106

محاولة جديدة لتعكير الجو

وقد غدا أمر المحالفة مع بريطانيا ممقوتا لدى فريق من الرأي العام، الذي صوروا له هذه المحالفة في صورة قيد جديد تكبل به مصر، فترزح تحت نيره كما كان الحال في الزمن الغابر، وأصبح هذا الفريق يعتقد أنه بشيء من الضغط، ومن معاملة إنجلترا بالشدة والحزم نتخلص من المحالفة والتزاماتها، ونتخلص تبعا لذلك من لجنة الدفاع ومن مخاوفها وأخطارها، ونفرض نحن على إنجلترا الجلاء التام الناجز، ونضطرها اضطرارا إلى ترك السودان، وإلى الاعتراف بحقوقنا على هذا القطر من غير منازع ومن غير مقابل!

وإذا سألت: «كيف يكون الاعتراف من جانب بريطانيا وحدها، ونحن في حل من كل شيء؟» قالوا: حسبنا قوة الحق والعدل التي لا تقف في سبيلها قوة مهما عظم بطشها واشتد خطرها ... وقالوا أيضا: «ما لنا ولإنجلترا وعندنا حلفاؤنا الطبيعيون من العرب الذين تربطنا بهم الأواصر المتينة، والذين يهبون لنجدتنا متى حزب الأمر، وأحدقت بنا الأخطار ...!»

وكان كل ذلك - مع الأسف - وليد الأوهام والأفكار غير الناضجة، وبالأخص وليد سياسة المزايدة، التي كان الساسة يعملون لها ألف حساب، وهي السياسة التي طالما أفسدت على مصر ثمار جهودها وخيبت آمالها ...

وقد كان لبيان الوفد المصري بالاعتراض على كل محالفة مع إنجلترا الأثر الكبير في أذهان قوم تولاهم الملل والسأم، كما سبق لنا القول ... وهنا رأيت من حسن التصرف وضعا للأمور في نصابها الصحيح، أن أرفع استقالة الوزارة إلى السدة الملكية، ذاكرا في كتابي «أني قد مضيت وزملائي في القيام بمهمة المفاوضات، وقطعنا شوطا كبيرا منها، ولم تبق إلا مرحلة كنت وما زلت كبير الرجاء أن نجتازها في نجاح وتوفيق، غير أن متاعب داخلية قد نبتت، وتفاقم أمرها بغير مبرر له وزن، وأصبح من العسير علي أن أستمر في الاضطلاع بالعبء الجسيم في وجه هذه المتاعب؟ وقد رأيت أن أفتح الطريق لغيري، وأن أضع الأمر بين يديكم (مخاطبا جلالة الملك) لتتصرفوا فيه بحكمتكم السامية؛ وليستطيع من يخلفني أن يعالج البقية الباقية من شئون المفاوضات، بما يحقق للبلاد ما رجوناه لها من استقلال وحرية في ظل الكرامة القومية.»

على أن هذه الاستقالة لم تقبل ووجه إلى النطق السامي في أول أكتوبر سنة 1946، بأن استمر في العمل على «تحقيق أهداف البلاد الوطنية التي هي أعز أمانينا.»

التفاؤل

ويحسن هنا أن أشير إلى أسباب التفاؤل، التي حدت بي إلى المضي في المفاوضات وقتذاك رغم ما أحاط بها من متاعب، وما تولى القوم في مصر من ملل وسأم، ورغم محاولات العاملين على إفساد الجو السياسي بمصر بتغليب عناصر المزايدة، والتطرف على عناصر الحكمة والاعتدال ...

وقد كنت متفائلا؛ لأن المصاعب ليس معناها الفشل والإخفاق، بل قد توائم التفاؤل وقد تعالج، ويستعان عليها به ... ومن الذي كان يتصور من العقلاء أن قضية كبيرة الشأن كالقضية المصرية تنتهي في كلمات، أو في تبادل المذكرات، أو تحل بضيق الصدر وقلة الصبر من أحد الجانبين المتفاوضين أو من كليهما، ومع ذلك فقد كانت ثلاثة أرباع المسائل، التي تناولتها المفاوضة بين مصر وبريطانيا قد انتهت إلى التفاهم التام، بل وضعت لها الصيغ الملائمة، فصار مفروغا منها.

مسألة السيادة ... ووحدة الوادي

ناپیژندل شوی مخ