ولا شك في أن داء البلاد الوبيل كان في ذلك الحين طغيان فئة اتخذت من الدعاية، التي تنشرها بين الناخبين والنواب جميعا سببا ممدودا للحكم والتحكم، فإن هي أقصيت عن الحكم حاولت استثارة عطف الجماهير بدعوى اضطهادها لدفاعها تارة عن استقلال البلاد، ثم عن الدستور تارة أخرى! فهي في سبيل مصلحتها الخاصة كانت تصرف البلاد عن سبيل الخير، وتشغلها عن حل مشاكلها وإصلاح شئونها.
لذلك رأيت أن مصلحة البلاد الكبرى تفرض على القائمين على أقدارها أن يمحوا الماضي بما له وما عليه، وأن يصدر دستور جديد تستفتح به صفحة جديدة في تاريخها الحديث ... وإذا كانت الضرورات ألجأتني إلى انتهاج هذه السبيل، فالتاريخ العام للحياة النيابية حافل بمثل هذه الظاهرة، ظاهرة إبدال دستور بدستور ...
رئيس الديوان والدستور الجديد
كان رئيس الديوان الملكي في ذلك الحين المرحوم محمد توفيق نسيم باشا، فلما رفعت إلى جلالة الملك فؤاد مشروع الدستور الجديد، وضع نسيم باشا مذكرة ضمنها عدة ملاحظات على بعض مواده، وعارض في إصدارها على الصورة التي اقترحتها، ولكن الملك فؤاد لم يوافقه على هذه الملاحظات، وكان يميل إلى استقرار الحكم، وقد عز عليه أن يرى بلاده واقفة حيث هي يضيع العجز مصالحها، وتقطع الحزبية الجامحة أوصالها، ويهمل العمل فيها للإصلاح، ولا تجد من يتولى شئونها بعزم وحزم ونزاهة، للسير بها إلى الأمام، في حين نرى الأمم الأخرى - حتى الأمم التي هي أقل شأنا من مصر - تتسابق في معالجة مشاكلها، وتجد في السير للرقي والمجد؛ ولذلك ارتاح جلالته لهذا الدستور وشجعني عليه، فمضيت فيه، واستطعت في خلال الفترة التي حكمت فيها بعد صدور الدستور الجديد أن أقوم بأعمال هامة في الإصلاح العام، ما زالت آثارها باقية حتى الآن، سواء في نواحي الإصلاح الزراعي كمشروعات الصرف والري، وتعلية خزان أسوان، أو في الإصلاح العمراني كإقامة الجسور، وتجميل المدن، وإنشاء طريق الكورنيش بالإسكندرية، أو في الإصلاح الاقتصادي كمعالجة الأزمة الاقتصادية، والعمل لتخفيف وطأتها في مصر بعدة تدابير لا تزال باقية آثارها ... ولا يخفى أن الأزمة التي كانت قائمة لم تكن مصرية فحسب، بل كانت أزمة عالمية لم يشهد العالم مثلها، فعملت على الأخذ بيد السكان فقراء وموسرين ممن كان أثر هذه الأزمة واقعا عليهم أكثر من غيرهم وهم المزارعون ، فعملت على إبعاد أيدي المرابين عنهم، فأقرضتهم وجعلتهم يتخطون الأزمة بسلام ... وهنا يصح أن أذكر بنك التسليف الزراعي الذي أنشأته، وكان رحمة بالفلاح المصري، ونقمة على المرابين وأكثرهم من الأجانب، وقد دام أثره الطيب الصالح حتى وقتنا الحاضر ...
حزب الشعب
أنا من الذين لا يميلون إلى الحزبية، ولا يحبون التقيد بالأحزاب؛ ولذلك لم أنضم طول حياتي السياسية قبل سنة 1930 إلى حزب ولم أؤلف حزبا، وقد تألف حزب الأحرار الدستوريين برياسة عدلي يكن باشا، واشترك فيه زميلي ثروت باشا، وكلاهما كان صديقا حميما لي، ومع ذلك لم أنضم إليهما، ولم أشترك يوما في عضوية هذا الحزب.
ولكن بعد تأليفي للوزارة، ووضع دستور سنة 1930، وإعلان الانتخابات لقيام برلمان جديد في ظل هذا الدستور رأيت أن لا بد للوزارة من استنادها إلى أغلبية برلمانية، وقد كنت أؤمل أن يؤيدني حزب الأحرار الدستوريين، كما أيدني حزب الاتحاد؛ نظرا لصداقتي لأعضائه الذين شعروا بأني سلكت الطريق القويم، ومما يؤسف له أن المسائل الشخصية لعبت في ذلك دورها الممقوت، ولم يعمل حساب لما قلته بإخلاص عندما توليت الحكم وهو: «إني عابر سبيل»!
ومن العجيب، أن الباقين من الأحرار الدستوريين ائتلفوا مع الوفد - وكانوا قد عانوا منه ما عانوه بحجة أنني اعتديت على دستور سنة 1923 - وفاتهم أنهم هم الذين أجلوا الحياة النيابية، وأوقفوا الدستور ثلاث سنوات قابلة للتجديد، وحكموا البلاد أربعة عشر شهرا حكما؛ وصفوه هم بأنه حكم ديكتاتوري!
لذلك رأيت في تلك الظروف أن أؤلف «حزب الشعب»، ورؤي في أول الأمر أن يسمى «حزب الإصلاح»، وقد انضم إليه عدد من أعضاء حزب الأحرار الدستوريين وحزب الاتحاد والمستقلين.
وقد ظفر هذا الحزب بالأغلبية في الانتخابات، وبقي مؤيدا لي طول بقائي في الحكم، على أنه عندما استقلت من الوزارة، وعهد بها إلى دولة عبد الفتاح يحيى باشا تخليت عن رياسته، ثم استقلت من عضويته، ورأيت أن أعود إلى طريقتي في البعد عن الحزبية والأحزاب.
ناپیژندل شوی مخ