186

د مغامرة العقل الأولى: دراسة في الأسطورة: سوريا او د رافدين هیواد

مغامرة العقل الأولى: دراسة في الأسطورة: سوريا وبلاد الرافدين

ژانرونه

في حديثه عن الميثولوجيا حاول أن يثبت أن الأساطير الإغريقية قد بنيت في معظمها على أصول كنعانية شرقية، وأرجع معظم آلهة الإغريق إلى جذورهم الفينيقية. وقد وضع معظم أفكاره على لسان كاتب فينيقي قديم عاش في القرن الرابع عشر قبل الميلاد اسمه سانخونياتن مدعيا أن مؤلفه الكبير ليس إلا ترجمة لأفكار ذلك الكاتب العظيم.

ولعل أهم ما بقي لنا من كتاب فيلون-سانخونياتن، هو النظرية الفينيقية في التكوين، التي وصلتنا بسبب تصدي بعض الكتاب المسيحيين لنقدها، في حملتهم التي شنوها ضد المعتقدات القديمة وتفنيدها. وهكذا نجد أن نظرية سانخونياتن التي نقلها فيلو، لم تصلنا إلا عن طريق المصادر المعادية، التي استعملتها وسيلة للنقد والمحاجة، وتثبيتا للفكر المسيحي الجديد. وهذا الوضع برمته يترك مجالا واسعا للشك في صحتها مما سأتحدث عنه لاحقا.

تقول النظرية

19

إنه في البدء لم يكن هناك سوى ريح عاصفة، وخواء مظلم، ثم إن هذه الريح وقعت في حب مبادئها الخاصة وتمازجت. ذاك التمازج كان «الرغبة» وهي مبدأ خلق جميع الأشياء. ولم يكن للريح معرفة بما فعلت، نتج عن تمازج الريح موت الذي كان عبارة عن كتلة من الطين أو مجموعة من العناصر المائية المتخمرة، وكان بذرة الخلق. وكان لموت شكل البيضة عندما تتكون. غدا مضيئا وأنتج الشمس والقمر والنجوم والمجموعات النجمية الكبرى.

ثم التهب الهواء بتأثير التهاب اليابسة والبحر وتشكل السحب وهطل على الأرض ماء مدرارا. وبتأثير حرارة الشمس انفصلت الأشياء وطارت من مكانها لتلتقي في الهواء وتتصادم، فنشأت البروق والرعود، وعلى صوتها أفاقت الحيوانات مذعورة وراحت تنتقل على اليابسة وفي البحر، ذكورا وإناثا.

وتتابع النظرية سرد أنساب البشر بدءا من الزوجين كولبيا وباو، وتعزو لكل جيل فضل اكتشاف من اكتشافات الحضارة، كاكتشاف النار والزراعة وتربية الحيوان وما إلى ذلك، وتشرح كيف عبد البشر أصحاب تلك الاكتشافات وجعلوهم من الآلهة بعد موتهم، إلى أن تصل إلى أورانوس-السماء، وزوجته جيا الأرض، ابني عليون؛ أي العالي أو السامي. ويشرح النص هنا القصة الإغريقية نفسها المعروفة عن قسوة أورانوس على أولاده ومحاولته قتلهم، إلى أن يأتي كرونوس، أحد أولاده، الذي يتغلب عليه بمعونة صديقه هرمس ويأخذ سلطانه. وهو الذي بنى أول مدينة فينيقية وهي جبيل. ولكن أباه أرسل له ثلاث بنات لقتله، فما كان من كرونوس إلا أن استمالهن وتزوج بهن. فولدت له الأولى وهي عستارت سبع بنات وولدين؛ أحدهما يوثوس، والآخر إيروس. وولدت له الثانية وهي رحيا أيضا سبع بنات. ولما تابع أورانوس الحرب ضد ابنه كرونوس قام الأخير بمفاجأته في كمين وقبض عليه وأخصاه، ففاض دمه في الجداول والينابيع.

ولا أريد المضي في سرد مزيد من التفاصيل حول هذه النظرية، مكتفيا بما سردته. إن زيف النص يبدو واضحا للعيان دون كبير مشقة أو جهد في تمحيصه. وسأنطلق في نقده من ثلاث زوايا ؛ الزاوية الأولى: ما يقدمه لنا النص نفسه، بصرف النظر عن أية عناصر خارجية. والزاوية الثانية: ملابسات وصول النص إلينا، والقنوات غير المتعمدة التي سلكها. والثالثة: ما قدمته لنا حفريات رأس شمرا من مقارنات مفيدة مع أمثال هذه النصوص المتأخرة.

أولا:

إن قراءة أولى للنص تظهر لنا أنه قد كتب بروح وخلفية وثقافة يونانية؛ فروح الفلسفة الإغريقية تشع من كل حرف من حروفه، وخاصة في مقدمته، عندما كانت هناك ريح عاصفة وخواء مظلم، وعندما وقعت الريح في حب مبادئها الخاصة ... إلخ. كما أن التركيز على فكرة المنشأ المادي للدين، وعلى أن الآلهة التي عبدها البشر لم تكن إلا رجالا صالحين قدموا للبشرية خدمات جلى، فتم تأليههم وعبادتهم؛ يدل دلالة واضحة على التأثر الكبير بالاتجاهات الفلسفية المتأخرة، ويبتعد بنا عن منحى التفكير الديني الأسطوري الذي كان سائدا في الفترة التي عزا ناقل النص إليها إنتاجه. لقد كان القرن الرابع عشر قبل الميلاد زمنا ما زال الفكر الأسطوري فيه منتعشا، وفيه كتبت ألواح رأس شمرا، وأساطير بعل وعناة وملاحم كرت وأقهات، مما كشفت عنه حفريات موقع مدينة أوغاريت. ولا يمكن بحال أن تكون العقلية التي أنتجت تلك النصوص هي نفسها التي أنتجت نص سانخونياتن. والمشكلات التي كانت مطروحة وقتها لم تكن مشكلة وجود الآلهة أم لا، بل مشكلة أي إله يعبد. والتساؤل عن وجود الآلهة لم يطرح إلا في العصور الفلسفية اللاحقة. كما أن الفترة نفسها هي التي شهدت الصراع بين وحدانية الإله وتعدد الآلهة، حيث قامت ديانة أخناتون في مصر، وتبعتها ديانة موسى في سوريا.

ناپیژندل شوی مخ