها تقوى على وحول الأمطار في الشتاء، ولم تكن الحاجة إليها ماسة في غير الشتاء.
وليس سكانها من جنس واحد ولا هم يتكلمون لغة واحدة، فمنهم الآريون والسود، ومنهم قبائل من المستوحشين يبلغون نيفا وعشرين مليونا، ويرجح علماء الأجناس أنهم من أصول القبائل الأسترالية، وقد أحصى السير جريرسون
Grierson
اللغات واللهجات التي يتكلمها هؤلاء السكان الهنديون، فبلغت نحو مائتين وخمس وعشرين لغة ولهجة أكثرها لا يكتب بحروف.
والمشهور أن الطبقات في الهند أربع تشمل طائفة المنبوذين، وهم نحو ستين مليونا يحرمون على أنفسهم الاتصال بهم ، ولكن هذه الطوائف الأربع هي الطوائف الكبرى التي تتفرع على كل منها عشرات الطوائف، تنطوي كل منها على نفسها في مسائل العبادة والزواج والمعيشة، وتتعصب لتقاليدها تعصبا لا هوادة فيه، والراجح من كلمة الطائفة في الهند - وهي فارونا
Varuna - أنها فاصل بين أجناس تختلف بالدم والسلالة؛ لأن الكلمة تعني اللون، فهي تفصل بين أقوام متعددي الألوان، ومع هذا سرى نظام الانقسام الطائفي حتى شملت العزلة في كثير من الأحوال أبناء الحرفة الواحدة وأبناء الموقع الواحد، وبلغ من تقديس هذه الفوارق أن إشاعة عزم الإنجليز على إلغاء الحواجز بين الطبقات كانت من أسباب العصيان المشهور في سنة 1857.
التعصب الديني
والتعصب بين المختلفين في العقيدة من أهل الهند أصعب أنواع التعصب المعروف في كل اختلاف؛ لأنه لا يقوم على تباعد الآراء، بل على تباعد العادات الاجتماعية التي تحس فوارقها في كل يوم، بل في كل ساعة، ومن أعسر الأمور تعديلها؛ لأنها تتعلق بالحياة الأبدية لا بحياة الفرد من مولده إلى وفاته، فمن ولد من طبقة المنبوذين مثلا فهو قضاء أبدي يسبق مولده ويلاحقه بعد وفاته، فكل تعديل في نحلة من النحل أو في شعائرها ومراسمها فهو هروب من المشيئة الأبدية التي يتعلق بها خلاص الأرواح.
وقد تذمر البرهميون أشد التذمر حين أمرت الحكومة الهندية بإلغاء «السوتي» وهو إحراق النساء مع أزواجهن المتوفين، فلما صدر الأمر بإلغائه في سنة 1829 هبت عاصفة من السخط على الحكومة، وأمطرها البرهميون شكايات يلتمسون فيها إلغاء ذلك القرار، ويقاس على التشبث بهذه السنة مبلغ التشبث بغيرها مما هو أقل منها نكرا ومجافاة للشعور والعاطفة الإنسانية، فكل سنة، بل كل عادة، هي قضاء مبرم لا يجوز عليه التبديل أو التخفيف.
وقد وهم الكثيرون أن تحريم أكل الحيوان سنة عاطفية لجأ إليها البرهميون رحمة بالحيوان، ولكن الواقع أنها سنة تقليدية نشأت مع الإيمان بتناسخ الأرواح، وأن الأحياء الدنيا قد تحل فيها أرواح الناس على سبيل العقاب، فأكلها قطع لسلسلة التناسخ ودورة الأرواح في الأجساد من الآزال إلى الآباد.
فقد يكون الهندي مسامحا برأيه وفكره، وقد تكون عقيدته في الله عقيدة مسالمة لأصحابه ومعاشريه، ولكن المعضلة الكبرى هي هذه العادات التي تدور عليها معيشة كل يوم، وترتبط بها المشيئة الأبدية فلا تقبل المسالمة والمسامحة، وتلك هي المعضلة التي يعانيها المخالفون للعقيدة الهندية حين تكون السيطرة عليهم لأصحاب تلك العقيدة، وحين يكون المرجع كله إليهم في سلطان الدولة، وهذه المعضلة هي خلاصة الضرورة التي جعلت من الحتم الحاتم أن تنفصل الباكستان، أو كما قال القائد الأعظم في تلخيصها: «نحن نأكل البقرة وهم يعبدونها فكيف نتفق على نظام واحد.»
لهذا ولغيره من الاعتبارات الاقتصادية، والجغرافية، والعاطفية؛ أصبحت العقيدة قوام الأمة في الهند، وحدث في الهند ما لم يحدث في غيرها من قبل؛ وهو تحول الصلة الدينية إلى صلة قومية، فقيل في السيخيين مثلا: إنهم عقيدة أصبحت أمة؛ لأنهم أناس من سلالات الهند لا فاصل بينهم وبين سائر أبنائها بغير العقيدة، هذا والنحلة السيخية قد نشأت في القرن الخامس عشر للميلاد، فقس على ذلك نشأة الإسلام أو القومية الإسلامية بمقومات كثيرة غير العقيدة؛ وهي الثقافة، والدولة، والآداب الاجتماعية.
الإسلام والاستعمار
وكأنما كانت هذه العوامل القوية بحاجة إلى مزيد يوسع فوارق الانفصال فوق اتساعها؛ فجاءت سياسة الاستعمار بجملة من هذه الفوارق مقصودة أو غير مقصودة؛ إذ كان الاستعمار الإنجليزي قد تسلل إلى الهند وليس فيها دولة تقاومه أقوى من الدولة الإسلامية، فوقر في أخلاد المستعمرين أن الخطر على سيطرتهم إنما يتوقع من هذه الناحية قبل غيرها، وعملوا على إضعاف شوكة المسلمين وإقصائهم من الوظائف كبيرها وصغيرها، وكان المسلمون في إبان دولتهم قانعين من الحياة العامة بالوظيفة الحكومية، وذادهم عن الاشتغال بالصيرفة أنهم يحرمون الربا، وعن ملك الأرض أن الأرض لم تكن مملوكة لأحد ولكنها كانت متروكة للزراع وللجباة الذين يؤدون للحكومة حصتها من الضرائب، وكان أكثر هؤلاء الجباة من البرهميين المشتغلين ببيع الغلال وتصريفها، فلما أصدر الإنجليز قانونا لتسوية مسائل الأرض الزراعية جعلوا هؤلاء الجباة ملاكا، وجعلوا الزراع أجراء في أرضهم، واعتمدوا على هذا النظام زمنا لتحصيل الضرائب ومحاسبة الجباة عليها، فاجتمع الحرمان من الوظائف والحرمان من الأرض على إقامة العزلة بين المسلمين وغيرهم في الحياة الاجتماعية.
وقد كتب لورد «إلنبرو»
Ellenborough
مصرحا بهذا العداء فقال: ليس في وسعي أن أغمض عيني عن اليقين بأن هذا العنصر الإسلامي عدو أصيل العداوة لنا، وأن سياستنا الحقة ينبغي أن تتجه إلى تقريب الهنديين
Hindus .
وما لم يكن من عوامل التفرقة السياسية صادرا من هذا الشعور فهو مقصود مدبر لتعزيز السيادة بالتفرقة بين المحكومين:
Divide et impera
وهي خطة جهر بها اللورد إلفنستون
Elphinstone
في سنة 1858، وسبقه إلى إعلانها في المجلة الآسيوية سنة 1821 كاتب قال بصريح العبارة: «فرق تسد: وهو الشعار الذي ينبغي أن نلتزمه في إدارتنا الهندية.» وتكررت هذه «النصيحة» في أقوال الرؤساء العسكريين ورؤساء الدواوين. •••
هذه العوامل جميعا، ما كان منها طبيعيا وما كان منها مصطنعا بتدبير السياسة، قد جعلت المسلمين أمة مستقلة تفصلها من الهنديين كل معالم القومية، وأصبحت الموازنة بين أسباب الانفصال وأسباب الاختلاط عند خروج الإنجليز من الهند «عملية حسابية» لا لبس فيها، فكل صعوبة جغرافية أو إدارية تحول دون الانفصال؛ فهي أسهل تذليلا وتمهيدا من صعوبات البقاء في ظل حكومة واحدة، وقد يطول شرح الأسباب إذا توخينا التفصيل والاستقصاء، ولكن القارئ خليق أن يستغني عنها جميعا بعرض موجز لسيرة الزعيمين الهنديين اللذين تعاقبا الزعامة منذ جيلين؛ وهما طيلاق وغاندي. فأما طيلاق فكانت دعوته الصريحة تخليص الهند من الواغلين الإنجليز والمسلمين على السواء، وكان برنامجه يقوم على إلغاء اللغة الأردية في الدواوين ومطالبة الحكومة بإباحة الزفات الموسيقية أمام المساجد، وكانت محرمة بنص القانون.
وأما غاندي فقد كان جزاءه القتل لتسامحه في معاملة المسلمين، وكان قاتله من جماعة كثيرة الأشياع ترى أن الحل الأمثل لمشكلة الأجناس في الهند هو استئصال تلك الأجناس.
لا جرم كان منطق القائد الأعظم الواضح الرصين مرادفا في معناه ووجهته لشعور الجماهير، فكانت صراحته في دعوته قوة لها، ولم تكن عقبة يحتاج إلى تذليلها وتخطيها على سنة الأكثرين من زعماء الجماهير، وصح القول أن شعور الجماهير في هذه المعضلة كان أكثر من شعور وأكثر من حكمة عملية؛ لأنه كان كالقابلية المطبوعة التي تستقر في خصائص الأجسام.
ومن عاداتنا في الزمن الحديث أن نستريب بدفعة الجماهير وبرامج الساسة، وأن نعتبرها على أحسن ما تكون أمورا موقوتة وأحوالا حائلة، إلا أن هذا الشعور الذي رددته برامج الساسة في الباكستان حقيقة علمية يقررها أساتذة التاريخ من غير المسلمين، وفي أحدث الكتب عن تطور الهند كتاب للأستاذ «لونيا»
Luniya
مدرس التاريخ وعلم السياسة بكلية هولكار يبسط فيه علاقة المسلمين بغيرهم في الهند؛ فيقرر في غير موضع أنهم أمة مستقلة لا اختلاط بينها وبين الأمم البرهمية، ومنها قوله في فصل الهند والإسلام: «إن المسلمين أول قوم أغاروا على الهند، ولم تستوعبهم طيات القارة الهندية المرنة التي لا تني تمتد وتنطوي على المغيرين، وقد أغار قبلهم كثيرون كالإغريق، والسيثيين، والمغول، والمجوس وغيرهم، وانطووا في الغمار بعد أجيال قليلة انطواء تاما بأسمائهم ولغاتهم وعاداتهم وعقائدهم وأزيائهم وآرائهم، وفنيت جموعهم في الواقع في المجتمعات الهندية، إلا المسلمين، فإنهم لم يزالوا في الهند طائفة منفصلة، ورفضت نياتهم المتشددة في الوحدانية كل هوادة في قبول الشرك والأرباب المتعددة، ومن ثم عاش المسلمون والبرهميون في أرض واحدة دون أن يمتزجوا، ولم تفلح محاولة من المحاولات في وضع القنطرة على الفجوة، وما برح المسلمون خلال القرون التالية يولون وجوههم شطر الكعبة في مكة وينفردون بشريعتهم ونظام إدارتهم، ولغتهم، وأدبهم، وأضرحتهم، وأوليائهم.»
ومع شهادة المؤلف للمسلمين بالفضل في تعليم البرهميين مبادئ المساواة قال: «إن إحدى النتائج التي نجمت من حكم المسلمين في الهند؛ أن المجتمع قد انقسم في عهدهم قسمة رأسية، وكان قبل القرن الثالث عشر ينقسم ولكن قسمة غير رأسية، ولم تستطع البوذية ولا الجينية أن تحدثا مثل هذا الانقسام؛ لأنهما ما عتمتا أن اندمجتا في المجموع بسهولة وسرعة، على حين أن الإسلام قد شق المجتمع من الأسفل إلى الأعلى شطرين متقابلين: براهمة، ومسلمين، فنشأ في أرض واحدة مجتمعان متوازيان متغايران في جميع طبقاتهما قل أن تصل بينهما علاقة في المعيشة أو المعاشرة، واشتدت محافظة البرهميين أمام غيرة الإسلام في نشر دعوتهم الدينية، واندفعوا مع خوفهم وحرصهم على حماية مجتمعهم إلى المبالغة في قيود الطبقات والطوائف، وما إليها من القيود الاجتماعية.»
ومن العسير أن يقال عن خطة تمليها وقائع التاريخ وبدائة الشعوب، غير أنها ضرورة لا محيد عنها ولا طاقة بالرجوع فيها، وإن أريد الرجوع.
الرواد والآباء
السيد أحمد خان.
أستاذ الزعماء
من أصدق الأقوال في تلخيص قضية الباكستان كلمة الزعيم الهندي المعتدل جوكهيل؛ إذ يقول لأبناء قومه تيسيرا لفهم مطالب المسلمين: «إنكم لو كنتم في موضعهم لطلبتم مثل مطالبهم، وشعرتم بالحاجة إلى ضمان كالضمان الذي يحتاجون إليه.»
وجوكهيل هذا هو قدوة الزعماء الهنديين في السماحة ورحابة الصدر، وهو أستاذ جناح السياسي في صباه وقدوته في مسألة الطوائف والأحزاب، وكان جناح يقول: إنه يطمح إلى شيء واحد؛ وهو أن يكون جوكهيل من المسلمين.
قال جوكهيل كلمته تلك: وقد نجمت دعوة الطوائف وتشعب الخلاف عليها في الربع الأول من القرن العشرين، وكانت هذه الحقيقة واضحة أمام عينيه وهو ينظر إلى مفترق الطريق، ولكنها - قبل أن يفترق الطريقان - لم تكن واضحة هذا الوضوح أمام زعماء المسلمين، بل أمام أشدهم مغالاة في طلب الانفصال، ولا استثناء في ذلك لزعيم هؤلاء الزعماء وأستاذهم وموحي الفكرة التي نشأ منها المؤتمر الهندي والعصبة الإسلامية على السواء، وهو «السيد أحمد خان».
كان السيد أحمد خان هو الرائد الأول للباكستان، وتلاه أعوانه وتلاميذه فبدءوا كما بدأ، ثم انتهوا كما انتهى: بدءوا يعملون يدا واحدة مع الهنديين على إمكان الوحدة، ثم حاول كل منهم محاولته وانتهى منها بعقله وتدبيره إلى حيث انتهت بداهة الجماهير، فتوافرت للحركة كل قوتها من تلاقي الرءوس والقلوب على عقيدة قد تمحصت من جميع جوانبها، وانتهى منها كل شك يخالج نفوس القادة أو الأتباع.
وكان السيد أحمد خان مثالا عاليا للرجل العظيم الذي يثبت للناس من حين إلى حين أن الغيرة الدينية البالغة والشعور الإنساني الأكمل لا يتناقضان، بل يمتزجان ويتعاونان، فلما وقعت الفتنة التي اشتهرت بفتنة العصيان
Mutiny
أنقذ من الموت كثيرا من الإنجليز، كما أنقذ كثيرا من الوطنيين، ولم تحتمل نفسه الكريمة أن يرى إنسانا أعزل يفتك به مطاردوه كأنه فريسة ينفرد بها وحوش ضراة.
وحفظ له الذين أنقذهم هذا الجميل، ومنهم رجل إنجليزي اشتهر بين القوم؛ لأنه يسمى باسم الشاعر الكبير وليام شكسبير، بلغ من وفائه له أنه كان يلازمه حيثما استطاع، وملازمته هذه هي التي تجعل لكلمته معناها في هذا السياق. فإنه سمعه زمنا طويلا يتكلم عن تقدم الهند ونهضة الهند وحقوق الهند، فلما سمعه لأول مرة يذكر تقدم المسلمين ويفردهم بالقول دهش وبدت عليه الدهشة، ولم يكتمه سبب دهشته فقال له: «هذه أول مرة أسمعك فيها تتكلم عن المسلمين وحدهم، وكنت على الدوام تهتم بمصالح أبناء وطنك أجمعين.» فأجابه الرجل العظيم الذي اشتهر بصراحته كما اشتهر بحكمته: «إنني اليوم مؤمن بأن القومين - كما وردت الكلمة في العبارة الأردية - لن يخلصا النية في أمر واحد، وليس بينهما اليوم عداء مكشوف، ولكن هذا العداء سينكشف في المستقبل من جراء من يسمونهم بالطائفة المتعلمة، ومن يعش ير.»
قال شكسبير: «إني ليحزنني أن تصدق هذه النبوءة.» فقال السيد أحمد: «وإنني أيضا لحزين جد الحزن من أجل هذا، ولكنني منه على يقين ...» ولم تمض فترة وجيزة حتى تحقق كلاهما أن خلوص النيات في قضية الوحدة مستحيل. •••
كان السيد أحمد خان ماردا من مردة الإصلاح الأفذاذ في كل زمن وكل أمة، وكانت شخصيته من الرحابة والقوة بحيث تحتمل الكثير من النقائض في مقاييس الأوساط، ولم يكن وسطا في مقياس من تلك المقاييس.
كان كما قدمنا غيورا شديد الغيرة على أبناء دينه، ولكنها غيرة لم تكن تحجب شعوره الإنساني في أوقات اللدد والشحناء، كما يحدث أحيانا لأصحاب النفوس الصغار.
وكان لفرط غيرته معدودا من المتعصبين في رأي بعض خصومه ومعارضيه، ولكنه كان في رأي المتعصبين متهما بالإلحاد والمروق، وتعرض للقتل مرتين من جراء هذا الاتهام.
وكان من سياسته أن يسالم الدولة الحاكمة حتى يرتقي بقومه إلى الشأو الذي يمكنهم من ولاية الحكم عند تمام الاستقلال، ولكنه لم يفهم قط من المسالمة أنها ملق وازدلاف، بل كانت صراحته تسلكه عند أناس من الحاكمين في عداد المهيجين، وقد ترك حفلة الدربار غضبا واحتجاجا على التمييز في كراسي الجلوس بين الإنجليز والوطنيين.
وكان ينكر على الإنجليز في وجوههم تعاليهم على الرعية الوطنية ويحذرهم عاقبة هذا الكبرياء، ولكنه كان يكتب إلى خاصته وهو في بلاد الإنجليز؛ فيصارحهم في ألم شديد معترفا بأن الفارق بين المجتمع الإنجليزي والمجتمع الهندي كالفارق بين جماعة من الآدميين وقطيع من العجماوات.
ويعجب أصحابه لأمره بين النصح بالتقية السياسية وبين مجاهرته بكل ما يعتقده مجاهرة لا تعرف التقية والحيطة، ولا ترهب المقاومة والمعارضة، وكانت الدعوة الوهابية في إبانها حين نشط لدعوة الإصلاح، وكان يأخذ عليها اليبوسة والمبالغة في التحرج، فإذا قيل له: ما بالك إذن تنحو نحوهم في مجابهة الناس بما ينفرون منه، وتصر على مجابهتهم وهم نافرون، قال: إذن أنا وهابي الوهابيين إن كانت الوهابية أن تجهر بما تدين.
المارد الحق
والمارد الحق إنما يبدو لنا في جبروته، بل في ضخامة جبروته، إذا عرفنا أنه عمل ونجح في عمله، وأدرك غاية النجاح مع كثرة خصومه، وكثرة الآراء التي تعارض رأيه حتى بين أعوانه ومريديه.
فإذا مضيت في استقصاء علاقاته مع من حوله جزمت أنه لم يكن على وفاق مع أحد، لم يكن على وفاق مع الإنجليز، ولم يكن على وفاق مع البراهمة، ولم يكن على مع المسلمين المحافظين، ولم يكن على وفاق مع المسلمين المجددين، ولكنه عمل ونجح في عمله غاية النجاح الذي يتسنى لأحد في موقفه، وكان له أعوان من جميع هؤلاء المخالفين، طائعين أو كارهين، أو ليس فيهم كارهون على التحقيق، بل مستسلمون يفوضون الأمر ويستسلمون.
مرجع ذلك إلى الثقة بصدقه وإخلاصه، ولكن لا إلى هذه الثقة وحدها؛ لأن الصادق المخلص في غير قوة وعزم قد يفلح فلاح فرد، ولا يتسنى له أن يفلح في انتزاع الملايين من جمودهم وتحويلهم عنوة من حال إلى حال .
مرجع ذلك إلى القوة الماردة التي أسلست له قبل كل شيء زمام الثقة بنفسه، فوثق به كل من تحدث إليه وعمل معه وأيقن بيقينه، ونظر الرجل إلى مهمته الضخمة فوزنها بميزان قوته وإخلاصه، فإذا هي مستطاعة مفهومة محدودة الأهداف، وإذا هو يمضي فيها مضي سالك الطريق المعبد الذلول، ولو غيره نظر إلى ذلك الطريق قبل المضي فيه لأحجم ولم يمض، وأحجم وراءه كل من رآه يقدم وينثني بعد إقدام.
خالف الجميع ولكنه جمعهم بغير خلاف على رأي واحد، وهو رأيهم في صلاحه وقدرته، وأنه يعني ما يقول ويعمل ما يعنيه، وحسب الأعمال الكبار نجاحا أن يتفق العاملون لها على الإيمان بقائدهم فيها، وإن اختلفوا بعد ذلك أي اختلاف.
وكأنما كان هناك ارتباط بين تاريخ أسرة السيد أحمد خان وتاريخ الحركات الدينية ودعوات الإصلاح في الهند، فوصل أجداده إلى دلهي مهاجرين من جزيرة العرب في إبان دعوة السلطان أكبر، الذي حاول التوفيق بين الأديان؛ فأخرج منها جميعا دينا موحدا عرف يومئذ بدين أكبر، ومات بموت صاحبه. وكان جد السيد في زمرة المعارضين له بإمامة شيخ الطريقة النقشبندية وزملائه المعروفين باسم المجددين، وقد كان شاه غلام علي رئيس المجددين صديقا للسيد متقي والد السيد أحمد، ولم يكن للولي الموقر عقب، فكان يقول: إن أولاد متقي هم أولاده في الله والروح، وشغل نفسه بتعليم الطفل كتابة اللغة العربية وتلقينه بعض الأحكام والفروض.
وينمى السيد أحمد من ناحية أمه إلى الخوجة فريد الدين أعلم أهل زمانه بين المسلمين بالعلوم الرياضية والعقلية، وصاحب الكفاية الملحوظة التي جعلت «هاستنج» يندبه لنظارة الكلية التي أنشأها لتعليم الوطنيين، وجعلت ولاة الأمر من إنجليز وهنديين يندبونه لمهام الوزارة والسفارة في إيران وبرما، وقد سمع به أكبر شاه الثاني فعهد إليه بوزارة القصر والخزانة، وكان نظامه الدقيق في الشئون المالية سببا للحنق عليه.
ويعزى إلى هذا العلامة أكبر الأثر في تنشئته حفيده على النشأة العقلية والحياة العصرية؛ إذ كان أبوه منقطعا عن الدنيا في نسكه ومصاحبته للأولياء، فكانت أمه تعيش أشهرا متواليات في بيت أبيها ومعها الصبي اليقظ المتنبه لكل ما يراه حوله ويسمعه من أحاديث جده العظيم.
وأول أثر من آثار هذه التربية أن الصبي لم ينهج نهج أسرته من ناحية أبيه في مقاطعة الوظائف أو مقاطعة كل ما له علاقة بالحكومة، فلما مات أبوه (1836م) وهو يناهز التاسعة عشرة قبل التوظف في المحاكم، وانتقل من الأعمال الكتابية إلى أعمال القضاء في بضع سنوات، ونشبت الثورة وهو يتولى القضاء بمدينة بجنور؛ فكان مسلكه مع أبناء قومه ومع الإنجليز والبرهميين أول شهادة له عند الأقربين والغرباء برجاحة العقل وسماحة الطبع وعلو الهمة، وأول مناسبة وضعت مشكلة الهند بجميع أجناسها وأقوامها في موضعها الصحيح.
خرج الإنجليز من تلك الفتنة الطاحنة حائرين في تفسير بواعثها يعتقدون أنهم مضللون، ولا يعرفون كيف يهتدون، وجعلتهم تلك الحيرة مستعدين للإصغاء إلى كل نصيحة، فلم يجدوا أمامهم أقدر على النصيحة وأشجع على إبدائها من القاضي الجريء الخبير، فأما العقلاء منهم فقد لمسوا الصدق في بيانه لبواعث الفتنة ووسائل علاجها، وأما المتهورون منهم فقد حسبوه من دعاة الهياج الذين يبذرون بين الأمة الهندية بذور الفتنة من جديد، وكانت خلاصة رأيه أن الإدارة الإنجليزية هي المسئولة عن تذمر المحكومين؛ لأنها تحكمهم بغير مشاركة منهم في الرأي، وعلى غير علم بما يساورهم من شعور، وتغلبت الحكمة على التهور فأخذت الحكومة البريطانية بمشورته وعولت على تنحية الشركة التي كانت تنفرد بحكم البلاد إلى ذلك الحين، وأن تقيم الحكم على أساس الشورى والتدرج في التمثيل النيابي، وإشراك المتعلمين من الوطنيين في مجالس الحكام، وهي مجالس شورية كادت أن تنحصر في الإنجليز، ولم تكن لأعضائها معرفة بمطالب القوم، ولا اطلاع على شكاواهم ومظالمهم، لترفعهم عن معاشرة أبناء البلاد.
الاستعمار يحارب المسلمين
وولدت على أعقاب الثورة فكرة المؤتمر الوطني فبرزت مع الفكرة مشكلات التمثيل النيابي والحكومة الوطنية، وجعلت هذه المشكلات تتفاقم كلما تدرج الوطنيون في مطالب الحكم الذاتي والاستقلال بالإدارة والسياسة.
برزت مشكلات الحكومة الوطنية وأولها حرمان المسلمين من الحكم بتدبير السياسة البريطانية ، أو من جراء هذه السياسة حين يكون الحرمان نتيجة غير مقصودة لوقائع الأحوال بعد دخول الهند في حوزة الدولة البريطانية.
كان المسلمون حكاما فأخذ الإنجليز منهم وظائف الحكومة الكبرى، وحذروهم في الوظائف الصغيرة فأكثروا فيها من البراهمة والبوذيين وسائر الهنديين، وأخلوها أو كادوا يخلونها من المسلمين.
وكان بين المسلمين أصحاب ضياع واسعة فانتزعها المرابون، وأتى قانون تسوية الأرض على بقيتها، وأسلمها إلى الجباة كما تقدم أو إلى الزراع الصغار.
وكانت الثقافة الفارسية هي ثقافة المسلمين، فجاءت المدارس الأوروبية الحديثة ولم يقبل عليها المسلمون؛ لأنها كانت على الأكثر في أيدي المبشرين والمتفرنجين.
وقد وصف هذه الحالة إنجليزي منصف هو الدكتور وليام هنتر فقال عن أسر المسلمين من كبار الزراع: «لو أراد سياسي أن يثير ضجة في مجلس النواب لما احتاج إلى أكثر من سرد صادق لقصة هذه الأسر في البنغال.»
ثم استطرد إلى الوظائف فقال: إن القيادة العليا التي كانت من وظائف المسلمين قد نزعت بطبيعة الحال من جميع الهنود: «أما الوظائف الأخرى فكانت مشغولة هكذا في سنة 1869 ... أربع عشرة وظيفة من وظائف المهندسين بدرجاتها الثلاث يشغلها الهنديون، وليس معهم مسلم واحد، وكان بين المهندسين تحت التمرين أربعة هنديين وإنجليزيان، وليس معهم مسلم واحد، وكان بين وكلاء المهندسين أربعة وعشرون هنديا، ومسلم واحد، وبين المشرفين مسلمان وثلاثة وستون هنديا، ولم يكن في إدارة الحسابات مسلم واحد مع موظفيه الهنديين وعدتهم خمسون، وكذلك لم يكن في ديوان الرؤساء الثانويين مسلم واحد مع اثنين وعشرين من الهنديين.»
وهذه النسبة هي التي أحصاها الدكتور هنتر في البنغال، وهي نسبة نموذجية يقاس عليها في سائر الأقاليم، ومنها ما هو أسوأ حالا بالنسبة للموظفين وأصحاب الأرض المسلمين من ذلك الإقليم.
نظر السيد أحمد خان إلى هذه الحالة، وعرف من حقائقها ما لم يعرفه الدكتور هنتر ولا غيره من الإنجليز؛ لأن صاحب الدار كما يقال أدرى بالذي فيها، فأدرك عاقبة الحكم النيابي الذي تتولاه كثرة الناخبين، وعلم أنه حكم لا نصيب فيه للنواب ولا للموظفين ولا للساسة من المسلمين.
ومما زاد هذا الرأي اختمارا في نفسه قيام الدعوة القومية الهندية على أساس محاربة الإنجليز والمسلمين على السواء، بغير مواربة ولا مجاملة، فقد بدأت هذه الدعوة بعد حركة الفتنة، وظهر أنها تنتشر ولا تنحسر كما كان مرجوا في أول عهدها؛ إذ كان أناس من المتفائلين يحسبون أنها رد فعل للفتنة لا يلبث أن يستقر على قرار ثابت من الهوادة والاعتدال، وقد كان السيد أحمد خان أبعد منهم نظرا، وأعرف منهم بالحقائق فتشاءم من الحركة منذ نشأتها، وحققت الأيام ظنه، فلم يوجد في المؤتمر الوطني على عهد الزعيم طيلاق، أكبر المجاهرين بالعصبية الهندية، أكثر من سبعة عشر عضوا بين سبعمائة وخمسة وستين (سنة 1905).
رجل عمل
وفضل الزعيم الكبير أنه كان رجل عمل، ولم يكن رجل شكوى وانتقاد وكفي، فأول ما عمله لإصلاح هذه الحالة السيئة أنه أسس كلية «عليجرة» على النظام الحديث للتعليم العالي والدراسات الجامعية، وهذه الكلية هي التي أنجبت قادة الأمة الإسلامية في الهند إلا العدد القليل ممن حافظوا على التعلم في المدارس الدينية، ومن مصائب الدنيا أن هذا العمل الجليل الذي عرفت آثاره اليوم كان مثار السخط على الرجل بين الجامدين أنصار القديم، فأشاعوا بين أتباعهم أن السيد أحمد خان صنيعة للإنجليز، وأنه زنديق يريد تكفير شبان المسلمين، ويبيع ضميره في سبيل الوظائف والزلفى عند ولاة الأمور، ولم يغنه مع هؤلاء الجهلاء ما هو معلوم من رفضه كل منحة مالية تبرع بها الإنجليز لمكافأته على أثر الفتنة، وقد كان يرفض تلك المنح مع ضيق الحال به يومئذ حتى هم بالهجرة إلى مصر؛ كما قال في خطاب وصف به عواقب الفتنة وسوء منقلب المسلمين بعدها.
إلا أن قلبه الكبير لم يستسلم قط لليأس في أحرج الأوقات فمضى في تأسيس الكلية، وجعل شعاره في الإصلاح الاجتماعي كلمة واحدة كررها ثلاث مرات وهي: «علم، ثم علم، ثم علم» ودع كل شيء بعد ذلك لما يثمره التعليم.
أما في ميدان السياسة فقد أعلن رأيه منذ سنة 1883 عند الكلام على المجالس المحلية فقال في خطاب صراح: «إن نظام التمثيل بالانتخاب يعني تمثيل مصالح الكثرة وآرائها، وهو خير الأنظمة ولا ريب حيث يكون السكان من جنس واحد وعقيدة واحدة، ولكنه ... في بلاد كالهند حيث فواصل الدين على أشدها، وحيث التعليم لم يجر على سواء بين طوائف السكان، يقترن بأضرار جمة لا تنحصر في الشئون الاقتصادية ... وما دامت فوارق الجنس والعقيدة وحواجز الطبقة تعمل عملها الخطير في حياة الهند الاجتماعية السياسية، وتسيطر على سكانها في المسائل التي ترتبط بالإدارة والثروة ... فليس من المستطاع الاعتماد على النظام الانتخابي بمأمن من العواقب؛ لأن الطائفة الكبرى ستغمر الطائفة الصغرى، ويذهب الجمهور الجاهل مذاهب في اعتبار الحكومة مسئولة عن كل تصرف من شأنه أن يزيد مشكلات الجنس والعقيدة شدة على شدة ...»
عاش السيد أحمد بعد أن أعلن هذا الرأي خمس عشرة سنة، لم يحدث في خلالها ما يحمله على تغيير رأيه أو تعديله، بل كان كل ما حدث في هذه الفترة مضاعفا لمخاوفه مؤيدا لاعتقاده، فراجت في الهند الشمالية دعوة «آريا سماج»، وأعلن الزعيم البرهمي طيلاق دعوة «شيفاجي» التي تنادي بتخليص الهند من الإنجليز والمسلمين الأجانب، وتعتبر المسلمين جميعا «ميلاش»؛ أي دخلاء، وتصايح من هنا وهناك بعض الدعاة بإبطال اللغة الأردية وحذف الكلمات الفارسية والعربية التي دخلت في اللغة الهندية، ومات الزعيم الكبير وهو أشد ما يكون يقينا بأن قضية الهند لا تحل إلا على قاعدة واحدة، وهي اعتبارها قضية قومين أو أمتين.
طريق النصر
ولمن يشاء على نحو من أنحاء التعبير أن يقول: إن الزعيم البرهمي طيلاق كان شريكا قويا لأحمد خان في تدعيم بناء الباكستان، وإن تحريضه في هذا الباب كان أقوى من حض الزعيم المسلم مع اختلاف المقصد والواسطة، فما من أحد من رواد الباكستان عمل على إقناع المسلمين بضرورة الانفصال كما عمل طيلاق، ولا نحسب أن هذه الخطة كانت طيشا من الرجل أو جهلا منه بالعواقب، ولكنه على الأرجح علم أن النزعة الوطنية وحدها لا تكفي لتنبيه أبناء قومه وإيقاظ نخوتهم؛ فعمد إلى نزعة تستثار بها القوة في طبائعهم؛ وهي نزعة العقيدة التي تمتزج بعاداتهم وموروثاتهم وأحوال معيشتهم، وتعمد أن يلهبها ويستفز النفوس من جانبها غير جاهل بالعواقب أو مندفع مع الطيش والرعونة، فهجم وهو يقصد الهجوم ويحسب أنه دون غيره طريق النصر المرسوم.
على أن السيد أحمد خان قد أثبت في حياته وبعد مماته أنه كان بحق مربي قادة ومربي أمم، فإنه أخرج من مدرسته تلاميذ يستقلون بالرأي، ولا ينقادون ليقين أستاذهم انقياد المقلد المتبع الذي يمشي وراء دليله مغمض العينين؛ فما من واحد من خريجي عليجرة أو مريديه المقربين إلا وقد اجتهد في قضية الوحدة اجتهاده، وعالج ما استطاع أن يوحد أقوامه وبلاده، وما من واحد منهم قد بدأ من حيث انتهى الزعيم الكبير، بل عاد كل منهم إلى أول الطريق يبدؤها حيث قدر أنه واصل إلى الغاية التي التوت على زعيمه، ونهج كل منهم نهجه غير مقلد لزعيمه، ولا مقلد لعامل آخر من زملائه وأبناء مدرسته.
كان بحق مربي قادة ومربي أمم، وصدقت فراسته حين لخص القيادة النافعة كلها في كلمة واحدة: وهي «علم ثم علم ثم علم» ... وليست هناك قيادة لا تضل بصاحبها أقوم من قيادة التعليم.
أما تربيته الأمم فقد ظهرت في بعثه الحياة بين قومه في زمرة أنصاره وخصومه، وقد عيب عليه بلسان أقرب المقربين إليه أنه كان مفرطا في الصراحة، عنيدا في الحق، صلبا في مقارعة المعارضين بالحجة الواضحة وإن كانت مؤلمة جارحة، ولكن هذه الصراحة التي لا تعرف المواربة هي التي ابتعثت القوة والثقة في معسكره ومعسكر خصومه، فمات والمعسكران معا في حركة دائمة واستعداد متجدد، واستفادت أفكاره ممن أيدوها وممن فندوها على السواء، وكان كل تلميذ له يعمل وكل معارض له يعمل، وكل عمل يثمر بعض الثمرة، ويغرس من ثمرته شجرة نامية وارفة الظلال.
الشاعر «ألطاف»
من مريديه الذين والاهم بعطفه وتأييده الشاعر ألطاف حسين «حالي» الملقب بشمس العلماء، وقد فطن السيد لعبقريته، وعلم فضل الشعر في تربية الأقوام الناهضة؛ فاقترح عليه أن ينظم ملحمة شعرية مطولة في تقدم الإسلام وتأخره، فنظمها وأهداها إلى كلية عليجرة، وعرفت باسم المسدسات، واستظهرها كثير من شبان عصره وشيوخه، وكان «الحالي» صوفيا على مذهب محيي الدين ابن عربي في حب جميع الناس ومصافاة جميع الأمم، يقول كما قال محيي الدين:
أدين بدين الحب أنى توجهت
ركائبه فالحب ديني وإيماني
بل كان فضل النبي الأكبر كما قال في ختام قصيده «إنه صديق كل نفس إنسانية، عطوف على القريب والبعيد، سواء عنده المكي، والزنجي، والشامي، غفور للمسيء، يسدي الخير حتى إلى فاعلي الشرور.»
وكانت له قصيدة في الوطنية يقول فيها: «إن أردت خيرا لوطنك فلا تنظر إلى أحد من أبنائه نظرة الغريب، سيان المسلم والهندستاني، والبوذي، والبرهمي، فارعهم جميعا بعين الحب وسو بينهم كما تسوي بين إنساني عينيك.»
وفي إحدى مسدساته يقول عن القرآن: «أول ما نتعلمه من كتاب الهدى أن الناس جميعا أسرة الله، وأنه لا يحب الله إلا من يحب خليقته، ذلك هو الإخلاص الحق وتلك هي العقيدة والإيمان، أن يكون الإنسان في عون الإنسان.»
وفي مقطوعة أخرى يقول: «دع الشحناء مع من يدين بغير دينك ... وأحجم عن الأذى، وقابل الأذى بالإحسان، وليأت بعد ذلك من يقول إن الدنيا جهنم فلينظر إلى هذا الفردوس.»
وقد عمل الشاعر على التقريب بين الأمتين بالتقريب بين اللغتين، فنظم مقاطيع من الشعر في لغة يفهمها المتكلمون بالأردية والمتكلمون بالهندستانية، وقيل إن غاندي قرأ قصيدته «شكوى الأيم» فقال: «لو تكلم أهل الهند يوما بلغة واحدة فبهذه اللغة يتكلمون»، وكتب في مقدمة ديوانه أن المسلمين يحسنون صنعا لو استغنوا عن الكلمات الغامضة من العربية والفارسية، وأن الهندستانيين خلقاء أن يتعلموا الأردية؛ لأنها هندستانية متطورة.
وهذا مثل من العاطفة الدينية الصوفية التي كان شعراء الإسلام من بيئة السيد أحمد يواجهون بها قضية الوحدة.
وإذا كان «الحالي» قد واجه قضية الوحدة بالروح الصوفية؛ فقد واجهها الأخوان محمد علي وشوكت علي بالروح الرياضية، وأيد محمد علي حركة المقاطعة التي قام بها غاندي بفتوى دينية تحرم على المسلمين خدمة الشرطة والجيش، ونادى بأن سياسة أستاذه السيد أحمد التي تقوم على محاسنة الدولة البريطانية قد انقضى عهدها، ووجب على العاملين في سياسة الهند أن يحاربوا تلك الدولة بكل ما يستطيعون، ثم انتهى الأمر بعودته إلى رأي أستاذه في قضية الوحدة، فقال في المؤتمر الإسلامي قبل غاندي بأكثر من ربع قرن: «إننا نعارض غاندي؛ لأن حركته ليست بالحركة التي ترمي إلى استقلال الهند كلها، وإنما هي حركة يراد بها أن يظل السبعون مليونا من المسلمين عالة على جماعة «المهاسبها» ... وهي الجماعة المتطرفة التي جاهرت غير مرة بأن الحل السريع لمشكلة الهند هو استئصال من فيها من المسلمين.
الشاعر إقبال
ومن تلاميذ السيد أحمد رواد الباكستان الشاعر محمد إقبال، الذي اشتهر باسم شاعر الإسلام، فقد كان أبناء قومه، يسلكونه بين غلاة الوطنيين «الناشو ناليست» طلاب الوحدة، فما زال مع الزمن حتى آمن باستحالة الوحدة. ودعي مرة إلى محفل «منيرفا» المشترك بين أبناء جميع الأديان والأقوام، فكتب إلى الداعين (في سنة 1909) يقول: «لقد كنت أرى وأعتقد أن الخلافات الدينية ينبغي أن تمحى في هذه البلاد، ولا أزال أعمل لذلك في حياتي الخاصة، ولكنني أجد اليوم أن محافظة كل من الأمتين على كيانها مطلوب بين المسلمين والهندستانيين، وأن الوطن الموحد في الهند لمن الأحلام الجميلة التي تروق الأمزجة الشعرية، ولكنه عند النظر إلى الأحوال الحاضرة والنزعات الباطنة في ضمائر الأمتين يبدو غير قابل للتحقيق.»
وقد تخرج من عليجرة وغيرها رواد كثيرون لفكرة الباكستان، كلهم اجتهدوا في الوحدة، وكلهم آمنوا باستحالتها، ولعل صاحب الترجمة - القائد الأعظم - كان آخر من بقي على أمل الوحدة بين أولئك الرواد، وهذه هي العبرة ذات الدلالة الكبرى في هذا الباب.
إلا أن حركات الجماهير أعمق في الدلالة على ضرورة الباكستان من هذا التطور في آراء القادة والزعماء. وقد أسلفنا أن الجماهير ألهمت بالفطرة ما قرره القادة والزعماء بالروية والاستقراء بعد طول العناء، ولكننا لا نقصد بذلك أن الجماهير قد اندفعت في وجهتها اندفاعا لا علة له ولا تردد في مقدماته ودواعيه؛ إذ الواقع أن علة هذا الاتجاه في الجماهير أوضح من علل التطور في عقول قادتها وزعمائها، وإنما الفرق بينها وبينهم في اتجاهها أنها تنقاد للسبب المعقول ولا تعلم أنه سبب انقيادها، ولكنه سبب معقول على كل حال.
العصبة الإسلامية
فلما أسست العصبة الإسلامية (سنة 1906) كان تأسيسها تلبية لشكوى المسلمين في الأقاليم التي هم قلة ضئيلة فيها إلى جانب الهندستانيين أو البرهميين والبوذيين، ولم يقبل عليها المسلمون الذين هم كثرة في أقاليم إلا بعد فترة غير قصيرة، وكانت جماعة «المهاسبها» التي تقدم ذكرها هي الحافز لهم على الاعتصام بالعصبة، والاحتراس من عاقبة الاندماج في وطن واحد يسمع فيه صوت هذه الجماعة بين أقوى الأصوات الغالبة على نفوس جماهيره.
فالقلة الهندستانية في الأقاليم الإسلامية تمادت في تعصبها الذميم إلى أقصى حدوده، وثبت من إحصاءات الاشتراك في العصبة الإسلامية أنها لم تنتشر بين تلك الأقاليم عند تأسيس العصبة، ولكنها بلغت غاية الانتشار بعد ثورة «المهاسبها» وتوقح كتابها وخطباؤها على مقدسات الدين الإسلامي؛ ومنها كرامة نبيه عليه السلام، وجعلت مكانة العصبة بين أهل تلك الأقاليم تتوطد وتستقر كلما تجاوبت أرجاء الهند بتلبية «الدعاية» الهوجاء التي انتهت بمقتل «المهاتما» الهندي؛ لأنه أنكر على الجماعة تعصبها الذميم.
وأعمق من حركات الجماهير الإسلامية وأطوار القادة والزعماء في الدلالة على استحالة الوحدة؛ أن المنبوذين أنفسهم - وهم من أعرق السكان في الهند - قد اتخذوا مع حزب المؤتمر موقفا كموقف العصبة الإسلامية، بل أشد لددا في الخصومة، وأعلن زعيمهم الدكتور (امبدكار) أن عناية غاندي بالمنبوذين إنما هي عناية يريد بها أن تستقل الهند خالصة لقومه، وأن قومه بالنسبة إلى المنبوذين كالأوروبيين بلا خلاف. وأصر الدكتور امبدكار على هذا الموقف بعد الوصايا المتكررة من غاندي بإنصاف المنبوذين، وتسميتهم باسم الهاريجان؛ أي أبناء الله. وقد يمهد له العذر في إصراره أن وزارة المؤتمر بمدراس - وهي وزارة يؤيدها ستة وعشرون من النواب المنبوذين - رفضت قرار اقترحه الزعيم «راجاه» يبيح للمنبوذين دخول المعابد الهندية، ولولا أن هؤلاء المنبوذين لا تضمهم في الهند أماكن قابلة للاستقلال، وأنهم هم أنفسهم مستسلمون لقسمتهم؛ لأنها جزء من عقيدتهم، لوجدت في الهند دولة منبوذة مستقلة يسكنها أربعون مليونا أو يزيدون.
العالم الإسلامي
كانت الحركات التي تجاوبت بها أرجاء العالم الإسلامي خلال القرن التاسع عشر عاملا في توجيه قضية الباكستان إلى الوجهة التي تدرجت في الاتجاه إليها حتى استقرت عند منتصف القرن العشرين على وضعها الأخير.
وكانت حوادث العالم الإسلامي خارج الهند لا تقل عن حوادث الهند الداخلية في تحويل أنظار مسلميها رويدا رويدا إلى ضرورة الاستقلال بحكومة منفصلة، وهي حكومة الدولة التي عرفت الآن باسم دولة الباكستان.
وكانت الحوادث الخارجية والداخلية معا ترسم مصير القضية وتقرره وتقيم له حدوده، حتى أصبح ذلك المصير كما قدمنا حلا مفروغا منه متفقا عليه بين القادة والجماهير، فلا حاجة به إلى تلك المؤثرات البلاغية أو السياسية التي يلجأ إليها القادة كثيرا لإقناع أتباعهم بما هم معتنقون به، ولكنهم يستجيشون لها شعور الجماعات تهيئة لقبوله على النحو الذي تتهيأ له نفوس الجماعات.
وكان القرن التاسع عشر منذ أوله فترة قلق شديد في بلاد العالم الإسلامي من أقصى أطرافها إلى أقصاها، وتلاحقت فيه الدعوات بغير انقطاع في كل أمة على النهج الذي يناسبها، فلم يخل بلد واحد في العالم الإسلامي من دعوة أو من حركة أو من ثورة، وكلها تطلب التغيير ولا ترضى بالواقع الذي صارت إليه.
وتجتمع تلك الدعوات جميعا في خصلة واحدة على تباين أشكالها وغاياتها، وهي أنها جميعا كانت «رد فعل» سريع لطغيان الاستعمار الأوروبي على الأقطار الشرقية، وقد ذهبت حملات الاستعمار حينا باستقلال أمم، وأضعفت أحيانا كيان الأمم التي بقيت مستقلة، وكشفت لهذه وتلك عن سوء حال لا قرار عليه.
ووقع في النفوس حيث اصطدم المسلمون بسلطان الدول المستعمرة أنهم أصيبوا بما أصيبوا به من جراء الفساد والفسوق والانحراف عن أحكام الدين، فلو عملوا بأحكام دينهم لما اصطلحت عليهم عوامل الضعف، ولا نزل بهم ذلك العقاب جزاء وفاقا من الله.
وتحركت كل أمة على النحو الذي يناسبها لعلاج هذا الضعف وتجديد قوة الدين، فقامت في بعض الأمم دعوات تحارب الترف وتنكر كل بدعة من بدع الحضارة الحديثة، وقامت في بعضها دعوات توفق بين قواعد الدين وفرائضه وبين العلوم العصرية والمطالب الدنيوية، وراجت في الأمم جميعا دعوات التطهير والاعتصام من الفتنة بعبادة الله على طريقة من الطرق الصوفية، وظهر في البلاد التي يعتقد أبناؤها برجعة الإمام المنتظر كثير من أدعياء الإمامة والهداية الذين يبشرون بمذاهبهم تارة على سنة القديم، وتارة على سنة لهم يبتدعونها ويجتهدون بها في استئناف قوة الإسلام على نمط يخالف الإجماع.
من هذه الدعوات دعوة محمد بن عبد الوهاب في نجد، ودعوة الباب والبهاء في فارس، ودعوة القادياني في الهند، ودعوة السنوسي في المغرب، ودعوة محمد أحمد المهدي في السودان، ودعوة جمال الدين الأفغاني وتلاميذه في كل بلد وصل إليه بشخصه أو برسالته، ومن هذه البلاد فارس، والهند، ومصر، والعراق، وتركيا، وأطراف من المغرب الأقصى، والمشرق الأقصى إلى تخوم التركستان والصين.
أثر الدعوات الدينية
كل دعوة من هذه الدعوات كان لها أثرها المباشر في البلاد الهندية، فأقبل المسلمون بالألوف على دعوة ابن عبد الوهاب، وقام شريعة اللة بنشر الطريقة «الفرائضية» التي يدل اسمها على غايتها، وهي إيجاب الفرائض والعمل بنصوص الشريعة، وتنسب إلى هذه الطريقة وسائر الطرق التي أخذت بالدعوة الوهابية ثورة المسلمين في الحركة التي اشترك فيها أهل الهند سنة 1857، وسميت بحركة «العصيان»، وكانت لها عند «البراهمة» أسبابها الدينية أيضا؛ لأنهم اعتقدوا أن الإنجليز سيرغمونهم على استباحة بعض المحرمات.
وقد كان ترديد الهند للدعوة الوهابية أمرا مفهوما يسير التعليل لقدم العلاقة بين الجزيرة العربية وشواطئ الهند الشرقية، ولكثرة الحجاج من مسلمي الهند في كل سنة، ولانتشار أخبار القتال بين الوهابيين وغيرهم في أنحاء البلاد الآسيوية، ولا سيما الإسلامية منها، كبلاد الملايا وبلاد الأفغان.
أما العجيب حقا فهو انتشار أخبار الثورة المهدية في السودان بين الأمم الآسيوية، وتحفز القبائل للثورة على حدود الأفغان، حتى توجس الإنجليز واهتموا باستطلاع آراء العظماء من المسلمين عن حقيقة الرسالة المهدية، وحض الفقهاء والعلماء على إصدار الفتاوى التي يبينون بها نصيب تلك الرسالة من الصحة أو من الموافقة للعقائد الإسلامية.
لكن الحالة النفسية التي كان عليها مسلمو الهند في تلك الآونة تفسر هذه العجيبة، وتجعلها من مألوفات كل يوم بالقياس إلى تلك الحالة النفسية، فإن العقيدة الدينية حلت في نفس الهنود - من المسلمين وغير المسلمين - محل الغيرة الوطنية، وجاءت غاشية الحزن التي غمرت نفوس المسلمين خاصة بعد زوال دولتهم وانكسار شوكتهم، فأضافت إلى عقيدة الدين قوة على قوة، واشتد بهم السخط مع الاضطهاد المتعمد والحرمان المدبر فتطلعوا إلى أبواب الأمل من كل فج قريب أو بعيد، وأصبحت حوادث السودان عندهم كأنها من حوادث الحدود.
ولم يزل هؤلاء المسلمون يسمعون في بلادهم، وفي البلاد التي يرحلون إليها حجاجا، أو تجارا، أو زوارا أن الطمع في استعمار الهند هو سبب البلاء الذي أصاب أمم الشرق جميعا، ولا يزال يصيبها ويعرضها واحدة بعد أخرى لضياع الاستقلال وكساد الحال، فوقر في النفوس أنهم مسئولون قبل غيرهم عن محنة العالم الإسلامي بأسره، وأن غيرهم من أمم العالم الإسلامي حقيقون منهم بالعطف على الأقل إن لم يكن لها منهم عون بالعمل أو المقال.
وليس من محض المصادفة أن يكون أعظم دعاة النهضة الإسلامية في أواسط القرن التاسع عشر - جمال الدين الأفغاني - متاخما للهند في نشأته، ومتطلعا إلى الهند أول ما تطلع لنشر دعوته، وهناك قال لهم قولته المشهورة: «لو كنتم يا أبناء الهند ضفادع بعدتكم من الملايين، ثم أردتم أن تزيلوا الجزيرة البريطانية من موقعها في البحر لزحزحتموها عنه، وقذفتم بها إلى قراره.»
مسألة الخلافة
إلا أن المسألة التي تضاءلت إلى جانبها كل مسألة من مسائل العالم الإسلامي في حساب مسلمي الهند؛ هي مسألة الخلافة الإسلامية، وكانت يومئذ في آل عثمان بالقسطنطينية.
فقد كان أمراء الهند أنفسهم يستقبلون تلك الخلافة في الشدائد، وينظرون إليها نظرتهم إلى الثمالة الباقية من عز الإسلام ودولته الدنيوية.
ومنذ عهد الاحتلال البريطاني توجهت الأنظار إلى سلطان آل عثمان، وكان في طليعة المتوجهين إليه سلطان ميسور على مقربة من سلطنة حيدر أباد، فإنه كتب إلى «الخليفة» يبلغه حقيقة الخطر على الديار الآسيوية، وينذره أن الخطر بالغ من غربها لا محالة إلى حوزة القسطنطينية، ولم يكن في وسع الخليفة أن ينجده بالعون الذي أراده، فكتب إلى نابليون يطلب هذا العون، وجاءه الجواب منه بانتظار المدد في جيش جرار يضرب الدولة البريطانية في مقتلها، ويخلي الطريق إلى الهند من شباكها.
ولم يزل أمراء الهند - فضلا عن سواد أهلها - يتطلعون إلى الخلافة في القسطنطينية حتى زالت وانتهت بخاتم الخلفاء السلطان عبد المجيد، فسعى سلطان حيدر أباد إلى التزوج من إحدى بناته، وقيل فيما قيل عن أسباب هذا الزواج: إنه «زواج سياسي» يمهد به السلطان إلى إمامة المسلمين في الهند على الأقل، إن لم تنعقد له الإمامة على العالم الإسلامي بأجمعه.
ولم يتفق لمسلمي الهند ما يضعف مكانة الخلافة بينهم كما اتفق للمسلمين الذين حكمتهم الدولة العثمانية فتمردوا على حكمها، وتغلبت في نفوسهم دفعة الوطنية على الولاء لحكومة ساءت سياستها وخرجت في رأي الأكثرين من أحكام دينها، بل كان مسلمو الهند يزدادون عطفا على دولة الخلافة كلما اشتدت بها المحن من داخلها وخارجها، وينسبون الثورات عليها أحيانا إلى دسائس الاستعمار وغواية الدول الأجنبية بالرشاوى والوعود الكاذبة.
ودام الحال على هذا إلى أن كانت الحرب العالمية الأولى ووقع ما وقع من الاصطدام بين تركيا وبريطانيا العظمى في مصر والعراق مباشرة، وفي الأقطار الأخرى من طريق الدعوة أو تحريض الإمارات الوطنية بجزيرة العرب، طموحا إلى إقامة دولة عربية واحدة تضم إليها الأمم العربية التي كانت خاضعة لسلطان بني عثمان.
وعمد ساسة الإنجليز إلى تهوين الأمر على مسلمي الهند تارة بقولهم: إن الحملة على تركيا إنما هي حملة على جماعة تركيا الفتاة الذين اغتصبوا سلطان الخليفة، وجعلوا الخلافة ألعوبة في أيديهم وتبرأوا من العصبة الإسلامية تمييزا عليها للعصبة الطورانية، فدفعوا العرب بذلك دفعا إلى إحياء العصبة العربية بزعامة أمير من سلالة بيت الرسول، وتارة يهونون الأمر على مسلمي الهند بتوكيد العهود لهم ؛ أن بريطانيا العظمى لن تمس دولة الخلافة، ولن تسمح بتقسيمها في معاهدات الصلح بين الطامعين فيها.
فلما انعقدت معاهدات الصلح خابت آمال مسلمي الهند في وعود الدولة البريطانية، وأيقنوا أنهم خدعوا وسيقوا إلى معونتها في هدم دولة الخلافة وتمزيق أشلائها، وأعلن زعماء المسلمين - تلاميذ أحمد خان - أن مسالمة الحكومة البريطانية في الهند سياسة قد انقضى أوانها ووجب نقضها؛ لأن هذه الحكومة قد أخلفت وعودها للمسلمين وللبرهميين في الشئون الدينية والسياسية، وانتهز غاندي الفرصة السانحة فجعل مسألة الخلافة من المسائل الأولى في برنامج المؤتمر، وراح مع الأخوين محمد علي وشوكت علي يجوبون أنحاء الهند شاهرين الحرب على الحكومة، معلنين الاتحاد بين جميع الهنود على حربها ورفض التعاون معها.
ويدل على مدى القلق الذي دهم نفوس المسلمين في الهند من جراء السياسة البريطانية مع الدولة العثمانية؛ أن ألوفا من مسلمي الحدود هجروا بلادهم وقصدوا إلى بلاد الأفغان ليعيشوا في ظل حكومتها الإسلامية، وأن مولانا محمد علي قصد إلى تركيا، وفلسطين، ومصر ليجمع كلمة الترك والعرب على استبقاء الخلافة والاتفاق على تأسيس «دولة اتحادية» تضم إليها طلاب الاستقلال في غير سيادة لقوم من الأقوام على قوم آخرين.
وبينما الهند تغلي مراجلها بالثورة والمقاومة السلبية تارة والمقاومة الإيجابية تارة أخرى؛ إذا بمصطفى كمال يلغي الخلافة وينفي خاتم الخلفاء العثمانيين من القسطنطينية.
أمن المصادفة ما حدث بعد هذا أم من تلاحق الأسباب الكثيرة وتلاقيها في وقت واحد غير منظور قبل ذلك؟
قد يكون هذا وذاك تعبيرين مختلفين لمعنى واحد، فليست المصادفة إلا أسبابا مجهولة أو غير مستقصاة إلى نهايتها، ولكننا على كل حال لا ننوي أن نرجح قولا من القولين في هذا السياق؛ إذ الأمر المحقق أن القائد الأعظم قد برز للزعامة في السياسة الهندية خلال هذه الآونة بعينها، وأنه كان على آراء مخالفة لآراء زعماء المسلمين في مسألة الخلافة وفي مسألة المقاومة السلبية، فكان أحق الزعماء بأن يتناول عصا القيادة في الآونة التي فترت فيها حركة الخلافة، وبطل التعاون من جرائها بين المسلمين والبرهميين في المقاومة السلبية.
كان جناح من مبدأ الأمر يؤمن بضياع الجهود التي تبذل في الهند لتأييد الخلافة العثمانية، وكان يؤمن كذلك بأن المقاومة السلبية سياسة ضررها بالهنود في النهاية أكبر من ضررها بالدولة البريطانية.
فلما تحولت جهود المسلمين الهنود إلى الداخل كان أصلح الزعماء لتوجيه تلك الجهود زعيم يحصر جهوده في بلاده، ولا يسلم مقودها لمن يتخذون مسألة الخلافة وسيلة للمناورات السياسية، ولم يكن تضافر المؤتمر وزعماء المسلمين على نصر الخلافة الإسلامية إلا مناورة من المناورات التي لا يسيغها طبع جناح، ولا تدخل في تفكيره ولا في شعوره.
وكان اجتماع الخواطر على استقلال المسلمين بدولتهم في الهند نتيجة طبيعية لقنوطهم من عمل شيء ناجع في إبقاء الخلافة العثمانية بعد أن تخلى عنها أبناؤها.
والمسلم على الدوام يفرق بين الحاكم وولي الأمر في فرائض الطاعة والمعاونة، فهو لا يدين بالطاعة لغير الله ولا يقبل الحكم من «ولي الأمر» إلا لأنه يتولاه بأمر الله، ولا طاعة لمخلوق في معصية الخالق.
أما «الحاكم» الذي ليس «وليا للأمر» فطاعته ضرورة قاسرة، والخروج عليه واجب كلما امتنعت هذه الضرورة القاسرة، وقد كان العزاء من قبل أن ولي الأمر قائم بالخلافة وإن كانت ولاية روحية، فأما ولا خلافة فليس من المعقول أن يخرج المسلمون من طاعة الدولة البريطانية ليدخلوا في طاعة الدولة البرهمية، وخير العوض في هذه الحالة قيام دولة مستقلة للمسلمين في بلادهم، إن لم تكن هي دولة الخلافة فهي حكومة اختيار لا حكومة اضطرار في غير موجب للاضطرار.
كذلك كانت مسألة الخلافة - من مسائل العالم الإسلامي الكبرى - عاملا مهما في قيام الباكستان، وفي توجيه القيادة إلى الزعيم الذي آمن منذ البداءة بحصر الجهود في هذه الناحية، فكان هذا أيضا تفسيرا واضحا للزعامة التي تقود الجماهير بالقول الصادق الصادع، من غير تأثير ولا اضطرار إلى أساليب التأثير.
الملتقى
والملتقى هو ملتقى القضية وزعيمها، ملتقى الباكستان والرجل الذي رشحته الحوادث لقيادة المساعي المتشعبة التي جمعت شملها وأبرزتها كما هي اليوم دولة بين كبريات الدول في القارة الآسيوية، وفي العالم بأسره.
وفي سنة 1906 أخذت بريطانيا العظمى تفكر في توسيع نصيب الهنود من الحكومة الذاتية.
وفي هذه السنة اجتمع في «دكا» زعماء المسلمين لإنشاء العصبة الإسلامية.
وفي سنة 1908 - بعد سنتين من إنشاء العصبة - توجه وفد من زعماء المسلمين إلى اللورد منتو - حاكم الهند - يطلبون منه وضع قواعد للانتخاب تكفل تمثيل المسلمين في المجالس النيابية التي تشترك في الحكومة الذاتية، وإن كان اشتراكا في حدود الشورى وإبداء الآراء لا يتجاوزهما إلى حدود الإبرام والتنفيذ والحكومة الفعلية.
لم يكن جناح من مؤسسي العصبة، ولم يكن كذلك من أعضاء الوفد الذي عرض مطالب المسلمين على الحاكم العام.
ولا يفهم من هذا أنه كان يقاطع الحركة الإسلامية ويجهل دواعيها، وإنما يفهم منه أنه كان إلى ذلك الحين يعتقد أن المؤتمر أداة صالحة لخدمة الهنود جميعا من مسلمين وبرهميين، وظل على هذا الاعتقاد بعد إنشاء العصبة بسبع سنوات.
ولما أيقن أن وجود العصبة لازم لرعاية المصالح الإسلامية، وقبل الانضمام إليها طلب من شاهديه أن يقررا في كتاب ترشيحه أن رعاية هذه المصالح لا تعني بحال من الأحوال نقض الولاء للقضية القومية الكبرى التي وقف عليها حياته.
وفي سنة 1914 كان هو رئيس البعثة الهندية التي قصدت لندن لشرح القضية الهندية، وتوضيح المطالب التي ينتظر أهل الهند تحقيقها بعد نهاية الحرب العظمى.
وفي سنة 1916 كان هو رئيس اللجنة التي تألفت للاحتفال بمقدم غاندي من إفريقية الجنوبية، وكان رئيسا لفرع من أكبر فروع العصبة المؤلفة لتوسيع حقوق الحكم الذاتي، وهو فرع بومباي.
ويمكن أن يقال: إن وفاة الزعيم البرهمي جوكهيل في سنة 1915 كانت هي مفترق الطريق بينه وبين سياسة العمل الموحد في القضية الهندية، وأول الطريق الذي التقى فيه بقضية الباكستان وأصبحت قضيتها فيه هي قضية قائدها الأعظم بغير افتراق.
كان جوكهيل رجلا نادرا في نبله وحكمته وسماحة عقله، وكانت قدرته على فهم موقف قومه وغير قومه هي الهبة الزعامية الكبرى التي انفرد بها، أو كاد أن ينفرد بها بين زعماء البرهميين.
كان يتقبل بالارتياح نظم الانتخاب التي تعطي المسلمين ضمانهم في المجالس النيابية ودواوين الحكومة، وكان يتقبل بالارتياح ما هو أكبر من ذلك وأدعى إلى التوفيق بين الأكثرية والأقلية من أبناء البلاد الهندية جمعاء، وذلك هو النظام الاتحادي «الفدرالي» إذا لم يكن منه بد في عهد الحكومة الوطنية.
وقد كانت هذه السياسة التي انتهجها الزعيم البرهمي النبيل من إملاء الواقع، كما كانت من إملاء سماحته وحكمته وبعد نظره.
كانت من إملاء الواقع؛ لأن الشقاق على السلطان عبث وهو محصور في أيدي القوة الأجنبية، وكان من الحماقة أن يتقاتل البرهميون والمسلمين على سلطان لم تنزل عنه بريطانيا العظمى، ولم يكن ظاهرا في السنوات الأولى من القرن العشرين أنها تنوي النزول عنه في وقت قريب.
فانتهج جوكهيل خطة التوفيق؛ لأنها أسمح الخطط وأحكمها وأوفقها لسياسة الواقع، ومضى على هذه الخطة في خلال زعامته التي انتهت بوفاته قبل نهاية الحرب العالمية، فكانت هذه الكارثة ضربة قاصمة لسياسة الوحدة وتضافر الجهود القومية.
وقد تتلمذ جناح على جوكهيل وأعجب به، وحافظ على الولاء له وإقناع المسلمين بمجاراته في ولائه، فلما قضى الرجل (في شهر فبراير سنة 1915) بدأ الانحراف في دوائر المؤتمر عن ذلك النهج القويم، وأخذت الشكوك والظنون تساور تلميذه الكبير وتقنعه بضرورة العزلة التي كان يجاهد عقله ونفسه على رفض الاقتناع بها غاية جهده.
ولكنه لم يعجل ولم ييأس، ولم يكن من دأبه أن يتراجع سريعا عن رأي آمن به وثابر زمنا على تنفيذه، فحاول بعد سنة من وفاة جوكهيل أن يقرب بين العصبة والمؤتمر، وأسندت إليه رئاسة مجلس العصبة في سنة 1916 فتعمد أن يعقده في مدينة «لكناو» حيث انعقدت جلسة المؤتمر الكبرى في تلك السنة.
وقد واصل سعيه حتى اتفقت العصبة والمؤتمر على المسائل المختلف عليها جميعا، وخرجت الهيئتان بالميثاق المشترك بينهما، فأطلق الفريقان على جناح لقب «سفير الوحدة»، واشتهر بين البرهميين والإنجليز باسم رسول السلام.
إن المساجلات التي دارت بين الفريقين بعد ميثاق «لكناو» تملأ المجلدات الضخام، وتضل القارئ في تيه من المتناقضات والتهم والردود لا يسعنا في هذه الرسالة أن نستقصيها أو نلخصها، وليست بنا حاجة إلى استقصاء لها أو تلخيص، ولكننا نحيط بها جميعا إذا رجعنا إلى سياسة الواقع في عهد جوكهيل، وسياسة الواقع في السنوات الأخيرة من الحرب العالمية الثانية.
لقد أسلفنا أن سياسة الواقع في عهد جوكهيل كانت تهديه إلى قبول الضمانات المطلوبة للمسلمين؛ لأن الخلاف عليها عبث مع استئثار الدولة البريطانية بالسلطان واجتماع أزمة الحكم كلها في يديها، سواء في الهند أو العاصمة البريطانية.
أما سياسة الواقع في السنوات الأخيرة من الحرب العالمية الثانية فقد كانت على نقيض تلك السياسة.
كان نزول الإنجليز عن السلطان قد أصبح في حكم الواقع القريب، وكان من المحقق عند البرهميين والمسلمين أن السلطان «الفعلي» سينقل رويدا رويدا إلى أيدي الهنود، ومنهم من كان كبير الأمل في انتقاله دفعة واحدة خلال سنوات لا تجاوز أصابع اليد الواحدة.
ولهذا أخذ ساسة المؤتمر يرفضون ما قبلوه واعتبروه من الحلول المعتدلة قبل ذلك، وكلما أصبحت السلطة القومية حقيقة واقعة أنكر ساسة المؤتمر شيئا مما كان مقبولا عندهم، وتشبثوا باحتكار القيادة واحتكار دعوى النيابة عن الهند قاطبة، فمنهم لا من غيرهم تصدر الأوامر والمشورات ومعهم لا مع غيرهم يتفق الإنجليز ونواب الطوائف.
وجرت الانتخابات مرات فأبى ساسة المؤتمر أن يعترفوا بنائب ناجح ما لم يكن عضوا في المؤتمر، مقرا لسياسته ومواثيقه.
وأنكروا حق العصبة في النيابة عن مسلمي الهند وقالوا: إنها جماعة من جماعات كثيرة، ثم صمدوا على هذا الإنكار بعد ثبوت هذه النيابة بنسبة النجاح بين المرشحين، فقابلت العصبة إنكارا بإنكار، وأعلنت أنها لا تعترف بالمسلمين أعضاء المؤتمر ما لم يكونوا أعضاء في العصبة ممثلين لها بتزكية منها. •••
وشاعت فكرة الانفصال وجعلت تزداد شيوعا كلما ازداد اليقين بصعوبة التفاهم على ضمانات الحكومة الموحدة، ونادى غاندي من جانبه باستحالة الفصل بين التوأمين السياميين اللذين تجمعهما بنية واحدة تموت بانفصال أحدهما عن الآخر.
ونادى حزب المؤتمر بشعاره الذي لا يتحول عنه وهو «الاستيلاء أولا ثم التقسيم ثانيا»، وأن البرهميين والمسلمين عليهم معا أن يناضلوا في سبيل الاستيلاء على الحكم القومي، ثم يعملوا على التقسيم بعد الاستيلاء عليه.
وطفق جناح يجيب على هذا الشعار بشعار مثله يلخص به موقفه وموقف العصبة الإسلامية، وهو أن المسلمين لا يناضلون في سبيل عبوديتهم.
وجاء يوم يئس فيه القائد الأعظم كل اليأس من التفاهم على ضمانات الحكومة الموحدة، وأجمع النية على ضرورة الانفصال.
ويبدو من وقائع شتى أنه كان على حق في يأسه وتعويله الحاسم على فض الخلاف بإقامة دولتين منفصلتين.
ولا نطيل في سرد هذه الوقائع؛ لأنها كما أسلفنا تستوعب المجلدات الضخام في الشرح والمناقضة والرد وإعادة الرد من الجانبين، ولكن واقعة كشمير بعد الانفصال مثل يغني عن أمثلة كثيرة على صعوبة التفاهم بالبينات والحجج المنطقية والمقاييس العامة التي يتفق عليها الطرفان، بل يتفق عليها جميع الأطراف.
وخلاصة الواقعة أن سلطان حيدر أباد المسلم هم بالانضمام إلى الباكستان فأنذرته حكومة الهند ألا يفعل، وأتبعت الإنذار باحتلال بلاده عنوة؛ لأنها ترى أن المعول على الشعب لا على السلطان، فلما أرادت الباكستان أن تطبق هذا المبدأ نفسه وتلحق بها ولاية كشمير التي يبلغ المسلمون في جميع أقاليمها - ومنها إقليم جمو - أكثر من سبعين في المائة، رفضت حكومة الهند هذا المبدأ، وأعلنت أنها تقاومه بالقوة العسكرية، مع أن الكثرة الغالبة بين أبناء حيدر أباد من المنبوذين الذين لجأوا إلى الولاية الإسلامية؛ لأنهم لا يقبلون المهانة التي يعاملون بها بين البراهمة. أما أبناء كشمير المسلمون فلا فاصل بينهم وبين إخوانهم، في العقيدة ولا في الميول السياسية ولا في الموقع الجغرافي والعلاقات الاقتصادية.
ومن هذا المثل المشهود على ملأ من العالم تتضح صعوبة التفاهم في الأمور الداخلية على مبدأ متفق عليه بغير ضمان.
خلاف في الأسس
ولا يستوفى البيان عن طبيعة الخلاف بين جناح وساسة المؤتمر إذا حصرناه كله في قضية الباكستان.
فالواقع أنه خلاف في أسس التفكير يتناول السياسة الهندية في جميع مناحيه، ولا يقف عند القضية الإسلامية البرهمية.
فقد كان جناح يستغرب سياسة غاندي، ولا يؤمن بجدوى «التنسك » ورفض الحضارة، ومقاطعة الوظائف والمصانع والصناعات العصرية برمتها، ويقول: إنه يريد حملة تضرب الهدف ولا تضرب صاحبها، وضرب الهدف في رأيه إنما يكون بالوسائل السياسية، ووسائل المقاومة الفعالة عند لزومها.
وغاندي في اعتقادنا رجل عظيم أو روح عظيم كما وصفناه في كتابنا عنه بعد مقتله، ولكن المؤيدين لمذهبه والمعارضين له متفقون على أنه رجل برهمي في كل قطرة من قطرات دمه، وكل باعث من بواعث روحه: أساليبه برهمية ووسائله برهمية ومثله العليا برهمية وصيامه ومقاومته السلبية، ودعوته إلى الاهمسا من صميم النحلة البرهمية، وغايته من حركته أن يجعل الهند «رام راج»؛ أي مملكة الإله «رام» رب البراهمة، وهو الرب الذي انطلق لسانه بدعائه ساعة أصيب برصاص الجاني المعتدي عليه.
وإن هذه الزعامة المستغرقة في البرهمية لتستدعي بطبيعتها زعامة أخرى تقابلها وتشبهها في تمثيل قضيتها، والعمل بروحها في أداء رسالتها، فلم يكن مع قيام غاندي مناص من قيام جناح أو من يحل في محل جناح.
وقد كان استقلال الرأي يدفع بجناح إلى مخالفة المؤتمر ومخالفة العصبة الإسلامية في وقت واحد.
كان يخالف المؤتمر في سياسة غاندي المستغرقة في البرهمية، وكان يخالف العصبة وجمهرة المسلمين الهنود في حركة الخلافة؛ لأنه زاول السياسة ومسألة الخلافة تكاد تلفظ أنفاسها، واشتد حزنه في إبان حركة الخلافة لضياع هذا الجهد في غير طائل ينفع مسلمي الهند أو ينفع الخليفة والخلافة، فهجر الهند وأوشك أن يعتزل السياسة، وراح يقيم فترة في البلاد الإنجليزية إلى أن تهدأ السورة وتثوب الأمور إلى قرارها.
فأما خلافه مع حزب المؤتمر فلم ينحسم، وأما خلافه مع العصبة فقد انحسم بانقضاء اللجاج في مشكلة الخلافة، وأصبح مصير الخلافة معززا لقيام دولة إسلامية مستقلة في البلاد الهندية، فلا يجتمع على مسلمي الهند ضياع الخلافة وضياع الاستقلال إلى آخر الزمان.
الأمل الأكبر
لا جرم يدرك الشاعر الملهم محمد إقبال أن الرجل قد خلصته الحوادث، ومحصته التجارب ومحضته آراءه وحصافته لمهمة فريدة لا يضارعه في الاستعداد لها أحد من أبناء عصره، فذكره غير مرة أنه هو الأمل الأكبر لقيادة الحركة الإسلامية وبناء صرح الدولة المرجوة، فكتب إليه قبل قيام الباكستان بأكثر من عشر سنوات يقول له: «إنني أعلم أنك رجل جم المشاغل، ولكني أرجو ألا تضجرك كتابتي إليك حينا بعد حين؛ إذ أنت المسلم الوحيد في الهند الذي يحق للأمة كلها أن تتطلع إليه لقيادتها في هذه الزوبعة التي تهب على شمال الهند الغربية، وإنني لمبلغك أننا نعيش فعلا في حرب أهلية لولا الشرطة والجيش لعمت في مثل لمح البصر.»
وذاك أن الشاعر الملهم على غيرته الدينية كان يأنف من استجداء المعونة للخلافة، ويقول عن الوفود التي تؤم الغرب لطلب هذه المعونة: إنها ذهبت تحمل «الكوز» لتحمل فيه فضلات المحسنين!
ومن طرائف هذه القضية أن «الاسم» الذي تسمى به قد وجد لها في إبانه، (سنة 1933) فسماها «رحمة علي» أرض الطهر، واتخذ هذا الاسم من حروف أسماء الأقاليم التي يراد تكوين الباكستان منها، وهي بنجاب، وأسام، وكشمير، وسند وتليها «تان» من اسم بلوشستان.
وقد قيل بحق: إن الباكستان دولة خلق اسمها قانوني وألهمها ضميرها شاعر، وأقام لها بنيتها التي تحمل اسمها وضميرها قائد، أو قائد أعظم، هو جناح.
وخير تلخيص للموقف قبل قيام الباكستان بأشهر معدودات أن نرجع إلى حديث للقائد الأعظم أفضى به إلى مندوب صحيفة «المصور» قبل انتهاء سنة 1946 ببضعة أيام؛ يذكر فيها المشابهات بين قضية الهند وقضية مصر والمناقضات بينهما، وفيه يقول: «إذا لم يتحقق الباكستان في الهند فإن الشرق الأوسط كله - وبخاصة مصر - سيكون في خطر من التوسع الهندوكي الاستعماري المنتظر، وسيتخذ هذا الاستعمار الهندوكي طابعا أشد خطرا وشناعة من الاستعمار البريطاني في القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين.»
ثم قال: «إذا لم يوافق الهندوكيون على مشروع الباكستان فلن نشترك معهم في الجمعية التشريعية التي ينادون بها، أما الكونجرس الهندي المقترح لتوحيد الهند تحت حكومة مركزية؛ فمشروع استعماري محض، يحتمل كثيرا أن يهدد منطقة الشرق الأوسط كلها بالخطر، بحجة أنها المجال الحيوي والسوق القريبة للمنتجات الهندوكية، على طريقة المرحوم هتلر!»
واستطرد قائلا: «إن أعدل حل للقضية الهندية هو إيجاد دولتين هنديتين إحداهما منفصلة عن الأخرى: الأولى مسلمة في الشمال الغربي، والأخرى هندوكية في الشمال الشرقي، يتبادل بينهما السكان حتى لا يكون في أيهما قلة طائفية، ويقوم بينهما أساس للتفاهم المشترك وتبادل المعونة.»
وأشار إلى وحدة وادي النيل فقال: «ليس ثمة تعارض بين دعوتي هذه الانفصالية ورضاي عن اتحاد وادي النيل، ولا عن الاتحاد بين مسلمي مصر وأقباطها، لاتفاق اللغة والعادات والتقاليد بين شطري الوادي، فضلا عن الشعور والتشابه العجيب في تكوين المصري والسوداني، ولكن يدعو إلى الانفصال بين المسلمين والهندوكيين الاختلاف في كل شيء حتى في الأكل، فإن الهندوكي لا يريد المسلم أن يأكل لحم البقرة التي يعبدها.
وإذا كان الأقباط في مصر يعيشون في صفاء ووئام مع المسلمين؛ فإن الأمر بين المسلمين والهندوس مختلف جدا؛ لأن الأقباط يؤلفون عشرة أو خمسة عشرة في المائة من مجموع السكان الذين لا يجاوزون عشرين مليونا، أما مسلمو الهند فهم حوالي مائة مليون، ويستطيعون أن ينشئوا دولة قوية. ومساحة مصر صغيرة بخلاف الهند؛ فهي أكبر من القارة الأوروبية، ومن السهل أن تنقسم إلى دولتين عظيمتين، وفي الإسلام والمسيحية تسامح ولا تتجاوز الفروق بينهما شئون العبادة الخاصة، أما الديانة الهندوسية فهي التي تسير الهندوس في كل شئون حياتهم، وبينها وبين الأديان السماوية المعروفة فوارق كبيرة جدا تحمل في ثناياها كل أسباب النزاع والخصومة.»
مهمة غير سهلة
مهمة وجدت قائدها وقائد وجد مهمته ...
تهيأ لقيادتها وتهيأت لقيادته خلال سنوات متتابعات أبانت فيها الحوادث ما يلزم ومن يلزم: ما يلزم من العمل ومن يلزم لإنجاز ذلك العمل، وانتفى من الوسط كل باعث من بواعث القيادة التي تحاول أن تقنع بغير ما يوجبه الواقع من براهين الصدق في الإقناع.
هذا كما أسلفنا غير مرة هو تفسير الأعجوبة النادرة في قيادة القائد الأعظم: أعجوبة قائد للجماهير يخاطبها بلهجة كأنها لهجة العالم في المصنع أو لهجة القاضي في سجلات الأحكام.
لكن الفارق بعيد بين مهمة مهيأة ومهمة ممهدة مذللة. إن المهمة الممهدة سهلة مذللة المصاعب تتطلب من العامل لها جهد إتمام وتكملة، لا جهد تأسيس وإنشاء.
أما المهمة المهيأة فقد تكون أعسر مهمة يتولاها صاحبها، وكل ما هنالك أنه يتولاها هو ولا يتولاها غيره؛ لأنه أقدر على مصاعبها من الآخرين.
كانت قضية الباكستان مهمة مهيأة لقيادة جناح، ولم تكن مهمة ممهدة له أو لغيره من القادة.
كانت عظيمة المصاعب كأعظم ما تكون المصاعب في إقامة الدول، وغاية ما هنالك أنها المصاعب التي وجدت صاحبها المستعد لها المقتدر على إنجازها، بما اختص به من ملكات ومن صفات، وأهمها الصدق الصراح.
كان شعور المسلمين بالحاجة إلى الباكستان درجات، فليس أصحاب الكثرة في أقاليمهم كأصحاب القلة فيها ...
أصحاب القلة في أقاليمهم أشد حاجة إلى الدولة المستقلة، ولكنهم سينتقلون من بيئاتهم التي تعاقب عليها آباؤهم وأجدادهم، وسينتزعون أنفسهم انتزاعا من المولد العزيز، ومن مورد الرزق، ومن مآلف الصبا والشباب ...
وأصحاب الكثرة في أقاليمهم أقل حاجة إلى الدولة المستقلة، ولكنهم يعاشرون قلة من البراهمة المتهوسين بالعصبية الدينية، فيلمسون على قرب بوادر النقمة وقلة الأمان، ويهمهم أن يخلص لهم ضمان دائم كضمان الباكستان.
والمسلمون بعد مذاهب وطوائف: سنيون، وشيعة، وإماميون، وإسماعيليون ومن طائفة القادياني أو طائفة الفرائض، أو غير ذلك من طوائف الأئمة والدعاة.
وهم على هذا متفاوتون في الغيرة والحماسة، متباينون في العمل للدولة الجديدة، يتساءلون على أي أساس تقام، وإلى أية غاية تهدف، ومتى يكون البدء بتوطيد الأساس والهدف إلى الغاية.
هل تكون دولة مدنية أو دولة إلهية؟ وهل تكون كذلك دفعة واحدة أو على تدرج وأناة؟ وعشائر البادية والجبال ما شأنها؟ هل تحكم حكما عصريا أو تحكم بنظامها الموروث الذي تتغير الدول ولا يتغير؟
واللغة - لغة التعليم والعبادة - كانت هي أيضا مثار الخلاف والإشاعة المتناقضة: هل تفرض الأردية وحدها وتلغى البنغالية؟ أو تبقى البنغالية للتعليم والمعاملة في بعض الجهات وتعم الأردية جميع الجهات؟
نوازع ودوافع تضطرب فيها العقول والظنون وتتضارب فيها الأمزجة والأهواء، ولا سيما في الفوج الأول قبل الاستقرار والطمأنينة، وقبل جلاء النيات والغايات .
واقترنت هذه العوامل الطبيعية بعوامل أخرى غير طبيعية من تلفيق الدسائس والنفاق، فكانت هناك جماعات إسلامية ظاهرها الخدمة العامة وباطنها خدمة المأجورين للسياسة الأجنبية، وفرصتها هي هذه الفرصة في أوائل الحركة بين المتشابهات والمتناقضات، وبين مواقع التهم ومطارح الأطماع.
وعجيب، أو ليس بعجيب على الوجه الذي تختاره، أن يتعرض خادم الباكستان الأكبر في معترك هذه الظنون والنوازع لجريمة اغتيال لم يتعرض لها عدو من أعداء الباكستان الدخلاء أو الأصلاء في البلاد، وأن يكون مدبر اغتياله أحد المدينين له بنعمة الحرية والإنقاذ.
حدثت هذه المحاولة - محاولة اغتيال جناح - في صيف سنة 1943 والقائد عائد إلى بومباي من إحدى رحلاته، وأذاعت الصحف نبأ عودته وموعد وصوله، فذهب فتى من جماعة «خاكسار» يتربص به عند وصوله، ولم يتمكن من مقاربته لاشتداد الزحام في استقباله، فقصد إلى قصره ساعة الغداء، وكأنه علم من قبل أنها ساعة الراحة لمعظم الخدم ما عدا القائمين بإعداد المائدة للقائد الأعظم وضيوفه، فتلقاه بواب القصر بالترحاب كما يتلقى الزوار، وقاده إلى الكاتب الخاص الموكل بالاستماع إلى من يطلبون المقابلة، ودخل جناح المكتب في هذه اللحظة فرأى الفتى وسأل كاتبه عنه، فأبلغه ما سمعه منه، وأنه يرغب في محادثته لمسألة هامة، فأمر جناح كاتبه أن يعطيه ورقة يكتب فيها كل ما يطلبه، ويبلغه بعدها عن موعد يلقاه فيه لإتمام حديثه، وإذا بالشاب يهجم على القائد العام ويهم بأن يطعنه في صدره بمدية أخرجها من طيات ثيابه، وتمكن فعلا من إصابته بجرح غير ذي بال، ورفع يده ليتم فعلته فأدركه البواب قبل أن يعيد الكرة واعتقله وهو يصيح: «دعوني دعوني ... لست مأجورا ... إن شيخي يأمرني بقتله ...»
وقد حوكم الفتى وحكم عليه بالسجن خمس سنوات، وتبين أنه ينتمي إلى تلك الجماعة جماعة خاكسار؛ أي جماعة الأرضيين أو الترابيين الذين تسموا بهذا الاسم تواضعا وإظهارا للفقر والمتربة، ولهم نظام فاشي ونزعة شيوعية، ورئيسهم عناية الله المشرقي من خريجي جامعة كمبردج، أنشأ الجماعة في البنجاب سنة 1931، وحلت جماعته سنة 1941 واعتقل كما اعتقل غيره من رؤسائها ، ثم أفرج عنه في السنة التالية بمساعي العصبة الإسلامية وشفاعة القائد الأعظم، فجوزي على هذه الشفاعة بعد سنة واحدة بتدبير تلك المؤامرة للقضاء عليه.
تلك بعض المصاعب الشعورية أو النفسانية التي كان على القائد العام أن يعالجها ويصرف أذاها في سبيل تأسيس الباكستان.
والمصاعب المادية في غنى عن البيان؛ لأنها تشمل فيما تشمله تنظيم المواصلات لنقل المهاجرين إلى الباكستان والمهاجرين منها، وإعداد المساكن، وإعداد الأعمال ومرافق المعيشة لكل ساكن على حسب صناعته وموطن تلك الصناعة من الدولة الجديدة، والإنفاق على الدولة من خزانة لا مال فيها ولا مورد لها بعد من الضريبة أو الإنتاج أو القروض الميسورة، ويكفي في تقريب هذه الصعوبات إلى الأذهان أن نستعيد آراء المعقبين على اقتراح إنشاء الباكستان عند شيوعه وتسامع الناس به في أقطار العالم لأول مرة، فقد كان تعقيبهم جميعا يتلخص في كلمة واحدة هي كلمة «مستحيل».
وربما علم جناح من هذه المصاعب ما لم يعلمه غيره، وربما كان جناح أولى من غيره بالحكم على المشروع بالاستحالة، لو كان مجرد العلم كافيا لتقدير الاستحالة ونفض اليدين من الفكرة منذ اللحظة الأولى.
إلا أن الأب الذي ينظر إلى ابنه المريض بالداء المعضل الميئوس منه يحكم عليه حكما غير حكم العواد، وغير حكم الأطباء أنفسهم، وإن كانوا من صانعي المعجزات.
إن الأب يعرف هنا ما لا يعرفه العواد ولا يعرفه الأطباء، يعرف أن ابنه يجب أن يعيش، ولا يقصر همه على أن يسأل هل سيعيش أو لا يعيش؟
وليس تصويرنا لتقدير المصاعب على هذه الصورة في نظر القائد الأعظم تصويرا نعتمد فيه على التخيل أو تشبيهات المجاز.
كلا! إن البرنامج العملي الذي حفظته أقوال القائد العام ومساعيه وتمهيداته تدل دلالة غير مقصودة على أن كلمة «الواجب» هي مفتاحه الوحيد الذي يفتح به المغلقات، ويقتحم به السدود ويذلل به العقبات.
فإذا سأل سائل: هل تذلل هذه المصاعب أو لا تذلل كان جوابه الأول: هل هناك محيد من تذليلها؟ فإن كان تذليلها هو الواجب الوحيد فلتذلل ولتخلق وسائل التذليل واحدة بعد أخرى حتى تزول المصاعب من الطريق الذي لا محيد منه وليس عنه حول، فإنما النكول عن الواجب هنا أصعب من الهجوم عليه واطراد السير في طريقه على عجل أو على مهل، وهل عنه حول أو منه محيد؟
حادثه الصحفي الخبير بالقضية الهندية بيفرلي نيكولاس صاحب كتاب حكم على الهند فسأله: «إن أعم الاعتراضات التي توجه إليك من نقادك؛ أنك لم توضح الباكستان توضيحا دقيقا، وأن هناك تفصيلات جمة تتعلق بالدفاع والمرافق الاقتصادية وطوائف الأقليات أهملتها وتركتها عمدا غامضة مبهمة ... فما قولك في هذه الاعتراضات؟ وهل يبدو لك أنها من قبيل النقد المنصف المعقول؟»
قال جناح: «إنها ليست من الإنصاف ولا من حسن الفهم للأمور، وبخاصة حين تأتي من إنجليزي ليست له أية معرفة بتاريخه، فإن أيرلندة حين فصلت جاءت الوثيقة التي دونت قرار فصلها في نحو عشرة أسطر، نعم عشرة أسطر من الحروف المطبوعة لتسوية نزاع معقد لا يصدق العقل مبلغ تعقيده، قد سمم السياسة البريطانية عدة قرون، وتركت جميع تفصيلاته للمستقبل، وما أقدر المستقبل من فيصل جدير بالإعجاب في كثير من الأوقات! وها أنا ذا قد أعطيت العالم من البيان ما يزيد كثيرا على عشرة أسطر لبيان المبادئ والوقائع التي تدور عليها قضية الباكستان، ولكنه من وراء طاقة الإنسان كائنا من كان أن يدون في الورق تفصيلا سابقا لا يخرم منه حرف عند تنفيذه، ونعلم عدا هذا من تاريخ الهند أن هذا التفصيل لا ضرورة له على الإطلاق، فأين كان هذا التفصيل حين تقرر فصل بورما في مؤتمر المائدة المستديرة؟ وأين كان هذا التفصيل حين فصلت السند من بومباي؟ لم يكن له وجود، لم يوجد ولم تكن ثمة حاجة لأن يوجد، وكان المبدأ المهم في القضية أن قاعدة الانفصال تقررت، ويأتي كل شيء بعد ذلك في حينه.»
قال بيفرلي: «كيف تصور «الأمر المهم» في قضية الباكستان؟»
قال: «في خمس كلمات ... إن المسلمين أمة ... فإن سلمت هذا وجب أن تسلم تسليم الرجل الأمين. إن حق الباكستان قائم ، ووجب أن تسلمه ولو كانت مصاعبها مائة ضعف المصاعب الماثلة في الواقع.»
قال الصحفي: «أتنظر إلى الناحية الدينية حين تقول الباكستان أمة؟»
قال جناح: «بعض النظر لا كله ... ولتذكر أن الإسلام ليس عقيدة وحسب، بل هو آداب وسلوك عملية واقعية، وإنني لأنظر إلى الناحية الحيوية، وإلى كل شيء ذي بال في حياة الإنسان، إنني لأنظر إلى تاريخنا وإلى أبطالنا وإلى فنوننا، وإلى عمائرنا وآثارنا وموسيقانا وقوانيننا وفقه شريعتنا.»
وسكت الصحفي يكتب، وتركه القائد يكتب لحظة ثم قال: «في جميع هذه الشئون نظرتنا لا تختلف وحسب، بل تناقض النظرة البرهمية، نحن أناس مختلفون، مختلفون في الأسماء والملابس والأطعمة، مختلفون في الحياة الاقتصادية وفي مثل التربية والتعليم، وفي معاملتنا للنساء، وفي مسلكنا مع الحيوان ... وخذ إليك مسألة البقرة الأبدية ... نحن نأكلها والبراهمة يعبدونها، وقد يخطر للإنجليزي أن هذه «العبادة» تقليد من التقاليد التي تصلح للفرجة، وبقية من تراث الأيام الخالية. لكن الأمر على نقيض ذلك، ومنذ أيام فقط أصبحت مشكلة البقرة في مدينتنا هذه إحدى مشاكل الأمن العام ... وما مشكلة البقرة بعد إلا واحدة من ألوف.»
ثم صمت لحظة ونظر إلى الصحفي سائلا: «ماذا كتبت؟»
قال: «إنما كتبت أن المسلمين أمة ...»
قال: «وأنت على يقين من صدقها؟»
قال: «نعم!»
فقال جناح وعلى فمه ابتسامة: «فأي سؤال بعدها تسأل؟»
قال الصحفي: «أول سؤال اقتصادي: فهل المسلمون عسيون أن يصبحوا أغنى أو أفقر بعد قيام الباكستان؟ وهل في نيتكم فرض مكوس بينكم وبين أرجاء الهند الأخرى؟»
وأعرض جناح عن الجواب ليسأل كما قال على سبيل التغيير: «هبهم سألوك ماذا تفضل: إنجلترا غنية في حكم الجرمان أو إنجلترا فقيرة في حكم نفسها؟»
فأجاب الصحفي قائلا ومعرضا أيضا عن الجواب: «قلما أحتاج إلى جواب.»
فعاد جناح يقول: «أولست ترى إذن أن سؤالك سمل مرجوع؟ إن المثل الأعلى أمامنا أرفع من المتاع الشخصي والراحة الموقوتة، والمسلمون أمة مخشوشنة دءوب صابرة، فإذا كان قيام باكستان وشيكا أن يزيدهم قليلا من الدأب والنحافة فلا شكاية، ولكن ما بالها تزيدهم دأبا ونحافة؟ وماذا هناك مما يوحي الظن بأن هبة القومية ستوقر كواهل الأمة من جانب الثروة الاقتصادية؟ إن أمة مستقلة عدتها نحو مائة مليون، قلما يقع في الخاطر، وإن كانوا عاجلا لا يملكون كفايتهم ولا يحسنون الصناعة، أنهم يصيرون إلى حال أسوأ من حالهم وهو مبعثرون غير منظمين تحت سيادة مائتين وخمسين مليونا يستغلونهم، وإنه لما يعييني تصورا أن يقال: إن الباكستان استحالة اقتصادية بعد معاهدة فرساي، فإن الأدمغة الكبار التي قطعت في أوروبة قطعا مشتتة مزرية بين حدود ملفقة متقاطعة لهي آخر من يحق لها أن تكلمنا في مصاعب الاقتصاد، وهي لدينا أيسر من ذاك ...»
إنها إذن مهمة غير سهلة وغير ممهدة، وليست هي كذلك في رأي صاحبها، ولا في رأي أحد من المتطلعين إليها من داخلها أو خارجها، ولكن الباكستان ينبغي أن توجد ولو كانت المصاعب التي تعترضها مائة ضعف مصاعبها؛ لأن وجودها واجب لا محيد عنه، وبهذا المعيار يوازن جناح بين كفة المصاعب وكفة الواجب، أما سائر ما في الحديث المتقدم من الموازنات بين الأزمات والحلول في إقامة الدول الناشئة شرقا وغربا؛ فهو آية أخرى على القضية التي تهيأت لصاحبها، وتهيأ للاضطلاع بها على بعدها من السهولة ومن التمهيد.
أسرته وطفولته
أسرة القائد
أسرته من أصل برهمي، وقد أسلم أحد أجداده منذ قرن متحولا من البرهمية إلى النحلة الإسماعيلية، وهي نحلة لها دعاة عاملون ذوو نشاط وذكاء عملوا في الهند الغربية وعلى حدودها منذ ألف سنة، وكان من دعاتهم في تلك البقاع قبل ألف سنة والد الفيلسوف ابن سينا كما هو معلوم.
وكأنما شاءت الأقدار أن يكون جناح بتاريخه وتاريخ أسرته حجة قائمة على الحقيقة العظمى في تكوين النفس الهندية، وهي أن الدين قد شغل في هذه النفس مكان كل عاطفة عامة: شغل فيها مكان الوطنية والعصبية والجامعة القومية، وصبغ فيها الأفكار، والأذواق، والآداب العملية، والنظرية بصبغته؛ فهو طبيعة أخرى كالطبيعة التي تركبها الفطرة في بنية الجسم والضمير.
رأينا فيما تقدم كيف كان الزعيمان جناح وغاندي يتقابلان ، أو يتناقضان، في أساليب العمل ودوافع الحركات السياسية وفلسفة الحياة العامة والحياة الشخصية، ويكاد القائل أن يقول: هو التناقض بين الفطرة الآرية والفطرة السامية، أو هو الاختلاف بين كيان إنسان عريق في الهندية، وإنسان عريق في العربية منتقل إلى الهند مع العرب الذين انتقلوا إليها بعد الإسلام.
ويكاد القائل أن يقول: إنها خصائص الأجناس، وإن المهاتما يعمل في السياسة بسليقة والقائد الأعظم يعمل فيها بسليقة أخرى.
لكنه يرجع إلى تاريخ القائد الأعظم فإذا هو برهمي كالمهاتما في أصوله العريقة ويرجع إلى ملامح القائد الأعظم فلا يرى هنديا أقوى منه تمثيلا للسمات الهندية، وإمعانا في المحافظة على سحناء السلالة وقسماتها وشمائلها.
هندي في الهنديين
واختلفت العقيدة في الأسرة منذ ثلاثة أجيال، وعاشت هذه الأجيال الثلاثة بعقيدة جديدة بينها وبين الله وبينها وبين الناس؛ تغيرت نظرتها إلى الدنيا وما وراءها، وتغيرت عاداتها في الطعام والكساء ومقاييسها للأعمال والأخلاق، وجاء العرف الذي لا يقصد ما يصنع، ولكنه يصنع ما ليس يصنعه الذين يطيلون القصد والروية، فإذا بزعيم المسلمين يسمى «القائد الأعظم»، وإذا بزعيم البراهمة يسمى «المهاتما» ... ولا فارق أصدق ولا أعمق ولا أدق من الفارق بين الزعيمين وبين الأمتين وبين الثقافتين في عقلية الواحد وعقلية الجماعة.
وكأنما شاءت الأقدار من جانب آخر أن يكون جناح بنحلته الدينية صالحا للمهمة السياسية التي تصدى لها وقادته حوادث زمانه إليها، فإن القدرة على التنظيم وتوجيه الحركات السياسية قديمة في الإسماعيليين، وسماحتهم في الإحاطة بالجمهرة العامة والنخبة المختارة معا قد أصبحت تقليدا من تقاليدهم التاريخية، وقد بلغت هذه السماحة غايتها في عصر الجامعة الإسلامية والحرية الفكرية، وبلغت غاية غايتها في جناح نفسه، فقد كان يلغي كل تسمية طائفية تطلق على المعاهد العامة، وقد غير أسماء بعض المعاهد؛ لأنها تشير إلى فروق بين نحلة ونحلة من النحل الإسلامية، وجاء انتماؤه إلى الإسماعيليين النزاريين - مع هذه السماحة التي تسع الناس جميعا - مرجحا قويا لزعامته ومزيلا للخوف من كثرة الطائفة وانتشارها. فإن الإسماعيليين النزاريين قلة صغيرة في الأمة الإسلامية الهندية ، وقد ذكرنا الاطمئنان إلى زعيم ينتمي إليها باطمئنان الأمم في أوروبة إلى اختيار ملوكها من أسر الممالك الصغيرة؛ لأن هذا الاختيار أمان من غلبة الأقوياء على الضعفاء، وكذلك أحس المسلمون - على غير قصد ولا تدبير - أنهم يطمئنون إلى زعامة رجل يعول على الجميع، ولا يستأثر بسلطان طائفته على مقاليد الجاه والسطوة، فهو أهل لخدمة الجميع بتأييد الجميع.
طفولته
نشأ جناح في أسرة برهمية أسلمت في القرن الماضي، وانتقل جده بعد فتنة سنة 1857 بخمس سنوات إلى بومباي ثم كراتشي، وكان أبوه «بونجا جنه» ثاني أبناء أبيه يعمل في شركتهم التجارية واحدا من مديريها الذين يشتركون في إدارتها لاتساع نطاقها ورواج أعمالها، وكانت معظم أعمالها في تصدير الجلود وملحقاتها، ثم لحق بها الكساد من جراء القلاقل السياسية والأزمات الاقتصادية قبل أن يتم جناح تعليمه في إنجلترا حوالي سنة 1897.
و«محمد علي» هو الولد الثاني لأبيه، ولد في الخامس والعشرين من شهر ديسمبر سنة 1876، وتعلم دروسه الأولى في مكتب من مكاتب التعليم بكراتشي، ثم انتقل إلى بومباي لإتمام تعليمه في مدرستها الابتدائية، وتدرج منها إلى مدرستها العالية التابعة للجماعة الإسلامية، ثم عاد إلى كراتشي لينتظم في مدرسة السند العليا، وحصل على الإجازة التي ترشحه للتعليم الجامعي من معهد البعثة الكنسية المسيحية سنة 1896 وهو في السادسة عشرة من عمره.
والأخبار المحفوظة عن الطفل «محمد علي» جد قليلة، ولا يروى عن أيامه في المدارس الأولية والثانوية غير النذر اليسير، ولكنه على نزارته يدل على طفولة نجيبة مجتهدة، وعلى ذكاء ألمعي يلفت النظر، ويوحي إلى أصدقاء أبيه من الطبقة الحاكمة أنه أهل للتفوق في التعليم العالي، وأن مدارس الهند في ذلك الزمن لا تكفي لتثقيف ملكاته واستيفاء تعليمه، فقد كان أبوه يعده للعمل التجاري ويقنع بنصيب الشاب الهندي من العلم في المدرسة الثانوية، ثم تدريبه بعد ذلك على مصاحبته في التجارة إلى أن يستقل برأس مال يغنيه أو يشاركه في إدارة تجارته الواسعة، ولكن صديقه السير فردريك جرافت لمح في الصبي الناشئ مخايل ذكاء نادر يرشحه للمراكز العليا؛ فنصح لأبيه غير مرة أن يرسله إلى إحدى الجامعات الأمريكية، واختار له دراسة الحقوق والعلوم الإدارية؛ لأنها هي «المعرفة» اللازمة لمناصب الرئاسة في الحكومة.
وفي كتاب «نوادر مشرقة في حياة القائد الأعظم» لمؤلفه الأستاذ صديقي قصة رواها عن سيدة من كبار سيدات الأسرة تنبئ عن ولع شديد بالقراءة، واستيعاب الكتب غير المدرسية شهدت بوادره في الطفل جناح ولما يبلغ الثامنة من عمره.
قال: زارت السيدة منزلهم بعد غيبة طويلة، ولم تمض عليها غير أيام قليلة حتى لحظت أن النور يتأخر بالليل في حجرة الأطفال، فخطر لها أن الصغار ناموا قبل أن يطفئوا المصباح، وقصدت إلى الحجرة لإطفائه، ولكنها وجدت وهي تخطو إلى داخل الحجرة ما لم يكن لها في حساب: وجدت إخوة جناح وأخته نياما وهو جالس مستغرق في القراءة، وأدهشها أنه في مثل تلك السن الباكرة يغوص في مطالعاته حتى لا يتنبه لدخولها، وسكتت لحظة ثم بدا لها أن تفاتحه الحديث، فقالت مدللة: ماذا يسهرك إلى هذه الساعة ياجنيح؟
فراعها أن يرد عليها الصغير جناح قائلا: «سيدتي ... أرجوك أن تخفضي صوتك قليلا.»
قالت: «لمه؟»
قال: «إن إخوتي مستغرقون في النوم ولا أحب أن أقلقهم.»
وكان هو يتكلم هامسا حتى اضطرت السيدة أن تتقدم خطوات أخرى إلى المائدة التي كان يجلس عليها لتسمع كلماته، وسألته: «ما بالك تحجب نصف المصباح؟»
قال: «إنني أفعل ذلك دائما لأبعد الشعاع عن أعين الصغار.»
قالت السيدة: «أتعلم كم الساعة الآن؟»
قال: «نعم يا سيدتي، ولكن السهر إلى هذه الساعة مألوف عندي.»
قالت: «أولا تكفيك ساعات النهار للمطالعة؟»
قال: «لا! بل أنا مع قراءتي بالليل لا أجد الوقت كافيا لمطالعة الكتب التي أريد الاطلاع عليها، وأحسب أنني لن أصبح شيئا مذكورا في الدنيا بغير القراءة.»
قالت: «وإلى متى تريد أن تواصل السهر؟ ألعلك تنوي أن تسهر إلى الصباح؟»
قال: «كلا ياسيدتي! ... إنما هي ساعة أخرى ثم أنام.» •••
إن هذه القصة جديرة بطفولة جناح، ومنها نعلم أصالة الكياسة والأدب في طبعه، ونعرف ما وراء عارضته القوية التي كانت تسعفه في الاستشهاد بالكلمة الملائمة لساعتها، والتي كانت تمده بالقدرة على التعبير بغير تلجلج ولا انحراف عن الهدف السريع حيث كان.
إن وراء تلك العارضة القوية محصولا غزيرا من المطالعة والاستظهار، ووراء الرجولة التي اشتهرت بالكياسة إلى أخريات أيام الشيخوخة، طفولة شبت على الكياسة الأصيلة في الطباع: كياسة المبالاة الحقة بشعور الآخرين والحرص الشديد من الإيذاء والإساءة، لا مجرد الكياسة في الزي والحركة والإشارة، وهي على الأبعد الأقصى كياسة ثياب.
وما يعلم من أخبار تعليمه في شبابه يعزز هذا النزر اليسير الذي روي عن طفولته الباكرة، سواء في أدب الاطلاع أو أدب الاجتماع.
حياته العامة
محمد علي جناح في شبابه.
المرحلة الأولى
تعددت نظم التربية التي تفتح عليها ذهن جناح الصغير قبل حصوله على إجازة التعليم الثانوي في السادسة عشرة من عمره.
تعلم في مكتب أولي من المكاتب التي تتابع النظام المألوف في تعليم الصغار في الشرق منذ عشرات القرون، ثم تعلم في مدرسة حديثة تابعة لجماعة إسلامية، ثم تعلم في مدرسة حديثة تابعة لجماعة مسيحية، ثم تعلم في الجامعات الإنجليزية، وتلقى خارج الجامعات ما يتلقاه الشاب في ذلك العصر من المعارف العامة الميسرة لمن يختلفون على الأندية وأصحاب الآراء.
وهذا التباين في نظم التعليم يضر بعقل الطفل إذا تناقضت النظم وتضاربت ومحا بعضها ما يثبته البعض الآخر، ولكنه يفيده إذا تنوع في غير تناقض وتضارب، وقد يعود الطفل أن ينظر مبكرا إلى تعدد الجوانب وتباعد وجهات النظر، ولا سيما الطفل الذكي الموهوب المطبوع على حب المعرفة والتوسع في الاطلاع.
وقد كان جناح محبا للمعرفة متوسعا في الاطلاع منذ طفولته الأولى، كما علمنا من بعض أخباره في نحو الثامنة من عمره، إلا أن هذه الأخبار لم تذكر لنا موضوعاته التي كان يغرم بمطالعتها في تلك السن الغضة الباكرة، ولكنها على الأرجح من غير القصص وكتب التسلية الصبيانية؛ لأن الطفل الذي يطمح إلى أن يكون شيئا في الدنيا كما روت عنه قريبته الكبيرة لا يتوهم أن كتب التسلية عون له على هذا الطموح، ولا نحسب أن اللغة الكوجراتية في أواخر القرن التاسع عشر كانت تشتمل على زاد من القصص وكتب التسلية يحسب فيها حساب الأطفال الصغار.
على أن موضوعاته التي أولع بها في إنجلترا قد تنبئ عن الموضوعات التي كان يجنح إليها بتفكيره وميول نفسه منذ طفولته الأولى، وأوفر هذه الموضوعات نصيبا من إقباله وعنايته دروس القانون والأدب، ومراجع التاريخ من ناحيته السياسية على الخصوص.
كان يتعلم القانون رغبة واستعدادا لا لمجرد التوسل به إلى مناصب القضاء والإدارة، وكان ذهنه من أذهان الفقه والمحاماة والفصاحة الخطابية طبعا وفطرة لا تعلما ومراسا بالصناعة.
وكان غرامه بالأدب شغلا شاغلا يكاد أن يتفرغ له لولا قدرته على تنظيم دراسته وتقسيم وقته، فاشترك في ناد يدرس أعضاؤه روايات شكسبير قراءة وشرحا وتمثيلا، ومثل بعض الشخصيات في رواياته التاريخية وغير التاريخية، وراض لسانه وحركاته على الإلقاء المسرحي حتى لزمته هذه العادة في مرافعاته وخطبه، فلوحظ عليه أنه يسترسل في الإلقاء الفني على غير انتباه منه، وكان خصومه يغتنمون هذه الفرصة فينعتونه بوصف الممثل قدحا في آرائه السياسية أو حججه القانونية، وهو مطعن سهل رخيص قد تسوغه إشارات الرجل وحركاته بحكم العادة، ولكن ليس في أقواله ومعانيه جميعا ما يسوغ ذلك المطعن لمن ينصفون في النقد والاتهام.
وقد لزمته عادة الإلقاء الفني من أوائل أيامه في الحياة النيابية إلى أخريات أيامه في الزعامة وإقامة الدولة، وأفحم مرة أحد الأعضاء الإنجليز في الجمعية التشريعية أثناء المناقشة الحامية على الاتفاق التجاري بين بريطانيا العظمى والهند، فقال العضو الإنجليزي - واسمه السير جيمس - إن الأستاذ جناحا كوكب لامع: كوكب يشبه جريتا جاربو في ملكاته التمثيلية، فأخذ جناح يكرر آراء السير جيمس الفاجعة ووعيده بهجوم اليابان، وإحجام الدولة البريطانية ومستعمراتها عن معاملة الأسواق الهندية، وقال: لعل صاحبنا لا يحسن كلاما غير الإنذار بالفواجع، إنها ملكة جديرة بممثلة المآسي مارلين ديتريش ... وإن هذه الفاجعة نفسها المأساة!
وكان هذا في سنة 1939؛ أي بعد عودته من البلاد الإنجليزية بأكثر من أربعين سنة .
ولم يكن إلقاؤه الفني كل ما بقي من عاداته منذ دراسة الأدب والاندماج في الجو الشكسبيري أو جو الشعر المسرحي على الإجمال، بل كان عرض التاريخ عرضا حيا أحد الفوائد الفكرية والنفسية التي غنمتها قريحته اليقظى من أدب شكسبير، وكانت سرعة الشاهد الأدبي على لسانه تارة من كلام شكسبير، وتارة من كلام بروننج وزملائه في عصره إحدى الفوائد التي تصلح لمواقف الخطابة والمساجلة، وكانت فيما عدا ذلك منصرفا حسنا له عن هموم الحياة الخاصة ومزعجات السياسة كلما ضاقت حلقاتها، وكثيرا ما تضيق.
وعرف زملاؤه عنه في لندن أنهم إذا بحثوا عنه فلم يجدوه؛ تفقدوه في مكتبة المتحف البريطاني؛ حيث يجد بغيته من أسفار التاريخ ونسخ المراجع النادرة في السياسة العصرية والسياسة الغابرة، وكانت ساعاته في لندن مقسمة بين الجامعة ومكتبة المتحف ونادي شكسبير وواجبات المجتمع التي لم ينسها قط طول حياته، ومنها زيارة إخوانه من أبناء الهند وأصحابه وأصحاب أسرته من الإنجليز.
وقد وصل إلى إنجلترا وهو في السادسة عشرة، وعاد منها إلى وطنه وهو في العشرين، وبدأ اتصاله بالحياة العامة في هذه الفترة على سنته التي نصح بها الطلاب في مثل سنه بعد اشتهاره والاعتراف بزعامته، وسنته هي أن الاهتمام بالمريض غير ادعاء القدرة على علاجه، وأن الطالب يستعد لغده ويخدم باستيفاء عدته وخبرته، ولا يخدمه بتعجل العمل قبل أدائه.
وكان أول اتصال له بالحياة العامة نشاطه مع زملائه الطلبة الهنود في ترشيح شيخ الهنود المقيمين بلندن يومئذ - دادا بهاي ناروجي - لإحدى الدوائر البرلمانية، وهاجه سخطا قول اللورد سلسبوري للشيخ الهندي أنه من السود الملونين ... مع أن ناروجي كان أنصع بشرة من جمهرة الإنجليز، فوقر في خلده من ذلك اليوم أن الألوان نفسها، تتغير في رأي المستعمرين إذا بدت على بشرة الشرقيين.
وقد كان سخطه على سلسبوري من أسباب إعجابه بغلادستون، وضاعف إعجابه به مناصرته للقضية الأيرلندية وهي يومئذ قضية متواضعة تقنع بالحكم الذاتي للأيرلنديين، ولكنها على هذا التواضع كانت تثير نقمة الدولة البريطانية ويحاربها فريق من الأحرار كما تحاربها كثرة المحافظين، ويقول الذين سمعوا خطب جناح أيام الدعوة إلى الباكستان أنها تذكرهم بخطب غلادستون أيام الدعوة إلى «الهوم رول» أو الحكم الذاتي للأيرلنديين الجنوبيين، فإن قيام دولة في شطر من أيرلندة نموذج سابق لقيام دولة الباكستان - في شطر من القارة الهندية - وإذا جاز في الجزيرة الصغيرة أن تحتمل حكومتان؛ فأصلح من ذلك للتطبيق العملي قيام حكومتين تحكم إحداهما نحو مائتين وخمسين مليونا، وتحكم الأخرى نحو تسعين. •••
وتعد هذه المناوشات السياسية أثناء الدراسة بإنجلترا حادثا هاما في حياة جناح العامة؛ لأنها عينت له مدرسة السياسة التي يؤمن بصلاحها لتوجيه وطنه في تلك الآونة، وهي مدرسة المعتدلين أمثال ناروجي وجوكهيل وفيروز شاه وراناد، وكانت هي المدرسة التي تتوسط في مسائل العلاقات بين الهنود والإنجليز، وبين البرهميين والمسلمين من الهنود، وبين التشبث بالقديم والشطط مع الجديد.
ولم تتقبل طبيعته مبادئ هذه المدرسة «المعتدلة» لسهولتها، كما توحي صفة الاعتدال أحيانا إلى أذهان المستمعين من بعيد، فإن التوسط بين المذاهب المتطرفة كثيرا ما يسفر عن عداء الجميع واعتزال جميع الأطراف، ولكنه تقبل مبادئ المدرسة المعتدلة؛ لأنه آمن بصلاحها على وعورة سبيلها وكثرة الشروط التي يتطلبها التصدي لأعبائها وتكاليفها، وكان امتحانه الأول في سياستها أعسر امتحان يعرض للسياسي الناشئ في أول حياته العامة، وهو موقف السادة الهنود على تباين آرائهم ونزعاتهم من تقسيم البنغال.
كان تقسيم البنغال من معضلات الهند الشائكة التي لا يتأتى الحكم عليها بمقياس واحد، ولا يسهل على كل سياسي أن يقبلها أو يرفضها جملة واحدة؛ لأنها نافعة ضارة، بريئة الظاهر في بعض جوانبها مدخولة الباطن في جوانبها الأخرى.
كانت بحق عقدة تحير الباحث فيها من المسلمين خاصة، وقد يرفضها الهندي البرهمي بغير تردد، ولكنها لا تقابل بالرفض في البيئات الإسلامية بهذه السهولة.
أما هذه المعضلة فخلاصتها أن اللورد كرزون حاكم الهند يومئذ قرر تقسيم البنغال إلى إقليمين لكل منهما إدارة منفصلة عن إدارة الإقليم الآخر، وكان عدد سكان البنغال نحو سبعين مليونا من البراهمة والهنود، يقيم المسلمون في أصقاعه الشرقية ، ويضطرون إلى ربط أعمالهم ومرافقهم بمدينة كلكتا عاصمة الإقليم كله، وفي ذلك تعطيل لمصالحهم وإكراه لهم على إخضاع تلك المصالح لفئة من ذوي اليسار البرهميين المسيطرين على العاصمة وعلى الأصقاع الغربية، فإذا انتقلت العاصمة في الإقليم الشرقي إلى «دكا» خفت هذه السيطرة وتهيأت للسكان المسلمين فرص الاستقلال بالمرافق التجارية والاقتصادية، وهكذا كان لورد كرزون يعلل مشروعه في تقسيم الإقليم الكبير.
إلا أن المسألة ذات وجهين ظاهر وباطن، وهذا هو ظاهرها المعقول. أما باطنها المستور فهو الانتقام من ذوي اليسار الذين كانوا يؤيدون في ذلك العهد حركة الاستقلال والمطالبة بالحكومة الذاتية، ويمدونها بالمال ويتعهدونها بالتشجيع والتحريض، وهو عدا هذا ضربة مصوبة إلى الوحدة الوطنية بين البرهميين والمسلمين، ومثار للشقاق الدائم بين الفريقين في البنغال يتبعه لا محالة شقاق دائم في سائر الأقاليم.
هذا هو الامتحان الأول الذي امتحن به جناح في مدرسته السياسية، وهي مدرسة المعتدلين، وأنه لامتحان عسير، أشبه ما يكون بالامتحان الذي زعموا أن القوى الخفية من المردة والجان تختبر به عزيمة الولي حين يريد السيطرة عليها والاحتفاظ بالاسم الأعظم الذي يروضها على الطاعة، وقد يكون فيه الهلاك ... وقد تكون فيه السيادة والنجاة.
كان هذا في سنة 1905 بعد عودة جناح من إنجلترا بتسع سنوات، وكان تقسيم البنغال لعبة بارعة لم يحسب المستعمرون أنها سوف تصبح بعد أربعين سنة مبدأ حاسما يقضي على سلطانهم في قسمين أكبر من قسمي البنغال وأخطر، وهما دولة الهند ودولة الباكستان.
ومن عبر التاريخ وتقلبات أطواره أن بطل التقسيم الكبير كان أشد المعارضين لتقسيم البنغال على الرغم من اغتباط المسلمين به، واعتبارهم إياه خيرا سيق إليهم دون أن يسعوا إليه.
لقد ظن حكام الهند يومئذ أن الغنيمة أعظم من أن ترفض، وإن تكشف ما وراءها من مآرب الاستعمار، فلم يكترثوا لإخفاء هذه المآرب وراح رؤساؤهم يعلنونها وراحت صحيفتهم ال «ستيتسمان» لسان حالهم في العاصمة تبسطها بغير مواربة، فقالت كما روى شلفنكار
Shèlvankar
في كتابه عن مشكلة الهند: «إن المقصود بها هو تربية قوة إسلامية في شرق البنغال يرجى أن تكبح تلك القوة المتزايدة في زمرة البرهميين المتعلمين.»
ولكن جناحا كان أقوى شكيمة من أن تقتاده الغنيمة صاغرا، وأيقظ بصرا من أن يتناول الطعم من يد الصياد الماثل أمامه علانية بالمرصاد، وكأنما كان يلحظ بعين الغيب عاقبة هذا التقسيم، وأن الصياد سيخلق منه طعما آخر ويرجع عن التقسيم بعد حين ليجعل من الضغن ضغنين، ومن السخط الجديد مسعرا يلعج به نيران السخط القديم.
على أن جناحا لم يخسر ثقة المسلمين بثباته على سياسة المدرسة المعتدلة في معضلة البنغال؛ لأنهم اعتقدوا إخلاصه وفهموا موقفه على حقيقته وأدركوا أنه نظر فيه إلى غاية بعيدة: وهي إحباط دسيسة استعمارية تنقلب منافعها أضرارا مطبقة تحيق بالجميع، فانتخبوه في سنة 1909 عضوا للمجلس التشريعي الإمبراطوري عن بومباي، وقابل هذه الثقة بالمثابرة على مبدأ الوحدة الهندية والدفاع عن حقوق الهنود حيث كانوا، وعلى اختلاف العقائد التي يدينون بها داخل الهند أو خارجها، وفي إحدى مناقشات هذا المجلس وقعت المشادة المشهورة بينه وبين اللورد منتو حاكم الهند؛ لأنه وصف معاملة حكومة الناتال للهنود المقيمين فيها بالفظاعة، ونبهه الحاكم إلى أن هذه الكلمة ليست من الكلمات البرلمانية التي تسمع من أعضاء المجالس عند الكلام على حكومة أخرى، فلم يشأ جناح أن يتراجع، ولم يشأ كذلك أن يكابر في أدب من آداب التقاليد الرسمية، ومضى قائلا: «نعم يا لورد ... وأراني أنبعث إلى استخدام لهجة أقوى لو أنني طاوعت نفسي، ولكنني ألاحظ دستور هذا المجلس ولا أحب أن أتخطاه لمحة عين، إلا أنني أقول إن المعاملة التي ابتلي بها الهنود هناك أقسى ما يمكن أن يتخيله المتخيل، وإن الشعور الذي تقابل به في الهند شعور اتفاق وإجماع ...»
وبعد انتخابه للمجلس التشريعي الإمبراطوري بسنة وقع عليه الاختيار للوساطة بين نواب البرهميين ونواب المسلمين الذين اجتمعوا في «الله أباد» للتشاور في قواعد الوحدة.
ثم عرضت مسألة الوقف في سنة 1913، ولم يرض فيها عن مسلك البرهميين ولا عن مسلك الحكومة الهندية، وكلف نفسه دراسة هذه المسألة من الوجهة الفقهية ومن الوجهة الاجتماعية، وخامره شك منذ تلك السنة في إمكان خدمة الهنود جميعا باقتصار عمله على المؤتمر، فاستجاب رجاء مولانا محمد علي الرامبوري والسير السيد وزير حسن، وقبل الانضمام إلى العصبة الإسلامية على شريطة التوحيد بين سياسة الهيئتين.
وكان في تلك السنة قد ندب للسفر إلى لندن لشرح المطالب الهندية، فاشتغل في هذه الرحلة بإنشاء جماعة مركزية بالعاصمة الإنجليزية لرعاية الطلبة الهنود، وندب بعد عودته مرة أخرى للسفر إلى العاصمة الإنجليزية والنيابة عن المؤتمر في عرض مقترحاته التي يبني عليها انتخاب الأعضاء الهنود في مجلس وزارة الهند، ثم عمل من سنة 1915 إلى سنة 1920 على عقد مجلس المؤتمر ومجلس العصبة الإسلامية في موعد واحد ومكان واحد؛ لأنه - وهو عضو في الهيئتين - كان يقدر أنه مستطيع أن يتدارك كل بادرة خلاف قبل أن تتشعب وتستعصي على التوفيق.
إلا أن سنة 1915 في الواقع قد دخلت بالسياسة الهندية عامة في طور غير طورها الذي استقامت عليه إلى ما قبل الحرب العالمية الأولى، ومرجع هذا التحول إلى حادث شخصي وحادث عالمي في وقت واحد.
فالحادث الشخصي هو وفاة الزعيم جوكهيل الذي كان مناط الثقة بقضية الوحدة عند الجميع، والحادث العالمي هو شيوع الكلام عن حقوق الأمم المحكومة أثناء الحرب العالمية وبعدها، فقد كانت السلطة العظمى أو السلطة العليا كلها في أيدي الحكام الإنجليز قبل نشوب الحرب العالمية، فكان الاتفاق على مكافحتها غير عسير، وكان التنازع على الحقوق التي لا وجود لها أمرا من الأمور التي لا تلجئ الضرورات العاجلة إلى حلها والبت فيها، فلما بدأ البحث في تنظيم الحقوق الوطنية بدأ البحث في ضمانات تلك الحقوق، وبدأ التشدد هنا والحذر هناك.
ولهذا يمكن أن يقال إن المرحلة الأولى في حياة جناح العامة قد انتهت سنة 1915، وإن اليقين بإمكان العمل على خدمة الهنود جميعا في هيئة واحدة هي هيئة المؤتمر قد تزعزع منذ تلك السنة، ثم نشأت المرحلة الثانية التي انعقدت فيها النيات والعزائم على استقلال الباكستان، ولكنها لم تنشأ دفعة واحدة منذ الخطوة الأولى، فقد بقي جناح بين الحربين العالميتين يحاول التوسط على عادته في «المدرسة المعتدلة» ويعتقد أن خدمة الهند جميعا مستطاعة بالتوفيق بين الهيئتين، وأن الاتفاق على الضمانات المتبادلة يرضي البرهميين ويرضي المسلمين، ولكن الحرب العالمية الثانية قد أوشكت أن تقيم الحكم الهندي في مكانه على مدى سنوات معدودات، فتحول البحث من الاتفاق على مقاومة المستعمر إلى الاتفاق على قواعد الحكم الوطني وضماناته، فتبين مع الزمن أن الاتفاق على الفروض أيسر من الاتفاق على الحقيقة، كلما اقتربت من الواقع الماثل للعيان.
الثقة
صفة لا غنى عنها
الصفات التي لا بد منها لنجاح الزعماء كثيرة تتنوع على حسب القضايا التي يخدمونها، وعلى حسب الوسائل التي تلائم كل قضية في أوانها.
وقد تتناقض هذه الصفات حتى يصبح النافع منها في قضية ضارا في قضية أخرى، وحتى يكون منها ما هو قرين للخذلان إذا اختلفت الوسائل والبيئات.
ولكن صفة واحدة من صفات النجاح لا غنى عنها في جميع الزعماء، وفي جميع القضايا، وفي جميع الأوقات، ومع جميع الوسائل، وعلى جميع الفروض.
تلك هي الثقة!
ثقة الزعيم بنفسه، وثقة الناس به، وبغير هذه الثقة في نفس الزعيم وفي نفوس الناس لا تنجح قضية من القضايا الكبرى، إلا أن يكون النجاح مصادفة لا محل فيها للتدبير ولا للتقدير.
ثقة الزعيم بنفسه لازمة؛ لأن فاقد الشيء لا يعطيه.
وثقة الناس بالزعيم لازمة، وإلا لم يسلموه حاضرهم ومستقبلهم، ولم يضعوا بين يديه مصالحهم وآمالهم، وكثيرا ما تكون الآمال أعز على أصحابها من المصالح، وكثيرا ما يبذل الناس المصلحة المضمونة ويضنون بالأمل المحفوف بالشكوك والمخاوف، بل تكون الشكوك والمخاوف أدعى إلى الضن به والحرص عليه والبحث عن الزعيم الذي يمحص لهم الأمل فيخليه من الشك والخوف.
لا بد من ثقة بالنفس في الزعيم ...
ولا بد من ثقة بالزعيم في نفوس أنصاره ومؤيديه ...
وقد كانت «الثقة» بعنصريها صفة من صفات القائد الأعظم المفروغ منها، الغنية بنفسها عن براهينها وقرائنها.
هل كان جناح يثق بنفسه؟
هل كان محل الثقة من أنصاره ومؤيديه؟
لم يسأل أحد قط هذا السؤال، ولم يشعر أحد قط بالحاجة إلى هذا السؤال؛ لأنه كان أشبه بسؤال السائل: هل في البحر المحيط ماء؟ وهل في أفلاك السماء نجوم؟ وهل في الشمس نور؟ وهل في القمر ضياء؟
بديهية من البديهيات ... بل أكثر من بديهية.
واقع من الوقائع من رآه علم به علما غنيا عن التفسير.
وليست ثقة الإنسان بنفسه قرارا يتخذه في ضميره بعد مداولة ومشاورة، ولكنها شيء راسخ في قرار الوجدان على الرغم من كل مداولة ومشاورة، وشيء لا يمنحه الإنسان نفسه بأسباب وقرائن، ولكن يتلقاه من خالقه كما يتلقى نفسه، فهما جوهر واحد تتعدد أعراضه للناظرين.
ثقته بنفسه
كانت ثقة جناح بنفسه جزءا من نفسه، وقوة لا فكاك لها من طبائعه وعاداته.
وكانت فيه كل لوازم هذه الصفة على أتمها: كرامة، واستقلال بالرأي، وعزيمة لا تنثني عما يريد، متى عرف ما يريد.
كان منظره يوحي إلى الناظر باحترامه، وكان هو يؤمن في قرارة نفسه بأن هذا الاحترام حق له وأكثر من حق: واقع مفروغ منه بغير كلام.
وعرف جناح وعرف أنه رجل ذو كرامة في وقت واحد.
عرف النائب العام مكفرسون هذه الكرامة في المحامي الناشيء منذ النظرة الأولى، فخصه بكرامة لم يظفر بها هندي قط من قبله، وهي إشراكه في مكتبته القانونية يدخل إليها حين يشاء ويأخذ من مراجعها ما يشاء.
وعرفها القضاة الإنجليز، وقلما يعترف المستعمر صاحب السلطان بكرامة رجل من المحكومين وإن عرفها، فقضى أيامه الطوال في المحاماة موفور الكرامة عند القضاة وذوي الرئاسة في المحاكم ومجالس التشريع.
ومن خلائق بعض الناس أن يتجاهلوا الكرامة أحيانا؛ لأنهم يعلمونها ويضيقون ذرعا بعملها، لا لأنهم يجهلونها أو يغفلون عنها.
من خلائق اللؤماء أنهم يضيقون ذرعا بكرامة الكرماء، وينتحلون المعاذير الواهية للغض منها، ويغبطون أنفسهم بالاجتراء عليها، كلما أتيحت لهم فرصة اجتراء.
وتعرض جناح لهذا الخلق غير مرة في حياته القضائية، وحياته السياسية، فسلك في جميع هذه المرات بداهة ما ينبغي أن يسلكه، غير مكترث بما يكون.
اشتهر رئيس محكمة إنجليزي بالغطرسة والولع بالتبكيت والغضب في موجب وغير موجب، ومثل جناح أمامه في قضية كبيرة يهمه أن يكسبها، وقلما كان أصحاب القضايا يندبونه للدفاع عنهم في غير القضايا الكبار.
وخيل للرئيس أن الحسناء تغري باحتمال المهر وإن عظم، وأن حرص المحامي على القضية خليق أن يجرعه غصة التبكيت والزجر العنيف، فإذا هو يقاطع جناحا في مرافعته، ولم يكن خاشعا في هذه المرافعة كما تعود الرئيس المتغطرس من المحامين «الوطنيين» أن يخشعوا في حضرته أمام هيبته، فيقول له في غضب وكبرياء: أتراك تحسب أنك تتكلم هنا أمام قاض من قضاة الدرجة الثالثة؟
وفي مثل رجع الصدى كان الجواب يعود إلى الرئيس المتغطرس بالرد المفحم، ولم يفرغ القاضي من كلمته حتى كان جناح يفوه برده كأنه كان يتوقع عبارة القاضي بنصها، ويقابلها بجوابها الذي يعادلها فرفع جناح رأسه وأتأر إلى القاضي بصره، وقال في لهجة صارمة: «وهل الذي أمامك أيها القاضي محام من الدرجة الثالثة تخاطبه بمثل هذا الكلام؟!»
وكانت درسا للقاضي المتغطرس نفعه بعد ذلك مع جناح ومع غيره من المحامين. •••
وقد تواتر على جناح بين جميع عارفيه أنه مدقق في مواعيده، يحسبها بالدقة ويرتبط بها مع صغار الناس ونكراتهم، كما يرتبط بها مع كبارهم وذوي الشهرة فيهم.
ولكنه خالف هذه العادة يوما على اضطرار، ودخل إلى الجلسة متأخرا عن موعدها؛ لأنه كان في انتظار المحامي الآخر الذي يشاركه في مرافعات القضية.
وإذا بالقاضي يغتنمها فرصة، وينطلق في درس عنيف يمليه على جناح في آداب المحافظة على المواعيد.
ويشاء القدر أن يكون المحامي الآخر ابن القاضي نفسه، وأن يكون هو علة التأخير الذي استوجب ذلك الدرس من القاضي الجليل.
ويدع جناح قاضيه الجليل يفرغ جعبته لتكون السخرية بعد ذلك أبلغ وأوقع، وينتهي القاضي من درسه فيسمع من جناح: «إن هذه الدروس لو ألقيت مبكرة في بيت القاضي لما سمعناها اليوم في قاعة الجلسة؛ لأن ابن حضرة القاضي هو الذي تأخر عن موعده، وهو الذي استحق هذا الدرس بعد الأوان.»
ودعاه حاكم الهند إلى مجلس يعقده في «سملا» للمشاورة والاتفاق على حل من حلول القضية المعضلة، فلما وصل إلى المحطة ولم يجد هناك مركبة الحاكم العام في انتظاره كما انتظرت المهاتما غاندي من قبل عاد أدراجه، ولم يحفل بما عسى أن يصنعه الحاكم المتحكم هناك في الزعماء والشعوب. •••
وقد تعود الناس من الزعماء أن يتملقوا الجماهير وهم يترفعون عن تمليق الملوك ورؤساء الحكومات.
لكن لهذه القاعدة عنده شذوذ، فلا تمليق للجماهير ولا متابعة لها في غرورها ولا احتيال على مرضاتها في غير ما يرضي الحق والمصلحة القومية، ويشهد بذلك خصومه الذين يخلقون المثالب إن لم يجدوها ويهمهم أن يصموه بوصمة الشعوذة السياسية أو الاجتماعية لو عرفوا سبيلا إلى وصمة يلصقونها به من هذا القبيل.
قال «الان كامبل جونسون» في كتابه عن مهمة اللورد مونتباتن في القضية الهندية، وكان مؤلف الكتاب من مديري مكتبه ومن أقرب الناس صلة بزعماء الهند ورؤساء الحكومات فيها:
كان غاندي مطبوعا على غريزة مدهشة تلهمه بث الأفكار بين الجماهير، تعززها اجتماعاته بهم مباشرة في مجامع الصلوات التي يشجعها، كما تعززها مخالطته الواسعة للناس في جميع مناحي الحياة، أما جناح فهو على خلاف ذلك يستمد نفوذه من القيادة على بعد، فهو لا يتزلف للجماهير ولا يكثر من مخالطتها، وقد مزج بين التدبير المرن المصقول في حزم ودقة وبين القدرة على الانتفاع من أغلاط خصومه بإرادة من حديد، ونفاذ إلى الغاية الموحدة التي لا ينحرف عنها، وأنه لظاهرة فذة في القضايا الكبرى: نادى بالباكستان وهو في الستين وحققها وهو في السبعين.
سمعنا كثيرا أن الجماهير تؤخذ بالتمليق والخداع، وأنها تحب التغرير والمغررين، ورأينا كثيرا مصداق هذا الذي سمعناه، ولكن التاريخ يعرض لنا حينا بعد حين زعامات تصارح الجماهير ولا تنخذل، بل زعامات تنجح؛ لأنها تبده الجماهير بالزجر والملامة، وكانت زعامة جناح واحدة من هذه الزعامات النادرة في القرن العشرين.
وصحيح أن قضية الباكستان قضية سبقت إلى إلهام الجماهير ولم تسبق إلى تفكير الساسة وروية الزعماء، وصحيح أنها من أجل ذلك كانت في غنى عن تكلف التمليق والتزويق لإثارة شعور الشعب، وتحويله من الشك فيها إلى الإيمان بصدقها وضروراتها، ولكنها على كل هذا كان من الممكن أن تؤول إلى زعامة رجل يعالجها بالمداهنة والمخاتلة، ولا تلومه الجماهير على ذلك، بل لعلها تبتهج به وتمحضه الحب والإعجاب، فإذا كان لطبيعة القضية فضل في سلامتها من آفة الدعوات الشعبية؛ فلا نكران لفضل الزعيم الذي مارس قيادتها بوحي طبعه، واستطاع بالصدق والصراحة ما كان غيره عاجزا عنه بغير التمليق والتزويق.
وأشرف من الكرامة التي تواجه الأفذاذ المسيطرين كرامة تواجه الملايين وعشرات الملايين، أو تواجه الغرائز التي لا تعرف في كثير من الأحيان عقلا غير عقل الطوفان والبركان.
استقلال الرأي
أما استقلال الرأي، وهو أحد الخصال التي تتجلى فيها ثقة جناح بنفسه، فهو على الدوام صنو الكرامة، أو لعله نسخة نفسانية أخرى للكرامة بعنوان آخر، فإن الرجل الذي يشعر بكرامته يترفع عن مقام الذنب التابع لغيره، ويضن بها أن تمحى في غمار الآراء والأهواء، ويحذر الهوان والضعة أشد من حذره الغضب والخسارة.
فاستقلال جناح برأيه غير مستغرب مع عزة نفسه والاعتداد بكرامته، ولكنه قد أوتي في مزاجه المطبوع أسبابا كثيرة من أسباب الاستقلال بالرأي والجرأة على مخالفة الآراء الشائعة، ولو بلغت مبلغ الإجماع.
ومن مفارقات العظمة ما هو عجيب يناقض المألوف، ولا بد أن تكون العظمة عجيبة مناقضة للمألوف، ولكن الأعجب من كل عجب ما يناقض المألوف في بنية الجثمان، ويكاد أن يكون بدعا في تركيب الأمزجة والأعصاب، وكل من عاشر جناحا وتابعه في تفكيره قد فوجئ بأعجب الأعاجيب في هذا الباب.
قال «جون جنتر» صاحب الكتب العالمية عن داخل أوروبا وداخل آسيا وداخل أمريكا أنه لا يبالغ إذا قال إن جناحا هو أنحف رجل رآه، وقد رأى العالم المعمور كله أو كاد.
ونظرة إلى صورة جناح في أية صفحة من صفحات الصور تؤكد هذه الملاحظة، وتسمح لكل قارئ أن يقول ما قاله جنتر بالقياس إلى أهل جيرته وأهل بلاده، فالحق أننا لا نذكر أننا عبرنا في مقابلاتنا ومشاهداتنا برجل أنحف من القائد الأعظم كما رأينا في صوره، وقد رأينا منها العشرات بين سن العشرين وسن السبعين.
هذا الرجل النحيف لا بد أن يكون قصبة في مهب الريح.
هذه الأعصاب الدقيقة لا بد أن تكون ثورة دائمة وأوتارا تهتز بلمسة من إصبع أو نفخة من هواء.
هذه البنية النحيلة لا بد أن تذهب بها صيحة وتعود بها صيحة أخرى، ولا بد أن تقضي أيامها نهبا مقسما بين الاندفاع والارتجاع.
أهي كذلك في الواقع؟
أكان الرجل عصبيا بالمعنى الذي نقصده حين نتكلم عن العصبيين؟
إن القارئ ليحسب أنه يهنئ نفسه بالاعتدال والإنصاف إذا قال بعد تردد: لا معاذ الله ... هذا رجل قمين أن يضبط أعصابه ويكبح جماحه نزولا على مطالب الزعامة ومقتضيات السياسة ... ولكنه لا يكاد يعلم الحقيقة عنه حتى يعلم أن وصفه بهذه الصفة إجحاف وخطأ، فإن أعصابه لم تخنه قط حتى يحتاج إلى ضبطها، ولم يكن ممن يجمحون فيعوزهم كبح الجماح، وقد ينتفض غضبا إذا قوطع أو خوطب بما يمس كرامته ويخل بوقاره، ويفوه بالعبارة حينئذ فيبدو من كل كلمة فيها أنها عبارة لا يقع عليها رجل غيره إلا بعد روية ساعات.
لقد كان جناح من أولئك الذين يعنيهم الإنجليزي حين يقول عن رجل إنه بارد
Cold
ويريد بذلك أنه متحفظ غير متعجل، ومن أولئك الذين يعنيهم الشرقي حين يقول عن رجل إنه رصين مكين.
وصفه بذلك الإنجليز الذين لا يتطوعون بمدحه، والذين اشتهروا بأنهم هم أنفسهم «باردون» ووصفه بذلك خاصة تلاميذه الذين يتسابقون إلى تعظيمه وإغداق الثناء عليه.
تناول العشاء هو وشقيقته في قصر الحاكم العام، فلما خرج سأل أمين الحاكم العام رئيسه فقال كالمستغيث: «يا إلهي، إنه شديد البرودة، إننا قضينا معظم الوقت في محادثتنا لنذيب الجليد الذي بيننا وبينه.»
ولم يشعر تلاميذه وأعوانه بحاجة إلى نفي هذه الصفة أو بحاجة إلى أن تساق في عرض أحاديثهم مساق الاعتذار، بل أثبتها بين مناقبه كل من ألفوا الكتب أو عقدوا الفصول في ترجمته وسرد حوادث سيرته من أولئك التلاميذ والأعوان.
وتكلم عنه أحد عارفيه من الهنود - وهو السير جهانجير
Jehangir
فقال: «لا شيء يحيد بجناح عن جادته حيث يعتقد أنه سالك سبيل الحق والاستقامة والإنصاف، وليس ثمة مقدار من المعارضة ولا من التهديدات والمخاطر يثنيه عن وجهته، إنه رجل ممتلئ بالشجاعة والصلابة، وأن قليلا من رجال الهند قضوا في الحياة العامة زمنا أطول من الزمن الذي قضاه فيها جناح، ولا أبالي أن أقول إنه ما من أحد يجسر على اتهامه بأنه كان في يوم من الأيام طالبا لمنفعة أو دوارا مع الغرض، ومثل هذا الرجل أندر من الندرة في الحياة العامة.»
وقال هندي آخر هو السير شانكام شيتي
Chetty : «إنه ذو استقلال لا مثنوية فيه.»
ونوقش هو في هذه الخصلة في كلام يشبه العتاب فقال: «إنني رجل أهتدي في عملي بتفكير الدم البارد
Cold blood
والمنطق والمرانة القضائية.»
وتكلم مرة عن العناد والعزيمة فقال: إنهما صفتان مختلفتان، وأصاب في التفرقة بينهما؛ لأن العناد صفة يستحب الرجوع عنها، أما الرجوع عن العزيمة فهو عجز ونكول.
ولعله كان من اللازم لتصحيح الآراء الشائعة عن «العصبية» أن ينبغ في العصر زعيم بهذه النحافة المفرطة؛ ليفقه الناس أن الأعصاب قد تكون متينة هادئة كما تكون مرهفة متوفزة، وأن الحلم قد يصاحب النحافة ولا يجتمع مع الجسامة في بنية واحدة، بل يكون الاضطراب والارتجاج على قدر ما في البنية من لحوم وشحوم.
وظاهر أن هذا الاستقلال الجبار قد كان مفصلا على قدر أمة كبيرة لا على قدر رجل واحد، أو هو قد كان مفصلا على قدر زعامة عظيمة، وكل ما كان لزعامة عظيمة فهو لأمة كبيرة؛ لأن عمل الزعماء عمل أمم يتوقف عليه مصير الملايين في حاضرها ومستقبلها، فهو استقلال في الرأي لا يشبهه كل استقلال.
لقد كان هذا «الشخص النحيل» يقف وحده متفردا برأيه بين مئات من قادة البراهمة والمسلمين، يزحزحها ويستطيع أن يزحزحها عاجلا أو آجلا، ولكن هذه المئات لا تستطيع أن تزحزح ذلك «الشخص النحيل».
لقد كان يخالف الهند كلها ويبرح الهند كلها إلى حين، إما أن يرجع أو ينثني غير مقتنع ولا طائع؛ فذلك هو المهرب الذي لا يفهمه ولا يخطر له على بال.
ويبدو لنا أننا إذا عرفنا إنسانا بالكرامة واستقلال الرأي وقوة الشكيمة فقد عرفناه بالعزيمة الماضية، وبخاصة حين نعرف عنه كذلك أنه منزه عن الغرض، بريء من المطامع.
وقوانين المادة هنا تسعفنا كما تسعفنا خصائص الروح وسرائر الضمير، فإن المادة إذا انطلقت لم تقف إلا بموقف يعترضها في طريقها، وماذا في جناح - ماذا في داخل نفسه القوية - يثنيها عن عزيمتها بعد إعمال الرأي في هدوء وبصيرة؟ لا يثنيها إلا المهانة وهي لا تقبل المهانة، وإلا الغرض وهي منزهة من الغرض، وإلا الضعف وهي من الضعف براء.
ثقة الناس به
إن الثقة تعدي ...
وهذه الثقة من جناح بنفسه ورأيه هي التي سرت منه إلى نفوس الجماهير، فجلبت إليه ثقة الجماهير، بغير مساومة وبغير اقتفاء وبغير احتيال.
نعم إن الثقة تعدي، وقد أعدت ثقة جناح بنفسه نفوس أتباعه ورعاياه فأسلموه مقادهم، مطمئنين إلى عزمه، كاطمئنانهم إلى حكمته وحكمه.
بيد أن هذه الثقة التي امتلأت بها نفوس أمة كاملة كانت لها في تلك النفوس دواع غير التي استمدتها من نفس قائدها.
كانت سمعته العالية بالأمانة والاستقامة أكبر دواعيها، وقد ذاعت سمعته بالأمانة والاستقامة منذ ذاعت له سمعة.
لبث جناح ثلاث سنوات يشتغل بالمحاماة وينتظر الشهرة على مهل، ولم يقبل أن يتعجل الشهرة على ألسنة السماسرة والوسطاء كما يفعل المحامون المبتدئون، وقد كان في الشهرة يومئذ رزقه ومنزلته ورزق أهله؛ لأنهم كانوا في ذلك الحين قد فقدوا معظم الثروة التي توارثوها منذ أجيال.
ولما تسامع الناس بالمحامي الناشيء شيئا فشيئا علم رجال الدولة أن ها هنا سياسيا مقبلا قد يكون مصدرا للمتاعب في وقت قريب؛ إذ جرت العادة عندهم أن المحامي القدير والخطيب اللسن لن يطول به العهد حتى ينتقل من الكلام أمام القضاء إلى الكلام على منصة الرأي العام، فأغروه بوظيفة حسنة لم يلبث أن استقال منها وحرم على نفسه الوظائف بعدها؛ لأنها تفرض عليه من القيود ما لا يطيق.
وشاع عنه أنه لا يقبل قضية باطلة، وأنه لا يرفض قضية عادلة ولو كانت الأسانيد فيها خفية والمتاعب فيها مجهدة، وجعل دأبه أن يأخذ مكافأته كلها سلفا؛ لأنه كان ينزل في أول الأمر عن مؤخر المكافأة إذا ماطله صاحب القضية وألجأه إلى المطالبة والمقاضاة، وكسب في بعض مرافعاته قضية كان صاحبها يائسا من كسبها، وكان من ذوي الثراء الذي يحصى بالملايين، فأرسل إليه هبة سخية فوق المكافأة المتفق عليها، فردها إليه.
وعرض عليه أحد التجار الكبار عشرة آلاف روبية للمرافعة في قضية، ولاح له من ضخامة الأوراق في ملف القضية أنها تستغرق منه وقتا يشغله عن قضاياه الأخرى، فاعتذر لصاحب القضية، وألح عليه الرجل لشكه في استطاعة محام غير جناح أن يحسن الدفاع عن حقه، وقال له: راجع الأوراق حتى تنفذ المكافأة ولك بعد ذلك أن تتوقف عن القراءة، وكان جناح يقدر المكافأة بالساعات التي تشغلها القضية في أيام العمل، فلما فرغ من مراجعة الأوراق وجد أن حسابه يزيد على ثلاثة آلاف وخمسمائة روبية، فرد إلى الرجل المذهول بقية العشرة الآلاف، وقد كان يراها أقل من جزائه!
ومن الناس من يثبت أمام إغراء المال ويضعف أمام إغراء اللقب أو الوظيفة، ومنهم من يثبت أمام إغراء اللقب والوظيفة ويضعف أمام إغراء السطوة والسلطان، ولكن الفتن النفسية التي امتحن بها الرجل قصدا أو على غير قصد قد أبرزت منه معدنا يثبت على كل إغراء، فلا المال يفتنه ولا اللقب يستهويه ولا السطوة تعجبه أو تكبر في نظره، وربما كانت سطوة تترامى عليها مطامع الأبطال من أشداء الرجال.
نودي به «شاهنشاه» الباكستان فامتعض ووقف في سيارته يوبخ الهاتفين له بهذا اللقب، ويقول لهم: إن خير ما يرجوه أن يكون خادم الباكستان، لا سيد الباكستان.
وعرضوا عليه أن يولوه رئاسة الدولة مدى الحياة فأنكر هذا المبدأ، وأقام القاعدة لمن يليه إلا رئاسة مدى الحياة.
وعرض عليه حزب المؤتمر قبل ذلك أن يختاره رئيسا دائما للمؤتمر، فقال لهم: إنهم إذا قبلوا آراءه التي يخالفونه فيها ويخالفهم فهو سعيد بأن يظل عضوا كغيره من مئات الأعضاء.
وكانت الدولة البريطانية تلوح له بالألقاب العليا وتنتظر منه أن يطأطئ قليلا ليظفر بها، ولكنه لم يأبه لها قط، ولم يزده هذا التلويح إلا استرسالا في الخطة التي ارتضاها، وسنحت للورد ريدنج فرصة عارضة للإيحاء بهذا الإغراء إلى قرينة القائد الأعظم فسألها: ألا تريدين أن تكوني يوما لادي جناح؟ قالت: لو قبل هو أن يكون سير جناح لكان هذا بيني وبينه علامة الافتراق.
ويتحرج الرجل من الشبهات حيث لا موضع للتحرج لولا الحرص على القدوة الواجبة، فقد وصف له الأطباء في أخريات أيامه مسكنا صالحا لعلاجه وحذروه من المسكن الذي يقيم فيه، ووجد المسكن الصالح في حوزة رجل من ذوي المرافق الواسعة، فأبى أن يسكنه بأجرته مخافة أن يكون مالكه متورطا أو أن يدينه السكن فيه بمعروف يجزيه من سلطانه في الدولة.
لقد كان القائد الأعظم بحق فوق الشبهات والظنون، ولم يستطع خصومه أن يظنوا به علة يتعللون بها لتفسير شدته في مطالبه أو مطالب قومه إلا أن يقولوا عنه: إنه رجل واسع المطامع، ومن نجا بمثل هذا الظن الذي يقوله كل قائل عجز عن حصر التهم والعيوب فقد سلم؛ لأنه ظن يقال أو لا يقال على حد سواء.
ومما قيل عنه، ولم يكن قائلوه في معرض الثناء وحسن النية، إنه رجل عملي واقعي مفرط في الواقعية، وإنه لعملي واقعي ما في ذلك جدال، ولكن إذا كان المراد بالعملية الواقعية أنها نقيض المثالية فهو خطأ مردود بغير مشقة، فإن العقل الذي يخلو من النزعة المثالية لا يؤمن بقيام دولة أجمع خبراء السياسة والاقتصاد والاجتماع على استحالتها، وصرح بعض معارضيه أنهم يسلمون له مطالبه ليشهدوه عجزه ويسمعوا منه إقراره بخطله، إنما كان جناح عمليا واقعيا؛ لأنه كفؤ للعمل وكفؤ لتقدير الجهد الذي ينجزه، ومثل هذه الكفاءة تنقل المثالية إلى عالم الواقع، ولا تلغيها من العقل الفعال، فإنما يفعل على مثال حيث يقنع غيره بالنظر إلى المثال والعكوف على أحلام الخيال.
المرحلة الثانية
سياسة القديس وسياسة القائد
بدأت سنة 1915 بمرحلة جديدة في حياة جناح العامة كما أسلفنا في ختام فصل سابق، وهي المرحلة التي وضح فيها لجناح أن هيئة المؤتمر لا تكفي وحدها لخدمة القضية الهندية، وأن الاعتماد على هيئتين اثنتين أمر لا مناص منه في هذه المرحلة.
لكن رد الفعل الذي طرأ من جراء هذا التحول لم يتجه بتفكير القائد الأعظم أول الأمر إلى التباعد وتوسيع الشقة بين الهيئتين، بل كثيرا ما كان رد فعله اجتهادا في التوفيق والتقريب ومبالغة في الإغضاء والمسامحة رأبا للصدع، ومنعا للفتنة وتوتر الأعصاب من الجانبين، فاحتمل جناح في هذه المرحلة ما لم يكن يحتمله من قبل وفعل ما لم يكن يفعل، وأيد أشد الغلاة في موقفهم أمام الدولة البريطانية، ومنهم أتباع طيلاق الذي كان يجهر بأن الحركة القومية في الهند تحارب الدخلاء الهنود، ويعني بهم المسلمين، كما يحارب الدخلاء الإنجليز.
وظل البراهمة إلى سنة 1921 يهتفون باسم رسول الوحدة جناح، ويعترفون له بالفضل في التوفيق والتقريب، وأعربوا عن اعترافهم هذا ببناء قاعة في بومباي أطلقوا عليها اسم قاعة جناح، ونقشوا على حجر الأساس فيها عبارة فحواها أن هذه القاعة «بنيت تقديرا للسيد جناح؛ اعترافا بخدماته الخالدة لقضية الهند في سنة 1918.» وافتتحتها الشاعرة الهندية سروجيني نايدو، وأبرقت إليه وكان في باريس تقول: «لقد عرفت الأمة فضل الرسول في حياته.»
وقد لبث جناح سنوات طوالا بعد سنة 1915 وهو يلخص وظيفة العصبة الإسلامية باقتداره المعهود على تحديد العبارات؛ فيقول لمن يناقشه في وجودها: إذا كان المؤتمر هو حكومة المستقبل؛ فالعصبة هي المعارضة الدستورية التي لا بد منها ولا ضير فيها.
غير أن الخلاف - كما ألمعنا في هذه الصفحات آنفا - لم يكن مداره كله على الضمانات الإسلامية، بل كان مع هذا وأهم من هذا خلافا بين عقليتين ومنهجين ومزاجين، كان خلافا بين سياسة القديس النبي وسياسة القائد العامل، سواء في القضية الهندية العامة أو في قضيتي البرهميين والمسلمين منعزلتين .
كان غاندي يبشر بمقاطعة الصناعة العصرية ومقاطعة المدارس ومقاطعة الوظائف ويحارب الإنجليز «بالاهمسا»، ويفرضها جاهدا على أتباعه وهم يعملون بها تارة وينقضونها تارة أخرى.
وكان جناح يؤمن بأن مقاطعة الصناعة ضربة للحياة الاقتصادية في الهند تصيبها كما تصيب بريطانيا العظمى، بل ربما كانت الإصابة الهندية أفدح وأخطر من الإصابة البريطانية.
وكان يقول: إن إقامة مصنع جديد إلى جانب المصنع القديم أنفع من ألف مغزل في المدينة والقرية، وإذا لاحظنا أن المصانع الهندية كانت، أو كان معظمها، ملكا للبرهميين دون المسلمين، تبين أن الرجل إنما كان ينظر إلى مصلحة الجميع، ولا يقصر نظره في مناهضة غاندي على مصلحة المسلمين.
وكان يسأل: ماذا يصنع الطالب إذا لم يتعلم؟ وماذا يفيد الهند من إخلاء الدواوين من الوطنيين وتسليمها جملة واحدة للغاصبين؟
وقال غير مرة: إن الزعامة السياسية قدوة يأتم بها الأتباع والمتعلمون، فهل من الممكن المعقول أن يصبح الهنود كلهم أنبياء قديسين كالمهاتما غاندي؟ وهل ينفع الهند أن يصبح أبناؤها جميعا على هذا الغرار في السياسة القومية والمعيشة اليومية؟
وصواب جناح في نظره كصواب غاندي في نظره: كلاهما مستمد من صميم وجدانه وصدق إيمانه، ولم يكن الرجل ممن يغالطون أنفسهم في الحقيقة التي تثبت في ضمائرهم، أو يستبيحون مجاراة التيار وكسب الرضى بالمجاراة والمداراة، ولو أجمع الناس ما عداه على مجاراته ومداراته.
وقد أجمع الناس فعلا في إبان حركة المقاطعة وحركة الخلافة على مذهب في العمل السياسي لا يرتضيه فوقف وحده يناضل ويقاوم حتى أعياه إقناع الرأي العام وثنيه عن جماحه، فهجر الهند وأقام في إنجلترا معولا على الاشتغال فيها بالمحاماة والانقطاع عن السياسة؛ حتى يثوب المختلفون إلى رأي يقبله ويؤمن بجدواه.
رئاسته للعصبة الإسلامية
ولقيه الأستاذ البيروني صاحب كتاب «صانعي الباكستان» خلال هذه الفترة، وهو مقيم في إنجلترا سنة 1932 فقال له: وهو يحاول أن يستعيده إلى ميدانه: «وما العمل؟ إن البرهميين قصار النظر، ولا أمل لي في إصلاح أخطائهم، والمعسكر الإسلامي ممتلئ بأولئك الخلائق التي لا عظام لها، والتي تقول لي ما تقول ، ثم تبادر إلى صاحب السلطان لتسأله عما ينبغي أن تعمل.»
وطفق المسلمون يبحثون عن قائد، وطفقت الدعوات إليه تتوالى لاستعادته إلى نشاطه، حتى عن له من أشتات المعلومات التي تبلغه أن العمل ممكن على منهاجه، وأن الأمة الإسلامية قطيع بغير راع، فاستخار عزمه وقفل إلى بلاده تلبية لصوت الواجب أو صوت التبعة الكبرى التي استقرت على كاهله دون غيره، فرجع على شيء من الأمل، ونفض عنه وساوس التردد والقنوط.
كان الزعيم محمد علي قد فارق الدنيا، وكذلك الزعيم محمد شافعي الذي طالت رعايته للعصبة وبذل ما بذل في حياته لاستبقائها ولم شملها، وكان الزعيم «أقا خان» يلتفت إلى الهند مرة، ويلتفت إلى مصائف أوروبة وميادين السباق فيها مائة مرة، وكانت العصبة في غيبة الرءوس الصالحة على وشك الانحلال فأجمع أعضاؤها (في سنة 1934) على اختيار جناح رئيسا لها مدى الحياة وهو مقيم بإنجلترا، فاضطر إلى العودة وصفى أعماله وروابط معاملاته، وهي ليست بالقليل.
ولم تمض أيام على تسلمه مهام الرئاسة حتى شعر أعضاء العصبة ومن يعملون معها بدم جديد يسري في أوصالها، وتحرك الجواد الذي قيل قبل ذلك: إنه جواد ميت يلهبون جلده بالسياط، وعلم في أرجاء الهند أن هناك قوة جديدة يحسب لها حساب بعد أن لم يكن لها حساب.
إن هذه العصبة أنشئت بأموال الأغنياء، ولم يكن من ذلك بد في أول الأمر؛ لأنها أنشئت لتقابل دعوة المؤتمر الهندي بدعوة مثلها، وليست موارد المؤتمر باليسيرة لكثرة أعضائه وكثرة المشتركين فيه من أصحاب الملايين، فأصبح لزاما على أعضاء العصبة أن يوفروا لها المال، وأن يضاعفوا رسوم اشتراكها ويعتمدوا على تبرعات المتفضلين من أنصارها، فنفعها هذا السخاء من حيث ضرها، نفعها بما وفر لها من الموارد، وضرها بالعزلة بينها وبين سواد الشعب من الفقراء وأصحاب الرزق المحدود، وأوشك أن يقوم بينها وبين الشعب سد من سوء الظن، وحاجز من الوحشة والجفاء لهذه العزلة التي كانت في مبدئها عزلة اضطرار لا عزلة اختيار.
وفطن جناح لهذا النقص فأسرع إلى تلافيه وأعانه على ذلك تقدم الشعب في فهم الهيئات السياسية وتنظيم العلاقة بها، فعدل دستورها وجعل الاشتراك فيها حقا مباحا لكل من يؤدي رسمه الصغير ولا يزيد على عشرة مليمات، وبث الدعوة لها في الأقاليم ونشر فيها لجانها الفرعية والمركزية، وبذل غاية وسعه للتفاهم مع الجماعات التي طال العهد على تأسيسها وعز عليها أن تفاجئها العصبة في هذا الدور الجديد بمنافستها القوية، ولم يحجم عن التفاهم مع المؤتمر وتبادل المساعدة معه في الانتخابات التي يعول مرشحوه فيها على المسلمين، ولا يخشى من منازعتهم لأحد من المسلمين في دوائره.
واتبع في إدارة العصبة نهجا ديمقراطيا يؤازره نهج دكتاتوري صارم عند اللزوم، فإذا أنس من بعض الأعضاء اعتراضا أو سمع منه نقدا جمع المجلس وبسط فيه موضوع الاعتراض أو النقد للمناقشة في صراحة وسماحة، وقد تطول المناقشة ساعات وتؤجل من جلسة إلى جلسة حتى تتقارب وجهات النظر أو يقر المعارضون رأي الموافقين.
فإذا لزمت الصرامة عمد إليها في حزم وسرعة كائنا ما كان مقام الأعضاء أو غير الأعضاء الذين استوجبوا تلك الخطة الصارمة، ومن ذاك أنه أسرع إلى فصل كل وزير مسلم قبل الوزارة بغير إذن العصبة، وكلهم من أصحاب المقامات والأخطار الكبار، ولما نوقش في قراره قال: إن الشعب الإسلامي لم يطالب بحقوقه لتفرض عليه «السلطة» مرشحيها وتحسبهم عليه نوابا يعملون بمشيئته ويستمتعون منه بالثقة والتأييد، ولكنه طالب بتلك الحقوق ليختار من يشاء، ولا يترفع أحد عن الرجوع إليه قبل ولاية الحكم الذي يستمده منه ويجريه عليه.
وقد ينصح وهو يعني الأمر المطاع إذا خولفت النصيحة. ويروى عنه أن رجلا من كبار المسلمين زاره بعد زيارة الأقاليم الإسلامية؛ فسمع غاندي بأخبار هذه الزيارة، وأرسل في دعوته للقائه وصرفه عن مقاطعة المؤتمر ومطاوعة العصبة في تنفيذ برامجها، فأطلع الرجل جناحا على الدعوة وسأله رأيه فيها، فلم يصانع جناح ولم يداور في الجواب، بل قال له في كلمات موجزة: «خير لك ألا تذهب.»
قال الرجل: «أنصيحة هي أم أمر؟»
قال جناح: «إن لم يكن بد فليكن أمرا، ولتعلم بعض المحظور الذي أخشى منه عليك منذ الخطوة الأولى ... إنك ستذهب إلى غاندي فيتلقاك بتحية البراهمة مضموم الكفين، ويدعوك أدب المجاملة أن ترد تحيته بمثلها، فإذا بالصحف تنشر لك صورتك على هذا النحو ولا تنشر معها صورة غاندي، وإذا بهذه الصحف متداولة بين جماهير المسلمين ممن يفقهون ولا يفقهون، فيريبهم من رئيس مسلم أن يحاكي البراهمة في تحياته، ولا يعلمون عنها أنها تحية مختارة ومحاكاة مقصودة، ولا تدري أنت ما يتهامس به الشعب، وما يضاف إليه من الحواشي والإشاعات حتى تهم بإصلاحه وتوضيحه، وقس على هذه المناورة مناورات مثلها لا حاجة بك أن تستهدف لها وتبتلى بسوء أثرها.»
قال جناح: «وأما وقد علمت الآن شيئا من أسباب النصيحة التي حسبتها أمرا؛ فارجع إليها واحسبها نصيحة وإن شئت قبلتها وإن شئت أعرضت عنها.»
قال بلوتارك أستاذ التراجم والسير في الأدب الإغريقي القديم: «إن كلمة أو نكتة تروى عن العظيم قد تنم على ملكات له وأخلاق لا تنكشف للناس من روايات الفتوح والخطوب الجسام.»
ونصيحة جناح تلك كافية لجلاء ما طبع عليه من الحزم والدهاء والفطنة لحيل الخصوم وأطوار الجماهير.
ولقد ظهرت يد جناح في تنظيم العصبة وجذب الأنصار إليها ظهورا مفحما في الانتخابات الثانوية التي أجريت ما بين سنة 1938 وسنة 1942، فإن العصبة نجحت في ست وأربعين دائرة من ست وخمسين، ولم ينجح من مرشحي المؤتمر المسلمين غير ثلاثة نواب، وبقية الناجحين من المستقلين.
وأذيع إحصاء عن عدد المشتركين في العصبة سنة 1941 فبلغوا مليونا وتسعة وثمانين ألفا، وهو عدد يقارب عدد المشتركين في المؤتمر على قدمه وضخامة موارده، ولم يكن أعضاء العصبة يزيدون في سنة 1939 على ستمائة ألف من المشتركين، وهو مع هذا عدة أضعاف المشتركين قبل ذلك بأربع سنوات.
أما «المشروعات» والدساتير التي عرضت على العصبة لتسوية القضية الهندية في أيام رئاسة جناح فهي متعددة لا فائدة من الإسهاب هنا في تفصيلها، بيد أن المهم منها هو مشروع الحكومة الاتحادية «الفدرالية» الذي عرض للتنفيذ في سنة 1935، وكان منذ فترة قريبا إلى القبول مع تنقيح بعض نصوصه، فلما عرض في سنة 1935 رفضه المؤتمر ورفضته العصبة، وعلة رفض العصبة له صلابة المؤتمر في مسألة المرشحين ورفضه لكل مرشح في الأقاليم لا ينتمي إلى المؤتمر، ثم حصر السلطة العليا في أمور الدفاع والسياسة الخارجية والخزانة بين يدي الحكومة المركزية، وأقوى من هذا وذاك سوء الظن الذي فشا بين المؤتمرين والعصبيين خلال السنوات الأخيرة، فإنه جعل استقلال الحكومتين حلا وحيدا لا محيص منه ولا طاقة لأحد بتعديله، ومن البديهي أن المؤتمرين لم يتشبثوا بالوحدة إلى اللحظة الأخيرة عشقا لطلاب الانفصال، وحرصا على استبقائهم، ولكنهم تشبثوا بها؛ لأنهم أصحاب الكفة الراجحة فيها.
على أنه من الثابت أن العصبة لم تتبع خلال الفترة من المناداة بالتقسيم إلى تنفيذه خطة من الخطط في مسألة كبيرة أو صغيرة ترمي بها إلى إحباط الاستقلال وتغليب البريطان على البراهمة، فكل برامجها كانت تبدأ وتنتهي بطلب الاستقلال للحكومتين، أو كما قال جناح بأسلوبه الناصع الساخر: «إن استقلال البقرة رهين باستقلال الباكستان.»
قال المؤلف الكندي رالي باركن
Raleigh Parkin
في كتابه «الهند اليوم» وقد ظهر قبل نفاذ التقسيم:
لا يمكن يقينا أن يقال عن العصبة: إنها جانحة إلى البريطان، وكثيرا ما تعاونت فيما مضى مع المؤتمر أو كانت على استعداد لمعاونته في الحركة الوطنية، غير أنها في السنوات الأخيرة، وبخاصة منذ أواخر سنة 1937 جعلت خطتها التي لا لبس فيها مقاومة المؤتمر ومقاومة البرهميين، ومهما يكن شأنها في الماضي؛ فاليوم لا ريب أنها أقوى الهيئات الإسلامية في الهند وأوسعها نفوذا؛ وأنه ما من سياسي مسلم يستطيع الآن أن يغفل شأنها.
كذلك لا يجري في خلد إنسان عارف بتاريخ الهند الحديث أن يتخيل أن تقسيم الباكستان يخدم قصدا أو على غير قصد سياسة بريطانيا العظمى التي تقوم على قاعدة «فرق تسد» ... فمثل هذا الخاطر يقابله العارفون بتاريخ الهند الحديث بالسخرية والاستخفاف؛ لأن بريطانيا العظمى كانت تعرض على الهنود حلا بعد حل وتسوية بعد تسوية، وتصانع المسلمين حينا والبرهميين حينا آخر فرارا من التسليم بالتقسيم ، ولم يكن أنفع لها ولا أعون لحكامها وساستها أن يدخلوا بالتفرقة بين الأمتين من بقائهم في دولة واحدة يضربون فريقا منها بفريق كلما شاءت لهم سياستهم أن يحصلوا على التأييد من الفريق الغالب، ولو كان خليطا من الأمتين. وقد لمح بيفرلي نيكولاس صاحب كتاب «حكم في القضية الهندية» إلى تلك الفكرة، فأجابه جناح محتدا: «إن الرجل الذي يدور في خلده هذا الظن لضعيف الثقة حقا بذكاء البريطان، بله الثقة بسلامة مقاصدي، فإن الأمر الوحيد الذي يبقي البريطان في الهند هو الفكرة الزائفة التي تدعى وحدة الهند كما يبشر بها غاندي، وأعود فأقول: إن الهند الواحدة اختراع بريطاني، أو هو أسطورة بل أسطورة جد خطرة، تجر إلى شقاق ليس له نهاية، وما دام هذا الشقاق قائما فهناك عذر يعتذر به البريطان للبقاء، وهذا هو الشذوذ في قاعدة فرق تسد ...»
قال بيفرلي: «إذن أنت تقول لهم: «قسموا واخرجوا؟»
قال جناح: «لقد أصبت محزها.»
وخرج الصحفي من هذه المحادثة وهو يقول: إن القاعدة التي تصدق على قضية الهند هي «وحد واحكم وفرق واخرج ...»
وقد أكد جناح له في هذا الحديث أن الفهم الصحيح لهذه الفكرة سهل الورود على ذهن الرجل المخلص، ولو كان من البريطان، فإن جون برايت خطيب الحرية في عهد غلادستون (والوزير الذي استقال من وزارة غلادستون احتجاجا على ضرب الإسكندرية) قال في إحدى خطبه: «إلى كم من الزمن تريد إنجلترا أن تحكم الهند؟ ليست الإجابة على هذا السؤال في وسع أحد، ولكن لتكن دولة الإنجليز في الهند خمسين سنة أو مائة أو خمسمائة، فهل يحسب إنسان له ذرة من الإدراك السليم أن بلادا شاسعة بما فيها من أمم تبلغ العشرين، ولغات لا تقل عن العشرين يتأتى أن تضم وتنحاز في حدود قطر واحد متماسك تدوم فيه إمبراطورية واحدة؟ أعتقد أن شيئا كهذا مستحيل.»
وقد أعاد المؤلف خطب برايت إلى جناح وهو مؤمن بوجهة نظره، وجاء الواقع بعد قليل فأقر هذه الوجهة ببرهان ضخم يحسم كل جدل ويفند كل منطق، وهو نجاح الباكستان.
قوة البيان
مهما تكن عناصر القوة في الزعماء الذين ينشئون الدول بغير السيف فالبيان قوة لا غنى لهم عنها، وبخاصة في هذا العصر عصر المؤتمرات والمناقشات والأحاديث الصحفية والردود عليها.
لا غنى للزعيم عن قوة البيان ...
ولكن أي بيان ...؟
ليس من المفارقات أن نقول: إن كلمة «البيان» لا تبين وحدها في هذا الصدد، فإن البيان أساليب، ولكل خطيب أو كاتب بين أسلوبه الذي يكاد يخصه بملامحه وبسماته، وكذلك كان بيان جناح في دعوته السياسية، بيانا خاصا به لا يشبه بيان أحد من زعماء الأمم في عصره.
كانت خاصة هذا البيان أنه يحسن تلخيص المسائل المعقدة في كلمات موجزة تعلق بالذهن لما فيها من المفاجأة النافذة: تلك المفاجأة التي يشعر السامع لأول وهلة أنها حلت له العقدة بمجرد التعبير عنها في وجازة وصفاء.
وكانت له مع هذه الخاصة خاصة الجواب المسكت والعرض المقنع، أو خاصة الضربة السريعة التي يتلقاها المهاجم وقد ظن أنه أصاب الرجل في المقتل، فإذا هو المصاب.
خطر لي حينا أن جناحا قد استفاد هذا البيان من صناعة المحاماة على نظام المحاكم الإنجليزية؛ لأن قضاتها يتدربون على تلخيص الأقوال المتناقضة للمحلفين أو لأعضاء المحكمة الآخرين، ويطلب من القاضي في المحاكم العسكرية على الخصوص أن يجمل الكلام من جميع أطرافه لتبسيطه من الوجهة القانونية.
كذلك يحتاج الدفاع في هذه المحاكم إلى القدرة على المساجلة التي يسمونها
Cross examination
وقوامه كله على الاستدراج، وعلى السؤال المفاجئ والجواب السريع.
إلى أن قرأت في كتاب «صوت آسيا» حديثا دار بين مؤلفه جيمس ميشنر
Michener
والآنسة فاطمة جناح شقيقة القائد الأعظم، فوقع في نفسي من أسلوب الرد والإقناع في هذا الحديث أن الملكة التي امتاز بها جناح أقرب إلى الطبع الموروث منها إلى التعليم المكتسب؛ لأن أسلوب الآنسة شقيقته كان نسخة مطابقة لأسلوبه، مع اختلاف كاختلاف الرجل والمرأة في ملامح الأسرة الواحدة.
قال المؤلف: «شعرت بوخز نقدها حين لاحظت أنه من المستغرب أن جناحا الذي لم يكن من رجال الدين المتعبدين ينشئ دولة ثيوقراطية ، فانفجرت قائلة: ماذا تعني بدولة ثيوقراطية؟ إننا دولة مسلمة، وهذا لا يعني أنها حكومة دينية، إنما تعني أنها حكومة مسلمين، فماذا تريدنا أن نكون؟ أحكومة مسيحيين؟ أحكومة براهمة؟ إننا لسنا حكومة يديرها قسيسون ولسنا حكومة كهانة، وإنما نحن حكومة قائمة على مبادئ الإسلام، وأقول لك: إنها مبادئ جميلة في إقامة الحكومات.»
قال المؤلف: «وأردت أن أستعيد موقفي فقلت: إن الذي عنيته أن حكومتكم تعلن أن الإسلام هو دين الدولة الرسمي! فما فهت بها حتى تلقيت طوفانا كانت حملة السؤال السابق مطرة صيف بالقياس إليه، وتكلمت الآنسة جناح بأسلوب السخرية والإصماء الذي تعوده الناس من جناح في دفاعه عن الباكستان، وضحكت وهي تقول: «لا تقل هذا ... فالحكومات جميعا تعترف بدين رسمي هو الغالب عليها، والمسيحية هي الدين الرسمي في البلاد الأمريكية.»
وحاولت أن أقول: إن هذا غير صحيح كل الصحة، ولكنها ضحكت مرة أخرى، وقالت: لعلك تعثر على تفسير ماهر يساعدك على إنكار الصبغة المسيحية في حكومة أمريكا، ولكن ماذا عسى أن تزعم عن ألوف الجماعات المبشرة التي ترسلونها إلى أنحاء العالم؟ ولماذا تحاول أمريكا أن تحولنا من ديانة حكومتنا إلى ديانتكم؟ ولماذا تتدخل حكوماتكم بالقوة حماية للمبشرين إذا لم نصبأ باختيارنا؟
قلت: «ليس هذا هو الواقع، وعلى فرض وقوعه فحكومتنا لا تؤيد أولئك المبشرين.»
فقاطعتني الآنسة جناح قائلة: «حكاية مليحة! فمن أين إذن تأتي الأموال التي ينفقها المبشرون لتحويل أهل الهند والباكستان عن دينهم؟ تقول: إنها تأتي من الموارد الخاصة، حسن! فلماذا تبذل الموارد الخاصة تلك الأموال؟ إنها تبذل؛ لأن أصحابها يؤثرون دين بلادهم، ولا اعتراض لي على ذلك، وليس لكم كذلك أن تعترضوا على إيثار أهل الباكستان لدينهم، فإنما هي بواعث متشابهة في نفوسنا ونفوسكم.»
وقد صدق المؤلف حين شبه أسلوب الآنسة في الرد والمناقشة بأسلوب شقيقها، فهما في الحق متشابهان كما تتشابه ملامح الأخ والأخت في الأسرة الواحدة.
كان جناح لا يتلجلج ولا يتلعثم إذا فوجئ بالسؤال المحرج، أو السؤال الذي يريد به السائل الحرج، بل يلاحق السائل بالجواب المسكت الذي يقطع اللجاجة قطع الموسى الرميضة لخيوط الشباك.
قال له صحفي إنجليزي مرة في مقام الاعتراض: ولكنك يا سيد جناح كنت يوما عضوا بالمؤتمر، قال: «نعم، وكنت يوما تلميذا بالمدرسة الابتدائية.»
وقال له زعيم هندي يحارب اقتراح الباكستان: «إننا لا نفهم ما هذه الباكستان التي تدعو إليها؟»
فقال: «ولماذا إذن تحاربها قبل أن تفهمها؟» ولما قيل له: «إنك عجزت عن تأليف وزارة، فما بالك تطمح إلى إنشاء الباكستان؟» قال: «لكيلا نعجز عن تأليف وزارة!»
وافتخر عليه «ضحايا» الوطنية بأنهم سجنوا وهو لم يسجن، فقال: «إن دخول السجن أسهل من العمل السياسي.»
وأطال في هذا المعنى فقال: «إنني لا أؤمن بالبدء في حركة سياسية سعيا وراء الاعتقال، وصدقوني أنه لا يصعب علي أن أذهب إلى السجن لأقضي ثمة ستة شهور أو نحو ذلك، وما أصاب السيد غاندي بعد ضرر من سجنه، فقد كان في أمان بين جدران قصر أغاخان، وكان معه كاتبه، بل كان معه كل أسرته، ولكن من ذا يتلقى الرصاص وأنا في معتقلي؟ إنهم إخواني.»
وقال في مناسبة أخرى: «يعيبوننا بأننا لم نضح في سبيل غايتنا، وأخشى أن أقول: إننا لا نستطيع أن نساهم في تلك التضحية التي تدرب عليها ساسة المؤتمر: أن نتصدى للزعامة، أن نجلس صابرين تحت سياط الشرطة، أن نذهب إلى السجن، أن نشكو بعد ذلك من نقصان الوزن، أن ندبر حينئذ وسيلة الفرج والانطلاق ... كلا، لست أؤمن بهذا الفن من الكفاح، ولكنني إذا وجب أن أواجه الخطر فلست أبالي يومئذ أن أكون أول من يصمد للنار.»
ومن تلخيصاته السهلة قوله عن الوحدة والتقسيم: «إن الوحدة التي خلقها مدفع المستعمر لا تصلح بعد جلائه.»
ومنها: «إن الآفة في سياسة المؤتمر أنها تشكو من مركب الزيادة أو الرجحان
Superiority complex
لا من مركب النقص.»
وأشهر تلخيصاته التي جمع فيها مزايا التقسيم: «إن استقلال الباكستان ضمان لاستقلال البقرة المعبودة.» ومثله في الشهرة تلك الكلمة التي جمع فيها موانع الوحدة: «إنهم يعبدون البقرة ونحن نأكلها، فكيف يحكمنا نظام واحد ؟» •••
أما بلاغته في الخطب والرسائل والبيانات فهي من هذه البلاغة الخاصة التي هي على ما رأينا أقرب إلى الطبع الموروث منها إلى التعليم المكتسب: بلاغة ليست من بلاغة التفخيم أو التجميل، وليست من بلاغة التحليق إلى الأعالي أو الغوص إلى الأعماق، ولكنها بلاغة تمتاز بالبساطة والنفاذ السريع، تلم بأطراف المسألة وتنفذ إلى محورها وتترك السامع أو القارئ وهو يحس أنه قد ألم بأطرافها، ونفذ من محورها إلى الصميم.
قال عن الديمقراطية في الإسلام: «إن الديمقراطية غريبة عن المجتمع البرهمي، وليس من غرضي أن أتناول مجتمعا كائنا ما كان بغير الاحترام، ولكن الواقع أن المجتمع البرهمي مقيد بالطائفية منهوك بقيود هذه الطائفية، وليس للمنبوذين فيه مكان اجتماعي أو اقتصادي أو مكان ما يسكنون إليه.
على أن الديمقراطية في دم المسلم الذي يدين بالمساواة بين جميع الناس، وهاكم مثلا من أمثال، وهو أنني كثيرا ما أذهب إلى المسجد ومعي سائقي يصلي إلى جانبي، وما زال المسلمون يدينون بالإخاء والمساواة والحرية.
وبعد فكيف يكون في مقدور قلة أن تصد كثرة؟ هذه جرأة في الادعاء، ونحن من ثم لا نصد الكثرة، ولكننا أهل لأن نستقل بحكم أنفسنا.»
وقال في ذكرى الشاعر إقبال (سنة 1944):
إنني أحيي في هذا اليوم ذكرى عزيزة؛ هي ذكرى شاعرنا القومي إقبال: هذه الذكرى التي نحيي فيها اسم الشاعر الحكيم الفيلسوف المفكر العظيم، سلام على روحه في ساحة الخلود.
إننا لا نراه بيننا الآن، ولكن شعره المقتبس من معدن الخلود يقيم على الدوام معنا ليهدينا ويوحي إلينا، وهو بجمال نظمه وحلاوة لفظه يصور لنا عقل الشاعر العظيم وقلبه؛ فنرى في هذه الصورة مبلغ إخلاصه لآداب الإسلام.
وما كان إقبال بالواعظ أو الفيلسوف وكفى، بل كانت تتمثل فيه مع التفكير والإلهام مزايا الشجاعة والعمل والثبات والاعتماد على النفس والإيمان قبل كل شيء بالله والإخلاص للدين، وكانت تتلاقى في نفسه آمال الشاعر المثالية وسليقة الرجل الذي ينظر إلى وقائع الأمور، وبهذا يتجلى لنا مسلم حق الإسلام ...
وقال عن دعوة السلام من خطاب في أغسطس سنة 1938: ... في كل بلد مخرفون يقولون: إنهم وقوف إلى جانب قضية السلام ... وما من شيء أريده كما أريد أن يعم السلام الشامل أرجاء الكرة الأرضية، فلا يكن في الدنيا حرب ولا يكن هناك غير الرخاء والأمان، وليس من ناحيتي اعتراض على إلغاء الحروب جميعا في كل مكان، غير أننا فيما نحن بصدده لا نناقش أولئك السادة الموقرين أنصار السلام، فليست المسألة في رأيي مسألة إيمان بالسلام أو كفر بالسلام؛ لأن المطلوب منا أن ننقذ رقابنا حين يحيق بنا الخطر، وما يدور في نفسي لحظة أن أصيب أحد بأذى، وما أريد إلا أن أكون إنسان خير مفرطا في الخير، ولكنني لا أضمن من أجل هذا أن يكون الناس جميعا خيرين، وألا يكون فيهم أحد يؤذيني أو يطوي النية على إيذائي، فليست المسألة سلاما أو لا سلام، وإنما هي دفاع أو لا دفاع، هذه هي مسألة اليوم، وجوابي أنا عليها الدفاع ...
واقترح عليه غاندي أن يجتمعا للبحث في مشكلة الوحدة والانفصال، فقال غاندي في أول لقاء: إنه ينوب عن نفسه ولا ينوب عن هيئة سياسية، ولم ير جناح نفعا في مباحثة يتقيد بها ويقيد العصبة الإسلامية معه ولا يتقيد بها غاندي ولا المؤتمر، وعلق على ذلك في خطاب ألقاه بمدينة بومباي (1945) قال فيه:
إنه لا يقنع بمهمة المستشار للمؤتمر ولجنته العاملة، بل يقيم نفسه مستشارا ناصحا للحاكم العام ومن ورائه الأمة البريطانية، وتنعقد اللجنة العاملة صباحا ومساء وهو الروح الملهمة وراءها، وهو مع هذا يروقه أحيانا ألا يمثل أحدا فلا يمثل أحدا، ويصبح فردا لا صفة له غير صفته الفردية، ولا يعتبر في هذه الحالة عضوا كأولئك الأعضاء الذين يمثلون المؤتمر بحق الدريهمات التي تخولهم الاشتراك فيه، وينزل بنفسه إلى مرتبة الصفر ليستلهم صوته الباطن ... أما إذا راقه أن يكون غير ذلك فهو السيد المطلق في المؤتمر، وهو بهذه المثابة ينوب عن الهند بأسرها.
وعاد إلى هذه الدعوى في اجتماع مجلس العصبة (28 يوليو سنة 1946) فقال:
إن مستر غاندي يتخذ من نفسه اليوم مستشارا ناصحا للجميع، يقول: إن المؤتمر يمثل الهند بأسرها، وإن المؤتمر هو الوصي الأمين على أبناء الهند قاطبة، وإنها لمرتبة هائلة تلك التي يبتغيها، ولقد كفانا ما ابتليناه من الوصي الأمين الذي تسلط علينا مائة وخمسين سنة، فما نحب أن نستبدل به وصايا المؤتمر، لقد كبرنا وبلغنا رشدنا، فلا وصاية على الأمة الإسلامية لغير الأمة الإسلامية.
ولم يكن أسلوبه أن يقابل التهديد بالمزايدة في التهديد مرضاة لسورة النفوس التي يعجبها هذا الأسلوب، فلما عرض عليه الصحفيون خطاب السردار باتل وسألوه رأيه فيه قال: «إن السردار باتل رجل قوي كما وصفوه فلا جرم يعمد إلى اللغة القوية، إلا أن الكلمات لا تكسر عظما، فإذا كان يعني بقوله له: «إننا أعددنا السيف للسيف» أن الكثرة ستذبح القلة في أرجاء الهند فتلك طلعة بشعة. وغاية ما أقوله إنه على ما يظهر لا يدرك أن كل من يحرض هذا التحريض فهو أعدى الأعداء لكل طائفة ...»
وتصدى له الشيوعيون ليكرهوه على قبول مطالبهم باسم القومية فقال:
يلوح لي أن أمهر طائفة تبث دعوتها هي معشر الشيوعيين. إنهم قد أكثروا من الرايات التي يستظلون بها وأخالهم يحسبون أن البركة في الكثرة (ضحك) ... إنهم يرفعون الراية الحمراء، ويرفعون الراية الروسية، ويرفعون راية الجماعات السوفيتية، ويرفعون راية المؤتمر، ويتفضلون الآن فيستعيرون منا رايتنا راية العصبة الإسلامية، وإذا جمعت فئة كل هذه الرايات معا فمن حقنا أن نتوجس ونحذر، إنهم يصيحون يطلبون اتفاقا بين العصبة والمؤتمر فسامحهم الله من الذي يطلب غير ذلك؟ إنما السؤال هو: على أي أساس يكون الاتفاق؟
وخطب في جماعة النساء المسلمات (في سنة 1942) فقال:
يسرني أن أرى أن النساء المسلمات يفهمن رسالة الباكستان كما يفهمها الرجال المسلمون، وما من أمة تثابر على طريق التقدم بغير معاونة من نسائها، فإذا كانت المسلمات يعاون رجالهن كما صنعت المسلمات في عهد نبي الإسلام فقد وصلنا إلى غايتنا.
وقال عن رسالة القرآن:
وصف الإنسان في القرآن الكريم بأنه خليفة الله، فإذا أردنا أن نحقق هذه الصفة فأولى ما توجبه علينا أن نتبع مع غيرنا سنة الله مع بني آدم في أوسع معانيها، سنة الحب والصبر، وكونوا على يقين أنها سنة عاملة وليست سنة مانعة وكفى.
وإذا كنا نؤمن حقا إيمان اليقين والحب في معاملة خلائق الله من كل قبيل فعلينا أن نتبع هذه السنة في معيشتنا اليومية وفرائض تقوانا وعبادتنا، ولسنا نرى في هذا اليوم المبارك - يوم العيد - علامة على الروح التي أذكاها في قلوبنا شهر الصيام أظهر من العزم الوثيق على نشر السلام والوفاق في ديارنا بين أنفسنا وبين أصحاب العقائد جميعا في أوطاننا، وأن نعمل في حياتنا الخاصة وحياتنا العامة عملا يتنزه عن الأثرة، ويتوخى الخير الأعظم لقومنا ولأبناء آدم أجمعين.
إنه مطمح سام عظيم يتقاضانا الجهد والإيثار والفداء، واحسبوا حساب الشكوك التي تساوركم فينة بعد فينة، شكوك لا تنحصر في النزاع المادي الذي يوزع قلوبكم وقد يسهل عليكم أن تغلبوه بشجاعتكم، ولكنها شكوك روحية لا مناص لنا من مواجهتها، وليس في وسعنا أن نروضها غدا إذا أعيتنا رياضتها في هذا اليوم الذي تخشع فيه نفوسنا لخالقها. ... واعلموا أنه لا غنى في كل نشأة اجتماعية أو حرية سياسية من الاعتماد آخر الأمر على سر عميق في حياة الإنسان، وأرجو أن تعلموا أن هذا السر العميق هو روح الإسلام، فليست الخطب العظيمة ولا المؤتمرات الكبرى هي التي تصنع سياسة الأمم، وأقول للشبان الكثيرين الذين تعودوا أن يسألوني كيف يقدرون على خدمة بلادهم هلموا يا أصدقائي الفتيان، واعذروني إذا عرضت للسياسة في هذا المقام، فإنما أعرض لها لأقول لكم: إننا جميعا نطالب بالحقوق وندعي الدعاوى في الهند المقبلة، فينبغي ألا نركب مركب العناد في السعي إليها، فإن العناد نقيض ما يوحيه إلينا هذا العيد من الحب والمسامحة والبركة التي يأمرنا النبي عليه السلام أن نبسطها لغيرنا، وفي وسع كل منا أن يخدم هذا الوطن برياضة النفس وأنها لجوهر كل قداسة نحييها في هذا الموسم. فليسأل كل نفسه: أهو على نظام في معيشته؟ أينام في موعده؟ أيسير في الطريق على جادته؟ أيصون الطريق عن منبوذاته ومطروحاته؟ أيخلص في عمله ويلتزم الأمانة في شغله؟ أيعين غيره بما في وسعه؟ أيعامل غيره بالصبر والسماحة ...؟ هذه أمور قد تبدو صغارا، وهي على هذا نواة كل نظام كبير القيمة فيما تتضافر الطوائف جميعا على ادخاره لخدمة وطنها، خدمة هند أعظم وأعلى، وربما كانت خدمات لا تبرز صاحبها في أضواء السياسة، ولكنها تكفل لكم سلاما باقيا في قلوبكم كلما شعرتم أنكم قد أديتم حصتكم لتيسير السياسة كلها ...
وكان من دأبه أن يذكر سامعيه وتلاميذه بحكمة هولندية هذه ترجمتها:
ضاع المال ... لم يضع شيء.
ضاعت الشجاعة ... ضاع شيء نفيس.
ضاع الشرف ... ضاع أنفس ما نملك.
ضاعت الروح ... كل شيء ضاع.
هذه نتف متفرقة من كلمات جناح في معارض شتى، نحسبها نموذجية في التعريف بخصائص بيانه، وهو وسيلة من وسائل نجاحه في زعامته، وفيها كذلك تعريف بمناحي تفكيره، وهو على جملته تفكير صريح سهل مستقيم.
على الحاشية
العزيمة والفصاحة والقدرة على التنظيم عناصر ملموسة في كيان القائد الأعظم، ولكنها لا تحصر جميع الخصائص التي تتألف منها معالم هذه الشخصية، تلك هي عناصر نجاحه في الزعامة، ولكنها تقترن بصفات أخرى على حاشيتها ترسم لنا سائر معالمها، وقد تكون أيضا من عناصر النجاح أو العناصر الفعالة في ولايته لأمور الدولة الجديدة.
من تلك الصفات خليقة المسالمة.
ويدهش كثير من الناس إذا سمعوا أن هذا الرجل الصارم مسالم؛ لأن الصرامة في الأذهان عامة مرادفة للشدة في معاملة الآخرين والتحفز لمخاشنتهم والجور عليهم، ولعلهم لا يخطئون في الجمع بين الصرامة والجور في خلة واحدة، إلا أن الصرامة في صميمها صرامتان: إحداهما صرامة في دفاعنا عن حدودنا، والأخرى صرامة في الجور على حدود غيرنا، وشتان ما بين الخليقتين.
إن الرجل الذي يشتد في الذود عن حدود حقه قد يكون مثلا للمسالمة إذا أمن على تلك الحدود، وقد يصوره للناس في صورة الجائر المعتدي أن تضعه الحوادث في مقام الدفاع أبدا فلا يتخيلونه إلا مشتدا محتدا متحفزا متوفزا، لا يؤمن جواره ولا تهدأ ثورته، ومن استغرب وصف جناح بالمسالمة لعله يتصوره دائما في تلك الصورة الثائرة دفاعا عن موقف أو كشفا للعدوان في موقف خصومة، بيد أن المتابعة والاستقصاء تنتهي بكل ثورة من تلك الثورات الصارمة إلى حد تقف عنده ولا تتخطاه، وليست كذلك ثورة الجور والعدوان.
تجلى خلق المسالمة فيه يوم سالت الدماء في الهند وتوالت الأنباء عن مقاتل المسلمين في مساكنهم أو في طريقهم إلى الباكستان، وغلت الدماء في العروق وأوشك الزمام أن يفلت من الأيدي، وخيف في كل مكان أن يتغلب الغيظ على الحكمة والرحمة، وأن يطيش الثأر فيؤخذ الأبرياء بذنوب المجرمين، ويقع العدوان على قوم من البراهمة انتقاما للمسلمين الذين قتلهم البراهمة في غير الباكستان.
في تلك الأيام لم ينم جناح ولم يغفل لحظة عن مواطن القلق والخوف، وطفق يرسل النداء بعد النداء، ويطلق الوعاظ في الحواضر والقرى ليبصر الناس بأوامر دينهم، وما يجب عليهم لإخوانهم في وطنهم، حتى حفظت الباكستان مسلمها وبرهميها كلمته التي كان يرددها: إن ظلم البريء انتقاما من الظالم مجاراة للظلم وإجرام فوق إجرام.
وتجلى هذا الخلق في معاملته للحكومات المجاورة كما تجلى في معاملته لرعاياه، فكانت أوامره المتلاحقة لجنوده أن تسالم ولا تهاجم، وأن الدفاع إذا وجب فهناك يسمعون منه أمر الدفاع إلى أن يبيد آخر رجل، بل آخر امرأة وآخر طفل قبل أن يفرطوا في قيراط من حوزتهم، أما قبل ذلك فلا محل للحرب ما دام في السياسة متسع للسلام.
وقد شهدت الهند والباكستان صفحة أخرى لهذه الصرامة عند نشأة الدولة، وإلحاح المشكلات الخارجية عليها في إبان التقسيم.
في تلك الفترة كانت صرامة جناح شدة تتلوها شدة، وإصرار على هذه الشدة لا يعرف الهوادة أو المساومة.
في تلك الفترة صادر كثيرا من الدعوات، واعتقل كثيرا من القائمين بها، وأنكر أن يكون هناك غرض سليم وراء المقاومة التي يقدم عليها معارضوه.
وانتقد المنتقدون، واعتذر المعتذرون.
أما المنتقدون فقد استندوا إلى مبادئ الحرية والديمقراطية، وأما المعتذرون فقد شبهوا الحالة يومئذ بحالة الحرب، بل بحالة الخطر على سلامة الأمة، وقالوا: إن في حياة الأمم أياما يباح فيها للحاكم الموثوق بإخلاصه ما لا يباح له في كل يوم.
حجتان سمعتا في أقطار كثيرة غير الباكستان، وانتقاد واعتذار لم ينقطعا فيما مضى ولا ينقطعان في هذا الزمان، وأقل ما يكون ذلك الانتقاد وذلك الاعتذار أحسن ما يكون، فما من أحد يزعم للسلطان المطلق أو للحرية المقيدة أنهما أكثر من ضرورة مكروهة في جميع الأحيان.
وقد سبقت الإشارة إلى مخالفة جناح لزعماء الهند من المسلمين والبراهمة في مسلكهم، أو مسالكهم المتلاحقة، في مسألة الخلافة، ويجوز أن يقع في الخاطر أن جناحا لا يعنى بالأمم الإسلامية أو الأمم الشرقية خارج بلاده، وأنه لا يشعر بالعطف لغير وطنه وأمته، وهو خاطر يجوز أن يقع في الخاطر كما أسلفنا قبل الاطلاع على آراء الطرفين في كل مرحلة من مراحل هذه المسألة المعقدة المفعمة بالنقائض بين ظواهرها وبواطنها، وحسبنا منها في الهند قيادة غاندي لحركتها وإحجام جناح وإقبال في بعض المواقف عن مجاراتها.
أما الحقيقة التي يسفر عنها الاطلاع عن الآراء المتقابلة في المراحل المتعاقبة؛ فهي أن جناحا كان يعترض على العبث ولا يعترض على الجد في هذه الحركة وما يماثلها.
كان ينكر تضييع الجهود حيث يكون تضييعها خسارة على الهند ولا يرجى منه نفع للخلافة، وكان بثاقب نظره يرى النزاع بين السلطان العثماني والرعايا المطالبين بالحقوق الوطنية والحرية الدستورية فيفصل بين المسألتين، ولا يحب أن يكون مؤيدا «للخليفة» وخاذلا لرعاياه.
وفيما عدا ذلك لم يتوان يوما عن تعقب أخبار الشرق من اليابان إلى أقصى المغرب، ولم يسكت قط عن كلمة نافعة تقال في قضية من قضايا الأقطار الإسلامية على الخصوص، فصرح للحاكم العام في إبان الحرب العظمى بأن معاونة المسلمين معلقة على ضمان الوطن الإسلامي في فلسطين، وخرج على المعهود من اتزانه في عباراته الرسمية فحذر الغرب يوما من تلك السياسة التي ترمي إلى استئصال السيادة الإسلامية في جميع بلادها، واحتج على خطط هولندة في «إندونيسيا» واستعدى هيئة الأمم عليها ، وتابع الاطلاع على أطوار القضية المصرية حتى قيل له مرة: لماذا لا تنال القضية الهندية مثل هذا الاهتمام من بريطانيا العظمى؟ فقال: وهل عندكم هنا «جامع أزهر» تخرج جموعه بالرايات السود كلما حزب الأمة المصرية حازب، فلا تبلغ نهاية الطريق حتى يكون الخبر في دوننج ستريت؟
وتداول القوم عن جناح أنه الزعيم «الأرستقراط»، تداولها الإنجليز كما تداولها الهنود، وسلمها الأصدقاء كما سلمها الخصوم، ونظن أنه هو لا ينفي من هذه الشهرة أنه رجل محافظ على سمعته معتكف لا يستكثر من العشراء في جميع علاقاته، فمما يزكيه مع هذا أن العناية بالطبقة الفقيرة كان على رأس القائمة في جميع برامجه، وأنه لم يكن يفعل ذلك جريا وراء الجماهير؛ فإنه من المفروغ منه أن الجري وراءها مظنة لم تخامر نفوس القادحين فيه فضلا عن مادحيه، وقد جاءته الأصوات إلى عقر داره وألح عليه علية القوم أن يتولى الرياسة مدى الحياة، بل هتفوا له باسم الشاهنشاه فاعتذر وقال لمن عرضوا عليه رياسة الدولة طول حياته: «دعوني أزوركم من حين إلى حين فأسمع منكم وتسمعون مني، وأسألكم أصواتكم وتسألونني ما في نفوسكم ...»
وأصدق ما نشبه به جناحا في مناقبه وخصائصه التي أجملناها أنه صاحب «شخصية» غير مطلقة، ولكنها غير موصدة: شخصية كالخزانة التي لا تعرض نفائسها في واجهة بلورية، ولكنها لا تحفها بالشوك أو تحيطها بالحراس والأرصاد، وتنفق مما تحتويه إنفاق الكريم السخي الذي لا يمتن على أحد بعطائه، ولكنه لا يقبل فيه السوم والمساومة، وإليه المرجع حين يعطى وحين يكف عن العطاء.
حياته الخاصة
حياته الخاصة
كتب الشاعر الألماني هنريك هايني عن فيلسوف الألمان الكبير «عما نويل كانت» فقال: إن ترجمة حياته الخاصة من أعسر الأمور، لأسباب كثيرة، أولها أنه لم تكن له حياة خاصة!
ويستطرد الشاعر الظريف فيقول: إن الفيلسوف كان يأكل وينام ويستيقظ ويتمشى للرياضة ويجلس للتدريس بالساعة، وإنه كان إذا ظهر في رواق الزيزفون يتمشى كعادته كل أصيل نظر إليه الناس وأخرجوا ساعاتهم فضبطوها!
مثل هذا الكلام يقال عن القائد الأعظم ، ولكن لعلة غير العلة التي تعلل بها الشاعر الساخر للفيلسوف الحكيم.
فمن أعسر الأمور كتابة حياة خاصة للقائد الأعظم، ولكن لعلة غير هذه العلة، وتلك هي علم الجميع بحياته الخاصة، فليست له حياة خاصة بين الجدران أو وراء الحجب يعلم بها أناس ويجهلها أناس: حياته الخاصة كانت هي حياته التي تخصه ويعلم بها جميع عارفيه، ولم يكن لها ظاهر متكلف ولا سر محجوب.
كان زعيم أمة قوامها الدين، ولكنه لم يلبس مسوح القديسين أو يرائي أحدا بالنسك والعبادة: كان إذا شهد اجتماعا وحضرت الصلاة أم الحاضرين في الصلاة الجامعة، ولم يشاهد قط في محفل على صورة تخالف ما ينبغي للرجل المسلم الذي يقود في معترك السياسة أمة إسلامية، ولكنه لم يشاهد كذلك متخذا من التدين مراسم للظهور والمراءاة في حدود ما يليق بالزعيم، ولا التزام لحدود غير تلك الحدود.
ولم تقيده الزعامة بقيد تأباه السماحة وسعة الصدر وآداب الاجتماع، فكان من زواره مسلمون وغير مسلمين، وكان يزور من يزوره ويرى في بيوت الطوائف الأخرى كما يرى أناس من أبناء الطوائف الأخرى في بيته، وزياراته أو زياراتهم في جميع الأحوال ليست بالشاغل الذي يستغرق فراغ وقته، كما يتفق لرجل السياسة الذي تملأ تكاليف المجتمع حيزا كبيرا من وقته، بل هي زيارات الرجل الذي لا يريد أن ينقطع ما بينه وبين الناس، ولا يريد كذلك أن تقطعه تكاليف المجتمع عن أمانته الكبرى: أمانة السهر على تكوين أمة وحكومة.
وكانت علاقاته بمعارفه، وبمن يلقاهم في عمله، علاقة خلت من التكلف، وربما بدا عليها من أجل ذلك مسحة من الخشونة، أو بدا عليها نقيض الخشونة حين يخشى أن يحسبه الناس خشنا في معارضته، فيخفض من جناحه ويلين في حديثه، وقوة معارضته في ذلك الحديث باقية في مدلوله ومرماه.
زواجه
صرفته الحياة العامة عن الزواج حتى بلغ الأربعين، فلما تزوج في تلك السن كانت لزواجه قصة «جناحية» تطابق ديدنه المطرد في حياته العامة، فإن سفير الوحدة قد تزوج من فتاة زردشتية، وأبت الأقدار إلا أن يكون زواجه آية أخرى من آيات هذه السفارة التي صمد عليها ما استطاع.
كان جناح رجلا وسيما وظل شيخا وسيما معتدل القامة إلى أن توفي وهو يجاوز السبعين.
كان علما بارزا في جلسات المؤتمر والعصبة التي انعقدت في سنة 1916، وكان يقود العصبة ويقود المؤتمر ويدير الحوار ويرد على كل سؤال، ويخرج عن كل معركة حامية بالحجة الناصعة والرأي المسموع، وكان السير «دنشا بتيت» أغنى أغنياء الفرس في بومباي يشهد الجلسات ومعه فتاته الذكية الحسناء رتن بتيت، فأعجبها الرجل الوسيم وأعجبها الخطيب المبين، وهامت به وفاتحته بحبها، وسمحت لها تربيتها الأوروبية أن تعرض عليه الزواج وهي دون العشرين.
وفوجئ جناح باقتراحها وراجعها في الأمر، وبصرها بالعواقب التي تترقبها عاجلا وآجلا من جراء هذا الزواج مع اختلاف الدين وتفاوت السن، ومحظورات التقاليد، فزادتها المراجعة إصرارا وقالت له: إنها لا تجهل هذه العواقب وأولها الحرمان من مال أبيها، والحرمان بعد ذلك من الميراث، فلما آمن أن يقال: إنه قبل زواجها لمالها، وأعلمها أنه يتوقع ما توقعته من حرمانها، قابلت هي هذا النبل من الرجل الذي أحبته بإعلان إسلامها، فنشرت الصحف أنباء عقد الزواج وإسلام الفتاة في وقت واحد، وقامت القيامة عليهما وثبت لها الزوجان في غير مبالاة.
ساقهما أهلها المقتدرون إلى القضاء، وودوا لو يدعون قصورها لولا أن سنها بشهادة الميلاد تخولها أن تختار زوجها بإرادتها.
ولما أراد القضاء أن يحرجه لينفض يده من هذا القران المغضوب عليه، واتهمه على ملأ من شهود الجلسة بأنه يجري وراء الفتاة الغنية طمعا في مالها، لم يشأ أن يجيب وترك لها الجواب، فقالت للقاضي مغضبة: إنه لم يجر وراءها ولم يجر وراء مالها، وارتضى أن يبني بها وهو يعلم أنها ستحرم من ثروة أهلها، وهي تعلن في ساحة القضاء وفاقا لما أراد أنها قد استغنت عن معونة أهلها كل الاستغناء.
ومن الأخبار القليلة التي وردت متفرقة في سيرة القائد الأعظم؛ نعلم أن هذه الزوجة النبيلة كانت جديرة بزوجها في أنبل مناقبه؛ وهي الشجاعة والاستقلال بالرأي والكرامة ، فهان عليها أن تنبذ الملايين في سبيل الرجل الذي أحبته، وهان عليها أن تكبت حياءها وهي تبرئه من إغوائها، وتجهر في ملأ من شهود الجلسة أنها هي التي عرضت نفسها عليه.
ومن قصة طريفة تناقلها الهنود يومئذ تتراءى لنا الفتاة الغضة جديرة بزوجها في بديهته الحاضرة، وصراحته النادرة، وصلابته القوية، وجوابه السريع؛ فإنها - مع تربيتها الأوروبية الكاملة - كانت تأخذ نفسها باحترام عادات قومها، وتنكر النزول عن سمت البلاد حين يكون النزول عنها تزلفا لأصحاب السيطرة الأجنبية، ودعيت مع زوجها إلى وليمة في قصر الحاكم العام فحيته حين قدمت إليه بالتحية الهندية، ولم تنحن متراجعة على طريقة الأوروبيين في مقام التعريف لأول مرة، فامتعض الحاكم العام واغتنم فرصة التحدث إليها فقال لها في لهجة السيد الموتور: «إن زوجك يا سيدتي لذو مستقبل عظيم أمامه فلا تفسديه عليه ... والمثل يقول: في روما اصنعي كما يصنع الرومان.» قالت غير متهيبة: «وهذا الذي صنعت ... ففي الهند نقدم التحية كما يقدمها الهنود!»
ودعيت إلى وليمة أخرى في القصر فاستطرد الحديث إلى الكلام عن البلاد الألمانية، وراح اللورد ريدنج يقص شيئا من ذكرياته أيام التلمذة هناك، ثم قال: إنني مشوق إلى زيارة تلك البلاد وأخشى ألا أستطيع، قالت السيدة جناح: «ولمه؟» فعاد اللورد ريدنج يقول: «إن الألمان اليوم لا يحبوننا، وهم نافرون منا بعد الحرب، وفي الزيارة حرج على الإنجليزي الذي يذهب إليهم ...» قالت على الأثر في شيء من شيطنة الشباب: «عجبا! وكيف إذن حضرت إلى الهند في هذه الأيام؟»
موت زوجته
وسعد الزوجان على غير الشائع عن زواج الحب أو زواج التفاوت بين الزوجين في السن والعقيدة والنشأة الاجتماعية، ورزقا بنتا سمياها «فينا» ... ثم نكب البيت السعيد بموت ربته وهي دون الثلاثين، وحار جناح في تربية الطفلة الصغيرة فأبقاها عند جدتها لأمها، فادخرت له الصروف فيها نكبة نكأت جرحه الذي لم يندمل بعد نكبته في أمها، فإنها نمت في بيئة زردشتية، فتزوجت من أحد أبناء ملتها على الرغم من تحذير أبيها، وانقطعت الصلة بينه وبين الفتاة بقية حياته.
وقد أوغلت النكبة في قلب الرجل العظيم إيغالا أوشك أن يكون مميتا، ولكنه لم يسمع شاكيا ولا متضجرا ولم يشاهد واجما ولا متوانيا في مهمته القومية، وكل ما تغير منه بعد النكبة أنه أفرط في التدخين، وأنه راح يغرق آلامه في متاعبه السياسية ومساعيه القومية، فاتخذ من النكبة القاصمة مصلحة له ولقضية بلاده، وخلق من الحزن دافعا يضاعف القوة، وأبى عليه أن يثقل همته فيضعفه ويفت في عضده.
ومن المصادفات التي قل أن تتوارد في حياة زعيم كما تواردت في حياة جناح؛ أن الوقت الذي ودع فيه برنامج الوحدة هو الوقت الذي انتهت فيه آية الوحدة في بيته وأسرته، فلم تكن سياسته بعد سنة 1929 التي توفيت فيها زوجته إلا تباعدا مستمرا عن فكرة الوحدة، واقترابا مستمرا من برنامج التقسيم والفصل بين الدولتين، وقد عن لبعضهم أن الحادثين مرتبطان - حادث الأسرة وحادث السياسة الهندية - ولو لم تكن الحوادث السياسية في إنجلترا وفي الهند وفي العالم كافية لتفسير برنامج الانقسام؛ لأمكن القول بأن انقضاء الزواج بين الزعيم المسلم والفتاة الزردشتية كان له شأن في التعجيل، إن لم يكن في التعديل والتحويل، ولكن الخوالج النفسية التي تتعاور النفس في أمثال هذه الأحوال عودتنا أن تكون الذكرى بعد الموت أقوى من العلاقة الحية، فلو قيل: إن ذكرى القرينة المحبوبة كانت هي الآصرة المتجددة بينه وبين السلالات الأخرى بعد موتها؛ لكان هذا أحرى بالقبول من القول على أثر الوفاة في تفاقم سياسة الانفصال، فضلا عن أن الزوجة كانت مسلمة وعاشت مع قرينها مسلمة لا تثنيه عن شيء في أعماله السياسية.
أخلاق جناح
والقول في أخلاق جناح كالقول في حياته الخاصة، فما كانت له أخلاق بين الأقلين تغاير أخلاقه بين الأكثرين، وما كان دأبه في معاملة أعضاء الهيئات الحزبية أو الحكومة يخالف دأبه في معاملة كاتبه أو ضيفه في بيته.
صراحته هنا هي صراحته هناك، واستقلاله في رأيه هو استقلاله في ذوقه، ونزاهته هي حيث كان.
وقد وصفه عارفوه، شخصيا وسياسيا، فتكلموا عنه بلسان واحد يصدق على الحالتين.
قال الدكتور ريدي
Reddi : «إنه فخر الهند وليس خاصا للمسلمين.» وقال سير مودي
Mddi : «إنه شجاع مستقيم لا يبحث عن السمعة، وهو مثال نادر للبراءة من نفاق السياسة.»
وقال الصحفي البرهمي نهال سنغ
Singh - وقد أذاع بعضهم أن تشرشل يسخر جناحا لخدمة غاياته: «إن شعوري أن محمد علي جناح قد يكون هو المسخر لتشرشل، وأنه يتعالى بنفسه أن يجعلها آلة لذلك الوزير السابق من المحافظين.»
وقال مستر آرثر مور محرر الاستيتسمان: «إن صعود نجم جناح في المجلس الإسلامي لا تكفي لتأويله براعته في التنظيم والتدبير، ولكنه كما علمت من المسلمين جزاء له على سيرة طويلة في الحياة العامة تحققت فيها نزاهته عن اغتنام الفرص لنفسه، وإذا كان مستر غاندي معصوما من غواية المال؛ لأن المال لا يغويه فمستر جناح معصوم من غوايته؛ لأنه يملك منه ما يكفيه ويغنيه، واستقلاله الذي تربى عليه في خدمة القانون خير كفيل له بالاستقلال عن المغريات.»
وقال الدكتور السيد حسين: «إنني على معارضتي للباكستان لا يسعني إلا أن أصرح بأن جناحا هو الرجل الوحيد في الحياة العامة الذي هو أرقى ما يكون عن الشبهات. إنك لا تستطيع أن تشتريه بالمال ولا بالهبة ولا بالمنصب، ولم يستفد قط شيئا من البريطان، وما هو من رجال هذا المعدن، فأخلاقه تسامي في الرفعة أرفع الأخلاق التي أثرت عن زعيم في الهند كيف كان، ولم يقبل قط شيئا من البريطان سواء من النفع أو اللقب، وإن كان غاندي قد قبل شيئا منهم بعد حرب البوير، وتعلم جماهير المسلمين أن جناحا هو الرجل الذي لا يعوزه المال ولا يستهويه طمع السلطان.»
ولم يسع هوراس ألكساندر صاحب كتاب «الهند منذ كريبس» أن ينكر عليه الألمعية وتوقد الذكاء، غير أنه أراد أن يعيبه بالتناقض فدفع عنه أشهر التهم التي يرددها خصومه؛ لأنهم لا يجدون تهمة غيرها تلقى من الناس حظا من الإصغاء، وهي أنه حريص على نظام معيشته وهندامه، ولهذا عارض سياسة المؤتمر «غير الدستورية» ... فإذا بصاحب الكتاب يعيبه بالتناقض ؛ لأنه دفع بالعصبة في طريق المقاومة «غير الدستورية» وحولها من الوقار «الأرستقراطي» إلى الجلبة الشعبية!
وغاية ما ذهب إليه نهرو في تفسير خطته أن نجاحه المتأخر قد لواه عن قبول الآراء والاقتناع بما يقترح عليه، فلما سأله لورد مونتباتن في محادثة بينهما عن رأيه الخاص في جناح موجزا في كلمات قال: «إنه رجل تأخر عليه النجاح، ولو أن الحكومة البريطانية تركته حتى يطلب هو ما تطوعت بإعطائه لكان أقرب إلى الاعتدال.»
ونهرو رجل فاضل لا يستجيز لضميره أو يواربه، ولكننا لم نفهم ما يعنيه بالنجاح المتأخر، فإن جناحا نجح في صناعة المحاماة وهو دون الثلاثين، وكان المؤتمر على استعداد لانتخابه رئيسا له ورئيسا لأول وزارة يؤلفها، ورئاسته للعصبة وهو في نحو الخمسين هي تتويج نجاح وليست أول نجاح، وكلام نهرو - بعد - لا يعيب الرجل على أي وجه صرفناه. •••
وقد راجعنا ما قيل عن جناح في كتب قصرت على ترجمته، وكتب أشارت إليه في سياق الحوادث، فلم نقرأ فيها وصفا لحياته الخاصة الأصح أن يقال إنه كذلك وصف لحياته العامة، وإنه بهذه الصفات جميعا منذور لغير الأثرة والأنانية، فصفاته الخاصة والعامة مما يوقف على خدمة الأمم، ولا تستأثر به خدمة فرد من الأفراد، غير مستثنى منهم جناح.
وفاء حتى الممات
قال جناح يوم المناداة بقيام دولة الباكستان: «إن الباكستان وسيلة وليست بغاية.» وإن قيامها ابتداء عمل ليس له انتهاء.
وجاء الواقع بحوادثه التي لا تنتهي ومطالبه التي يأخذ بعضها برقاب بعض، فأعاد ما قاله القائد الأعظم بألف لسان.
وراح القائد الأعظم يعمل في رئاسة الدولة كأنه لم يعمل شيئا قبل ذلك، وكأنه مطالب بعد اليوم بأن يعمل كل شيء.
وكان عمله من قبل مرهقا معنتا فأصبح - بعد النجاح - أشد إرهاقا وعنتا.
وهذا هو النجاح الذي تتشبث به أحلام بني آدم وحواء: أعظم ما يكون أقسى ما يكون على الناجحين.
وقد حدث لليائسين كثيرا أن بخعوا أنفسهم، ولم يحدث لناجح أنه بخع نفسه إشفاقا من نجاحه، وما أغناه عن ذاك؟ إن النجاح لقمين أن يعمل ما لم يعملوه.
إلا أن القائد الأعظم كان يرهق نفسه قبل قيام الدولة، وعنده ذخيرة من القوة يسعفها مدد من الصحة والشباب.
وأما بعد قيام الدولة - وهو في السبعين - فالجهد في ازدياد والطاقة في نقصان.
وعلم أطباؤه هذا ولم يجهله أحد، فما هو من الخفاء بحيث يختلف فيه علم الأطباء وعلم الدهماء.
بل علمه القائد الأعظم قبل أن يعلمه طبيب، وكأنه لم يعلمه ولم يقع في خلده أن يعلمه، فلم يستمع إلى تحذير ولم يحفل بنذير.
وكلما وعد أن يمسك عن العمل، أو أن يجعل لعمله حدا، غلبته شهامة قلبه فنسي الوعد الذي لم يتعود قط أن ينساه، وأكب على عمل جديد، تعقبه أعمال جديدة؛ لأن الكف عن العمل - وهو ناظر إلى مطالبه - يتقاضاه من القلق والجهد أضعاف ما يتقاضاه شغلان فكره بالأعمال، وعذره لنفسه سائغ معقول.
إلا أن الشيخوخة في السبعين، ومعها إعياء القلب، لا تسيغ ذلك العذر ولا تعقله، ويستوي عندها من يجترئ على حكمها القاهر معذورا أو غير معذور.
إلى أن بلغ الكتاب غايته وحم الأجل في يوم من أيام الصيف التالي لقيام الدولة الفتية، فشوهدت في سماء العاصمة طائرة قادمة من «بلوخستان» في ساعة الغسق، قل من كان يعلم ما فيها تلك الساعة ... وفيها القوة المحركة للدولة كلها، جاءت إلى عاصمتها لتصبح رفاتا بعد ساعات.
وكان حرس المطار من العارفين بوديعة تلك الطائرة المدلجة في الظلام، فأدوا لها التحية، وشاهدوا - لفرط دهشتهم - آخر حركة «رسمية» لذلك البنيان النحيل الذي ما كف يوما عن الحركة: يتحامل على نفسه ليرد التحية وهو بين الحياة والموت.
وبلغت الساعة العاشرة منتصفها حين أذن القضاء بختام تلك الحياة، وسرى النبأ بطيئا بطيئا كأنه ينوء بحمله الثقيل، وخف الوزراء إلى الدار يمشون كالأشباح بين حجرات غارقة في الضياء.
وعجت الدار بالنشيج المختنق، وانفجر النشيج بعد مغالبة لم تفلح، فترامى في جوانب القصر رجال أشداء، جبابرة من جنود الحرس في موكب القائد المسجى على فراشه، تعودوا أن يذهبوا به وأن يعودوا به من حيث ذهبوا، وعلموا أنهم عما قليل سيذهبون به إلى حيث لا عودة، وسيذهبون به ولا يسمعون له صوتا، وقد عهدوا له - حيث ذهب - صوتا مسموعا يتجاوب صداه في الدنيا، ويصغي إليه المنصتون في كل مكان.
وإلى جوار الجثة ظل لا يهتز ولا ينشج ولا يهم بالنشيج: تلك هي الآنسة الشقيقة في السواد، وهول الصمت في عينيها الجامدتين أشد من هول الدموع في أعين أولئك المردة الناحبين.
وما هو إلا أن سرى النبأ المرهوب في أنحاء العاصمة حتى غص الطريق بالوافدين: مائة ألف، مائتان ثم اشتملت الطرق المحيطة بالدار كل من في المدينة من قادر على المسير، لم يتخلف رجل ولا امرأة ولا طفل صغير.
وفتحت الأبواب للجموع المشيعة تلقي النظرة الأخيرة على الوجه الذي لن تراه بعد اليوم، فتعاقبت في نظام لم ينظمه أحد غير ما في باطن النفوس من خشوع، واستند بعضهم على أكتاف بعض يبكون، وألعج قلوبهم بالحزن وفجر عيونهم بالدموع تلك الابتسامة التي ارتسمت على الوجه القوي الوقور، رسمها الموت حيث ضنت متاعب الحياة أن تتركها هنالك مرتسمة عليه كل يوم.
من قال إن النقيضين لا يجتمعان فليمدد بصره إلى دخيلة النفس البشرية في ساعة من ساعات الهول: تصدق ولا تصدق، وتعجب ولا تعجب، وتحس الهول وكأنها لا تحسه، أو كأنها تتحداه بالأمل الذي يتراوح فيها بين الضمور والظهور.
قد مات القائد الأعظم ... يا للهول!
هل مات القائد الأعظم؟ كلا، إنه لم يمت ... لعله وهم، لعله خبر كاذب، لعلها معجزة تتجلى بعد حين ... من قال إن رجلا كهذا يموت؟
وفي ساعة الهول هذه كانت الآية الكريمة في كل خاطر تفرق بين الشك واليقين
وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم ... وكانت حوقلة المحوقلين عصمة الحائرين ومنفس المكظومين، لا حول ولا قوة إلا بالله، يسمعها السامع ويجيب بها المجيب.
وفرغت المنابر وأصوات الإذاعة في جوانب الباكستان لتلاوة القرآن الكريم يتخللها من ساعة إلى ساعة إعلان النبأ ، والترحم على الفقيد العظيم.
قال زائر لعاصمة الباكستان بعد الوفاة ببرهة غير قصيرة: إنني كنت أعبر الطرقات وأحسب أنني سمعت القائد الأعظم في رؤيا حلم؛ لأنني كنت أشعر بمحضره حيث مشيت وحيث نظرت، ومن العسير علي أن أصدق بموت إنسان يطل علي وجهه من كل مكان.
إن حداد الباكستان على جناح كان حداد أمة على أبيها، وكان في العيون والوجوه والقلوب، ولكنه وفاء ساعات أو أيام أو شهور، ثم تسكن النفوس إلى القضاء كما قال شاعرنا الحكيم:
وللواجد المكروب من زفراته
سكون عزاء أو سكون لغوب
أما الوفاء الخالد، الجدير بالزعيم الخالد، فهو تخليده في عمله وأمله، وتصديق وصاياه فيما بقي من تراث مجده، وإنه لتراث حي ما بقيت أمته كما أرادها وتمناها، وما فهم الأوفياء هذا المعنى من الوفاء، وأيدوه بالعزم والصبر والولاء.
الباكستان بين الماضي والحاضر
مفارقة متعمدة
منذ سنتين (أي في سنة 1950) صدر في إنجلترا كتاب باللغة الإنجليزية اسمه «خمسة آلاف سنة من تاريخ الباكستان» لمؤلفه (ر.ا.م.هويلر)
Wheeler
مدير الحفريات السابق في الحكومة الهندية.
مفارقة بينة على غلاف الكتاب، واعتراف في أول سطر من سطور المقدمة بتعمد هذه المفارقة؛ لأن أمم الأرض جميعا كانت تعلم يوم صدور هذا الكتاب أن الباكستان دولة جديدة لم يكد يمضي على إنشائها أربع سنوات، وأنها جديدة باسمها كما أنها جديدة بنشأتها؛ لأنه اسم لم يكن معروفا في لغة من اللغات قبل الربع الثاني من القرن العشرين.
جاء في السطر الأول من مقدمة الكتاب «إن عنوان هذا الكتاب مفارقة متعمدة، ولكنها تشتمل على حقيقة أساسية.»
أما هذه الحقيقة الأساسية فهي أن البلاد التي شملتها الباكستان الآن - أو شملت معظمها - هي الهند التي عرفتها الأمم قديما، ثم أطلقوا اسمها على البلاد الهندية كلها في القرون الأخيرة، فلم يعرف الفرس والصينيون واليونان والعرب شيئا يذكر عن داخل البلاد الهندية، وكلما وصلوا إليه وهمهم أن يعرفوه هو مداخل الهند الغربية على بحر العرب ومداخل الهند الشرقية على خليج البنغال، وهذه على وجه التقريب هي دولة الباكستان اليوم.
قصد السياح والتجار والغزاة إلى تلك الشواطئ قبل آلاف السنين، وحملوا منها السلع والمحصولات إلى أرجاء العالم شرقا وغربا، وتبين من «الحفريات» الحديثة أن الحضارة على تلك الشواطئ معرقة في القدم، وأنها عرفت فنونا من الأبنية والمصنوعات تشهد لأهلها بالخبرة في العمارة والصناعة، وتترجم عن ثقافة دينية متقدمة بالقياس إلى المعتقدات التي كانت شائعة في تلك البقاع قبل الميلاد بثلاثة آلاف سنة، ولا يزال علماء الحفريات يكشفون بين آونة وأخرى عن معلومات تتم مواضع النقص في ذلك التاريخ العتيق.
ويؤخذ من المعلومات المكشوفة، ومن التواريخ المعروفة؛ أن مسالك التجارة والسياحة بين الهند والعالم الغربي قد اطردت في سبلها المطروقة التي عهدها الناس إلى أواخر القرون الوسطى، وهي سبل البحر إلى العراق واليمن، ثم سبل البر منها إلى مصر والشام.
وقد كانت الدول الكبرى في العصر القديم تتسابق إلى السيادة على تلك السبل، فبسطت فارس سلطانها على اليمن لتجمع بين يديها سائر السبل من شبه الجزيرة العربية، وأراد الرومان أن ينتزعوا هذه السبل جميعا فجردوا حملاتهم على العراق واليمن، وقنعوا آخر الأمر بالسيادة على منتصف الطريق، فتكفلوا بحماية الأمراء الغساسنة في صحراء الشام، ورشحوا للملك في مكة قبل الإسلام زعيما من قريش يدينون له بالطاعة في ظل قيصر، ولم يكن في طاقة قيصر أن يفرض الملك عليهم بالقوة فهددهم بإغلاق أبواب الشام في وجوههم، وأمر الغساسنة بالترصد لهم على تلك الأبواب، وحال ضعف الدولة الرومانية في ذلك العصر دون مرماها في جوف الصحراء.
وهكذا استقلت مكة بطريق التجارة من الهند، إلى اليمن، إلى مصر والشام.
وهكذا نسج التاريخ إحدى موافقاته التي تمتد من مئات السنين قبل الدعوة المسيحية إلى مئات السنين بعد الدعوة المحمدية، وجاز لمن شاء أن يقول: إن الباكستان أقامت مكة قبل الإسلام، وإن مكة - بعد الإسلام - قد أقامت الباكستان.
أراد الفراعنة من قديم الزمن، ثم أراد القياصرة بعدهم، أن يجعلوا البحر طريقا لتجارة الهند فغلبتهم سفينة الصحراء وانتظمت رحلة الشتاء ورحلة الصيف على أمواج الرمال، كما كانت قبل ملك القياصرة والفراعنة، واستقرت لهما مرحلة وسطى في منتصف الحجاز، فذاك حيث قامت مكة في الجاهلية الأولى، تتلقى قوافل الشتاء من الجنوب، ثم تلقي بها مع قوافل الصيف إلى الشمال.
الباكستان الجديدة
وبعد سبع وأربعين وتسعمائة وألف سنة من الميلاد المسيحي، ولدت الباكستان الجديدة باسمها، والجديدة بأسباب وجودها، إلا سببا واحدا غير جديد عليها، وهو الدين الذي ظهرت رسالته في مكة منذ أربعة عشر قرنا، ولولاه لكان للشرق كله تاريخ غير تاريخه المعلوم.
معجزة من معجزات الإيمان التي لا تنقضي مع الزمن: معجزة تتحدى التجارة، وتتحدى المنفعة، وتتحدى سلطان الدول، وتتحدى المعقول والظنون، وتتغير السبل ويتغير السالكون فيها، ويبقى الإيمان فيصنعها معجزة خارقة لم يصدق بها أحد قبل وجودها، ثم توجد فيصدق بها من يرى ويسمع، وتصبح بعد ذلك سندا للعقول التي عرفت بها الممكن والمستحيل، وقد كانت تخلط خلطها الذريع بين الممكن والمستحيل.
أمكن ما لم يكن في الإمكان.
شجرة تحمل تسعين مليونا من الفروع الآدمية، تنقطع جذورها جميعا، وتنغرس جذورها، ولا تذبل ولا تفنى، بل يسرع إليها النماء والإيراق، ومن حيث قدر لها الذبول والفناء.
معجزة في زراعة الشجر.
أما في زراعة الأمم فوصفها بالإعجاز قصد واعتدال، ولو كانت مع الزارعين هنا كل معداتهم لعظمت المشقة وناءت بها كواهل العصبة أولي القوة، ولكنهم كانوا يغرسون المعدات كما يغرسون الفروع، ويخلقون التربة كما يخلقون غروسها وثمارها، ولا قبل لهم بالانتظار، يوما أو بعض يوم؛ إذ كل يوم جديد، يأتيهم بقطع جديد، ووصل جديد.
لقد حسبوا عدد المهاجرين إلى الباكستان فبلغوا ثمانية ملايين: حسبوا عدد المهاجرين وحدهم كأنما كان سكان الباكستان الذين بقوا فيها قد خرجوا من عداد المهاجرين المتنقلين، وما بقي منهم أحد على قراره الذي استقر عليه قبل نشأة الباكستان، وما كان منهم أحد إلا وهو في حكم المهاجر من مكان إلى مكان، المنقطع عن منبت في طريقه إلى منبت، الماثل على أبواب حكومته يسألها عن مصيره ومصير مورده ومصدره، وكلما أشير له إلى مصير إذا به قد تحول وتحول معه ألف مصير، والمدد متلاحق متسابق، والسكوت عنه يوما مشكلة تتبعها مشكلات.
دوامة في إعصار، ولا سبيل إلى الدوار؛ لأن الدوار غرق عاجل بغير قرار. •••
وقد قيل: إن الإخفاق صدمة وإن النجاح عبء يكبر كلما كبر النجاح.
وأطوار الأمم تتوالى بالشواهد على صدمات الإخفاق وأعباء النجاح في مختلف العصور، أما في عصرنا الحاضر فهذا المثل أقرب الأمثلة على أعباء النجاح التي تخف إلى جانبها صدمات الإخفاق.
وقد كان الزعماء المشرفون على بناء الدولة الجديدة ينتظرون عونا موعودا ويتأهبون للمتاعب كما قدروها، فأما العون المنظور فلم يأت، وأما المتاعب فقد جاء منها ما هو مقدور وما ليس بمقدور.
كان للباكستان حصة من أموال الدولة يقضي اتفاق التقسيم بتسليمها إليها، فلم يتسلموها.
ونقلت إليها في الطريق بعض الودائع التي لا خير في احتجازها، فاغتالها الطريق نهبا وإتلافا قبل أن تبلغ الحدود.
وخرجت الباكستان من القسمة بظلم المكان بعد ظلم السياسة، فكان نصيبها من ودائع الأرض، ومن الخيرات التي لا تنقل، أصغر النصيبين، وكادت أن تخلو من المصانع والمدارس كما خلت من أنفس المناجم وأصلح الموانئ، ولم تظفر بحصة قط في تراث التقسيم إلا كانت هي المرجوحة المزهود فيها من الحصتين.
أما المتاعب التي جاءتهم على غير انتظار، أو على خلاف ما قدروه، فأولها متاعب الطابور الخامس مأجورا وغير مأجور، فاستغل الدساسون ربكة القلق التي ساورت أصحاب المصالح وزينوا للضعفاء منهم أن ينفصلوا باختيارهم؛ لأن علاقاتهم بأقاليم الهند أوثق من علاقاتهم بأقاليم الباكستان، وأشاع بعضهم أن الحكومة في صدد إلغاء اللهجة البنغالية التي يتكلمها أكثر من نصف السكان، وأشاعوا أن القبائل ستحكم على نظام جديد، وهي تلك القبائل التي لم تعرف نظاما للحكم منذ آلاف السنين غير نظامها الموروث، وأشاعوا أن الحكومة سترفض الدين و«تتفرنج» في تقرير قواعد التعليم والقضاء، وكان على ولاة الأمر أن يلاحقوا هذه الإشاعات بالتكذيب العملي تكذيب الوقائع الملموسة قبل أن تستفحل وتستعصي على التدبير؛ لأن تكذيب الأقوال في هذه الأحوال قلما يصغى إليه.
وعرف القائد الأعظم أن العدو الأكبر في هذه الغاشية المتراكبة هو الرشوة والسوق السوداء، فضرب على أيدي المفسدين من الموظفين والتجار بغير رحمة، ولم يكن له مناص من قمع الرشوة والعمل على استئصالها من دواوين الحكومة؛ لأن التجارة الصادرة كلها قد آلت إلى أيدي الدولة، فلا أمل في عمار الدولة مع العبث والفساد في الدواوين.
ولا نطيل في سرد المتاعب، ولا في سرد الجهود التي تغلبت عليها، فقد تغني عن الإطالة هنا مقابلة الأرقام في باب واحد بين السنة الأولى بعد التأسيس والسنة الخامسة؛ إذ ارتفعت موارد الدولة من نحو ستمائة وسبعين مليون روبية إلى نحو ألف ومائتين وسبعين مليونا، وزاد الوارد على المنصرف بعد أن كانت ميزانية الدولة منصرفا لا مورد له على الأكثر غير القروض.
أما نظام الحكم في الدولة فهو قائم على أساس الديمقراطية والدستور، وأن تكون الأقاليم مستقلة في حدودها مشتركة في الشئون التي تتوحد في الدولة، وهي شئون الدفاع والسياسة الخارجية وتدبير العملة، وأن تسأل الوزارة أمام الهيئة النيابية في العاصمة، ويختار كل إقليم هيئته النيابية التي تراقب حكومته، وسيحرص الدستور على تمثيل المصالح في جميع الطبقات، وينص على تخصيص الدوائر لتمثيل الصناعة، والزراعة، والتجارة، والعمال، ومعاهد التعليم العليا، ويعطي المنبوذين من البرهميين الذين فضلوا الإقامة في الباكستان على الهجرة إلى الهند حقا يخولهم أن ينفردوا بانتخاب ممثليهم، وكذلك يعطي هذا الحق للمسيحيين حيث يكمل لهم عدد يستقل بالانتخاب.
والعصبة الإسلامية اليوم هي الجماعة السياسية التي تتمثل فيها آراء القادة في الباكستان، ولكنها لا تتألف من حزب واحد في مذاهب السياسة والاجتماع؛ إذ يوجد فيها غلاة الاشتراكيين كما يوجد فيها غلاة المحافظين، ويوجد فيها من يحاربون رأس المال ومن يؤيدونه ويستديمونه، ويوجد فيها على الأغلب الأعم من يرون أن الإسلام طريق ثالث بين طريق رأس المال وطريق الشيوعية، ويمكن أن يقال إن العصبة الإسلامية تعبر عن مبادئ المؤمنين بقيام دولة الباكستان، خلافا لمن كانوا يعارضون قيامها ويتخذون لهم وجهة غير وجهتها، ولهذا تعتبر العصبة أن من يعارضونها من خارجها معارضون لتكوين الدولة في أساسها، وتسمح بالمعارضة في داخلها ولا تسمح بالمعارضة من خارجها، ونحسب أن الحذر من هذه المعارضة في دور التكوين وشيك أن يتسهل بعد تصعيب، وأن يكون زواله علامة على زوال الخطر على كيان الدولة وسلامة المجتمع، فلا تصبح معارضة العصبة معارضة للدولة والأمة، ولا تحتاج أحزاب السياسة إلى رقابة غير رقابة الرأي العام. •••
ليس في وسع منصف أن ينظر إلى العمل الرائع الذي تم في هذه الدولة الناشئة خلال خمس سنوات بغير نظرات الإكبار، وليس في وسع منصف أن ينكر عليهم صدقهم واقتدارهم وحسن تصريفهم للأمور التي تجل أحيانا وتدق أحيانا عن التصريف، وليس في وسع منصف أن يضن عليهم بالمعاذير فيما عرض لهم من النقص وتورطوا فيه من الأخطاء، وليس في وسع منصف أن ينفي عنهم كل نقص ويعصمهم من كل خطأ، فمن يتكلم عن العصمة لا يتكلم عن إنسان.
إلا أن الشهادة التي هي أعظم وأشرف من كل شهادة لهؤلاء القادة هي التعالي عن استغلال الغرائز الثائرة؛ تمكينا لأنفسهم في مناصب الحكم، وتمهيدا للبقاء فيها وتغشية لأعين الجماهير عن التنبه لما يقعون فيه من الأخطاء، ويؤخذ عليهم من العيوب.
ففي مثل هذا الموقف، بل في أهون من هذا الموقف، يندر أن نرى زعيما يتعفف عن كسب «الحماسة الشعبية» له ولسلطانه بإذكاء الضغينة وإثارة العصبية، وتغذية الكراهية بين الطوائف والأقوام بكل ما يلعج الخواطر ويلهب النفوس، ويفتح آذانها كل يوم لما يلقيه في روعها، ويغلق آذانها كل يوم عن سماع الحق والإصغاء إلى النقد الصحيح.
رأينا هذا في دولة النازيين، وفي دولة الفاشيين، وفي دولة الشيوعيين، ورأينا زعماء هذه الدعوات يحرضون طائفة على طائفة، وحزبا على حزب، وجيلا على جيل، بل رأيناهم يحرضون أقوامهم على العالم بأسره مصوريه لهم في صورة العدو الذي يتحفز لهم ويتربص بهم، ويتحين الفرص للانقضاض عليهم، ولا يبالون ما وراء هذا الغل الدفين من شر يحيق بهم وبمن حولهم، ولا يسلم منه قريب ولا بعيد.
فمن الشهادة العالية لقادة الباكستان أنهم تغلبوا على هذا الإغراء مع وفرة المغريات وكثرة العداوات، وأنهم لم يتعففوا عن إثارة الغرائز وكفى، بل عقدوا العزائم على تصفية القلوب وغسل الصدور ومحو الترات، وجعلوا هجيراهم أن يقربوا بين المفترقين ويفثأوا سورة الغاضبين، واستهدفوا من جراء ذلك للغيلة والإيذاء، ممن حسبوا طيشا منهم وجهالة أن حسم العداء والبغضاء ممالأة للأعداء.
هذه شهادة لهم أرفع من كل شهادة بالخبرة والاقتدار على التصرف في الأزمات والمفاجآت؛ لأنها تسجل لهم أنهم قادة أمة وليسوا مجرد حكام محترفين للسياسة، وأن إخلاصهم لأمانتهم مقدم عندهم على الإخلاص لمناصبهم ومنافعهم، وهي روح شماء لولاها لما أنجزت الباكستان بعض ما أنجزته في أقل من خمس سنوات، وبمثلها في الأمم الهندية والآسيوية على العموم يرجى أن تنحل العقد الشائكة وتنحسم المنازعات المتشعبة، فإن أمم الشرق أحوج إلى القوى التي تبددها تلك العقد والمنازعات على غير جدوى، وأحق أن تتوفر بها على لم شملها وجمع عزائمها، والتعاون فيما بينها على أداء رسالتها الإنسانية واللحاق بركب الحضارة الذي تخلفت عنه عدة قرون.
دروس نافعة
ما أكثر معارض البحث والنظر في سيرة الباكستان وسيرة قائدها الأعظم: كلها معارض بحث ونظر، وكلها دروس تجدد آراء الدراسين فيما فهموه قديما من أسرار المجتمعات، وظواهر الدول التي خيل إليهم أنهم فرغوا منها أو يئسوا من الفصل فيها، ومنها ما هو فيصل التفرقة في مسألة المسائل جميعا، وهي مسألة العالم ومصيره أو مسألة الجماعات البشرية وبواعث تكوينها وتماسك أجزائها.
هل الحكم كله في مسألة المسائل هذه للمعدة أو للضمير؟ هل للبطولة شأن في حياة الأقوام أو هي في حياة الأقوام صفر على اليسار؟ هل المادة وحدها هي الترجمان المفسر للتاريخ، أو لهذا التاريخ مفسرات أخرى قد تهزم تفسير المادة وتنقضه وتتحداه؟
في موقف الفصل هذا نجحت الدولة الطارئة كأنما بعث بها الغيب فيصلا للتفرقة في هذا التنازع بين الضمير والمعدة على مستقبل الأمم، ومصير الجماعات الإنسانية.
نجحت هذه الدولة الطارئة من جهة لتبسط حكمها على مسافة من الأرض ومن الجهة الأخرى لتبسط حكمها على مسألة المسائل وقضية القضايا، وتصحح للمفكرين آراءهم وتصحح للعقول مناهجها في التفكير، وتضع الأسناد بين القائلين بالمذاهب السياسية أو الاجتماعية عملا لا قولا، وواقعا لا جدلا، بل عملا واقعا في جثمان يملأ الآفاق، ويحصيه الحساب بألوف الفراسخ وملايين الأرواح.
وقد وصلت إلينا، ونحن نكتب الصفحات الأخيرة من هذا الكتاب، مجموعة البحوث الدولية عن السنة المتداخلة بين سنتي 1950 و1951، ونعني بها المجموعة التي تطبعها جامعة هارفارد بإشراف الأستاذ بادلفورد
العالم الخبير بشئون الدراسات الدولية، فإذا بقيام الباكستان قد دخل في عداد الأسانيد التي تجدد المقررات والمعلومات عن بواعث التاريخ الكبرى، وعن التعريف الصحيح لمعنى الأمة ومعنى الجنس أو السلالة.
يقول سير ارنست باركر في باب القومية على ضوء التجارب العصرية:
ليست الأمة حقيقة بدنية من دم واحد، ولكنها حقيقة عقلية أو نفسية من تراث واحد.
واستطرد البحث إلى العامل الديني في تكوين الأمم فقال الأستاذ: «كان الرأي الشائع إلى زمن قريب أن أثر الدين في تكوين الأمم يتضاءل ويضمحل، وهذا الاعتقاد في تضاؤل أثر الدين في شئون السياسة يتطلب التنقيح بعد قيام دولتين على أثر الحرب قائمتين على الوشائج الدينية؛ وهما دولة الباكستان المسلمة، ودولة إسرائيل اليهودية.»
ثم استطرد الباحث إلى سحر البطولة وفعله في استجاشة الآمال والأحلام بين الأمم الآسيوية في العصر الحاضر، فاعتد «الشخصيات» المقدسة عاملا من أقوى العوامل في تطور الأمم وتحويل مجراها.
من هذا الجانب الفسيح الرحاب ينظر إلى قضية الباكستان كل من ينظرون إلى حاضر الإنسان ومصيره، وإلى الدوافع الفعالة في حركات آحاده وجماعاته، ولا ينحصر النظر إلى تلك القضية في نطاق المسائل الشرقية والمسائل الإسلامية، ومهما يكن دين المعتقد أو رأيه في الأديان فليس محور النظر هنا عقيدة مسلم أو عقيدة مسيحي، أو عقيدة برهمي، أو تفضيل عقيدة على عقيدة، أو إثبات عقيدة وتفنيد أخرى، وإنما محور النظر هو: معدة أو ضمير؟ جسد أو روح؟ بطولة إنسانية أو تكرار أعداد وأرقام؟
ومن فضل الباكستان في نشأتها أنها قامت فرجحت في ميزان التاريخ جانب الضمير، ومن حق كل مؤمن بعقيدة يدين بها ضميره أن يغتبط بهذا الترجيح، سواء في ذلك المسلمون والبرهميون.
موازنة بين غاندي وجناح
ما وراء التاريخ ... كل تاريخ
علم وزير إنجليزي من أحرار العمال أن الهند تمضي في طريق الحرية؛ لأنه رأى فيها زعيما يملك شجاعة الرأي ويواجه بها المئات من المخالفين منفردا مصرا على استقلاله، وهو محمد علي جناح.
والعلامة التي لمحتها فراسة السياسي الخبير علامة صادقة، ولكن هناك علامة أصدق منها على استعداد الهند للحرية، وهي أنها احتاجت إلى زعيمين صالحين لقيادتها في طريق الحرية فوجدتهما حيث احتاجت إليهما، وهما غاندي في الهند، ومحمد علي جناح في الباكستان.
كلاهما صالح لقيادة أمته.
وكلاهما عمل غاية ما يرجى من الزعيم لأداء أمانته.
كلاهما رسم الخطة التي تكره المستعمر على الجلاء، فنفذت كما رسم، وإن اختلفا بينهما فيما رسماه.
وكلاهما ولا شك كان مخلصا لمبادئه، مخلصا لدعوته، مخلصا في وجهة نظره، ولهذا لزم الوجهتين قائدان، ولزم كلا منهما أن يقف أمام صاحبه موقف المعارضة والخلاف.
وإذا رأينا أن أحدهما كان أقرب إلى الدهاء، وأن الآخر كان أقرب إلى الصراحة فذلك هو حكم القضيتين عليهما، أو ذلك هو حكم الإخلاص عند كل منهما لقضيته ووجهة نظره.
كان غاندي يطلب التغليب والتسليم بسياسة واحدة، ولا معدى لمن يطلب هذا من محايلة ومحاولة.
وكان جناح يطلب الانفصال ويرفض السيادة الواحدة، ولا معدى لمن يطلب هذا من صراحة ومجاهرة بكل ما يريد.
إن المقابلة بين العظماء أنفع الدراسات النفسية، فهي دراسة نافعة لفهم حقيقة الإنسان وفهم حقيقة الجماعات، ونافعة لكل من يعنيه أن يحسن تقدير الأعمال الكبرى والدعوات الشاملة، ونافعة لمتعة العقل وتوسيع آفاقه.
غاندي وجناح.
وما من مقابلة أو موازنة بين عظيمين تخلو من منافعها الفكرية والعملية في جميع هذه الأغراض.
إلا أن الموازنة بين الزعيمين الهنديين تذهب بنا إلى مدى أوسع جدا من الموازنات الشائعة بين الزعماء من قبيل واحد أو من أنماط متعددة؛ لأنها تكشف لنا النقاب عن سر من أسرار التاريخ طالت فيه المناقشة، بل طالت فيه المكابرة، ولا تزال تطول.
هل المرجع في التاريخ إلى ضمير الإنسان، أو إلى المادة الذي توزن حينا بميزان الطعام، وتوزن حينا بميزان النقد في الأسواق؟
والمقابلة بين الزعيمين الهنديين تجيب على هذا السؤال جوابا يحار في نقضه من يستضعفون عمل الضمير، ويرجعون بكل عامل من عوامل التاريخ إلى «المادة» بمختلف الأسماء.
ها هنا رجلان ولدا في إقليم واحد، وهو إقليم راجكوت ودرجا في جيل واحد، وهو الجيل الذي نشأ في النصف الثاني من القرن التاسع عشر.
وتكلما في صباهما بلغة واحدة وهي اللغة الكوجراتية.
ونبتا في طبقة واحدة، وهي الطبقة الوسطى المتيسرة التي يغلب عليها اليوم اسم البرجوازية.
وتعلما على نسق واحد، فدرسا القانون في الجامعات الإنجليزية، بعد إتمام الدراسة الثانوية في البلاد الهندية.
والسن بينهما متقاربة، بل التكوين البدني فيهما يتقارب إلى الدقة والنحافة، وإن كان أحدهما إلى الطول والآخر إلى القصر.
واشتغلا بالمحاماة أولا ثم اشتغلا بالسياسة في ميدان واحد؛ وهو ميدان القضية الهندية أمام الاستعمار البريطاني كما يتولاها حزب المؤتمر.
ثم حكمت العقيدة الدينية حكمها؛ فإذا بكل منهما في طرف من طرفين لا يلتقيان.
وليس المفترق بينهما في برامج السياسة التي تتغير بتغير الحكومات والأحزاب، بل هو مفترق في أطوار الفكر والمزاج كأنهما ينتميان إلى أبعد الأقاليم والبيئات، ولم ينتميا قط إلى إقليم واحد وطبقة واحدة، أو يتكلما في المهد والصبا بلغة واحدة، ويتخرجا في الشباب والرجولة من معاهد تعليم واحد.
هذا يقاطع الحضارة، وذاك يستزيد من الحضارة.
هذا يرى القوة في تحطيم الصناعة الكبرى، وذاك يرى القوة في تأسيس هذه الصناعة الكبرى وتدعيمها.
هذا يعول على المقاومة «السلبية» على شرعة الاهمسا، وذاك يعول على التنظيم والتأهب بالجماعات المنظمة للعمل في حينه، وكما تقتضيه دواعيه.
هذا يسميه قومه «المهاتما» وذاك يسميه قومه القائد الأعظم، وفي مفترق التسمية مفترق المسميات، كأبعد ما يكون الافتراق.
لم يختلفا قط إلا في عقيدة الضمير، ولم يتفقا في شيء قط بعد ذلك، حين دخلا في ميدان العمل الحاسم، وكلاهما مخلص لعمله بغير جدال.
والرجلان في هذا مثالان صادقان للأمتين: أمة الهند الكبرى من البرهميين، وأمة الباكستان الناشئة من المسلمين.
لم تكن الوحدة الجغرافية هى التي فعلت فعلها الأكبر في نشأة الباكستان، فإنها شطران من الأرض بين الشرق والغرب يفصلهما أكثر من ألف ميل.
ولم تكن الوحدة الاقتصادية هي التي فعلت فعلها الأكبر في نشأتها؛ لأن السكان في شرقها يزدحمون كل سبعمائة في الميل المربع، ولا يزيدون في غربها عن مائة في الميل، ومحصولاتها الرائجة تصنع في غير مصانعها، ومنها جهات لا محصولات فيها ولا صناعات، وجهات تتعلق مرافقها بالشقة الأخرى من الهند البرهمية.
ولم يكن جنس السلالة هو الفارق بين الهند والباكستان، فإن محلل الدم لو أغمض عينيه وحلل دم ألف من أهل الباكستان، ودم ألف من أهل الهند لخرج من التحليل بنتيجة متقاربة، أو لكان الفارق بينهما كالفارق بين ألف من الباكستان وألف أيضا من الباكستان.
وليس في وسع أحد أن يبرز عاملا واحدا مفسرا للتاريخ كما برز عامل العقيدة وحدها في الباكستان، فهو العامل الموجود حيث تختفي جميع العوامل أو توجد على ضعف وتفرق، وهو العامل الذي قام وحده في وجه كل العوامل، فكان له قضاؤه الذي لا مرد له ولا معقب عليه.
ويترائى لنا من مراجعة التاريخ الحديث خاصة في بلاد الهند أن هذه البلاد ساحة لا نظير لها لتحرير الأصول التاريخية التي يصعب تحريرها في أكثر بلاد العالم؛ لأن تاريخها قد تكفل بعزل كثير من العوامل التي توقع اللبس في ذهن المؤرخ فلا يدري متى تعمل مشتركة، ومتى تعمل على انفراد.
إن الكيماوي الذي يجرب فعل المواد في الأجسام يعزلها واحدا فواحدا؛ حتى يتسنى له الجزم بفعل كل مادة في الجسم الذي يختبره.
والأمم الشرقية والغربية قد اختلطت فيها عوامل الوطنية والجامعة الدينية والتيارات الخارجية وحروب الطبقات والطوائف، فكل ما ينسب فيها إلى فعل عامل من هذه العوامل يجوز أن يشترك فيه عامل آخر، ويصعب تقدير الباعث فيه والغاية على وجه صريح خلو من اللبس والاختلاط.
بيد أن تاريخ الهند قد عزل التيارات الخارجية بعد سيطرة المستعمرين على البلاد الهندية، فكل ما وصل إليها من تيارات الخارج فإنما كان سلطان أولئك المستعمرين، أو مما يأذن به ذلك السلطان.
هذا الذي عنيناه حين قلنا: إن تاريخ الهند الحديث، خاصة، قد تكفل بعزل كثير من العوامل التي توقع اللبس في ذهن المؤرخ؛ فلا يدري متى تعمل مشتركة ومتى تعمل على انفراد.
ومن أثر هذا العزل في دراسة تاريخها أن امتحان دلائل القصد أو المصادفة في التاريخ يتيسر هنا بأقل ما يمكن من دواعي اللبس والإشكال.
عرضنا لهذه المسألة في كتابنا عن غاندي فسألنا: «هل للتاريخ الإنساني وجهة معينة نستطيع أن نتبينها من جملة الحوادث الماضية؟»
وقلنا: إنه سؤال يتوقف جوابه على سؤال آخر وهو: ماذا عسى أن تكون وجهة التاريخ المعقولة إذا تخيلنا له اتجاها يتوخاه على نهج مرسوم؟
والجواب: شيء يتعلق بالفرد، وشيء يتعلق بالناس كافة أو بالإنسانية جمعاء، فالشيء الذي يتعلق بإتجاه الإنسان الفرد هو ازدياد نصيبه من الحرية والتبعة، والشيء الذي يتعلق بالإنسانية جمعاء هو ازدياد نصيبها من التعاون والاتصال.
وزيادة نصيب الفرد من الحرية والتبعة هو المطلب الشامل الذي تنطوي فيه جميع المطالب، فهو أشمل من القول بازدياد العلم أو ازدياد القوة أو ازدياد الفضائل والملكات؛ لأن هذه الخصال كلها تتمثل في زيادة استعداده لحق الحرية وزيادة قدرته على احتمال التبعة.
وكذلك يقال عن التعاون بين عناصر الإنسانية برمتها، فهو أشمل من القول بارتقاء النظم السياسية وارتقاء المعاملات التجارية، وارتقاء الأخلاق الاجتماعية؛ لأن هذه الخصال كلها تتمثل في التقارب بين الأمم والتعاون بينها على وسائل الوحدة والاتصال.
هذا وذاك هما الوجهة المعقولة التي نتخيلها للفرد وحده، وللناس كافة، إذا كان للتاريخ وجهة معقولة تدل عليها الحوادث الماضية.
ثم قلنا: ولم تكن الحروب ولا المطامع حائلا دون هذا الاتجاه، بل لعلها كانت من دوافعه ودواعيه، فأسفرت كل حرب من حروب الرومان، والفرس، والعرب، والصليبيين ، والعثمانيين عن تشابك بين ناحية وناحية من الكرة الأرضية، ومن جراء هذه الحروب تشابكت آسيا، وأوروبة، وأفريقية، وانفتح الطريق إلى القارات المجهولة. «وإذا نظرنا إلى أثر الحروب في المخترعات وتسخير قوى الطبيعة جاز لنا أن نقول: إن وسائل المواصلات قبل غيرها مدينة للحروب بالشيء الكثير، فماذا يكون الطيران والرادار ومحركات القوى جميعا لولا ضرورات الحروب، واشتراك غريزة الدفاع عن النفس في سباق هذا المضمار؟ بل نحن نتعلم من التاريخ أن الدولة الفاتحة لا تدوم إلا بمقدار ما لدوامها من رسالة عالمية، فدولة الرومان دامت حين كانت لازمة للعالم، وأخذت في الانحلال حين بطلت رسالتها العالمية ...»
واستطردنا إلى دلائل ذلك الاتجاه في تاريخ الهند وفي حروب الاستعمار الأوروبي «وهي محنة طامة على الشرق بأسره، نقم منها الشرق لما أصابه من بلواها ورغب فيها الغرب لأمر أراده وأرادت الحوادث غيره، ولم يخطر للشرق ولا للغرب على بال.»
ومما أرادته الحوادث ولم يرده الغرب المستعمر اجتماع كلمة الهند في وحدة تحارب الغرب المستعمر، قلنا إنها - أي الهند: «لم تكن قط وطنا واحدا في عصر من العصور؛ لأنها كانت تتألف من شتى العناصر، وشتى المذاهب، وشتى اللغات، وشتى المصالح، وشتى المواقع الجغرافية، فلم تدافع قط دفاعا واحدا، ولم تشترك قط في هجوم واحد، ولم تجمع قط على مطلب واحد بينها وبين أبنائها، ولا بينها وبين الغرباء عنها والمغيرين عليها، فلما ابتليت باستعمار واحد طغى عليها من أقصاها إلى أقصاها وجد فيها وطن واحد يواجه ذلك الاستعمار بمطلب واحد، وهو مطلب الخلاص منه، كيفما تعددت وسائله بين طلابه.»
وقد تعددت وسائله بين طلابه فكانت الباكستان وكانت الهند، ولكنهما قبل أن تصبحا دولتين كانتا «وحدة» متفقة على مكافحة المستعمر وإكراهه على الجلاء.
ولو شئنا لقلنا: إن قيام الدولتين بعد الخلاص من الاستعمار كان نفعا مضافا إلى نفع؛ لأنه يستصفي لكل منهما جهودها، ويفرغها لرسالتها التي هي أقدر عليها، ويعفيها من المنازعات الداخلية، ويفتح الباب للتعاون بين الدولتين في السياسة العالمية والإنسانية، ولكننا نكتفي باجتماع القوى على محاربة السيطرة الأجنبية؛ لأنه النتيجة الطبيعية التي لا خلاف عليها: نتيجة طبيعية غريبة لمقدمات طبيعية أغرب منها. ••• «أقصد ذا المسير أم اضطرار؟»
إن المؤرخ الذي لا تلجئه هذه الأطوار وأشباهها في تاريخ الهند إلى إلقاء هذا السؤال على نفسه؛ يتعرض للنظر في التاريخ بعين لا تبصر، وليس أعمى من لا يريد أن يرى كما كان يقول جناح.
ومسألة «الزعيم المناسب» في الحركة الهندية الحديثة هي إحدى المسائل التي تلجئ المؤرخ إلى تكرار ذلك السؤال، ولا كذلك مسألة الزعيم في كثير من الأقطار ولا سيما الأقطار الأوروبية، فإن مكان الزعيم فيها يمتلئ كما يمتلئ مكان الحرف الناقص في الصحيفة المطبوعة، مكان محدود وحرف يتمم الكلمة كسائر الحروف، وكلمة معروفة التهجئة في كل الصندوق.
أما الزعيم الذي يأتي إلى مكانه في الحركة الهندية فهو أشبه بالحرف الذي يتعين به هجاء الكلمة ويتعين معناها، ولا تتم الكلمة قبل استقراره في مكانه.
كم تصفية للزعماء تمت قبل بعث العصبة الإسلامية.
كم تصفية للحوادث سبقت قبل أن تتهيأ الباكستان لزعامة جناح، وقبل أن يتهيأ جناح لزعامة الباكستان.
كم تطور جناح، وكم تطورت حوادث الهند، وكم تطورت حوادث آسيا بين الصين واليابان، والسياسة الأمريكية، والسياسة الأوربية على التعميم وسياسة بريطانيا العظمى على التخصيص؟ وكم بدل هذا التطور من عزائم الدول وعزائم القادة قبل الحرب العالمية الثانية وبعدها.
وكم كان لهذا التطور من شأن في إعداد كل خطة، وإعداد كل قضية، وإعداد كل زعيم.
أقصد أم اضطرار؟
سؤال لا بد منه على الأقل، إن كان هناك بد من الجواب على نحو معلوم.
وتحضرنا هنا أحجية الشمسية التي أشار إليها جناح في بعض خطبه، فقد ضحك الناس من أول رجل شوهد في الطريق وهو يحمل شمسية ... فلما كثر حاملوها ضحك حامل الشمسية الأول من أولئك الضاحكين المتعجلين.
مثل للزعيم الذي يبده الناس بفكرة غريبة، ثم لا تلبث تلك الفكرة الغريبة أن تصبح مألوفا كأشيع المألوفات.
والمثل صالح للقياس عليه.
فمتى يكف الناس عن الضحك من حامل الشمسية؟ إنهم يكفون عن الضحك منه حين تكون حاجتهم إلى الشمسية قائمة، ولكنها مجهولة، فيسبقهم أي إنسان إلى إثبات هذه الحاجة، ويلحقون به بعد قليل.
وفي هذه الحالة نسأل: كيف وجدت الشمسية؟ هل وجدت لأن حاملها الأول اخترعها، أو لأن الناس محتاجون إلى اختراعه؟ ومن صاحب الأثر الفعال في هذه الحالة: المخترع أو الذين اخترعت الشمسية لأجلهم، ومن أجل حاجتهم إليها كفوا عن الضحك منه واستغراب مفاجأته؟
وكيف أحس الرجل بحاجة الناس؟ أهي مصادفة أم هي حس أم هي إلهام على غير وعي منه ولا إرادة؟
المحقق أن الشمسية تظل مضحوكا منها لو بقيت بدعة لا تتكرر، والمحقق أنها تبقى بدعة لا تتكرر لو لم يشعر الناس بالحاجة إليها.
والأحجية هي: لماذا اتفق اختراعها والناس يضحكون منها، ولماذا اتفق اختراعها وهم مستعدون للعلم بلزومها؟
هذا هو لغز التاريخ.
مفاجأة غريبة يبدو بعد حين أنها ليست بغريبة، ويتساءل الباحث: كيف تكون مقصودة وهي سخرية الساخرين، وكيف تكون مصادفة وهي حاجة مطلوبة؟ بعض العقول يفسر الأحجية على طريقته فيقول: إننا نحسب الاختراع مقصودا مدبرا؛ لأننا ننسى مئات من المفاجآت التي ضحك الناس منها ثم ماتت ومات ذكرها؛ لأنهم لم يشعروا بالحاجة إليها، فإذا جاءت مفاجأة في حين الحاجة إليها فتلك مصادفة صحت من مئات المصادفات التي عفى عليها النسيان.
وبعض العقول يفسر الأحجية على طريقته فيقول: إن «المصادفة» التي تصح ليست مصادفة؛ لأنها صحت بأسبابها ولم تصح بأسباب غيرها، ولم تدم بعد صحتها بمصادفات أخرى أوجبت لها الدوام.
وبين علماء الطبيعة خلاف كهذا الخلاف بين علماء التاريخ.
هل وجدت العين بهذا التركيب لتنظر؟
أو هي قد نظرت؛ لأنها وجدت بهذا التركيب؟
وبعبارة أخرى: هل هو قصد أو اضطرار؟
ونخال بعد تقليب السؤالين على شتى الوجوه أن الخلاف بينهما كالخلاف بين القائل: إن الغطاء يطابق آنيته، والقائل: إن الآنية تطابق غطاءها! ... فالمهم أن التوافق قد حصل.
غير أن القائلين بالمصادفة يقولون: إنه حصل بعد مليون سنة ولم يحصل بعد لمحة واحدة، فهل هم على صواب ؟ ومن أين لهم أن تحقيق الغرض مرهون بوقت محدود، يشترط فيه على الدوام أنه وقت قصير؟
إن الفريقين يتفقان ويتقابلان في وسط الطريق، فكلهم يقولون: إن الوظيفة تخلق العضو الذي يؤديها، وإن إرادة النظر هي التي أوجدت أشكالا وألوانا من النواظر.
إرادة النظر تسبق النظر.
حسن ... هذا في بنية حيوان صغير أو كبير، فكيف إذا كانت البنية بنية الكون بما رحب من الآزال إلى الآباد؟ أليست ثمة وظيفة تتبعها أعضاء تناسب المقام؟ أليست ثمة إرادة تتبعها أعمال صالحة لأغراضها؟ أيشترط في الوظيفة التي تسبق العضو أن تكون صغيرة محصورة ويمتنع عليها أن تكون عظيمة غير محصورة؟ أيفرض عليها أن تكون جزءا من الكون ويحرم عليها أن تكون في الكون بما رحب من الآزال إلى الآباد؟
غاية الخلاف بين القائلين بالمصادفة والقائلين بالقصد في التاريخ وفي الحياة العضوية أن الغطاء يطابق آنيته، وأن الآنية تطابق غطاءها.
أو غاية الخلاف على وضع آخر أن المطابقة تمت في عشرات الملايين من السنين، أو هي قد تمت في لمحة وما دونها.
خلاف على العرض لا على الجوهر.
وإذا كانوا مع هذا الخلاف يتفقون على سبق الوظيفة للعضو، وسبق الإرادة للوظيفة، فلا حرج عليهم أن يسموا الوظيفة التي تريد للكون كله بما شاءوا من الأسماء، وليفهم من شاء ما بدا له أن يفهم من القصد، وليفهم من شاء ما بدا له أن يفهم من المصادفة، فإنهما كلمتان، معناهما سواء.
ناپیژندل شوی مخ